لطالما اعتبرت المرآة أداة سحرية ذات قدرات خارقة، يغلب عليها الطابع الأسطوري، واُستخدمت كوسيلة للتكهّن والنبوءة، تتجلى وتنكشف فيها وعن طريقها خبايا النفس وخفايا المستقبل.

اعلان

ما من وسيلة لمعرفة الذات غير تلك المواجهة عبر المرآة، حيث يرى الإنسان نفسه وهو يرى نفسه، ويعرف نفسه كما يعرفه الآخرون، وجهاً لوجه، من خلال تقاطع النظرات.

وقبل صناعة المرآة الزجاجية، كما نعرفها اليوم، في مستهلّ القرن السادس عشر، في البندقية على وجه الخصوص، استخدم الرومان والعرب الزجاج لصنع المرايا، عن طريق طلاء سطحه بمزيج من الفضة والزئبق، لكن أرضية هذه المرايا كانت معتمة بحيث لا تظهر عليها الصور واضحة وضوحاً كافياً، فكانت بذلك أقرب إلى الصور المنعكسة على سطح المعادن المصقولة.

ورغم ذلك اكتسبت مكانة رفيعة باعتبارها أعجوبة العصر التكنولوجية، مثل آلة التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر.

وقد تجلّى هذا الإحساس بالعجب إزاء المرآة في ميادين متعددة، إذ صارت تدريجياً من مستلزمات الموضة التي لا غنى عنها، توضع في علب أو حقائب من العاج أو المعدن النفيس، وكانت تربط في شريط من القماش أو سلسلة معدنية رقيقة وتعلق حول الخصر. أما المرايا الأكبر، فكانت تُصمّم مقابضها وقواعدها من الذهب أو الفضة أو القصدير، وتوضع في أطر مزخرفة ومطعّمة أحياناً بالأحجار الكريمة، نجدها اليوم مرسومة على هوامش المخطوطات والكتب النادرة، وفي الرسوم الدينية متعددة الموضوعات.

عُلّقت في البداية على حيطان الكنائس، ثم ظهرت بأحجام أكبر في المباني العامة والمنازل، وأخيراً أصبحت مركز جلب الأنظار في غرف وصالات المرايا التي كانت تملأ قصور وقلاع القرن السابع عشر.

المرآة... شغف العلماء والفلاسفة والفنانين

وأكثر من كونها أداة من أدوات الموضة، صارت المرآة موضوع الاهتمام أو البحث العلمي، وأثارت شغف العلماء والفلاسفة الطبيعيين. ليوناردو دافنشي على سبيل المثال، اعتبرها "دليلاً نافعاً لا بد أن يهتدي به الفنان في عمله الإبداعي"، أثانيسيوس كيرتشر كان معنيّاً ببيان الخصائص البصرية التي تتميز بها، أما ديلا بورتا فقد قام بتجارب على تلك المرايا التي تمسخ الأشكال وتُحوّلها، وصمّم تخطيطات لغرفٍ من المرايا تُضاعف وتكرّر الانعكاسات إلى ما لا نهاية. ومنذ ذلك الوقت نجد إشارات إلى خصائص المرآة و"أفعالها الغريبة"، مثل قلب الصورة أو عكسها، وتجميع أشعة الشمس في نقطة واحدة لإحراق ما يُراد إحراقه، وغير ذلك من أفعال كانت آنذاك مثيرة للخيال وتدخل في باب "سحر المرآة".

أصبحت المرآة أيضاً موضوعاً أثيراً لدى الفنانين، نجدها في النحت والتصوير والحفر على الخشب والمعدن، وأكثرها شعبية هي "مرآة الساحرة" أو"عين الساحرة" التي ظهرت في العديد من لوحات الرسامين الفلامنكيين في القرن الخامس عشر، رأوا فيها طريقة لتثنية الصور وإدخال زوايا جديدة ومناظر محيرة من خارج اللوحة أحياناً، تُعطي الوهم بمشهد يمتد. وتتحول "عين الساحرة" إلى عالم مجهري مستقلّ، يضغط ويضاعف المشهد في آن، في لوحات كلّ من جان فان إيك في الزوجين أرنولفيني (1434)، بيتروس كريستوس في صائغ الذهب في ورشته (1449) وكونتن ماتسيس في المرابي وزوجته (1514).

الزوجان أرنولفيالرسام فان إيك

وتختلف مرآة الساحرة عن غيرها من المرايا الدائرية بكونها مجهّزة بزجاج محدّب، يختزل الأشياء اختزالاً تصير معه بالغة الصغر والدقة. هذه الميزة ليس لها تأثير جمالي فحسب، ولكن وظيفي أيضاً، فقد سمحت لأصحابها برؤية شاملة للمكان دون الحاجة للتحرك أو الالتفات. وُضعت في الأماكن التي توجد فيها كاميرات المراقبة اليوم، وتحديداً في المصارف والمتاجر وسُمّيت "مرآة المصرفي".

وسرعان ما تبنتها الطبقة البورجوازية كأداة للردع ومراقبة الخدم المثيرين للشكوك، الذين كانوا أميين في غالب الأحيان وأكثر ميلاً للإيمان بالسحر والخرافة، وكانوا يعتقدون أن المرآة قوة عُلوية مفارقة لهذا العالم الأرضي وغريبة عنه وغير قابلة للإدراك أساساً، وأنها تظل تراقبهم وترصد تحركاتهم حتى في غياب الأسياد. ومع إدراك الأثرياء للقوة الرادعة لهذه المرايا، اتجهوا نحو اقتناء أخرى أكبر حجماً، مزخرفة بالذهب ومطعّمة بالأحجار الكريمة للتعبير عن البذخ وإثبات السلطة.

المرآة... للتكهّن والنبوءة

ولطالما اعتبرت المرآة أداة سحرية ذات قدرات خارقة، يغلب عليها الطابع الأسطوري، مثل مرآة نرسيس، مرآة ديونيسوس ومرآة ميدوزا. وضع الإغريق "علم المرايا" الذي ينطوي في آن واحد على دقة الرياضيات وشطحات التصوف، على قياس زوايا سقوط الضوء وانعكاسه عن أسطح المرايا، وما تسببه هذه المرايا وتثيره من أغلاط وأوهام، وكان المتصوف نصير الدين الطوسي، رياضياً ومحرراً لكتاب إقليدس في "علم المناظر".

اُستخدمت المرآة أيضا كوسيلة للتكهّن والنبوءة، تتجلى وتنكشف فيها وعن طريقها خبايا النفس وخفايا المستقبل. نقرأ عن محاربين يستشيرون المرآة قبل الذهاب لمحاربة إسبرطة، ويُروى عن الإمبراطور الروماني ديديوس جوليانوس، أنه لما انتابه القلق من التقدم العسكري الذي أحرزه غريمه، استدعى السحرة لكي يعرف منهم مصير الحرب. لكن الرواية تضيف أنه كان يلجأ أيضاً إلى التجليات التي تصدر عن مرآة، يحدّق فيها أطفال ويحكون ما يرونه من علامات وأسرار. شكسبير هو الآخر استعان بهذه المرآة السحرية في العديد من مشاهده الدرامية في "مكبث"، وألّف غولار، المؤرخ الفرنسي، كتاباً بعنوان "كنز الأخبار العجيبة"، ذكر فيه أن ملكة فرنسا كاترين دي مديتشي، كانت تلجأ إلى مرآة لترى فيها مصير آل بوربون، حيث يظهر كل شخص وهو يقوم بدورات على قدر السنين التي سيحكم خلالها: "قام الملك هنري الثالث بدوراته وعبرها دوق دو غيز بسرعة خاطفة كالبرق، وبعد ذلك قدّم أمير نافار نفسه في اثنين وعشرين دورة ثم اختفى".

مرايا المقريزي

مرايا سحرية من مختلف الأنواع نجدها أيضاُ في "خطط "المقريزي: مرايا دفاعية ضد الأخطار، تمنع الوحوش البحرية من إلحاق الأذى بالسكان، مرايا محرقة تستقطب أشعة الشمس وتسقطها على سفن الأعداء وهي آتية من جزر نائية، على نحو ما كانت تفعل مرايا أرخميدس في دفاعها عن أسوار سرقسطة، ومرايا تلسكوبية تتوجه إلى داخل البلاد وخارجها، تبيّن مُدناً قائمة على الجانب الآخر من البحر، ومرايا تكهنية تُري، مُقدماً وقبل سنة كاملة، الأقاليم التي ستصير خصبة وتلك التي ستصير قاحلة، وتكشف بالتالي أحداث البلاد ووقائعها المقبلة.

تمثيل المرايا المُحرقة لأرخميدس في مخطوط من القرن ال17Ars magna lucis et umbrae"مرآة الشمس"

هذه الروايات العجيبة جعلت المرآة أداةً تنتمي إلى الخرافة أكثر من انتمائها إلى العلم، ومن الطبيعي أن تثير "عين الساحرة" كل هذه الريبة، لكنها أصبحت تدريجياً من كلاسيكيات التصميم والديكور الداخلي، منحها المصمم جيلبير بوالورا، في الأربعينيات، اسماً جديداً هو "مرآة الشمس". صُنعت في الألب البحرية ودوّخت جامعي الفن الذين لا زالوا يتعقبونها بصبر في المزادات العلنية. وقبل بضعة أيام أصدرت دار "sentou" الفرنسية التي تتعاون مع العديد من المصممين الشباب، تصميماً جديداً ذا طابع مينيميالي، يحمل اسم "endora"، مثل الحماة المتلصصة في مسلسل "بيوتشد" الكوميدي.

شارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية "عين العاشق".. حكاية المجوهرات التي أسّست لغة مشفّرة للحب وباركت العلاقات السريّة أشهر لوحات "القُبلة" في تاريخ الفن.. الجانب المظلم وراء الرومانسية كيف نهزم إدمان وسائل التواصل الاجتماعي ونتوقف عن مقارنة حياتنا بالآخرين؟ لوحات فن علوم اعلاناخترنا لك يعرض الآن Next عاجل. حرب غزة: توغل إسرائيلي في رفح وسط قصف مكثف وحزب الله يستهدف مواقع عسكرية إسرائيلية بصواريخ ومسيّرات يعرض الآن Next أبرز التعديلات التي وضعتها حماس على مقترح بايدن لوقف إطلاق النار يعرض الآن Next مجموعة السبع تمنح أوكرانيا قرضًا بقيمة 50 مليار يورو باستخدام الأصول الروسية المجمدة يعرض الآن Next مخاطر بيئية وصحية.. الأونروا تحذر من تراكم 330 ألف طن نفايات بمناطق سكنية في غزة يعرض الآن Next شاهد: عراك عنيف في البرلمان الإيطالي بعد التصويت على قانون الحكم الذاتي اعلانالاكثر قراءة مطالبة بـ"تعديلات".. حماس تسلم الوسطاء ردها على المقترح الإسرائيلي لوقف إطلاق النار في غزة "العنصرية والانهيار الاقتصادي وضغوط السلطات" في لبنان تدفع بمئات اللاجئين السوريين للعودة إلى بلدهم شاهد: تدريجياً.. السجناء يملأون مركز احتجاز أفراد العصابات الكبير في السلفادور شاهد: تدليك وفيتامينات وصالونات فاخرة... تعرف على سلالة الأكباش المرفهة في السنغال تفاصيل تروى لأول مرة.. من وراء القضبان زوجة البغدادي تفضح أسرار زعيم داعش اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليوم الانتخابات الأوروبية 2024 إسرائيل غزة الشرق الأوسط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حركة حماس محكمة فلاديمير بوتين الإسلام السعودية مجموعة السبع الصحة Themes My Europeالعالمأعمالالسياسة الأوروبيةGreenNextالصحةسفرثقافةفيديوبرامج Services مباشرنشرة الأخبارالطقسجدول زمنيتابعوناAppsMessaging appsWidgets & ServicesAfricanews Job offers from Amply عرض المزيد About EuronewsCommercial Servicesتقارير أوروبيةTerms and ConditionsCookie Policyتعديل خيارات ملفات الارتباطسياسة الخصوصيةContactPress OfficeWork at Euronewsتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024 - العربية EnglishFrançaisDeutschItalianoEspañolPortuguêsРусскийTürkçeΕλληνικάMagyarفارسیالعربيةShqipRomânăქართულიбългарскиSrpski

المصدر: euronews

كلمات دلالية: الانتخابات الأوروبية 2024 إسرائيل غزة الشرق الأوسط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني السعودية الانتخابات الأوروبية 2024 إسرائيل غزة الشرق الأوسط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني السعودية لوحات فن علوم الانتخابات الأوروبية 2024 إسرائيل غزة الشرق الأوسط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حركة حماس محكمة فلاديمير بوتين الإسلام السعودية مجموعة السبع الصحة السياسة الأوروبية یعرض الآن Next

إقرأ أيضاً:

عالم يحذر من نوع بكتيريا قد يسبب تسريبه وفاة الملايين

بعد اختفاء عدد من الفيروسات الخطيرة التي أثارت ذعر العالم دق العالم غريغوري وينتر، الأستاذ بجامعة كامبريدج والحائز على جائزة نوبل في الكيمياء، ناقوس الخطر بشأ، نوع من الميكروبات حيث قال أن مواجهة ما يسمى بالميكروبات المرآة قد تكون مستحيلة إذا غادرت المختبرات.

ويشير إلى أن العديد من الجزيئات الأساسية للحياة يمكن أن تتواجد في شكلين مختلفين، كل منهما مرآة للآخر.

ووفقا له، يتكون الحمض النووي لجميع الكائنات الحية من النيوكليوتيدات "يمنى"، والبروتينات، اللبنات الأساسية للخلايا، مصنوعة من الأحماض الأمينية "يسرى".

 ولكن، في الحمض النووي للميكروبات المرآة، تصبح النيوكلتيدات "يسرى" والأحماض الأمينية تصبح "يمنى" ولا يمكن أن تظهر مثل هذه الكائنات الحية الدقيقة إلا بشكل مصطنع.

ويقول: "سيكون من الصعب أو المستحيل إنشاء لقاحات فعالة ضد البكتيريا المرآة والأخطر من ذلك أنها يمكن أن تصيب الحيوانات والنباتات، وسيكون من المستحيل تدميرها في النظام البيئي الدقيق الذي يدعمنا".

ووفقا للبروفيسور، تعود هذه المقاومة العالية للميكروبات "المرآة" إلى أن منظومة المناعة للكائنات الحية غير قادرة على التعرف عليها لأنها معتادة على البنية الطبيعية للحمض النووي. لذلك إذا دخلت مثل هذه البكتيريا إلى جسم الإنسان، فإنها يمكن أن تتكاثر بفعالية، ما يمنع التئام الجروح أو انسداد الأوعية الدموية. وفي الحالة الأخيرة، يمكن أن تؤدي العدوى بالبكتيريا المرآة إلى الإصابة بجلطة دماغية.

ويشير إلى أن مضادات الحيوية أو الفيروسات الخاصة يمكن أن تساعد في مكافحة هذه الكائنات غير العادية، لكن قد لا يكون للبشرية ما يكفي من الوقت لمثل هذه الدراسات.

ووفقا له، ستصبح مشكلة تغير المناخ أقل المشكلات خطورة إذا ظهرت البكتيريا المرآة في الوسط المحيط.

مقالات مشابهة

  • خالد الغندور يوجه نصيحة لـ إمام عاشور: حافظ على النعمة التي تعيش فيها
  • عالم يحذر من نوع بكتيريا قد يسبب تسريبه وفاة الملايين
  • لاعبو كرة القدم: تعبنا من كثرة المباريات.. وبطولة الفيفا الجديدة هي القشة التي قصمت ظهر البعير
  • دعوى قضائية أمريكية ضد طبيبة في نيويورك وصفت دواء للإجهاض لسيدة في ولاية تكساس التي يحظر فيها ذلك
  • الجيش الإسرائيلي يعرض أمام نتنياهو أسلحة استولى عليها من حزب الله وتأكيد على مواصلة ضرب الحوثيين
  • مفاوضات غزة – تفاصيل الملفات التي تم الاتفاق عليها حتى الآن
  • فرضية حديقة الحيوان.. لماذا لم نجد حياة عاقلة في الكون إلى الآن؟
  • السيسي عن العاصمة الإدارية: حولنا الأراضي التي لا تساوي شيئا إلى أموال نستفيد منها
  • إندونيسيا تحيي الذكرى العشرين لكارثة تسونامي المأساوية التي أودت بحياة مئات الآلاف
  • متقاعدو الأرجنتين يتظاهرون ضد تدابير التقشف التي فرضها الرئيس ميلي