فرنسا.. انقسامات في اليمين وسجالات في اليسار وتصدر أقصى اليمين
تاريخ النشر: 14th, June 2024 GMT
يستمر الزلزال الذي خلفه حل الجمعية الوطنية في فرنسا بإثارة هزات وارتدادات عدة، وذلك قبل 17 يوما من موعد الانتخابات التشريعية المبكرة التي قد تؤثر على وجهة البلاد الدبلوماسية.
وبعد خسارته الانتخابات الأوروبية الأحد، يحاول معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون تقديم انتخابات 30 يونيو/حزيران، و7 يوليو/تموز على أنها "خيار المجتمع" بين الكتلة التقدمية التي سيجسدها و"المتطرفين" في اليسار واليمين الذين "يغذون الانقسام" وفق ما قال رئيس الوزراء غابرييل أتال -اليوم الخميس- لإذاعة "فرانس إنتر".
ثم عاد بعد ذلك ليقول في بولوني سور مير (شمال) -خلال أول جولة له في إطار الحملة الانتخابية- إن البلاد تمر "بلحظة صعبة، وعلينا إقناع الفرنسيين، لكنني لست من النوع الذي يستسلم".
ومنذ الانتصار الانتخابي الذي حققه التجمع الوطني بتصدره التصويت مع 31.3% من نسبة الأصوات وقرار حل الجمعية الوطنية الذي اتخذه ماكرون، تتسارع عملية إعادة التركيب السياسي في البلاد وتتحول أحيانا إلى فوضى.
ويبدو أن خطوة حل الجمعية الوطنية لم يكن لها أي تأثير إيجابي على شعبية ماكرون، فقد قال 24% فقط من الفرنسيين إنهم "يثقون" بالرئيس، وهو أدنى مستوى منذ بداية ولايته الثانية عام 2022، وفقا لاستطلاع للرأي أُجري الأيام التالية لهذا القرار.
انقسامات باليمين
وظهرت انقسامات واسعة داخل المعارضة اليمينية، فقد نأى معسكر إريك سيوتي عنه بسبب اقتراحه تحالفا غير مسبوق مع التجمع الوطني (يمين متطرف) وأطيح به من رئاسة الحزب المحافظ الرئيسي في البلاد الحزب الجمهوري، لكنه يرفض حتى الآن ترك منصبه.
وذهب الأربعاء إلى حد إغلاق مقر الحزب لمنع وصول المتمردين الذين جاؤوا لعزله، كما ذهب إلى هناك اليوم، في إشارة إلى أنه يرفض "إلقاء السلاح" وقال على قناة سي نيوز "أعلم أنني أحظى بثقة الناشطين".
كما أدت الأزمة إلى إزاحة حزب الاسترداد (روكونكيت) اليميني المتطرف الصغير، والذي تمكن رغم ذلك من إرسال أول أعضاء البرلمان الأوروبي إلى ستراسبورغ الأحد.
واستبعد مؤسسه إريك زمور -المدان مرات عدة بتهم التحريض على الكراهية العرقية- رئيسة القائمة الأوروبية ماريون ماريشال ابنة شقيقة مارين لوبان، بعدما دعت إلى التصويت لصالح التجمع الوطني المنافس.
ويسجل هذا الحزب -الذي انخرط منذ عدة سنوات في إستراتيجية الشيطنة- تقدما في استطلاعات الرأي للانتخابات التشريعية رغم أن وصوله المحتمل إلى السلطة يثير قلق جزء كبير من الفرنسيين.
ومن المقرر تنظيم مظاهرات ضد اليمين المتطرف نهاية هذا الأسبوع، بدعوة من النقابات والجمعيات.
تحالف يساري بلا رأس
وبعيدا عن هذه الخلافات، حقق اليسار الفرنسي إنجازا بتشكيل تحالف للانتخابات التشريعية بعد أيام قليلة من انقسامه خلال الانتخابات الأوروبية، في انتظار الاتفاق على شخصية توافقية لقيادة هذا التحالف.
واتفقت أحزاب اليسار الرئيسية الأربعة: فرنسا الأبية، الحزب الاشتراكي، حزب الخضر، الحزب الشيوعي، على تقاسم الدوائر الانتخابية البالغ عددها 577 والاجتماع تحت راية "الجبهة الشعبية" وهو الاسم الذي يشير إلى التحالف الذي شُكِل في فرنسا عام 1936 واشتهر خصوصا بإدخاله أول إجازة مدفوعة الأجر في البلاد.
وقد برزت توترات داخل هذا التحالف اليوم، ولكن يبدو أنها بدأت تتبدد، فقد قال أحد المفاوضين بالحزب الاشتراكي لوكالة الصحافة الفرنسية "سنصل، هناك تقدم حقيقي".
ورغم ذلك، تبقى هناك اختلافات جوهرية، ويبقى التساؤل من دون إجابة حول هوية رئيس الوزراء المقبل إذا فاز اليسار مساء 7 يوليو/تموز.
وقال المرشح الرئاسي السابق ورئيس "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون أمس إنه "قادر" على قيادة الحكومة لكن شخصيته المثيرة للانقسام بعيدة كل البعد عن الإجماع، خصوصا بسبب تصريحاته حول معاداة السامية منذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وقالت فلورنس وهي ناخبة يسارية لوكالة الصحافة الفرنسية "إن حزب فرنسا الأبية ينتهك القيم الاشتراكية" مضيفة أن بعض الاشتراكيين الذين يواجهون فكرة الاتحاد مع حزب ميلانشون ينتابهم شعور بـ"الخيانة".
والواقع أن "فرنسا الأبية" -مثل حزب الجمهوريين الذي يتقدم استطلاعات الرأي- يدعو إلى تغييرات عميقة في الدبلوماسية الفرنسية.
ويتذمر حزب اليمين المتطرف المتهم بقربه من روسيا، بشأن المساعدات لأوكرانيا ويعارض أي انضمام لكييف إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي (ناتو).
من جهته، يطالب حزب فرنسا الأبية بمغادرة القيادة المتكاملة للناتو ويندد بتحالف "منهجي" مع الولايات المتحدة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فرنسا الأبیة
إقرأ أيضاً:
أزمة الديمقراطية هي في الواقع أزمة اليسار
ذهبت بلدان يوجد بها أكثر من نصف سكان العالم إلى صناديق الاقتراع في انتخابات العام الماضي. وكانت الرسالة الأساسية التي بعث بها الناخبون لحكوماتهم هي عدم الرضا والغضب من الوضع القائم. وبدا إحباطهم مركَّزا خصوصا على الطرف الذي ظل يُربَط تقليديا بالحكومة الكبيرة وهو اليسار. (يعرِّف قاموس ويبستر الأمريكي الحكومة الكبيرة بالحكومة التي تُعتبَر منتهكة لحقوق المواطنين الأفراد بسبب جهازها البيروقراطي الكبير وإجراءاتها التنظيمية وسياساتها التدَخُّلية- المترجم.)
في أي مكان نظرتَ إليه تقريبا تجد اليسار قد بات حطاما. فمن بين بلدان الاتحاد الأوروبي (27 بلدا) هنالك قلة قليلة فقط هي التي تقود فيها أحزاب من يسار الوسط ائتلافاتِها الحكومية. وحزب يسار الوسط الأساسي في البرلمان الأوروبي (التحالف التقدمي للاشتراكيين الديمقراطيين- المترجم) لديه الآن 136 مقعدا من جملة 720 مقعدا. حتى في البلدان التي تمكنت من وقف صعود الشعبوية اليمينية مثل بولندا، يمين الوسط هو الذي يزدهر وليس اليسار. وبالطبع يوحي حجم فوز دونالد ترامب (حوالي 90 مقاطعة أمريكية تقريبا تحولت إلى اليمين) بأن الولايات المتحدة أصبحت جزءا من هذا الاتجاه.
أزمة الحكومة الديمقراطية إذن هي في الحقيقة أزمة الحكومة التقدمية. فالناس كما يبدو يشعرون بأنهم تفرض عليهم الضرائب والإجراءات التنظيمية ويلاحقون بالأوامر ويروَّعون بواسطة ساسة يسار الوسط لعقود. لكن النتائج سيئة وتزداد سوءا.
نيويورك حيث أقيم وفلوريدا التي كثيرا ما أزورها تقدمان مثالا مثيرا للمقارنة. فهما متقاربتان في عدد السكان (20 مليون نسمة في نيويورك و23 مليون في فلوريدا.) لكن موازنة ولاية نيويورك أكثر من ضعف موازنة فلوريدا (239 بليون دولار مقابل 116 بليون دولار تقريبا). ومدينة نيويورك التي تزيد قليلا عن ثلاثة أضعاف حجم مقاطعة ميامي- ديد لديها موازنة تبلغ 100 بليون دولار أو تقريبا حوالي 10 أضعاف موازنة ميامي- ديد.
زاد إنفاق مدينة نيويورك في الفترة من 2012 إلى 2019 بحوالي 40% أو أربعة أضعاف معدل التضخم. هل يشعر أي من سكان نيويورك بأنه حصل على خدمات أفضل بنسبة 40% خلال تلك الفترة؟
ما الذي يحصل عليه أهالي نيويورك مقابل هذه المبالغ الضخمة التي تُجمع بواسطة أعلى معدلات ضريبية في الولايات المتحدة؟ (إذا كنت ميسور الحال في مدينة نيويورك فأنت تسدد ضريبة دخل تقارب ما تدفعه في لندن أو باريس أو برلين دون أن تحصل على تعليم عالٍ مجاني أو رعاية صحية بلا مقابل). ومعدل الفقر في نيويورك أعلى منه في فلوريدا. كما لدى نيويورك معدل ملكية منازل أقل بقدر طفيف ومعدل تشرد أعلى كثيرا. وعلى الرغم من إنفاق ما يزيد عن الضعف على التعليم مقابل كل طالب إلا أن النتائج التعليمية لنيويورك (معدلات التخرج ودرجات امتحانات الصف الثامن) مماثلة تقريبا لنتائج فلوريدا.
من اليسير أن يُطَمئِن المرء نفسه باعتقاده أن هذه المعدلات العالية للضرائب والإيرادات الحكومية المتزايدة تضمن للحكومة التقدمية بعض مكوِّناتها بالغة الأهمية (يقصد الكاتب بذلك تمكينها من تمويل برامج الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة والبنية الأساسية وغيرها من سياسات المساواة والعدالة الاجتماعية التي ينادي بها التقدميون- المترجم). لكن هذه الأموال، ببساطة، كثيرا ما تكون ثَمَنا للهدر وسوء الإدارة. فتكلفة المرحلة الأولى من تشييد مترو الأنفاق «سيكند آفينو» والتي بلغت 2.5 بليون دولار لكل ميل كانت أعلى بحوالي ثمانية أضعاف إلى 12 ضعف تكلفة عَيِّنة من مشروعات مماثلة في أماكن مثل إيطاليا والسويد وباريس وبرلين.
إلى ذلك، يذهب جزء كبير من الإيرادات الضريبية للمدينة والولاية إلى تمويل رواتب التقاعد. في مدينة إلينوي يذهب أكثر من 8% من الموازنة إلى رواتب التقاعد. أما في مدينة نيويورك فتخصص لرواتب تقاعد وفوائد العاملين الحكوميين 22% من الموازنة. لقد ظلت الوعود برواتب تقاعد سخية وسيلة ميسورة لشراء أصوات كتلة ناخبين حاسمة في أهميتها. فتكلفتها لن تظهر في الموازنات إلا بعد سنوات لاحقا.
المدن الكبيرة في الولايات المتحدة محاضن للنمو والحيوية والطاقة. ذلك هو السبب في تسليط الضوء عليها وعلى حوكمتها. وما شهده الناس مؤخرا هو انفلات الليبرالية. كانت السرقة متفشية في مدن كاليفورنيا لسنوات بسبب ضعف القانون الذي يعاقب على سرقة السلع في المتاجر. كما لا يحاسَب المشردون في نيويورك (بعضهم مدمنو مخدرات أو مرضى نفسيون) على مضايقة وتهديد المارة في الشوارع والأنفاق. والرجل الذي اتهم مؤخرا بمحاولة القتل بدفع رجل أمام قطار أنفاق سبق اعتقاله عدة مرات.
المقياس الحاسم بالطبع هو الكيفية التي يصوت بها الناس بأقدامهم. ظلت نيويورك لسنوات تفقد سكانا يرحلون منها إلى ولايات أخرى كفلوريدا. ونفس الحكاية يمكن أن تُحكى، باختلافات طفيفة، عن كاليفورنيا وتكساس.
الولايات الحمراء الكبيرة تنمو أساسا على حساب الولايات الزرقاء الكبيرة (الولايات الحمراء هي التي يصوت ناخبوها للجمهوريين والزرقاء للديمقراطيين- المترجم.) ويمكن ترجمة ذلك سياسيا إلى المزيد من التمثيل للجمهوريين في الكونجرس والمزيد من الأصوات الانتخابية.
هنالك الآن مساعٍ مثيرة من أشخاص مثل إيلون ماسك وفيفيك راماسواني للجمع بين المحافظة الثقافية والقومية الاقتصادية من جهة وبين الإصلاح الجذري للحكومة. يمكن أن يشكل ذلك «أيديولوجيا» جذابة لناخبين عديدين شعروا بالإحباط من حكومة لا يبدو أن أي شيء فيها يمضي على ما يرام.
على الجانب الآخر، إذا لم يتعلم الديمقراطيون بعض الدروس الصعبة من ضعف الحوكمة في العديد من المدن والولايات الزرقاء سيُنظر إليهم باعتبارهم مدافعين عن النخب الثقافية وايدولوجيا اليقظة (ووك) والحكومة المتضخمة وغير الكفؤة. وقد تكون تلك هي الوصفة (التي تجعل من الديمقراطيين) أقلية دائمة.