عربي21:
2025-04-29@13:40:35 GMT

مصر تسافر مع الشيطان

تاريخ النشر: 13th, June 2024 GMT

(تقديم)

أنا من بلد يسمى "مصر"، وقد عشت أعتز بذلك، لكن لما بدأت في دراسة ما أسميته (مؤقتا) "عبقرية الزمان" هاجمني سؤال مقلق هو:

هل مصر ظلت دائما مصر؟.. أم أنها في فترات كثيرة من تاريخها (ومنها الفترة الأخيرة) تحولت بمعرفة الشياطين إلى شيء آخر؟!

يسخر المصريون من خدعة التخفي وراء الأسماء التي تتناقض مع الأفعال، فيقولون في مَثَل شعبي شهير: "الاسم طوبة والفعل أمشير"، ما يدفعنا لإعادة صياغة سؤال المقدمة بشكل أكثر ارتباطا بسياسات مصر تجاه إسرائيل والقضايا المرتبطة بها: ألا يجوز أن يكون الاسم "مصر" والفعل "إسرائيل"؟!

(توضيح)

لن أتورط في أحاديث مرسلة عن ديانة بعض الحكام وأمهاتهم، كما أثير عن الحاكم المصري عبد الفتاح السيسي، أو تصريح الأمير السعودي محمد بن سلمان أن أمه يهودية (تبجيلا لديانة المربية التي تولت رعايته منذ ولادته)، فهذه أمور لها تفسيرات كثيرة إن صدقت، والعبرة فيها بالممارسات والسياسات والانتماءات الواضحة، وليس بالأصول العرقية والدينية القديمة، فنحن مثلا نعرف حكاما كثيرين في دول العالم من أصول مختلفة عن الدول التي يحكمونها، هندي يحكم في بريطانيا وعربي يحكم في الأرجنتين وأفريقي في أمريكا، وهكذا، ولن أرتكز على اتهامات كثيرة تداولتها الميديا الشعبية عن اختراق "إسرائيل" لقصور الحكم في الدول العربية، ولن أتعامل بثقة نهائية مع تصريحات "مصادر عبرية شبه رسمية" أكدت فيها أن عددا من الحكام العرب ينتمون سرا إلى للكيان الصهيوني ويعملون لصالحه ومصالحه، وحددت المصادر ذات مرة أن خمسة من الحكام العرب صهاينة تم زرعهم في قصور الحكم بعد عقود من انكشاف عملية صعود "ايلي كوهين" نحو رأس السلطة في سوريا.

.

القضية عندي إذن لا تعتمد على شائعات، ولا مكايدات سياسية، ولا حتى أصول عرقية ودينية قديمة (إن وجدت)، القضية يحسمها معيار الهوية والانتماء والعمل من أجل مصالح قومية عليا، تتناقض بالضرورة مع مصالح أعداء هذه البلاد التي نعيش فيها
برغم ذلك التريث، أعترف بأنني كتبت منذ سنوات مقالا هجوميا ضد سياسات الحكم في مصر تحت عنوان "نتنياهو يحكم من الاتحادية"، وانتقدت فيه اللقاءات السرية التي ذهب إليها الحاكم العسكري المصري عبد الفتاح السيسي لترتيب الأمور مع نتنياهو في "إيلات"، قبل مجاهرته في أسيوط بعدها بالدعوة لتوسيع كامب ديفيد عربيا، وحديثه في الأمم المتحدة بعد ذلك عن أهمية "أمن المواطن الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع أمن المواطن الإسرائيلي"، وأؤكد عليكم ألا تستهينوا بزلات اللسان كما ينبهكم علماء النفس.

(تحديد)

القضية عندي إذن لا تعتمد على شائعات، ولا مكايدات سياسية، ولا حتى أصول عرقية ودينية قديمة (إن وجدت)، القضية يحسمها معيار الهوية والانتماء والعمل من أجل مصالح قومية عليا، تتناقض بالضرورة مع مصالح أعداء هذه البلاد التي نعيش فيها..

ومن هنا نبدأ النقاش بأسلوب عقلاني هادئ لا يستسهل التخوين، ولا يتغافل عنه..

(سؤال مثير للجدل)

تحكي أسطورة بوذية قديمة عن رجل سافر بصحبة اثنين من الشياطين، أحدهما يحمل على ظهره جثة لسبب لم يتضح في بادئ الرحلة، وفي الطريق بدأ الشيطان الأول يلتهم أعضاء المسافر، واحدا تلو الآخر.. يأكل الذراع فيسارع الشيطان الثاني بنزع ذراع من الجثة التي يحملها ويعوض المسافر ما فقده، ونفس الشيء بالنسبة لبقية الأعضاء، حتى التهم الشيطان جسم المسافر كاملا وعوضه الشيطان الثاني بأعضاء الجثة التي يحملها، وبعد الرحلة الشيطانية، انفجرت مشكلة الهوية في رأس المسافر: من أكون؟

هل أنا الرجل القديم الذي أعرفه؟ أم أنني شخص جديد لا أعرفه، ظهر نتيجة التعاون بين شيطانين أحدهما "ينزع" والثاني "يزرع" أعضاء بديلة يحملها مسبقا؟!

(التدمير والتعمير)

بعد كل حرب تدميرية تنطلق حرب إعادة الأعمار، ما يذكرنا بالعلاقة الأزلية بين الهدم والبناء، ومهما كانت نتيجة "التعويض المادي" للدمار والهدم والانتزاع، فإن السؤال الذي طرحته الأسطورة البوذية يظل صالحا لإثارة الجدل: هل "إيلات" هي نفسها "أم الرشراش"؟ هل "تل أبيب" هي نفسها "قرية الشيخ مؤنس"؟ هل "بير شيفاع" هي "بئر السبع"؟ هل "نتانيا" هي "أم خالد"؟ هل "تسيبوري" هي "صفورية"؟ هل "أحيهود" هي "البروة"؟ هل "أشكلون" هي "عسقلان"؟ هل "كيرم شالوم" هي "كرم أبو سالم"؟ هل "زخاريا" هي "بلدة زكريا"؟.. هل "غزة الجديدة المعمرة" ستكون هي "غزة القديمة المقاومة"؟..

وكذلك الحال في مصر، هل تبقى "جبانة المماليك" هي هي، برغم كل ما حدث فيها من انتزاع واستبدال؟ هل ميدان الرميلة (وحي القلعة عموما) هو نفسه ما كان عندما كان المكان مركزا للحكم طوال قرون؟ هل ظلت الإسكندرية هي نفسها مع تبدل الزمان؟

(شجرة تشومسكي)

في فيلم ممتع بعنوان هل الرجل الطويل سعيد؟" يتحاور المخرج الفرنسي "ميشيل جوندري" مع المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي الذي يسألنا كاشفا عن جوهر فلسفته:

إذا قامت ساحرة بتحويل كلب إلى جمل، ثم حدث شيء ما وانفك السحر وعاد الجمل إلى كلب من جديد، فأين اختفى الكلب أثناء "فترة التحول"؟

يرد تشومسكي مؤكدا أن الكلب لم يغب أبدا، لقد ظل موجودا طوال الوقت، حتى عندما ظهر لنا في صورة "جمل"!

أفكار تشومسكي صعبة ومعقدة لذلك تحتاج إلى شرح وتفصيل وتكرار للأمثلة، وهو ما فعله في الفيلم، ونحاول أن نفعله في مقالنا أيضا، ولهذا نتوقف أمام مثال آخر طرحه تشومسكي لتوضيح معضلة المحو والاستبدال، ويمكنك أن تفكر في المثال كأنه أنت، أو "أرض فلسطين" التي يتم انتزاعها وتهويدها، أو مباني مصر التاريخية التي يتم محوها، أو أي شيء يتبدل حولك..

يقول تشومسكي:

لنفترض أنني شاهدت أحدهم يقطع الشجرة الوارفة التي تظلل مدخل منزلي، ثم سافرت للانضمام إلى أسرتي في مدينة بعيدة قضينا فيها إجازة طويلة، ولما عدنا كانت الشجرة قد نمت من جديد بشكل يكاد يتطابق مع القديم، قد لا يلاحظ أفراد أسرتي أي تغيير يستدعي التفكير، أما أنا فلا بد أن اعرف أن الشجرة الجديدة مختلفة عن القديمة.. إنها ليست هي، ولكن نسخة أخرى، ويجب أن أظل متأكدا من هذه الحقيقة، لأنني رأيت بعيني الشخص الذي جاء وقطع الشجرة القديمة الأصلية، وليكن اسمها مثلا "تيران وصنافير" أو "يافا"، أو "مصر كلها".. إلخ..
لقد حدث انقطاع بالفعل في الواقع وتم تعويض الأصل المقطوع بنسخة جديدة، سواء بطريقة حميدة لتعويض الوظيفة نفسها (مثل زراعة الأعضاء في الجسد)، أو بطريقة خبيثة لغرس كيان مضاد للأصل (مثل محو الهنود الحمر في الأرض الجديدة واستبدالهم بالغزاة البيض)، وهذا نموذج لاستبدال معلوم ومكشوف صنع واقعا انقلابيا على التاريخ القديم لشعب ما، لكن في حالة بلدان أخرى يظل الانتزاع والاستبدال والانقلاب مخادعا وملتبسا، مثلما حدث لمصر في فترات طويلة تحولت فيها إلى "زومبي"، يحتفظ بجسده واسمه، لكن عقله صار مسكونا بأفكار الشيطان المسيطر، وبالتالي فإن سلوكه صار خطيرا ومدمرا للذات القديمة..!

(الحمار والصخرة)
العبرة دائما في أي تغيير تحددها استمرارية الإنسان في أداء دوره الأساسي دون انحراف وانقطاع عن الأصل، وإذا نظرنا إلى حالة مصر بعد كل انقطاع سنصطدم بانقلابات مفزعة في الهوية والدور
لا يتخذ تشومسكي موقفا ثابتا ضد عملية "المحو والاستبدال" في ذاتها، لكنه يحدد موقفه بما يسميه "الاستمرارية"، ويصفها بأنها "عملية معقدة للغاية"، لأن المقصود هو الاستمرارية العقلية والنفسية (التاريخ المتسق مع الهوية والوظيفة والروح الإنسانية)، وليس الاستمرارية المادية (الجغرافيا والأبنية وإنجازات الحجر التي يبالغ في تقديرها الشياطين على حساب البشر والقيم الروحية والنفسية).

لذلك فإن العبرة دائما في أي تغيير تحددها استمرارية الإنسان في أداء دوره الأساسي دون انحراف وانقطاع عن الأصل، وإذا نظرنا إلى حالة مصر بعد كل انقطاع سنصطدم بانقلابات مفزعة في الهوية والدور، فلا نكاد نعرف: هل مصر عربية أم أوروبية؟.. إسلامية أم فرعونية؟.. أفريقية أم شرق أوسطية؟.. الخ..

وإذا فكرنا أننا تشكيلة متعددة الطبقات من الهويات المتداخلة، ألا يجب أن يكون هناك مايسترو يدير كل تلك التناقضات بانسجام لا يفضي إلى صراعات أو تشوش أو نزاعات بينية تسرطن الوطن جسدا وروحا؟!

يلمح لنا تشومسكي أن ذلك "المايسترو" هو العقل، هو المعرفة بحقيقة ما حدث من تحولات حتى لا نقع مع الزمن ضحية الخداع، وهو كذلك الاهتمام بـ"درجة التغيير" التي لا تنقلب على الأصل، بحيث لا تطغى المباني على جوهر المعاني، وبالتالي فإن "الوعي التاريخي" هو المفهوم المرجعي الذي يحسم وصف تغيير ما بأنه تدمير أو تعمير.. تبديد أو تجديد.. استمرار أو انقلاب..

فالعالم كما يقول تشومسكي ليس هو الأشجار والكلاب والأنهار وما إلى ذلك، لكنه بالأساس "الوعي بهذه الأشياء"، ويعود تشومسكي لضرب الأمثال فيحكي لنا قصة الحمار "سيلفستر" التي توقف أمامها بسبب انجذاب أحفاده لها.

والقصة باختصار تحكي عن حمار اسمه "سيلفستر دنكان"، كان مغرما بجمع الحصى غريبة الشكل، وفي أحد الأيام وجد حصاة كروية حمراء تحقق الأمنيات لمن يحملها، لذلك لما وجد سيلفستر نفسه في مواجهة أسد مفترس، لجأ إلى ما يملك من حصى وليس إلى التفكير الصحيح، فقد تذكر أنه يملك "حصاة الأمنيات" فتمنى أن يتحول إلى صخرة، حتى لا يقدر عليه الأسد، ولأن الصخرة بطبيعتها ومهما كانت قوتها وضخامتها لا تستطيع الإمساك والتحكم في حصاة، فقد ظل سيلفستر في صورة صخرة ولم يستطع العودة إلى حياته كحمار، إلا بعد رحلة بحث وكفاح من جانب والديه لمعرفة ما حدث ومساعدته لاستعادة هويته.

يذكرنا تشومسكي بأن العامل الأقوى في استعادة الحمار لهويته هو تعريف الوالدين بأن الصخرة الصماء التي أمامهم هي نفسها ابنهم الذي سقط في فخ التحول الخاطئ، مع ملاحظة أن الأطفال الذين يتابعون القصة الشعبية، كانوا على يقين طوال الوقت أن الصخرة هي نفسها الحمار برغم الاختلاف التام في الشكل والخواص الطبيعية. وهذا هو الفيصل في حماية الهوية الفلسطينية برغم كل تحولات التهويد وتغيير طبيعة وأسماء البلدات الفلسطينية، وكذلك الحال بالنسبة لمحاولات تغريب شكل الحياة في مجتمعات لم يعد شكلها يتطابق بأي درجة مع هوياتها الأصلية.

(حتى يبقى النهر نهرا)
مصر كنموذج للمحو والاستبدال تجاوزت درجة التغيير المسموحة فيما يتعلق بهويتها الإنسانية والوطنية والحضارية، بحيث لم تعد بلدا عربيا ولا إسلاميا ولا يمكن حسابها على أي هوية إلا بطريقة التذكير بتاريخ كان ولم يعد
النقطة الأخيرة التي أذكرها على عجالة حتى لا يطول المقال أكثر هي "درجة التغيير المسموحة" التي لا تنقلب فيها الهوية على نفسها، ويضرب تشومسكي مثلا لتوضيح ذلك بحالة "نهر تشارلز" الذي يعيش بجواره في ولاية ماساتشوستس، فيقول: ما الذي يجعل نهر تشارلز نهرا، برغم أنه يمر بتحولات ومشاهد كثيرة؟ فمرة نراه وسط الحقول، ثم يمر بين المباني في صورة مختلفة ومع ذلك نظل نسميه نهر تشارلز، يمكن أن يتسع ويضيق ويغير اتجاهه ولا يزال كذلك نهر تشارلز، يتفرع إلى روافد ويظل نهر تشارلز، تتغير مياهه بسبب صرف المصانع والتلوث ولا يزال نهر تشارلز، لكن هناك تغييرات إذا قمنا بها فلن يكون نهر تشارلز على الإطلاق، مثلا إذا وضعنا الألواح فوق النهر وغطيناه فإنه حين ذاك سيتحول إلى أنبوب، أو قناة مغطاة، ولن نتعرف عليه كنهر إلا على سبيل التذكير بمرحلة من تاريخه القديم كان فيها نهرا، ولم يعد كذلك الآن..

وبكل أسف فإن مصر كنموذج للمحو والاستبدال تجاوزت درجة التغيير المسموحة فيما يتعلق بهويتها الإنسانية والوطنية والحضارية، بحيث لم تعد بلدا عربيا ولا إسلاميا ولا يمكن حسابها على أي هوية إلا بطريقة التذكير بتاريخ كان ولم يعد، فقد تحول النهر إلى أنبوب للصرف، ولكي نستعيد الهوية ونحرر الحمار من سجن الصخرة فلا بد من جهد وإيمان وإخلاص تتفق عليه عائلة دنكان لاستعادة هوية وحياة ابنهم الذي آمن بمعجزة "الحصاة السحرية"، وظل يردد: آه بنيت قصور.. وهفضل ابني وابني، بينما كان البناء بالحصى هدما للإنسان وانحرافا عن الطريق..

وختاما أتذكر زجلا بديعا للراحل عبد الحميد البنهاوي يقول فيه:

"تاجرت بالفكر، لما وصّلك وارتحت
ولما وصلت.. انفصلت
واندرت هد وفحت
حاسب..
دي ماهش علالي..
انت نازل تحت".

[email protected]

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر الهوية التغيير مصر الانسان التغيير الهوية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هی نفسها لم یعد ما حدث ما کان

إقرأ أيضاً:

تطبيع سوريا مع إسرائيل.. فكّر فيها

نشرت عدّة مواقع إخبارية أجنبية الأسبوع المنصرم تقارير تحدّثت عن نيّة الحكومة السورية الجديدة التطبيع مع إسرائيل. وسرعان ما انتشرت هذه التقارير انتشار النار في الهشيم لاسيما في المواقع العربية مع تركيز على نيّة الرئيس السوري أحمد الشرع المبادرة بتطبيع العلاقات مع تل أبيب كوسيلة للمساعدة على رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا.

لكن اللافت للنظر أنّ هذه التقارير لم تأت على لسان الشرع نفسه وإنما على لسان بعض الشخصيات الغربيّة التي زارت دمشق وقيل أنّها التقته، وهي عضو الكونغرس الأمريكي كوري ميلز، وعضو الكونغرس الأمريكي مارلين ستوتزمان، والدبلوماسي البريطاني السابق كريغ موراي.

هذه الشخصيات تناولت موضوع التطبيع في سياقات مختلفة، إذ ذكر التقرير المتعلق بكوري ميلز، وهو التعليق الأحدث أنّ  الرئيس السوري عبّر عن "اهتمام محتمل" بالانضمام إلى الإتفاقات الإبراهيمية تحت "ظروف مناسبة".

أمّا التقرير المتعلق بمارلين ستوتزمان فقد أشار إلى وجود شروط سوريّة تشمل من بين ما تشمل الحفاظ على وحدة سوريا وعلى سيادتها، أي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإنسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي السورية. أمّا التقرير المتعلق بالنائب البريطاني، والذي يعود إلى منتصف شهر أبريل، فقد أشار إلى أنّ الرئيس الشرع أكّد بشكل خاص أنّه سيقوم بتطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل وبتبادل السفراء نهاية عام 2026.

من الناحية التحليلية، يمكن ملاحظة أنّ التفاصيل المتعلّقة بهذه التصريحات ليست متطابقة أو منسجمة مع بعضها البعض، وهو ما يتناقض مع الإفتراض القائل أنّ الشرع فاتحهم بالتطبيع. فإذا كان موقف الشرع التطبيع، فإنّ روايته على الأقل ستكون واحدة. لكن خلفية الشخصيات المشار إليها وسياق التصريحات تشير على الأرجح إلى أن طرح موضوع التطبيع كان بمبادرة منهم وأنّ الجواب عليه يرتبط بهم أكثر مما يرتبط بموقف مبدئي.

بمعنى آخر، إذا طرح الزائر سؤال التطبيع، فهذا إما لأنّه يبحث عن لعب دور متعلق فيه، وإمّا لأنّه يبحث عن شهرة، وإنما لانّه يبحث عن مشكلة. بالنسبة إلى الشخص الذي يتم توجيه السؤال له، فإنّ السؤال قد يكون بمثابة فخ يجب تفاديه بأقل الأضرار الممكنة.

لا يوجد لدي أدنى شك أنّ الإدارة الأمريكية والعديد من المسؤولين فيها قد يرغبون برؤية عملية تطبيع بين سورية وإسرائيل كما فعلوا سابقا بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ولا شك كذلك أنّ الظروف تسمح لهم لممارسة ضغوطات على الحكومة السورية في ظل حاجة الأخيرة إلى رفع العقوبات.لكن لتفترض جدلاً أنّ الشرع يريد التطبيع فعلاً بمبادرة منه، هناك الكثير من المعطيات التي تشير إلى أنّ إمكانية تحقيق ذلك صعب جداً. هل سيكون بالإمكان إجراء تطبيع وإسرائيل تحتل أراضي سورية وتخترق أجواءها بشكل شبه يومي وتقصف أراضيها؟ هل تعتقد أنّ نتنياهو سينسحب من سورية مقابل تطبيع مع الحكومة السورية؟ هل ستلتزم إسرائيل بأي تعهدات ستقطعها؟ ماذا عن شرعية الرئيس السوري داخلياً؟ هل سينسجم هذا الموقف مع غالبية الشوريين حتى ولو كان شرطاً لرفع العقوبات؟ من جهة أخرى، ماذا عن تجربة من طبّعوا بشكل سابق خلال الأعوام القليلة الماضية؟ وأين أصبح تطبيعهم اليوم؟ لا بل ماذا عن الدول التي لديها اتفاقيات سلام مع إسرائيل؟ كيف هو حال العلاقات الإسرائيلية مع مصر والأردن؟

القصد من طرح هذه الأسئلة الإشارة إلى أنّ الحديث عن التطبيع سهل بغض النظر عن المصدر التي يتحدث عنه، لكن تطبيقه حتى لو افترضنا وجود نية لذلك غير ممكن في الظروف الحالية، وغير ممكن لأنّ إسرائيل هي إسرائيل. علينا أن نفرّق أيضاً بين تصريحات الشرع الواضحة والمباشرة والتي ذكر فيها انّ الجانب السوري لا يريد التصادم مع إسرائيل وأنّه ملتزم بالاتفاقات الدولية وقرارات مجلس الأمن التي أنشات المنطقة العازلة، وبين الحديث عن تطبيع. فالشق الأوّل يتعلق بعملية تجنّب الصراع أو الصدام بينما يتعلق الشق الثاني بالسعي إلى الإعتراف والتطبيع والتمثيل، وسيكون من الخطأ خلط المعنى والهدف والغاية المتعلقة بالطرح الأوّل بالمعنى والهدف والغاية من الطرح الثاني.

لا يوجد لدي أدنى شك أنّ الإدارة الأمريكية والعديد من المسؤولين فيها قد يرغبون برؤية عملية تطبيع بين سورية وإسرائيل كما فعلوا سابقا بين عدد من الدول العربية وإسرائيل. ولا شك كذلك أنّ الظروف تسمح لهم لممارسة ضغوطات على الحكومة السورية في ظل حاجة الأخيرة إلى رفع العقوبات. والأمر نفسه قد ينطبق على بعض المسؤولين الإسرائيليين. لكن حتى لو نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر إسرائيلية، هل هناك من يعتقد أنّ إسرائيل نتنياهو ستنسحب من الأراضي السورية التي احتلّتها مؤخراً، وستقوم بإنهاء احتلالها للجولان وتفكيك المشاريع والمستوطنات هناك، وستتوقف عن الخروقات، وعن استهداف العمق السوري، وعن عمليات التوغل، وعن التدخل في الشؤن الداخلية السورية من أجل تطبيع مع حكومة سورية مؤقتة؟ لا أعتقد ذلك.

الخلاصة هو أنّه يجب ألاّ ننجر بشكل عاطفي إلى بالونات الاختبار التي يتم إطلاقها هنا وهناك أو الأخبار التي تأتي من خلف البحار. نظرياً التطبيع قد يحصل في أي مكان، لكن عملياً هل سيحصل ذلك؟ علينا أن نفكّر بمصالح مختلف الأطراف والظروف الداخلية والسياق الإقليمي، وهذه كلّها لا تشجّع الآن على حصول مثل هذا الأمر. لكن حتى لو افترضنا جدلاً مرّة أخرى أنّ هذا التحليل قد أثبت عدم صحته، وأنّ هناك اتجاه حقيقي لدى الحكومة السورية للتطبيع مع إسرائيل، فماذا سيكسب الشرع أو سورية من عملية التطبيع؟ رفع العقوبات ليس بمثابة عصا موسى، وعليه فإنّ التطبيع سيكون في هذه الحالة خطأ كبيراً في الحسابات.   

مقالات مشابهة

  • «زيتون غزة».. هكذا تدمر إسرائيل الشجرة المباركة رمز الهوية الفلسطينية!
  • ما هي الأشهر الحرم؟ تعرف عليها وأهم العبادات فيها
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • جناح صندوق الوطن يعزز دور الهوية واللغة العربية لدى الشباب
  • هل يمكن فصل الهوية المهنية عن الشخصية؟ دراسة توضح
  • أدباء وباحثون: أدب الطفل يبني الهوية ويزرع القيم الإنسانية في الأجيال
  • تطبيع سوريا مع إسرائيل.. فكّر فيها
  • رسالة سورية لطمأنة واشنطن.. ماذا جاء فيها؟
  • تفاصيل معركة الشجاعية التي قتل فيها ضابط وجندي إسرائيلي
  • التراث الفلسطيني: ملتزمون بالدفاع عن الهوية الوطنية