من الذكاء الاصطناعي لأخلاقيات الحروب.. المنظومة المعرفية للخطاب العالمي للأخلاقيات الطبية والأبعاد الدينية والثقافية
تاريخ النشر: 13th, June 2024 GMT
شهدت العاصمة القطرية مؤخرا (الثالث إلى السادس من يونيو/حزيران الجاري) حدثا مهما للغاية، تمثل في استضافة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بجامعة حمد بن خليفة، بالتعاون مع مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية (ويش)، "مؤتمر الأخلاقيات الطبية والحيوية العالمي السابع عشر"، وهي المرة الأولى التي يتم فيها استضافة هذا المؤتمر في العالم العربي والإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط.
يعد مؤتمر الأخلاقيات الطبية والحيوية العالمي، الذي ينعقد دوريا مرة كل عامين منذ أكثر من 3 عقود، الحدث الأهم والأبرز في هذا المجال على مستوى العالم. ففي هذا المحفل يلتقي مئات الباحثين والعلماء في مجالات الأخلاق والفلسفة وعلوم الاجتماع والعلوم الطبية والحيوية مع المتخصصين والعاملين وصناع السياسات في قطاعات الرعاية الصحية والبحث العلمي، لتداول أهم القضايا التي تشغل بال المتخصصين والجمهور العام على حد سواء.
وتشكل البحوث المقدمة في المؤتمر، التي يتم قبولها بعد تحكيم علمي، والنقاشات المصاحبة حجرَ الأساس للمنظومة المعرفية لهذا المجال، والتي تحدد العلاقة بين الإمكان العلمي الذي تنتجه التطورات المتلاحقة في العلوم الطبية والحيوية والحكم الأخلاقي بما يمكن قبوله أو رفضه من هذه التطورات.
وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، كان لدول القارة الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية النصيب الأعظم من استضافة المؤتمر، ومن ثم صياغة منظومة معرفية مؤسَّسة على طرق التفكير والتعليل الفلسفي الغربي والتي يكون فيها الدين، إن تم التطرق إليه أصلا، موضوعا للبحث وليس مصدرا معرفيا لتحديد الصواب والخطأ. كما أن مشاركة الباحثين القادمين من خارج الدول الغربية كانت دائما ضعيفة للغاية لأسباب متعددة، وإذا تمكن الباحث من التغلب عليها، فيتعذر عليه المشاركة في نهاية الأمر بسبب صعوبة الحصول على تأشيرة دخول للدولة المستضيفة للمؤتمر.
ومع تعاقب نسخ المؤتمر، انتهى الأمر إلى سيطرة "خطاب عالمي" تمت صياغته في سياق غربي متوافق مع التقاليد والأعراف السائدة في هذه المجتمعات، يكاد ينعدم فيه اعتبار الأبعاد الدينية والثقافية للشعوب الأخرى حول العالم. فعلى سبيل المثال، تم اعتماد مبدأ الاستقلالية (autonomy) ضمن المبادئ الأربعة الرئيسة لمجال الأخلاقيات الطبية والحيوية، وتمت ترجمة هذا المبدأ في غالب الأحيان ضمن إطار تعظيم الحريات الفردية ودورها في تحديد المصلحة والمفسدة عند تعامل الإنسان مع جسده وتهميش دور الأسرة والأقارب والمجتمع، فضلا عن تهميش التصور الديني حول الإيمان بوجود إله خالق لهذا الجسد وله السلطة الأعلى في تحديد المصالح والمفاسد المتعلقة ببدن الآدمي.
وبالتالي، صار من المقبول أخلاقيا ضمن هذا "الخطاب العالمي" أن يقوم الفرد الواحد، دون الحاجة إلى شريك من الجنس الآخر وخارج إطار الزواج، بالتعاقد لشراء مني رجل أو بويضة امرأة، أو نطفة ملقحة، أو رحم مستأجر، أو كل ذلك معا لإنجاب ذرية تُنسب إليه. ونظرا لاعتبار هذه المواقف جزءا من "الخطاب العالمي" للأخلاقيات الطبية، صار من يخالف هذا الرأي، دولا أو مؤسسات، في مرمى الاتهام بعدم احترام مبادئ حقوقية تقع ضمن المشترك الأخلاقي الإنساني.
الجديد في نسخة الدوحةتشير الدراسات والإحصاءات المنشورة إلى أن 8 من بين كل 10 أشخاص لديهم انتماء ديني، بما في ذلك المرضى والأطباء والعاملين في قطاع الرعاية الصحية. وبالتالي، لا يمكن الحديث عن "خطاب عالمي" يعالج قضايا حيوية تمس شعوب العالم المختلفة دون التطرق لقيم ومعتقدات وثقافات ما قد يزيد على 80% منهم. فكانت النسخة الـ17 للمؤتمر المنعقدة في الدوحة محاولة مهمة لجبر هذا الخلل، فانعقدت تحت عنوان "الدين والثقافة والخطاب العالمي للأخلاقيات الطبية والحيوية". وللمرة الأولى في تاريخ المؤتمر، تم عقد جلسات كاملة باللغة العربية حتى يتسنى لعلماء الشريعة والباحثين في العلوم الإسلامية تقديم تصوراتهم بلغتهم الأم، مع ترجمة للإنجليزية للتواصل مع جمهور المؤتمر.
وبالإضافة لأفراد الباحثين، فقد شاركت مؤسسات مهمة في مجال الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام، مثل المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت ومجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة. وقد كان المؤتمر جسرا مهما للتواصل بين أصحاب هذه التصورات الدينية مع باحثين من مختلف أنحاء العالم ومؤسسات دولية مهمة شاركت في المؤتمر، مثل منظمة الصحة العالمية واليونيسكو والجمعية الطبية العالمية.
وتوافقا مع هذه التطورات غير المسبوقة في تاريخ المؤتمر، تم اختيار أول رئيس أفريقي، من غانا، للجمعية الدولية للأخلاق الطبية والحيوية (International Association of Bioethics)، وتم اختيار دولة جنوب أفريقيا لاستضافة النسخة الـ18 من المؤتمر عام 2026، لتكون المرة الأولى للمؤتمر في قارة أفريقيا. كما تم عقد الجلسة التأسيسية لإنشاء الجمعية الإسلامية الدولية للأخلاق الطبية والحيوية (International Islamic Bioethics Association) لتكون مظلة جامعة للباحثين من مختلف أنحاء العالم.
نأمل أن تشكل هذه التطورات المتلاحقة تدشينا لحقبة جديدة يكون فيها خطاب الأخلاقيات الطبية والحيوية عالميا بحق، بحيث يكون للشعوب والأديان والثقافات المختلفة دور فعال في صياغة هذا الخطاب وبناء منظومته المعرفية، بدلا من المنظومة المعرفية الحالية القائمة على أعمدة غربية فقط.
الذكاء الاصطناعي وأخلاقيات الحروبعلى مستوى الأرقام، سجلت نسخة الدوحة حضور أكثر من 1100 شخص مثَّلوا أكثر من 75 دولة من قارات العالم الخمس وما يزيد على 500 متحدث شاركوا في أكثر من 140 جلسة وقدموا أكثر من 800 محاضرة. وعلى مستوى الموضوعات، تم نقاش عدد ضخم من القضايا التي تهم أهل المشرق والمغرب، بداية من الفحوص الجينية للمقبلين على الزواج وللنطف قبل وبعد الزرع في الأرحام، وتقنيات التحرير الجيني الجديدة للقيام بتعديلات وراثية غير مسبوقة، مرورا بزراعة الأعضاء المأخوذة من بشر أو من حيوانات تم تعديلها وراثيا لتكون أكثر موائمة للبقاء في الجسد البشري، وانتهاء بكيفية تحديد نهاية حياة الإنسان وما يسمى "موت الدماغ". وهناك موضوعان رئيسيان تم التطرق إليهما مرارا خلال المؤتمر، وهما الذكاء الاصطناعي وأخلاقيات الحروب.
فالتطورات التقنية المتلاحقة للذكاء الاصطناعي قد وجدت طريقها لقطاع الرعاية الصحية، وصرنا أمام معضلة جديدة تتمثل في توسط آلة ذكية بين الطبيب والمريض يمكنها أن تفوق قدرة الطبيب في تشخيص الداء، ووصف الدواء، بل وإجراء عمليات جراحية دقيقة.
وقد اتفق جمهور الباحثين على أن المسؤولية الطبية يجب أن تكون منوطة دائما أبدا بالإنسان وليس بالآلة. لكن الإنسان المسؤول في عصر الذكاء الاصطناعي لن يكون بالضرورة الطبيب وحده، بل قد يشاركه المسؤولية جامع البيانات الضخمة المستخدمة لتدريب الآلة الذكية أو مطور البرامج الذكية أو من قام بإعطاء التراخيص اللازمة، إلى غير ذلك من الاحتمالات. لكن تم التأكيد على ضرورة الاهتمام بالفوارق الشاسعة القائمة حاليا بين مناطق العالم المختلفة في مجال التكنولوجيا الرقمية أو ما يعرف بالهوة الرقمية (digital divide)، حيث تؤدي هذه الفوارق إلى إشكالات في الرعاية الطيبة عندما يتم تدريب الآلات الذكية على بيانات ضخمة قادمة من العالم الغني المتواصل مع التكنولوجيا الحديثة، ثم تطبيقها على سكان العالم الفقير رغم أنهم غير ممثَلين في قواعد البيانات المستخدمة.
أما أخلاقيات الحروب وأثرها على مجال الأخلاقيات الطبية والحيوية، فقد نالت قدرا كبيرا من اهتمام الحضور نظرا للحالة المزرية التي يعيشها عالمنا اليوم. فقد صار استهداف المؤسسات الطبية والعاملين فيها ومرضاهم، وتمثل غزة حاليا المثال الصارخ في هذا الصدد، ممارسة يومية استمرأها البعض بالرغم من الاتفاق على تحريم وتجريم هذه الممارسات في المواثيق الدولية.
وفي سياق التضييق الكبير على الكتابة في هذا الموضوع في عدد من المجلات العلمية وعلى مظاهرات الطلاب في كثير من الجامعات، فإن حرية الحديث عن هذه القضايا في أثناء فعاليات المؤتمر كانت محل تقدير من الحضور والمشاركين. وقد أكدت البحوث المشاركة على أن الفئات الضعيفة من المرضى والمسنين والأطفال والطواقم الطبية لا يمكن أن تكون هدفا في الحروب، بغض النظر عن انتماءاتهم الجغرافية والعرقية والدينية، وأن الاهتمام بالعلاقة بين أخلاقيات الحروب ومجال الأخلاق الطبية والحيوية في حاجة إلى مزيد من التنظير والكتابة العلمية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الذکاء الاصطناعی الرعایة الصحیة أکثر من فی هذا
إقرأ أيضاً:
مترجمون يناقشون مستقبل الترجمة في عصر الذكاء الاصطناعي
في ظل الثورة التكنولوجية المتسارعة، أصبحت الترجمة عبر الذكاء الاصطناعي موضوعا يثير جدلا واسعا بين المتخصصين. بينما يُنظر إلى هذه التقنيات كأدوات تُسهّل العمل وتسهم في تسريع العملية، يبرز التساؤل: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينقل الروح الإنسانية للنصوص كما يفعل المترجم البشري؟
في هذا الاستطلاع، نتحدث مع مجموعة من المترجمين من مختلف الخلفيات الثقافية حول رؤيتهم لهذه القضية. يناقشون معنا طبيعة العلاقة بين النص الأصلي والمترجم، وكيفية تفاعل الذكاء الاصطناعي مع هذا الدور. هل الذكاء الاصطناعي وسيلة لتطوير الترجمة أم تهديد لإنسانيتها؟ وهل سيظل الإنسان قادرًا على الحفاظ على مكانته في هذا المجال؟
بين دفاعهم عن قيمة الإبداع البشري وإدراكهم لأهمية التكنولوجيا كوسيلة مساعدة، يقدّم لنا مترجمون ومختصون رؤى مؤثرة تُبرز تحديات الحاضر وآفاق المستقبل.
بين التهديد والاستفادة
بداية يستعرض المترجم النيجيري الأستاذ الدكتور مشهود محمود جمبا (الفائز بجائزة حمد للترجمة عن ترجمته من لغة اليوربا إلى اللغة العربية)، رؤيته حول حدود الذكاء الاصطناعي في الترجمة فيقول: في الحقيقة، لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل الإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بخصوصياته وقدراته الفريدة، العقل البشري يتميز بالانفعال، والشعور، والطبيعة الإنسانية التي تفتقر إليها الآلات. الذكاء الاصطناعي، مهما تطور، يظل أداة من صنع الإنسان، ولن يصل إلى مستوى الإبداع الإنساني الطبيعي الذي أودعه الله فينا.
ويشير مشهود محمود إلى أن الذكاء الاصطناعي يُعَد مجرد أداة لتسريع العمليات الحسابية والمعالجة اللغوية، لكنه يفتقر إلى العمق الإنساني، حيث يقول: الذكاء الاصطناعي هو بوت تُدخل إليه البيانات، وهو يُعيدها إليك بسرعة، الحصيلة سريعة، لكنها لا تضاهي ما يمكن أن يقدمه الإنسان بعقله وانفعالاته، الذكاء الاصطناعي قد يهدد دور الإنسان لفترة قصيرة، لكنه يظل محدودًا بطبيعته كمنتج بشري، وبالتالي لن يستطيع أن يكون بديلًا حقيقيًّا.
وعند الحديث عن تأثير التكنولوجيا على المترجم، يضيف «جمبا»: مثلما جاء الحاسوب في وقت مضى وأحدث تغييرًا، الذكاء الاصطناعي سيأخذ مكانه في مرحلة ما. لكن، كما لم يستطع الحاسوب أن يستبدل الإنسان بالكامل، كذلك الذكاء الاصطناعي. التكنولوجيا قد تؤثر إلى حد ما، لكنها لن تلغي الدور البشري. المترجم الحقيقي، بذكائه الطبيعي، سيظل أساسيًّا، وسيبقى هو من يدير هذه الأدوات ويستفيد منها.
ويرى «جمبا» أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة مفيدة إذا تم استخدامه بحكمة، قائلًا: اليوم نرى كيف يستفيد الإنسان من أدوات مثل محركات البحث وجوجل، وكذلك يمكنه الاستفادة من الذكاء الاصطناعي. ولكن، هذه الأدوات تظل ذات فوائد محدودة. الإنسان، بطبيعته وقدرته على الإبداع والانفعال، سيظل متفوقًا، التكنولوجيا الحديثة تفتقر إلى هذه الانفعالات، ولهذا لن تتمكن من أخذ مكان الإنسان بشكل كامل. الإنسان سيبقى دائمًا هو المبدع، والمتحكم، والقائد».
ويختم المترجم النيجيري الأستاذ الدكتور مشهود محمود جمبا حديثه بتأكيده على أن الذكاء الاصطناعي سيظل تحت سيطرة الإنسان، قائلا: الإنسان هو من يصنع الذكاء الاصطناعي، وبالتالي سيبقى دائمًا تحت إمرته وإدارته، فمهما تطورت التكنولوجيا، فإنها تبقى أداة لا يمكن أن تتجاوز حدودها كمجرد صناعة بشرية.
أبعاد الترجمة
وحول رؤيته للعلاقة المعقدة بين المترجم والنص الأصلي يقول الباحث الكويتي الدكتور عثمان الصفي أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الكويت: عندما نتحدث عن المترجم، علينا أن نبدأ من نقطة أساسية، وهي كونه قارئًا للنص الأصلي قبل أن يكون مترجمًا. هذه الخطوة (القراءة) هي في حد ذاتها فعل مهم للغاية. النص لا يتفاعل فقط مع القارئ وكأنه عنصر جامد، بل إن القارئ يشارك في عملية بناء النص بشكل أو بآخر. إذا رجعنا إلى النظرية البنيوية، نجد أن القارئ ليس منفعلًا بل فاعل، وهناك مفاهيم مثل ‹موت المؤلف› التي تدعم هذه الفكرة. بمعنى آخر، القارئ، أثناء قراءته للنص، يُدخل إليه ثقافته وفهمه الخاص وتجربته الحياتية، ليعيد معالجته على مستوى شخصي، وهذا الدور يتعاظم عندما يتحول القارئ إلى مترجم. المترجم هنا لا ينقل النص فقط، بل يُعيد تشكيله بما يتناسب مع اللغة والثقافة التي يترجم إليها. النص الأصلي يتأثر، لا محالة، بعقل المترجم وثقافته وفهمه الخاص. هذا التأثير ليس عيبًا، بل هو جزء من جوهر الترجمة. في النهاية، النص المترجم يصبح مزيجًا بين اللغة الأصلية واللغة المستهدفة، وبين الفهم الثقافي للكاتب الأصلي والفهم الثقافي للمترجم، وهنا تظهر نقطة في غاية الأهمية: لا يمكن للترجمة أن تكون مجرد فعل آلي. صحيح أن الذكاء الاصطناعي أصبح اليوم قادرًا على ترجمة النصوص بطريقة حرفية إلى حد كبير، لكنه يفتقر إلى تلك اللمسة الإنسانية التي تتطلبها عملية الترجمة الحقيقية. الذكاء الاصطناعي يعمل على مستوى الكلمات والمعاني الحرفية، ولكنه لا يمتلك الأدوات العقلية أو العاطفية التي تمكنه من إسقاط النص الأصلي على اللغة المستهدفة بشكل يعكس جميع أبعاده. الترجمة عملية معقدة تحتاج إلى إنسان يمتلك ثقافة وخبرة وحسًا لغويًّا عميقًا.
ويضيف «الصفي»: إذا نظرنا إلى التخصصات المختلفة في الترجمة، نجد أن الفرق بين الترجمة البشرية والترجمة بالذكاء الاصطناعي يبرز بوضوح في بعض المجالات دون غيرها. في المجالات التقنية والعلمية، حيث النصوص عادةً مباشرة وموضوعية، قد يكون من الصعب أحيانًا التمييز بين ترجمة الإنسان وترجمة الآلة. لكن الوضع مختلف تمامًا في العلوم الإنسانية والفنون. هذه المجالات تحتاج إلى تفاعل عاطفي وروحي مع النصوص، وهو أمر لا يمكن للآلة أن تقوم به... فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى ترجمة الأفلام أو النصوص الأدبية، سنجد أن النصوص في هذه المجالات تحتوي على تفاصيل إنسانية دقيقة، مثل المشاعر والرمزية الثقافية واللغة التصويرية. هذه الجوانب لا يمكن للذكاء الاصطناعي معالجتها بنفس العمق الذي يقدمه المترجم البشري. الترجمة هنا ليست مجرد نقل للمعنى، بل هي نقل للروح التي تقف وراء النص الأصلي.
وفي الختام يؤكد الدكتور عثمان الصفي، أستاذ الفلسفة المعاصرة بجامعة الكويت أن الذكاء الاصطناعي سيظل متأخرًا في التعامل مع النصوص الإنسانية والفنية ويقول: هذه النصوص تتطلب مستويات متعددة من الفهم والمعالجة، وهي أمور تتصل بشكل مباشر بروح الإنسان وتجربته الفردية. الذكاء الاصطناعي قد يُسهم في تسهيل بعض جوانب الترجمة، لكنه لن يستطيع أبدًا أن يحل محل الإنسان عندما يتعلق الأمر بالنصوص التي تحتاج إلى لمسة إنسانية حقيقية.
تحديات مستقبلية
من جانبه يقول المترجم المغربي الدكتور الحسين بنوهاشم (الفائز مؤخرا بالمركز الثاني في جائزة حمد للترجمة عن ترجمته من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، كتاب «الإمبراطورية الخطابية» لشاييم بيرلمان): لا شك أن الذكاء الاصطناعي يقدم أدوات مفيدة يمكن أن تساهم في عملية الترجمة، ولكن لا يمكن بأي حال أن تحل هذه الأدوات محل الإنسان في الترجمة؛ فالنصوص المترجمة بواسطة الذكاء الاصطناعي، برأيي، تفتقر إلى البُعد الإنساني الذي يُضيفه المترجم من خلال فهمه العميق للنص، وتفاعله معه على مستوى عاطفي وثقافي، ولكني في المقابل لا أرفض استخدام الذكاء الاصطناعي كوسيلة مساعدة، ولكن لا ينبغي أن يكون هو البديل. الترجمة ليست مجرد نقل للمعاني، بل هي عملية إنسانية تحتاج إلى مفسر يضيف روحه وفهمه للنص، وهذا ما لا يمكن أن يقوم به الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت دقته.
وحول المخاطر التي قد يسببها الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، عبّر «بنوهاشم» عن قلقه قائلا: نعم، هناك مخاطر حقيقية، والمستقبل قد يحمل توجهًا يجعل المترجمين مجرد أشخاص يعتمدون على التكنولوجيا فقط، وقد يتراجع دورهم الأساسي في العمل. السؤال هنا: من الذي يملك النص؟ من هو صاحب الترجمة؟ إذا كان النص مترجمًا بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي، فهل يمكن نسبه إلى الإنسان؟ هذا يطرح إشكالية أخلاقية ومهنية كبيرة.
ويضيف الحسين بنوهاشم أن المترجم يجب أن يبقى عنصرًا أساسيًّا في عملية الترجمة، مهما تطورت أدوات الذكاء الاصطناعي، فأنا أؤمن بأن الدور الحاسم ينبغي أن يكون دائمًا للمترجم البشري، الذكاء الاصطناعي قد يُستعان به لتحسين الكفاءة وسرعة العمل، لكنه لا يمكن أن يعوض المترجم بالكامل، علينا أن نحافظ على هذا التوازن، بحيث تبقى إنسانية النصوص محفوظة ولا تُختزل في معالجة تقنية جافة.
ويختتم المترجم المغربي الدكتور الحسين بنوهاشم حديثه بالتأكيد على أهمية الترجمة كفعل إنساني حيث يقول: الترجمة ليست مجرد كلمات تُنقل من لغة إلى أخرى؛ إنها تعبير عن الروح والثقافة والإنسانية، فالنصوص بحاجة إلى لمسة المترجم، إلى رؤيته وخبرته، إلى حسه الخاص الذي لا يمكن للآلة أن تمتلكه.
وسيلة لا غاية
عن أهمية تقدير المترجمين وتحدياتهم في ظل التطورات التكنولوجية قال المترجم المغربي الدكتور إلياس أمحرار (الفائز بالمركز الثالث في فئة الترجمة من العربية إلى الفرنسية عن كتاب لأبو بكر ابن العربي): عند الحديث عن التطورات المتسارعة في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، فإن هذه الأدوات يمكن أن تكون مفيدة إذا استُخدمت بحكمة؛ فالذكاء الاصطناعي وسيلة وليس غاية.. فالطريقة التي نتعامل بها مع هذه التكنولوجيا هي ما يحدد تأثيرها، فإذا استخدمناها كأداة صناعية تُعيننا وتُسهل علينا بعض الجوانب، فهذا أمر جيد، لكن إذا اعتمدنا عليها اعتمادًا كليًّا، فقد يُشكل ذلك خطرًا حقيقيًّا، خاصةً على المعجم العربي؛ فالاقتصار على الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تكرار نفس الكلمات والمفردات، مما يُفقّر لغتنا بمرور الوقت».
«أمحرار» يؤكد أن المترجم عليه دور محوري في تحسين أدوات الذكاء الاصطناعي من خلال تزويدها بالمعلومات اللازمة.. يوضح قائلًا: الذكاء الاصطناعي أشبه بدابة تتغذى مما نمنحها، إذا أطعمتها محتوى جيدًا ودقيقًا، ستصبح أكثر كفاءة ودقة، وعلى المترجم أن يساهم في تدريب هذه الأدوات وإثرائها بالمعلومات الصحيحة، لضمان أنها تُنتج محتوى ذا جودة عالية.
وحول الخشية من أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المترجمين، أجاب إلياس أمحرار: العقل البشري هو شيء فريد وجميل.. الذكاء الاصطناعي قد يكون أداة فعالة، لكنه لا يمكن أن يحل محل الإنسان، فالمترجم هو العقل الذي يُضيف للترجمة روحها ومعناها العميق.. نعم التقنية يمكن أن تساعد، لكنها لا تستطيع أن تحل محل الإبداع الإنساني.
ويختتم المترجم المغربي إلياس أمحرار حديثه بالتأكيد على أهمية الموازنة بين التكنولوجيا ودور المترجم الإنساني، قائلا: أنا مع استخدام الذكاء الاصطناعي، ولكن بدقة.. على المترجم أن يبقى في الصدارة، وأن يكون هو العقل الذي يُدير العملية، فالمترجم سيظل دائمًا هو من يُضيف القيمة الإنسانية للنصوص، وهو ما لا يمكن لأي آلة تحقيقه.
مراحل للنشأة الأولى
يقول المترجم المغربي حسن حلمي، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الحسن الثاني سابقًا، إن الترجمة الآلية تعتمد بنسب متفاوتة على الذكاء الاصطناعي، والذكاء الاصطناعي، في مقابل الذكاء الفطري آلة؛ فإن أنت أطعمتها لحم البقر، أطعمتك نقانق البقر، وإن أنت أطعمتها لحم الخنزير، أطعمتك نقانق الخنزير، وما هند إلا مهرة عربية.
وأشار «حلمي» إلى ما أوضحه الدكتور غسان مراد، في تقديمه لأحد المؤتمرات، الصلات المعقدة بين الترجمة والذكاء الاصطناعي. وكان من أهم القضايا التي نبّه إليها أولا، أن المترجم يستخدم التطبيقات ولا يصنعها، وثانيا، أن معطيات الذكاء الاصطناعي ثابتة، لكن معطيات اللغة متحركة تبعا لحركة الفكر، ثالثا، أن الذكاء الاصطناعي يعتمد على التكرار، لكن الذكاء البشري يعتمد على الابتكار، ورابعا، أن من مشكلات الذكاء الاصطناعي، بحكم ثبات معطياته، أن الحاجة دائمة إلى نقض ما قد تؤسسه التطبيقات، فلا بد من التدخل لحملها على أن تنسى ما تم تخزينه في ذاكرتها حتى تواكب حركة الفكر.
وأضاف «حلمي»: لئن كان ما يسمى بالترجمة الآلية العصبية، والترجمة الآلية التي تعتمد على الإحصائيات وتحليلها قصد تقييم المنتج وتجويده، من الأدوات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، فإن لمسات الذكاء البشري ﻻ يمكن الاستغناء عنها. ومن ضمن الأدوات المستجدة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي الأداة التي تقوم بالترجمة الفورية للنصوص مكتوبة كانت أو منطوقة، وكذلك ما يسمى بـالأداة التي تعتمد على أنظمة لتخزين/ حفظ محتوى سبق أن تمت ترجمته قصد الاستعانة به في التدوير، وفي تحقيق الاتساق في النتاج الترجمي، وثمة وجه آخر لتوظيف الذكاء الاصطناعي في الترجمة يقوم على تحرير المترجم من المهام الروتينية البسيطة، وتمكينه من التركيز على الأمور التي تتسم بالتعقيد، ويفترض أن هذا يساعد المترجم في السعي إلى تجويد إنجازه، وتوفر صناعة الذكاء أيضا أداة للتدقيق تستعمل لضمان الجودة في المنتوج المترجم، وذلك بأن تتيح الفرصة للمترجم ليتعرف على الأخطاء النحوية وعلى الأخطاء في التركيب وفي استعمال المصطلح.
ويختتم المترجم المغربي حسن حلمي، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الحسن الثاني سابقًا حديثه بالقول: لا شك في أن لاستعمال الذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة مزايا من بينها السرعة في الإنجاز والاقتصاد في الإنفاق، غير أن هذه المزايا غالبا ما تؤثر سلبا في جودة الترجمة ودقتها، ولئن كانت هذه المزايا مفيدة في المواقف اليومية البرجماتية، التي يتداول فيها العامة اللغة في حدودها الدنيا بنية تحقيق ما يعتقدون أنه تواصل، فإنها تظل، على الأرجح، عقيمة في المستويات الفكرية التي تنطوي على قدر من التجريد والتعقيد، أو في المستويات الأدبية التي لا ينفصل فيها المحتوى عن الأسلوب. وعلاوة على هذا، فإن الذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحل نشأته الأولى، وربما يمر وقت طويل قبل أن يكون مؤهلا لمواجهات تحديات الترجمة، وحتى إن أفلح، على المدى الطويل، في التصدي لبعض مصاعب الترجمة فإنه، حسب توقع المتشائمين من أمثالي، لن يقوم أبدا مقام الذكاء الفطري.