الخرطوم تحتضر.. كيف سيتعرف عليها سكانها بعد الحرب؟
تاريخ النشر: 13th, June 2024 GMT
إنه لمن المحزن أن يكتشف المرء أن عاصمة بلاده لم تعُد موجودة، لا شيء مما تبقّى فيها يدلّ على أنها هي الخرطوم، عروس النيلَين، بعبقها وأصالتها. وهي اليوم بعد حرب ومعارك لا تزال مُستعرة، يتعذّر التعرُّف عليها، حتى إنّ الكثير مِن معالمها الآثرية النادرة، تمّ تدميرها أو محوها بالكامل.
بدت العاصمة السودانية وهي تتعرّض لذلك التدمير المُمنهج، وتنتشر فيها أنواع من الحيوانات المفترسة تتغذّى على جثث السودانيين في العراء، مصدومة مثلنا تمامًا، لدرجة أن متنزهاتها وحدائقها العامة تحوّلت حرفيًا إلى مقابر!
بين قصرَينالقصر الجمهوري، الذي تتحصّن فيه القوات المتمردة حاليًا، ألحقت به الحرب دمارًا هائلًا جعله غير صالح لممارسة السُلطة، وهو في الحقيقة قصران: أحدهما شيّده الرئيس المعزول عمر البشير في العام 2015، والآخر هو القصر القديم، الذي يطلّ على ضفة النيل الأزرق، وقد اكتسب زخمًا تاريخيًا نظرًا لرفع علم الاستقلال على ساريته في يناير/ كانون الثاني 1956، وبالرغم من أنه ليس نقطة تحكّم عسكرية فإنه في أحسن الظروف لن يصمد طويلًا؛ بسبب القتال، والقوة التدميرية الهائلة حوله.
ليس بعيدًا عن ذلك الحريق، تحتضن مدينة الخرطوم بحري المتحف الحربي، الذي يضمّ عشرات المقتنيات الحربية والعسكرية النادرة، من صور وأزياء وأسلحة تؤرّخ لحقب عسكرية مختلفة، وهو أيضًا يقع في منطقة تقاطع نيران الجيش، والدعم السريع، وكل ما يحتويه عُرضة للخطر.
صرخة مديرة المتحف الطبيعيمن المعالم المهمة التي لحق بها الخراب كذلك متحف الخرطوم الطبيعي، الذي نفقت فيها كل الحيوانات والطيور نفوقًا بطيئًا؛ بسبب العطش والجوع، بما فيها الثعابين والعقارب والتماسيح والحشرات شديدة السُمية، كثير منها تم جمعه بصعوبة بالغة، ولا توجد منه عينات أخرى في السودان، ومع ذلك لم تشفع صرخة مديرة المتحف سارّة عبدالله لإنقاذ ذلك المتحف، وفشلت كل الجهود في نقل الكائنات بداخله إلى مكانٍ آمن، لتنقرض شيئًا فشيئًا، وتلحق بوحيد القرن الأبيض الأخير المعروف بـ"سودان".
عندما يعود سكان الخرطوم إلى الديار سوف يتفاجؤُون ليس فقط بالدمار والنهب الذي طال بيوتهم، ولكن باختفاء معظم معالم الخرطوم القديمة والحديثة أيضًا، مول عفراء، مطابع العملة، مستودعات الشجرة، صالة المطار، برج شركة النيل، المحاكم والأدلة الجنائية، المراكز البحثية، المنطقة الصناعية بحري، آثار بيت الخليفة بأم درمان، المكتبات التي تضمّ آلاف الكتب والمخطوطات النادرة، مئات الجامعات والشركات والمباني الحكومية، أصبحت فعليًا تحت الأنقاض.
كنوز قومية مُهددة بالضياعالأمر لا يتعلق بالمباني فحسب، فهي ترتبط بالحنين والذكريات، لكن مكمن الخطورة في الأشياء التي يصعب تعويضها، مثل الكنوز القومية، التي تحفظ ذاكرة الأمة، منها دار الوثائق القومية، وسط الخرطوم، والتي يمكن أن تلتهما النيران، إن لم تكن قضت عليها بالفعل.
وتكتسب أهميتها من كونها ثانية أعرق دور لحفظ التراث المكتوب في المنطقة، من جمعه إلى تصنيفه وأرشفته، وتضم داخلها نحو ثلاثين مليون وثيقة تقع في مائتي مجموعة وثائقية مع أصناف الخرائط والمخطوطات والكتب النادرة، لكن تلك الأهمية لا تعني لمليشيا الجنجويد شيئًا، ولن يترددوا في جعلها مخزنًا للأسلحة كما فعلوا بالمتحف القومي، الذي تم احتلاله بطريقة عبثية، وقاموا بنبش آثار (الكنداكات) وتوابيت ملوك الحضارة الكوشية القديمة، وعرضوهم في مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارهم ضحايا سجون البرهان! وعلى رأس تلك الآثار تمثال الملك تهارقا (690 – 664 ق.م) الذي نُقل حديثًا إلى دار المتحف القومي عند ملتقى النيلين، ومع ذلك لم تتحرك اليونسكو، المعنية بالآثار، للحفاظ على التراث السوداني، كما لو أن الأمر لا يعنيها!
وباستهداف القصر الجمهوري والمتحف القومي وجامعة الخرطوم وآثار ما قبل الحقبة الاستعمارية فإن هذه الحرب، أو من يقف خلفها، يتعمد استباحة كل ما هو وطني وتاريخي.
تجفيف منابع الحياةبما أن الدمار المعماري يعتبر نتيجة ثانوية مألوفة للصراع، فإن التأثيرات على المدينة يمكن أن تمتد إلى ما هو أبعد من البيوت والمباني، وهو ما نشهده اليوم بالفعل، تجريف كافة معالم الخرطوم القديمة، وتجفيف منابع الحياة فيها، لتنهار وينهار معها أمل العودة، إذ إن ما يحدث ليس هو تلك الأضرار الجانبية للحرب، بل الهدف الخفي لها، حرق كل شيء، وإجبار الناس على الهروب بعيدًا.
ربما لم يكن دقيقًا وصف الكاتب البريطاني أليكس دي وال للخرطوم: "كما لو أنها تأسست على موقع قيادة تم بناؤه لأغراض النهب الإمبريالي"، لكنه أقرب إلى الحقيقة، فهي مدينة مصنوعة، وبلا مقومات كافية للصمود في وجه الطبيعة والحروب، وهي أيضًا ليست منتشرة مثل برلين التي فشلت قيادة قاذفات القنابل التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني في إلحاق الضرر المتعمد بها أثناء الحرب العالمية الثانية، لأن تركيز المباني القابلة للاشتعال لم يكن كبيرًا، بينما ركام المباني في الخرطوم شاهد حقيقي على الكلفة الباهظة للحرب التي أتت على كل شيء تقريبًا.
بين الخرطوم وغزةما يحدث في غزة اليوم يحدث في الخرطوم، من محاولات مسنودة بتغطية وكلاء الغرب الاستعماري، لتدمير المباني واتباع سياسة الأرض المحروقة، وإجبار السكان على النزوح أو الموت، فيما تم نهب ما يزيد على مليون منزل، وتناثرت محتوياتها مع أشلاء البشر الذين قضوا نحبهم جراء القذائف، عطفًا على "قتل المنازل"، أي التدمير المتعمد للبيوت، ذلك المفهوم الذي ابتكره الجغرافيان الكنديان: بورتيوس وسميث لأول مرة في عام 2001، وقد تم احتلال المناطق المدنية عمدًا كتكتيك يهدف إلى الإضرار بالروح المعنوية للسكان وتشريدهم، وتجنب ضربات الطيران الحربي.
ولذلك فالأمر ليس مصادفة، وإنما تدخل الخرطوم عنوة ضمن الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة المراد ترسيمها عبر المخططات القائمة، لتُدار بها هذه الحرب الكبيرة والفريدة في أساليبها ممثلة في تدمير التراث، وإفقار المواطنين عمدًا وإجبارهم على الهجرة، كما حذّرنا حاكم إقليم دارفور أركو مناوي، وألقى باللائمة على من وصفهم بالعملاء الوطنيين الذين تطوّعوا لخلق بيئة تسمح لبداية ذلك المشوار.
نحن اليوم فعليًا، عندما نعود للخرطوم وننظر إليها، يتعين علينا أن نواجه تلك الحقيقة المؤلمة، التي تذكّرنا بمأساة الفنان العالمي بيكاسو عندما رسم لوحته الشهيرة "جورنيكا" مصورًا فيها خراب تلك المدينة، فعندما قبضوا عليه وسألوه في محضر الاتهام: "أنت الذي رسمت هذه اللوحة؟" ردّ عليهم بجوابه الشهير: "لا .. بل أنتم"، وذلك ما يلقي على كاهلنا مسؤولية كبيرة، وهي أن نعي خطورة المؤامرة، ولا نستسلم، نكافح بجدية آثار الحرب، ونعيد بناء هذه المدينة بصورة أفضل مما كانت عليه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
والي الخرطوم يزور عددا من الرموز الفنية بغرض الوقوف على أحوال المبدعين في ظل الحرب
واصلت ولاية الخرطوم اليوم إحتفالاتها بالذكرى ال(٦٩) للاستقلال المجيد وضمن برنامج تواصل، زار والي الخرطوم الأستاذ أحمد عثمان حمزة الجمعة عددا من الرموز الوطنية في مجالات الإبداع والفنون المختلفة رافقه فيها المدير العام لوزارة الثقافة والإعلام والسياحة الأستاذ الطيب سعد الدين .وشملت الزيارة الشاعر والاعلامي الأستاذ عبد الوهاب هلاوي والممثل القدير الطيب شعراوي ومعلم الأجيال والصحفي الرياضي عيسى السراج بحضور كابتن فيصل الحنان رئيس مبادرة الرياضيين.كما شملت الزيارة شيخ المخرجين بالتلفزيون القومي المخرج القدير سيد محمود، وأكد الوالي أن هذه الزيارة تأتي ضمن إهتمام حكومة الولاية وحرصها على التعرف على أحوال رموز المجتمع الذين أثرت فيهم الحرب وتوقف بسببها نشاطهم واعمالهم وفقد أغلبهم مصادر رزقهم ويعتبرون من الاعمدة التي قدمت أعمالاً اثرت وجدان الإنسان السوداني ولا تزال أعمالهم لها آثار باقية .ولفت والي الخرطوم الى أن الدولة وهي تخوض حرب الكرامة إتضح لها أن الجهات التي تقود الفتنة في البلاد عمدت الى إذكاء النعرات القبلية والعنصرية وسعت لاستنفار المتعاونين بإستخدام القبلية مؤكداً أن المبدعين هم أنسب من غيرهم لإستعادة اللحمة الوطنية وتوظيف منتوجهم الابداعي لمعالجة الشرخ الكبير وسط المجتمع واعادة اللحمة الوطنية ورتق النسيج الاجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية وحفظ التراث .وأضاف والي الخرطوم أن الولاية إنتبهت الى أهمية الحفاظ على تأريخ السودان وحفظ حقوق الأجيال التي شيدت الإرث السوداني لذلك فان حكومة الولاية وجهت وزارة الثقافة والإعلام بجمع وتوثيق تجارب هؤلاء المبدعين تقديراً لإسهاماتهم في كل المجالات.مدير عام وزارة وزارة الثقافة والاعلام والسياحة الطيب سعد الدين أكد أن وزارته ستعمل بالشراكة مع المبدعين والتفاكر معهم حول أولويات المرحلة الراهنة.وأضاف :الحصة وطن وتقع على عاتقنا مسئولية كبيرة في اعمار النفوس قبل إعمار المباني فاذا صلح شأن المجتمع فان مهمة اعمار المباني ستصبح سهلة لافتا الى أن المشتغلين في مجالات الفنون المختلفة هم من يقود اعمار المجتمعات وقال ان وسائل الإعلام القومية والولائية والمسرح لعبت دورا كبيرا في بناء روح موحدة حققت التفافا كبيرا حول الشعراء والادباء والمطربين والممثلين والرياضيين وكما تقول الرواية الشعبية (محمد وردي فنان جميع السودان) فهذه المجالات لا تعرف القبلية ولا الجهوية فهذا الدور مطلوب الآن وبايقاع ووتيرة أسرع.الأستاذ عيسى السراج أعرب عن سعادته بهذه اللفتة الكريمة من والى الخرطوم التي تعكس اهتمام الدولة برموزها وأسرهم مشيداً بهذه المبادرة الإنسانية والاجتماعية التى وصفها بانها تكريماً لاسرة السراج صاحبة التاريخ الطويل فى كافة مناحي الحياة وضم منزل عيسى الكائن بابي روف بين جدرانه معرضا مميزا لابرز لقاءاته الصحفية مع كبار الشخصيات القومية في مختلف المجالات وعدد من الرؤساء.وشملت زيارة والى الخرطوم المخرج التلفزيوني سيد محمود الذي أعرب عن تقديره للزيارة التي خففت عنه المرض الذي اقعده في الفترة الأخيرة.وبدا محمود فخورا باعماله التلفزيونية التي أخرجها ومن أبرزها، اسماء في حياتنا، الحقل والعلم،، صوت المحافظات، جنة الاطفال،، برنامج سينما سينما وغيرها.الشاعر والبرامجي عبدالوهاب هلاوى اكد أهمية أن يكون للثقافة والإبداع دورا مهما في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها بلادنا باعتبارها من الممسكات المهمة في حياة المجتمعات .وقال أن زيارة والي الخرطوم ستكون لها ما بعدها مطالبا بضرورة تواصل قيادات الدولة مع المبدعين واستصحابهم في إعادة بناء الوطن.هلاوي كتب اعذب الكلمات منها (بلدنا نعلي شأنا) التي غناها الموصلي كما غنى له زيدان إبراهيم (5) أغنيات ابرزها فراش القاش، لو تعرف اللهفة، وعشان خاطر عيون حلوين،.كما غنى له مصطفى سيد احمد يا سلام عليك وغنى له كابلي (أغلى من نفسي) وعبد العظيم حركة غنى له (قلبي ما بيعرف يعادي) وعقد الجلاد غنت له (حاجة امنة أتصبري) علاوة على مئات من البرامج التلفزيونية والاذاعية.المسرحي والدرامي الطيب شعراوي هنأ الشعب السودانى بأعياد الاستقلال المجيدة وقال أن القوات المسلحة ستنتصر في معركة الكرامة لافتا الى أن زيارة والي الخرطوم تؤكد إهتمامه بالتعرف على أحوال المواطنين الذين اقعدتهم الحرب خاصة المبدعين، وأعرب عن أمله أن يعود نشاط الدراما قريبا.ومن ابرز أعمال الطيب شعراوي، عضو مؤسس في فرقة الأصدقاء المسرحية ومشارك في برنامج محطة التلفزيون الاهلية، بجانب عدد من المسلسلات التي وجدت رواجا كبيرا مسلسل دكين، الشاهد والضحية، اقمار الضواحي، في انتظار البترول واكثرها شهرة البيت المسكون.سونا إنضم لقناة النيلين على واتساب