الحجُ رمزٌ عملى تطبيقى فعّال لوحدة القصد: ووحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس، وهم محرِمُون فى صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.
اللافت للنظر فى مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل، فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد فى بيته العتيق فكانت الكعبة، فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً فى عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه فى أول بيت مبارك وضع للناس.
ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء. فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت: حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً، فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد كما يقول الفلاسفة. أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوى، عالم الأفلاك السماوية. تذكر هنا فطرة الله التى فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات. لك أن تلاحظ: الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفانى حول الباقى، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوى حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية، لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية، لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحى المفطور على السنن والنواميس الثوابت.
حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله لله. وسيبقى البيت العتيق عتيقاً، لأنه المركز الثابت الذى سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.
أما تعليل الطواف بسبع، فلا يسيغهُ فى العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار. وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون:
(لبيك اللهمّ لبيك..
ربنا معذرةً إليك..
نستغفرك ونتوب إليك)
فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.
ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا فى الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من فى الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
هذا هو الجانب المقبول فى الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت، فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش فى البيت المعمور، ثم فى الأرض، فى البيت العتيق.
ومن يتأمل الروايات التى وردت فى الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذى ذكرناه..
وقيل: إن الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبى قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه فى مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا.
وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود فى كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، فى شهود التوحيد، وفى تكفير الخطايا والذنوب، وفى الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفى القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد إلا التطهير.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم الحج مناسك الحج
إقرأ أيضاً:
نزول المطر: عطاء إلهي يحمل الخير والبركة ويجدد الأمل في النفوس
نزول المطر: عطاء إلهي يحمل الخير والبركة ويجدد الأمل في النفوس، عندما تُثقل السماء بالغيوم ويبدأ المطر بالهطول، تنبض الأرض بالحياة وتزهر القلوب بالأمل.
المطر ليس مجرد ظاهرة طبيعية نشهدها بين الحين والآخر، بل هو رمز من رموز العطاء الإلهي ورحمة تتجلى في كل قطرة تنزل من السماء.
وقد جعل الله لهذه اللحظات المباركة قيمة عظيمة، حيث تكون فرصة للتأمل والدعاء، وهي لحظات تتجدد فيها الحياة معنويًا وماديًا.
تنشر لكم بوابة الفجر الإلكترونية في السطور التالية مجموعة من الأدعية يمكن الدعاء بها وقت نزول المطر.
دعاء المطر: وقت استجابة ورحمة من اللهالمطر في القرآن الكريم
ورد ذكر المطر في العديد من آيات القرآن الكريم التي تصف كيف يحيي الله به الأرض بعد موتها.
نزول المطر: عطاء إلهي يحمل الخير والبركة ويجدد الأمل في النفوسيقول الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ" (سورة الشورى: 28).
هذه الآية تُظهر كيف يكون المطر وسيلة لنشر الرحمة وتجديد الأمل بعد القحط والضيق، فهو معجزة مستمرة تدعو الإنسان للتفكر في عظمة الخالق وقدرته على تغيير الأحوال.
المطر كفرصة للتقرب إلى الله
وقت نزول المطر هو لحظة روحانية مميزة تُستجاب فيها الدعوات. عن النبي ﷺ أنه قال:
"ثنتان ما تُردَّان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر" (صحيح الجامع).
في هذه اللحظات، تكون السماء أقرب إلى الأرض، ويشعر المسلم بالطمأنينة وهو يدعو الله من أعماق قلبه، طالبًا منه الرحمة والمغفرة، أو متمنيًا تحقيق أمنياته.
التأمل في المطر وأثره على النفوس
المطر ليس فقط سببًا لإحياء الأرض، بل هو أيضًا دعوة للتأمل في رحمة الله ولطفه.
التذكير بنعم الله: المطر يذكر الإنسان بالنعم التي تحيط به، بدءًا من الماء الذي يمثل أساس الحياة، وصولًا إلى الخيرات التي ينبتها على الأرض.
التفاؤل والأمل: نزول المطر بعد الجفاف يُعلمنا أن الفرج يأتي دائمًا بعد الشدة، وأن الحياة مليئة بالفرص الجديدة مهما طال انتظارها.
التوكل على الله: المطر يُرسخ في قلب الإنسان الإيمان بأن الأمور بيد الله وحده، فهو من يرسل الخير والرزق في الوقت المناسب.
دعاء المطر: وقت استجابة ورحمة من الله الأدعية المستحبة أثناء المطروقت المطر هو وقت مبارك للدعاء، وقد ورد عن النبي ﷺ أدعية يمكن أن يرددها المسلم أثناء هطول المطر، ومنها:
نزول المطر: عطاء إلهي يحمل الخير والبركة ويجدد الأمل في النفوس1. عند بدء نزول المطر: "اللهم صيبًا نافعًا".
2. عند رؤية المطر الغزير: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر".
3. بعد انتهاء المطر: "مُطرنا بفضل الله ورحمته".
المطر يرمز للتجديد والإحياء، فهو يُحيي الأرض التي كانت ميتة، كما يُحيي القلوب التي كانت مغلقة بالحزن أو القنوط.
كل قطرة مطر تحمل رسالة من الله للإنسان أن الخير قادم، وأن الحياة مليئة بالفرص الجديدة التي تحتاج فقط للصبر والثقة بالله.
كيف نستغل وقت المطر؟1. الدعاء: احرص على الدعاء لنفسك ولأحبائك، واطلب من الله كل ما تتمناه بثقة أنه سيستجيب.
2. التأمل والشكر: تأمل في جمال الطبيعة وتفكر في عظمة الله وقدرته، واشكره على هذه النعمة العظيمة.
3. تعزيز الإيمان: اجعل من وقت المطر فرصة لتقوية إيمانك وزيادة يقينك برحمة الله وعنايته بعباده.
المطر نعمة عظيمة تحمل الخير والبركة للإنسان والحيوان والنبات، وتذكرنا دائمًا برحمة الله الواسعة التي تشمل كل شيء.
إنه فرصة للتأمل والتضرع إلى الله بالدعاء، وفرصة لتجديد الإيمان بأن الفرج قريب مهما اشتدت الصعاب.
فلنستغل هذه اللحظات المباركة بشكر الله والتقرب إليه، ولنزرع في قلوبنا الأمل مع كل قطرة تنزل من السماء.