شهدت العاصمة القطرية مؤخرا (الثالث إلى السادس من يونيو/حزيران الجاري) حدثا مهما للغاية، تمثل في استضافة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بجامعة حمد بن خليفة، بالتعاون مع مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية (ويش)، "مؤتمر الأخلاقيات الطبية والحيوية العالمي السابع عشر"، وهي المرة الأولى التي يتم فيها استضافة هذا المؤتمر في العالم العربي والإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط.

يعد مؤتمر الأخلاقيات الطبية والحيوية العالمي، الذي ينعقد دوريا مرة كل عامين منذ أكثر من 3 عقود، الحدث الأهم والأبرز في هذا المجال على مستوى العالم. ففي هذا المحفل يلتقي مئات الباحثين والعلماء في مجالات الأخلاق والفلسفة وعلوم الاجتماع والعلوم الطبية والحيوية مع المتخصصين والعاملين وصناع السياسات في قطاعات الرعاية الصحية والبحث العلمي، لتداول أهم القضايا التي تشغل بال المتخصصين والجمهور العام على حد سواء.

وتشكل البحوث المقدمة في المؤتمر، التي يتم قبولها بعد تحكيم علمي، والنقاشات المصاحبة حجرَ الأساس للمنظومة المعرفية لهذا المجال، والتي تحدد العلاقة بين الإمكان العلمي الذي تنتجه التطورات المتلاحقة في العلوم الطبية والحيوية والحكم الأخلاقي بما يمكن قبوله أو رفضه من هذه التطورات.

وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، كان لدول القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية النصيب الأعظم من استضافة المؤتمر، ومن ثم صياغة منظومة معرفية مؤسَّسة على طرق التفكير والتعليل الفلسفي الغربي والتي يكون فيها الدين، إن تم التطرق إليه أصلا، موضوعا للبحث وليس مصدرا معرفيا لتحديد الصواب والخطأ. كما أن مشاركة الباحثين القادمين من خارج الدول الغربية كانت دائما ضعيفة للغاية لأسباب متعددة، وإذا تمكن الباحث من التغلب عليها، فيتعذر عليه المشاركة في نهاية الأمر بسبب صعوبة الحصول على تأشيرة دخول للدولة المستضيفة للمؤتمر.

ومع تعاقب نسخ المؤتمر، انتهى الأمر إلى سيطرة "خطاب عالمي" تمت صياغته في سياق غربي متوافق مع التقاليد والأعراف السائدة في هذه المجتمعات، يكاد ينعدم فيه اعتبار الأبعاد الدينية والثقافية للشعوب الأخرى حول العالم. فعلى سبيل المثال، تم اعتماد مبدأ الاستقلالية (autonomy)  ضمن المبادئ الأربعة الرئيسة لمجال الأخلاقيات الطبية والحيوية، وتمت ترجمة هذا المبدأ في غالب الأحيان ضمن إطار تعظيم الحريات الفردية ودورها في تحديد المصلحة والمفسدة عند تعامل الإنسان مع جسده وتهميش دور الأسرة والأقارب والمجتمع، فضلا عن تهميش التصور الديني حول الإيمان بوجود إله خالق لهذا الجسد وله السلطة الأعلى في تحديد المصالح والمفاسد المتعلقة ببدن الآدمي.

وبالتالي، صار من المقبول أخلاقيا ضمن هذا "الخطاب العالمي" أن يقوم الفرد الواحد، دون الحاجة إلى شريك من الجنس الآخر وخارج إطار الزواج، بالتعاقد لشراء مني رجل أو بويضة امرأة، أو نطفة ملقحة، أو رحم مستأجر، أو كل ذلك معا لإنجاب ذرية تُنسب إليه. ونظرا لاعتبار هذه المواقف جزءا من "الخطاب العالمي" للأخلاقيات الطبية، صار من يخالف هذا الرأي، دولا أو مؤسسات، في مرمى الاتهام بعدم احترام مبادئ حقوقية تقع ضمن المشترك الأخلاقي الإنساني.

الجديد في نسخة الدوحة

تشير الدراسات والإحصاءات المنشورة إلى أن 8 من بين كل 10 أشخاص لديهم انتماء ديني، بما في ذلك المرضى والأطباء والعاملين في قطاع الرعاية الصحية. وبالتالي، لا يمكن الحديث عن "خطاب عالمي" يعالج قضايا حيوية تمس شعوب العالم المختلفة دون التطرق لقيم ومعتقدات وثقافات ما قد يزيد على 80% منهم. فكانت النسخة الـ17 للمؤتمر المنعقدة في الدوحة محاولة مهمة لجبر هذا الخلل، فانعقدت تحت عنوان "الدين والثقافة والخطاب العالمي للأخلاقيات الطبية والحيوية". وللمرة الأولى في تاريخ المؤتمر، تم عقد جلسات كاملة باللغة العربية حتى يتسنى لعلماء الشريعة والباحثين في العلوم الإسلامية تقديم تصوراتهم بلغتهم الأم، مع ترجمة للإنجليزية للتواصل مع جمهور المؤتمر.

وبالإضافة لأفراد الباحثين، فقد شاركت مؤسسات مهمة في مجال الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام، مثل المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت ومجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة. وقد كان المؤتمر جسرا مهما للتواصل بين أصحاب هذه التصورات الدينية مع باحثين من مختلف أنحاء العالم ومؤسسات دولية مهمة شاركت في المؤتمر، مثل منظمة الصحة العالمية واليونيسكو والجمعية الطبية العالمية.

وتوافقا مع هذه التطورات غير المسبوقة في تاريخ المؤتمر، تم اختيار أول رئيس أفريقي، من غانا، للجمعية الدولية للأخلاق الطبية والحيوية (International Association of Bioethics)، وتم اختيار دولة جنوب أفريقيا لاستضافة النسخة الـ18 من المؤتمر عام 2026، لتكون المرة الأولى للمؤتمر في قارة أفريقيا. كما تم عقد الجلسة التأسيسية لإنشاء الجمعية الإسلامية الدولية للأخلاق الطبية والحيوية (International Islamic Bioethics Association) لتكون مظلة جامعة للباحثين من مختلف أنحاء العالم.

نأمل أن تشكل هذه التطورات المتلاحقة تدشينا لحقبة جديدة يكون فيها خطاب الأخلاقيات الطبية والحيوية عالميا بحق، بحيث يكون للشعوب والأديان والثقافات المختلفة دور فعال في صياغة هذا الخطاب وبناء منظومته المعرفية، بدلا من المنظومة المعرفية الحالية القائمة على أعمدة غربية فقط.

الذكاء الاصطناعي وأخلاقيات الحروب

على مستوى الأرقام، سجلت نسخة الدوحة حضور أكثر من 1100 شخص مثَّلوا أكثر من 75 دولة من قارات العالم الخمس وما يزيد على 500 متحدث شاركوا في أكثر من 140 جلسة وقدموا أكثر من 800 محاضرة. وعلى مستوى الموضوعات، تم نقاش عدد ضخم من القضايا التي تهم أهل المشرق والمغرب، بداية من الفحوص الجينية للمقبلين على الزواج وللنطف قبل وبعد الزرع في الأرحام، وتقنيات التحرير الجيني الجديدة للقيام بتعديلات وراثية غير مسبوقة، مرورا بزراعة الأعضاء المأخوذة من بشر أو من حيوانات تم تعديلها وراثيا لتكون أكثر موائمة للبقاء في الجسد البشري، وانتهاء بكيفية تحديد نهاية حياة الإنسان وما يسمى "موت الدماغ". وهناك موضوعان رئيسيان تم التطرق إليهما مرارا خلال المؤتمر، وهما الذكاء الاصطناعي وأخلاقيات الحروب.

فالتطورات التقنية المتلاحقة للذكاء الاصطناعي قد وجدت طريقها لقطاع الرعاية الصحية، وصرنا أمام معضلة جديدة تتمثل في توسط آلة ذكية بين الطبيب والمريض يمكنها أن تفوق قدرة الطبيب في تشخيص الداء، ووصف الدواء، بل وإجراء عمليات جراحية دقيقة.

وقد اتفق جمهور الباحثين على أن المسؤولية الطبية يجب أن تكون منوطة دائما أبدا بالإنسان وليس بالآلة. لكن الإنسان المسؤول في عصر الذكاء الاصطناعي لن يكون بالضرورة الطبيب وحده، بل قد يشاركه المسؤولية جامع البيانات الضخمة المستخدمة لتدريب الآلة الذكية أو مطور البرامج الذكية أو من قام بإعطاء التراخيص اللازمة، إلى غير ذلك من الاحتمالات. لكن تم التأكيد على ضرورة الاهتمام بالفوارق الشاسعة القائمة حاليا بين مناطق العالم المختلفة في مجال التكنولوجيا الرقمية أو ما يعرف بالهوة الرقمية (digital divide)، حيث تؤدي هذه الفوارق إلى إشكالات في الرعاية الطيبة عندما يتم تدريب الآلات الذكية على بيانات ضخمة قادمة من العالم الغني المتواصل مع التكنولوجيا الحديثة، ثم تطبيقها على سكان العالم الفقير رغم أنهم غير ممثَلين في قواعد البيانات المستخدمة.

أما أخلاقيات الحروب وأثرها على مجال الأخلاقيات الطبية والحيوية، فقد نالت قدرا كبيرا من اهتمام الحضور نظرا للحالة المزرية التي يعيشها عالمنا اليوم. فقد صار استهداف المؤسسات الطبية والعاملين فيها ومرضاهم، وتمثل غزة حاليا المثال الصارخ في هذا الصدد، ممارسة يومية استمرأها البعض بالرغم من الاتفاق على تحريم وتجريم هذه الممارسات في المواثيق الدولية.

وفي سياق التضييق الكبير على الكتابة في هذا الموضوع في عدد من المجلات العلمية وعلى مظاهرات الطلاب في كثير من الجامعات، فإن حرية الحديث عن هذه القضايا في أثناء فعاليات المؤتمر كانت محل تقدير من الحضور والمشاركين. وقد أكدت البحوث المشاركة على أن الفئات الضعيفة من المرضى والمسنين والأطفال والطواقم الطبية لا يمكن أن تكون هدفا في الحروب، بغض النظر عن انتماءاتهم الجغرافية والعرقية والدينية، وأن الاهتمام بالعلاقة بين أخلاقيات الحروب ومجال الأخلاق الطبية والحيوية في حاجة إلى مزيد من التنظير والكتابة العلمية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الذکاء الاصطناعی الرعایة الصحیة أکثر من فی هذا

إقرأ أيضاً:

هواوي تدمج نموذج الذكاء الاصطناعي Deepseek في خدمتها

أعلنت شركة هواوي Huawei، عن شراكة استراتيجية مع شركة AI Siliconflow لإطلاق نماذج Deepseek للذكاء الاصطناعي على خدمتها السحابية Ascend Cloud، مما يسهم في جعل تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر تكلفة معقولة وسهولة في الوصول. 

وتتضمن الشراكة طرح نموذجين رئيسيين من Deepseek، وهما Deepseek V3 (نموذج لغة) و Deepseek R1 (نموذج تفكير)، اللذان يقدمان أداءً عاليا بتكلفة أقل، مما يعزز من قدرة المستخدمين على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بشكل موسع.

انسي شات جي بي تي.. كيفية استخدام DeepSeek على الكمبيوتر والموبايلإطلاق نموذج الاستدلال OpenAI o3-mini لمواجهة صعود DeepSeek الصينيةالوصول إلى الذكاء الاصطناعي بأسعار معقولة


تقدم هواوي Cloud أسعارا مخفضة لنماذج Deepseek، مما يجعل الذكاء الاصطناعي أكثر توفيرا، على سبيل المثال، تكلف معالجة مليون رمز إدخال باستخدام Deepseek V3 حوالي 1 يوان (0.13 دولار أمريكي)، بينما تكلف معالجة مليون رمز إخراج 2 يوان (0.26 دولار)، أما نموذج Deepseek R1 فيتطلب 4 يوان (0.53 دولار) لكل مليون رمز إدخال و 16 يوان (2.13 دولار) لكل مليون رمز إخراج، هذه الأسعار تجعل الذكاء الاصطناعي في متناول الشركات والمطورين بأسعار تنافسية، مما يساهم في نشر هذه التكنولوجيا بشكل أكبر.

الاستقلالية في الذكاء الاصطناعي والتأثير الجيوسياسي


يشير إطلاق هواوي لنماذج Deepseek إلى جهود الصين المستمرة من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة في ظل القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على وصول الصين إلى الرقائق المتطورة. 

تعمل نماذج Deepseek على أجهزة Huawei Ascend AI، مما يقلل الاعتماد على التقنيات الأجنبية ويعزز من استقلالية النظام الإيكولوجي التكنولوجي في الصين، هذه الخطوة تساهم في تعزيز مكانة الصين كمنافس قوي في تطوير الذكاء الاصطناعي على الساحة العالمية.

انضمام علي بابا إلى موجة Deepseek AI


بعد تكامل هواوي، انطلقت أيضا خدمة علي بابا في تقديم خدمات Deepseek AI على منصتها السحابية. يتمكن المستخدمون من الوصول إلى هذه النماذج عبر معرض PAI Model، مما يسهل استخدام الذكاء الاصطناعي بدون الحاجة لكتابة أكواد معقدة. تقدم Alibaba Cloud نسخا كاملة ومخففة من نموذج Deepseek R1، مما يتيح مرونة كبيرة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي المختلفة.

نمو Deepseek وآفاق المستقبل


تكتسب نماذج Deepseek AI شهرة متزايدة في كل من الصين و الولايات المتحدة، حيث دمجت مايكروسوفت و أمازون نماذجها في منصات الذكاء الاصطناعي الخاصة بهما. بينما كان Deepseek قد استخدم سابقا وحدات معالجة الرسومات H100 من NVIDIA في تدريب نماذجه، فإنه الآن يعتمد على شريحة Huawei Ascend 910C. في المستقبل، تخطط هواوي لتطوير Ascend 920C، التي من المتوقع أن تتفوق على Blackwell B200 من NVIDIA، مما سيحسن قدرات Deepseek في مجال الذكاء الاصطناعي.

إن التوسع السريع لنماذج Deepseek وتكاملها مع منصات السحابة الكبرى يشير إلى تأثير متزايد للصين في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث يتوقع أن تصبح هذه النماذج الفعالة من حيث التكلفة والخوادم المحسنة عنصرًا رئيسيًا في المنافسة العالمية على تطوير الذكاء الاصطناعي.

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي يعزِّز الأفلام المحلية
  • رئيس منتدى دافوس: الذكاء الاصطناعي يزيد تعقيد صراعات العالم
  • النيابة العامة تشارك في مؤتمر "عالم الذكاء الاصطناعي 2025"
  • أستراليا تحظر برنامج الذكاء الاصطناعي ديب سيك
  • هواوي تدمج نموذج الذكاء الاصطناعي Deepseek في خدمتها
  • سر جديد عن المريخ يكشفه الذكاء الاصطناعي
  • كيف هز ديب سيك الصيني عروش الذكاء الاصطناعي بـ5.6 ملايين دولار فقط؟
  • مؤتمر بجنوب الشرقية يناقش تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال الصحي
  • أحمد موسى: الذكاء الاصطناعي مستقبل العالم وتهديد للعالم الحقيقي
  • مجموعة الدكتور سليمان الحبيب الطبية تفتتح المؤتمر العالمي التاسع للعناية الحرجة