هل يتعارض العلم مع الإيمان؟.. الجزيرة نت تقتحم المنطقة الشائكة
تاريخ النشر: 13th, June 2024 GMT
عندما أخبرَتْ القس الدكتورة كاثرين بريتشارد -عضو مجلس أساقفة كنيسة إنجلترا- صديقتها التي تذهب إلى الكنيسة بأنها تعمل على فعالية تضم فيزيائيين متميزين متحمسين لكل من العلم والإيمان المسيحي، رفعت حاجبيها مندهشة من أن يكون هناك مشروع مشترك يجمع بين العلماء ورجال الدين.
لم تستغرب كاثرين رد فعل صديقتها المستند إلى رواية شعبية تُردد باستمرار أن العلم والإيمان على طرفي نقيض وليس بينهما سوى القليل من القواسم المشتركة.
وكان هناك الكثير مما يمكن استكشافه مع العلماء فيما يتعلق بالأسئلة الكبيرة عن أصول الإنسان وهدفه ومصيره، وماذا يعني الإيمان بالله، وإلى أين يتجه الكون، وماذا يخبرنا ذلك عن غرض الإنسان ومصيره.
وفي حديث مع "الجزيرة نت" عبر البريد الإلكتروني، تقول كاثرين وهي عضو مشروع "تجهيز القيادة المسيحية في عصر العلم" بجامعة دورهام البريطانية: "نحتاج إلى مثل هذه المحادثات الحيوية والجذابة التي تغمر قادة الكنيسة في العلم والقضايا التي يثيرها، لتدور محادثات ثرية وإيجابية ومليئة بالتحديات تصبح معها عملية اللاهوت المرتبطة بالعلم أمرا طبيعيا بالنسبة لقادة الكنيسة الذين ربما يفتقرون إلى فرصة للقيام بهذا النوع من التفكير".
وترى كاثرين أن تكرار مثل هذه الفعاليات هو الطريق لدحض الروايات العامة الشائعة عن كون الدين غير عقلاني، فللأسف لا يزال هناك بعض أعضاء المجتمع العلمي يرون أنه من الصعب تصور محادثة مفيدة متعددة التخصصات مع قادة الكنيسة، لأنهم يدركون وجود فرق كبير بين المنهج العلمي وطريقة عمل اللاهوت، فهم يخشون أن الدين ينطوي على إنكار الاستفسار الذكي، ومن المهم للعلماء والأشخاص العاملين في مجال التكنولوجيا أن يلتقوا بقادة الكنيسة واللاهوتيين الذين يفهمون عملهم العلمي والأسئلة التي تهمهم حقا لتحقيق الاقتراب المطلوب".
ولا تنكر كاثرين أنها كانت في مرحلة ما من حياتها ممن يؤمنون باستحالة التقاء العلم والإيمان، وتقول: "لقد مررت برحلة مليئة بالعقبات على هذه الطريق، وكانت مليئة بالأسئلة والمخاوف إزاء الحصول على جميع الإجابات، ومع نضجي -كما آمل- أصبحتُ أقل اهتماما بالأشياء التي لا أفهمها، لأنني أعلم أنه في مرحلة ما ستصبح هذه الأشياء واضحة".
القس كاثرين بريتشارد عضو مجلس أساقفة كنيسة إنجلترا: عقد الفعاليات العلمية بالمؤسسات الدينية يدحض الروايات الشائعة عن أن الدين غير عقلاني (كاثرين بريتشارد) التغافل عن الأشياء غير المفهومةويعمل الباحث المصري بمعهد كالتك بأميركا أحمد سليمان، بالمنهج نفسه الذي ذكرته القس كاثرين، وهو "التغافل عن الأشياء غير المفهومة" التي كان في إخفائها حكمة إلهية لم نصل لها إلى الآن، مؤكدا أن القواسم المشتركة بين العلم والإيمان أكبر من أن ينال منها التفكير في أسئلة بلا إجابات.
وضرب سليمان مثالا بنظرية "الانفجار العظيم"، والتي يرى فيها الكثير من القواسم المشتركة بين العلم والإيمان، على عكس ما يتصور البعض.
وشارك الباحث المصري قبل عامين في تجربة بالقطب الجنوبي كانت تبحث عن "موجات الجاذبية التضخمية" الخاصة بحدث الانفجار العظيم، وكان حريصا حينها على مشاركة متابعيه على صفحته بموقع فيسبوك بيومياته خلال تلك المهمة التي كانت تتضمن أداءه الصلوات الخمس، وهو ما دفع بعض متابعيه حينها إلى رفع حاجبي الدهشة مثل صديقة القس كاثرين بريتشارد، متعجيبن من أن يشارك باحث مسلم في هذه التجربة.
يقول سليمان في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت": "كانت هذه الدهشة مستندة إلى أن نظرية الانفجار العظيم تتحدث عن نشأة الكون خلال 14 مليار سنة، بينما آيات القرآن تتحدث عن خلق السموات والأرض فى ستة أيام، وبما أننا لا نعلم مراد الله في كلمة (أيام) أكان يعني يوما في زماننا أم أنه يوم عند الله بمقدار آخر، فليس ذلك مبررا لنقول إن تلك النظرية مخالفة للشرع، ذلك أن هناك آية أخرى في القرآن تصفها بشكل دقيق".
وتنص هذه النظرية على أن الكون كان في البداية نقطة مفردة، ثم توسّعت عبر مليارات السنين لتكون الكون الموجود اليوم، وهو ما يتفق مع الآية القرآنية "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا".
وعقائديا، يؤمن سليمان أنه "لا بد للعلم -إن عاجلا أو لاحقا- أن يثبت ما هو فى الدين، لأن الدين جاء من الخالق، لكنه ليس من أنصار المدرسة التي تسعى للبحث عن تفسير ديني لكل نظرية علمية، لأنه إذا لم نجد تفسيرا سننتقد العلم، وإذا وجدنا تفسيرا ثم تغيرت النظرية العلمية إلى نظرية أخرى أحدث، فحينها سيستغل المتربصون ذلك ويسيئون للدين".
ويخلص سليمان من ذلك إلى القول إن "الدين ثابت والعلم متغير"، مشيرا إلى أن المثال الأشهر على تغير العلم هو نظرية العالم إسحاق نيوتن، والتي كانت تقول إن الوقت ثابت لا يتغير فى أي مكان فى الكون، وهو أمر مخالف لكثير من الآيات الزمنية فى القرآن الكريم، وبعد عشرات السنين جاء العالِم ألبرت آينشتاين بنظرية تنقضها أقرب لما جاء في القرآن، عندما قال إن "الزمن يتغير فى كل مكان فى الكون وليس ثابتا"، وهذا ما أُثبت عمليا من خلال قياس موجات الجاذبية فى 2016.
ويوضح سليمان فيقول: "لنفترض أن نظرية أخرى جاءت لتنقض نظرية آينشتاين التي احتُفي بها دينيا، فماذا سيكون تبريرنا حينها؟".
ويضيف أنه "من هذا المنطلق علينا ألا نربط بين العلم والإيمان من باب محاولة البحث عن تفسير ديني لكل نظرية علمية، لكن الربط بينهما يأتي من خلال أن الإنسان كلما عَلِم أكثر ازداد إيمانا بأن خلف هذا الكون خالق عظيم".
ولا يحاول سليمان من خلال عمله مع فريق علماء وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" فرض رؤيته الإيمانية، كما لا يحاول الآخرون أيضا فرض رؤيتهم، ويقول: "دار حوار بيني وبين أحد علماء نوبل ممن لا يؤمنون بوجود الإله، قال لي إن سبب عدم إيمانه هو أنه لا يجد دليلا ماديا على وجود الإله، لكنّ العالِم نفسه يحترم عقيدتي ويحرص على تهنئتي في الأعياد الإسلامية".
أحمد سليمان الباحث المصري بمعهد كالتك بأميركا: القواسم المشتركة بين العلم والإيمان أكبر من أن ينال منها التفكير في أسئلة دون إجابات (أحمد سليمان) متناقضة الإلحاد والموضوعيةالدليل المادي على وجود الله الذي يبحث عنه عالم نوبل الذي أدار حوارا مع سليمان، هو انعكاس لما يسميه مدير أبحاث الطب السكاني والجينومي في "سدرة للطب" بدولة قطر الدكتور يونس مكراب بـ"متناقضة الإلحاد والموضوعية".
يقول مكراب في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت": إن "ارتباط الإيجاد من العدم بالخالق المتسامي على المادة هو من البديهيات المطلقة، والعديد من العلماء الرافضين لهذه الحقيقة بداعي الموضوعية والبحث عن الدليل المادي هم في جوهر الأمر يجانبونها تماما، وهذا أيضا يؤثر في أفكارهم وتفسيرهم للواقع في ضوء العلم المتوصّل إليه، فإذا اقتنعتَ أن كل شيء عشوائي ومن دون غاية، سيفوتك حتما رؤية التناسق والتكامل اللامتناهي من مستوى الذرات إلى الخلايا والكائنات إلى الإجرام والمجرات".
ويرى الدكتور مكراب أن العلم المادي والإيمان بالله وما يقتضيه من التزام أخلاقي؛ متكاملان في الحقيقة، لأن ممارسة علوم المادة تحتاج إلى بدايات وغايات وأخلاقيات، والانقياد للخالق المتنزه بصفات الكمال هو القناة التى تحميه من التيه في ذلك كله، ذلك أن الهدف الأسمى من العلم هو بلوغ الحكمة التي هي مبتغى الإنسان، وإلا لا يعدو أن يكون شغوفا بالمعارف والتجارب تنفعه مرة وتضره مرات.
ويضيف أن "أعظم ما يميز الإنسان هو العقل الذي هو الأداة الأساسية التي يتعرف بها على الوجود وخالق هذا الوجود، وما نراه من طرح الصراع بين الإيمان بالله والعلم خصوصا مع الأثر المحسوس للعلوم في عصرنا الحديث سببه يعود أساسا إلى الانفصام القديم في الغرب بين الكنيسة والدولة بسبب التحريف والفساد من رجال الدين الذين حاربوا حرية العقل حفاظا على مكانتهم، وتبع ذلك انتشار سياسات على مدار عقود تُحجّم من الدين، ووصل الأمر إلى حد التشكيك في وجود الله وازدراء ما له علاقة بالايمان بالله تعالى، ورغم ذلك لم يثن هذا الكثير من العلماء المؤثرين في تاريخ العلم عن إيمانهم بالله، ومنهم ألبرت آينشتاين صاحب المقوله الشهيرة إن الله لا يلعب بالنرد، والتي قالها في سياق رفضه لنظرية ميكانيكا الكم القائمة على العشوائية".
ويوضح الدكتور مكراب أن الإيمان بالله له جانب غيبي في ذاته لتمكين الاختيار وتوظيف الإنسان لعقله، وهذه هي الحكمة في عدم وجود دليل مادي صريح يظهر الذات الإلهية عيانا ويُنهي أي جدل بين العلم والإيمان.
ويضيف: "لو أن وحيا أُنزل مفصِّلا بدقة كل شيء، لأصبح الإيمان إجباريا وأُلغي الاختيار، وما أنزل الله إلينا من الكتب السماوية والتي ختمها بالقرآن ليست كتبا تاريخية أو علمية أو تقنية، بل هي دساتير حياة تشتمل في مجملها على كليات حتى لو فصلت في بعض المعاملات والعبادات، وهي بذلك تفتح للإنسان بابا واسعا للاجتهاد الذي قد يصيب فيه الإنسان أو يخطئ، وهذا أصلا الغاية من خلقه".
يونس مكراب مدير أبحاث الطب السكاني والجينومي بـ"سدرة للطب" في قطر: الصراع بين الإيمان والعلم يعود إلى الانفصام القديم في الغرب بين الكنيسة والدولة (سدرة للطب) معركة وهميةومع اتفاقه مع محاولات التقريب والتفسير التي قام بها الدكتور مكراب، فإن الدكتور أحمد الجندي أستاذ الفيزياء بجامعة تكساس إل باسو الأميركية، لم يشعر خلال عمله بمحاولات إثارة جدل العلم والإيمان، فالجميع يعمل في العلم، والفريق البحثي الواحد قد يضم أصحاب الديانات السماوية والأرضية واللادينيين، يجمعهم قاسم مشترك واحد هو تنفيذ أدوات البحث العلمي.
ويصف الجندي المناقشات التي يتابعها عن تلك القضية على مواقع السوشيال ميديا، بأنها محاولات لخلق صراع غير موجود في بيئة العمل سعيا وراء "الترند"، ودعا أصحاب هذا الجدل إلى التركيز في "العلم الذي ينفع " حتى لا يفقد الناس الثقة في العلم.
ويقول: "الإنسان العادي الذي يتابع صفحات السوشيال ميديا لا يهمه تفاصيل هذا الجدل بقدر ما يهمه أن نقول له إن العلم في طريقه للتوصل إلى علاج للسرطان أو تطوير أداء الحاسوب ليعمل بشكل أسرع وبطاقة أقل".
ورغم عدم إقباله على متابعة هذا الجدل والمشاركة فيه، فإنه تحدث بعد إلحاح عن قناعاته الشخصية قائلا: "إنه كفيزيائي يرى أنه كلما تعلم أكثر أدرك أن لهذا الكون خالق عظيم، خلق كل شيء بشكل مرتب ومنظم وليس صدفة أو عشوائية".
ولا يسعى الجندي لفرض هذه الرؤية الخاصة على أقرانه، كما لا يسعوا هم أيضا لفرض رؤيتهم، وما يجمعهم هو استخدام أدوات البحث العلمي.
أحمد الجندي أستاذ الفيزياء بجامعة تكساس إل باسو الأميركية: جدل العلم والإيمان معركة "وهمية" لا توجد في بيئة العمل (أحمد الجندي) العلم يدعم للإيمانومثل الجندي، لم يشعر قائد إحدى المجموعات البحثية بجامعة جينيف في مجال الطب الدقيق هيثم شعبان، خلال عمله في أكثر من ست جامعات في الغرب والولايات المتحدة، بأي محاولة لخلق جدل العلم والإيمان، لأن ثبات الإيمان وتغير العلم من نظرية إلى أخرى، يجعل العلاقة بينهما أكاديميا متباعدة، غير أنه على المستوى الشخصي يرى أن العلم يدعم الإيمان، قائلا: إنه "كلما عرفت أكثر عن تفاصيل عمل الخلايا البشرية، أدركت أكثر وأكثر أن وراء هذا الكون خالق عظيم لم يترك شيئا للصدفة".
ولا يُصرح شعبان لأقرانه وأساتذته بهذه الرؤية الشخصية، لأن ما يجمعهم هو البحث العلمي والالتزام بأدواته، ويقول: "أغلب من عملت معهم ملحدين، لم يكن يهمهم ديانتي بقدر ما يهمهم قدرتي على القيام ببحث علمي جاد يقود إلى نتائج علمية".
ويضيف أنه "على خلاف ما قد يتصور البعض، لم يكن هؤلاء الملحدون يبدون أي اعتراض على حرصي على أداء شعائري الدينية مثل صلاة الجمعة وصيام رمضان، حتى إنني أذكر ان أستاذتي في معهد فرينل بفرنسا -وهي ملحدة- كانت تصر أن أغادر المعمل مبكرا في شهر رمضان حتى أحصل على قسط من الراحة قبل الإفطار، لأن ما يهمها في علاقتها معي هو أدائي البحثي وليس ديانتي".
هيثم شعبان قائد إحدى المجموعات البحثية بجامعة جينيف في مجال الطب الدقيق: العلماء الملحدون لا يعنيهم ديانتك بقدر اهتمامهم بعملك الجيد (هيثم شعبان) العلماء الملحدون.. انطباع خاطئحديث شعبان والجندي عن أن أغلب من تعاملوا معهم كانون من العلماء الملحدين هو تصور خاطئ، كما ترى إيلين هوارد إكلوند عالمة الاجتماع الأميركية بجامعة رايس في هيوستن بتكساس.
وقامت إكلوند على مدى السنوات العشرين الماضية بدراسة مواقف العلماء تجاه الدين، وما وجدته من خلال أكثر من 40 ألف استطلاع رأي ونحو 2500 مقابلة سرية، هو أن عدد العلماء المنتمين للدين أكبر بكثير مما يتوقعه الكثير من الناس.
وفي إحدى الدراسات التي قامت بها، أعلن ما لا يقل عن 30% من المشاركين في استطلاع عن انتمائهم الديني، واستطلعت هذه الدراسة علماء من ثماني بلدان ومناطق، بما في ذلك المملكة المتحدة والهند وهونغ كونغ وتركيا والولايات المتحدة.
وفَسرت دراسات إكلوند أسباب شيوع ما يعتقده شعبان والجندي من أنهم يعملون مع علماء ملحدين، إذ قالت إن "العلماء ليسوا دائما منفتحين بشأن عقيدتهم في العمل أو في البيئات التعليمية، لأن هناك تصورا بأن العلماء الآخرين لن يأخذوك على محمل الجد إذا تحدثت عن عقيدتك".
إيلين إكلوند عالمة الاجتماع الأميركية بجامعة رايس في هيوستن: العلماء الملحدون أقل بكثير مما هو شائع (جامعة رايس)غير أن السرية التي التزمت بها إكلوند في أبحاثها، سمحت للعلماء أن يكونوا أكثر انفتاحا بشأن الحديث عن عقيدتهم. وتقول في تقرير نشرته نيتشر: "لقد شعروا ببعض الارتياح عند التحدث عن نهجهم الخاص تجاه الدين في بيئة آمنة، وكانت نتائج إحدى الدراسات معبرة تماما عن ذلك، حيث قال ثلثا العلماء إنهم لا ينظرون إلى العلاقة بين العلم والدين باعتبارها علاقة صراع، بل إن الكثيرين يرون أنهما يعملان بانسجام كوسيلة لفهم العالم".
والخلاصة، أن مساحة الاتفاق بين العلم والدين أكبر من مساحات الاختلاف التي يتخيلها البعض، والتي قد لا تكون موجودة في أذهان العلماء أنفسهم عندما يتاح لهم الحديث بحرية بعيدا عن المؤتمرات العلمية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات القواسم المشترکة الإیمان بالله الجزیرة نت أن العلم من العلم من خلال
إقرأ أيضاً:
«الزمن الجميل».. هل يبقى أضعف الإيمان؟
هل يمكن وصف الـ«الذاكرة الاجتماعية» بأنها الحاضنة الأبقى لكل ما هو متعلق بالمجتمع الإنساني؟ هل هناك معززات من شأنها أن تحافظ على بقاء الأداء لهذه الذاكرة، وما مدى ذلك؟ ما هو نصيب الفرد من هذه الذاكرة، وهل هو يستشعرها بالفعل كممارسة على أرض الواقع، أم أنها تبقى مفهومًا علميًا هو فـي يد أهل الاختصاص فقط؟ إلى أي مدى يمكن أن تحافظ الـ«الذاكرة الاجتماعية» على تألقها لتقوم بكامل الدور المنوط منها؟ وماذا عن مستوى التغييرات التي يعيشها أفراد المجتمع فـي إرباك الـ«الذاكرة الاجتماعية» فـيؤثر على أدائها المتوقع؟ هل يلعب التاريخ فـي بعديه المادي والمعنوي فـي تعزيز الدور الذي تقوم به الـ«الذاكرة الاجتماعية»؟ وهل هناك علاقة عضوية متبادلة بين الطرفـين؟ لماذا يتأثر الناس -غالبا- عندما يزال موقعا أثريا عن مكانه وإلى الأبد هل لذلك التأثر علاقة بالمخيلة الاجتماعية؟ وبمعنى آخر هل تعيش الذاكرة الاجتماعية قلقا دائما للحفاظ على كينوناتها من مثل هذه الأرصدة فـي بعدي التاريخ المادي والمعنوي؟ وهل ذلك ينطبق أيضا على اختفاء بعض القيم الإنسانية التي ينظر إليها بكثير من الاهتمام؟ هل هناك ثمة علاقة بين الهوية والـ«الذاكرة الاجتماعية» وأيهما يخدم الآخر أكثر؟ نسمع كثيرا جملة «الزمن الجميل» مع أننا فـي لحظتنا الآنية لم نعش ذلك الزمن الذي يوصف بـ«الجميل» ترى من صدر هذا الوصف وأنزله على الذاكرة حتى استحسنته «وصفًا» دون أن تعيش تفاصيله الدقيقة هل هذا من فعل الـ«الذاكرة الاجتماعية» أيضا؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل وقعت هذه الذاكرة فـي مأزق التحايل على الحقيقة؟ لأن الأزمان لن تكون جميلة بالمطلق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس من الواقعية فـي شيء أن نجزم ببساطة الأشياء وتواضعها على أنها معبرة عن زمن جميل، فقد يكون الزمن قاسيًا بكل ما تعنيه الكلمة، فمن إذن يكون له حق التقييم فـي النفـي أو الجزم بذلك؟ ولذلك يأتي السؤال الختامي لهذه المقدمة الاستفهامية هل يبقى «الزمن الجميل» أضعف الإيمان لرصيد «الذاكرة الاجتماعية» موضوع هذه المناقشة؟ من يأمن الذاكرة؟ ومن يأمن الزمن؟ ومن يأمن الظروف التي استغلتها الذاكرة فـي تحايلها على الزمن؟ فالذاكرة لا تكتب تاريخها بعيدة عن الزمن المنجز، والزمن لا يخلد أفعاله اعتمادا على الذاكرة فقط، وإلا لضاعت الكثير من الثوابت، والكثير من القيم المعرفـية، والكثير من حقائق الأشياء، والكثير مما بذله الناس فـي أزمان صعبة، وما كان له أن يتحقق لولا هذا الحرص الإنساني على أن يكون له أثر ما، فـي لحظة زمنية فارقة، إذن من يكتب التاريخ؟ الفرد الجماعة الأثر الباقي «الشاهد» والمعبر عن أن هنا جهد إنساني بذل فـي هذا المكان بالذات؟ لذلك يقال: إن الأزمان تكتب تاريخها حتى فـي أحلك الظروف التي تمر بها الإنسانية، وأحلك الظروف هنا (الجهل/ الفقر/ عدم الاستقرار/ الاستعمار) حيث لا تستطيع الإنسانية تجميع قواها لكتابة التاريخ، فالبلدان التي ترزح تحت وطأة هذه الظروف مجتمعة أو متفرقة، لا يستطيع إنسانها أن يكتب تاريخ لحظته بصورة أكثر دقة، وبأريحية تامة، فهو يعاني من ذات اللحظة الزمنية الفارقة فـي حياته، من كثير من الارتباك، والقلق، وعدم التوازن، ولأن الشعوب غالبا لا تخضع كثيرا لاستمرار حالات أحلك الظروف، فإنها سرعان ما تنتفض على أي شيء ترى أنه سوف يقيد حركتها عن رصد تاريخها والكتابة فـيه، وتجميع حمولته المعرفـية وإلحاقها بالذاكرة، ولا يضعف إلى الحد الذي يكون فـيه لقمة سائغة للغريب، فالأرصدة الاجتماعية لا يجب أن يكون بين مجموعها ومجموعها فترة زمنية قاطعة، فالتاريخ متواصل بفعل الزمن، فكما الزمن لا يستريح فـي استمراريته، فكذلك التاريخ لا يتوقف فـي إنجاز أبنائه، وكذلك الـ«الذاكرة الاجتماعية» الدفعات المتقطعة مما هو منجز؛ لأنه بهذا الرصد المتواصل تؤصل هوية إنسان/ شعب/ مجتمع/ أمة فـي يوم ما، ليكون لكل ذلك تاريخ يكتب بماء الذهب.
هنا تنجز الهوية مع الـ«الذاكرة الاجتماعية» مستحقا إنسانيا، لا يمكن تجاوزه، ولذا لا تستغرب إن عرفت يوما ما أن هناك من اكتشف «وثيقة» تاريخية فـي أحد متاحف العالم تسجل لك سبقا زمنيا منجزا فـي أمر ما من أمور حياة من سبقوك، ولأن هذه الـ«وثيقة» هويتها لك، وجذورها تعود إلى بلدك، وإلى أمتك، وإلى وطنك، وإلى جغرافـيتك، إذن وفـي هذه الحالة فهي أنت، وأنت هي، وبالتالي فلا يستغرب إطلاقا أن تدفع مقابل أن تعود هذه الـ«وثيقة» إلى حيث جذرها الأصل، ولن ترتاح - وأنت صاحب القرار - أن تظل هذه الـ«وثيقة» فـي غربتها، وإلا عد ذلك نقيصة فـيك، وإنكارا لأهم مكونات تاريخك الذي ستدافع عنه بكل شراسة، فـي حالتي السلم والحرب، حيث لا تذوب الهويات فـي أيهما، ولا يتماهى الانتماء فـي أي منهما أيضا، ولعل هنا يتضح المعنى أكثر فـي تسمية «الزمن الجميل» لأنك امتداد له، وإلا ما الذي يجبرك على أن تحرص على عودة الوثيقة إلى حيث منشأها الأول، حيث أنت تقبع الآن؟ ينطلق أداء الذاكرة الاجتماعية بوهج غير مسبوق من خلال ما يحرص الناس على بقائه، واستمراره، حتى ولو كان هذا الأمر لا يتوافق مع عصره، وهنا تتسلل الهويات لتوقظ فـي الأنفس الارتهان على البقاء، وأن هذا البقاء لن يكون إلا من خلال هذا الذكر، ومن خلال هذا التبني، ومن خلال هذا التخيل، ولذلك فجملة «الزمن الجميل» لم تأت من فراغ الذاكرة الاجتماعية، بل من ثرائها المعرفـي، وثرائها القيمي، وثرائها التاريخي، حتى وإن لم تعش هذه الأنفس شيئا من هذا الجمال الذي تتحدث عنه مع أي مشهد يعيد إلى الـ«الذاكرة الاجتماعية» شيئا من ألقها الذي كان، سواء تمثل هذا الذكر فـي هذه الجملة، أو فـي اقتناء شيء من الموروث، أو الالتحام مع القناعة الذاهبة إلى تأصيل ما تبقى فـي هذه الذاكرة، ومن هنا يأتي أسف الناس على إزالة الشواهد التاريخية والأثرية، ويعد ذلك نكرانا صريحا لما أهداه إلينا الزمن الجميل، وللقناعة الموجودة، أن ما أزيل لا يمكن تعويضه، وما تهشم وتغيرت ملامحه لا يمكن إعادته على ما كان عليه، وقد زرت بلدا عربيا تعرض لاستعمار طويل، وكان من محاسن هذا الاستعمار عند انسحابه لم يهدم ما أقامه من جمال العمارة، هذه العمارة وهي رصيد تاريخي بلا منازع لهذا البلد يتعرض اليوم للتشويه حيث ما يتهدم منه، لم يعاد على صورته الأصل، فأصبحت المباني مشوهة، بالترقيع الفاضح فـي تشويهه، لذلك لا تستسيغ الـ«الذاكرة الاجتماعية» هذا التشويه، وترى فـي استمراره ضربة قاسية لحقيقة حياة كانت بغض النظر عن جماليتها أو قبحها، فذلك نصيب زمنها الذي كان، ونصيب فردها أو جماعتها الذين كانوا، ولذلك يتم الحكم اليوم على الخلاصة التي وصلت إلينا، دون الدخول فـي التفاصيل، وهي تبقى فعلا «أضعف الإيمان».
يمكن القول هنا أن الـ«الذاكرة الاجتماعية» ليست فقط للقيم الاجتماعية المُؤْمَنُ بأهميتها، وليست فقط للعادات والتقاليد المتوارثة، وليست فقط لشيء من العمارة الاجتماعية التي التصقت جدران مبانيها بعضها على بعض للتعبير عن اللحمة الاجتماعية، وعن لهاث الأنفس الدالة على التقارب والتآزر، والتواد، وليست فقط لأحوال الناس فـي زمن ما دون غيره، وليست فقط لشواهد حالات الفقر والغنى، والتآلف والتصادم، والوفاق والتنازع، وليست فقط لدروب القرية وسككها، وسواقي الحقول والبيادر ومزارعها، وليست فقط لمجلس القرية ومسجدها ومدرسة تعليمها، وإنما لكل ذلك دون استثناء، كما هو حال كرة الثلج المتضخمة، والتي إن جار عليها الزمن وأصابها شيء من التشظي تناثرت قطعا، ليس يسيرا لملمتها، فالزمن لا يعطي دائما فرصة التحام الأجزاء على بعضها لتعود الصورة كما كانت قبل نيف من الزمان.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني