قبل 15 عامًا، تمكّنت ويكيليكس من اعتراض برقية سرية كانت تصف محنة المدنيين في الأيام الأخيرة من الحرب الأهلية في سريلانكا. هذه الأحداث الأليمة تذكرنا بما شاهدناه في "المجمع 2371" في رفح، تلك المنطقة الصغيرة في جنوب غزة التي صنفها الجيش الإسرائيلي "منطقة إنسانية آمنة" في 22 مايو/أيار، لكنه واصل قصفها بعد أربعة أيام فقط، فقتل ما لا يقل عن 45 مدنيًا كانوا يحتمون في الخيام.

البرقية، المرسلة في مايو/أيار 2009 من سفارة الولايات المتحدة في كولومبو إلى وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن العاصمة، تروي كيف اتصل أسقف مانار بالسفارة للتدخل لصالح سبعة قساوسة كاثوليك تم القبض عليهم في "منطقة حظر النار" التي أنشأها الجيش السريلانكي كمنطقة آمنة.

قدر الأسقف أن هناك ما بين 60 إلى 75 ألف مدني محتجزين داخل تلك المنطقة الساحلية الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها ضعف مساحة سنترال بارك في مانهاتن. بعد المكالمة الهاتفية، تحدث السفير الأميركي مع وزير خارجية سريلانكا، وطلب منه تنبيه الجيش إلى أن معظم الأشخاص المتبقين في "منطقة حظر إطلاق النار" هم من المدنيين، معبرًا عن خوفه من أن يصبح الشريط الساحلي فخًا للموت؛ بسبب القصف المدفعي المكثف. ودفع الجيش السريلانكي المدنيين للتجمع في المناطق التي وصفها بأنها "مناطق حظر إطلاق النار" من خلال إسقاط المنشورات من الطائرات والإعلانات عبر مكبرات الصوت، وهو نفس ما فعله الجيش الإسرائيلي في غزة.

مع تجمّع نحو 330 ألف نازح في هذه المناطق، أقامت الأمم المتحدة مخيمات مؤقتة وبدأت، بالتعاون مع العديد من المنظمات الإنسانية، في تقديم المساعدات الغذائية والطبية للسكان اليائسين.

لكن نمور التاميل، وهم الجماعة المسلحة التي كانت تقاتل الجيش السريلانكي، انسحبوا أيضًا إلى "مناطق حظر إطلاق النار" هذه، وقد أعدوا شبكة معقدة من المخابئ والتحصينات فيها، واتخذوا منها آخر معقل لهم.

وكشف تحليل صور الأقمار الصناعية، إضافة إلى شهادات عديدة أن الجيش السريلانكي الذي زعم أنه يشارك في "عمليات إنسانية" تهدف إلى "تحرير المدنيين"، كان يقصف "مناطق حظر إطلاق النار" المغلقة بقذائف الهاون والمدفعية، محولًا هذه الأماكن الآمنة إلى حقول إعدام.

لقي ما بين 10 إلى 40 ألف مدني حتفهم في هذه "المناطق الآمنة"، في حين أصيب آلاف آخرون بجروح خطيرة، وظلوا على الأرض لساعات وأيام دون تلقي رعاية طبية، لأن المستشفيات تقريبًا – سواء كانت دائمة أو مؤقتة – تضررت من القصف المدفعي.

تشابهات مذهلة

أوجه التشابه بين سريلانكا 2009 وغزة 2024 مذهلة.

في كلتا الحالتين، قام الجيش بتهجير مئات الآلاف من المدنيين، وأمرهم بالتجمع في "مناطق آمنة"، حيث لن يتعرضوا للأذى. ثم شرع في قصف هذه "المناطق الآمنة"، فقتل وأصاب عددًا كبيرًا من المدنيين بشكل عشوائي. كما قصف الوحدات الطبية المسؤولة عن إنقاذ حياة المدنيين.

برّر المتحدثون العسكريون السريلانكيون والإسرائيليون الغارات، معترفين بأنهم قصفوا المناطق الآمنة، لكنهم زعموا أن نمور التاميل وحماس مسؤولون عن مقتل المدنيين باستخدامهم كدروع بشرية. انتقدت الدول الغربية قتل الأبرياء، لكنها استمرت في تزويد الجيوش بالأسلحة. في حالة سريلانكا، كانت إسرائيل من بين الموردين الرئيسيين لتلك الأسلحة.

زعمت الأمم المتحدة أن الأطراف المتحاربة كانت ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. حشدت الحكومتان كادرًا من الخبراء الذين استخدموا الألعاب البهلوانية القانونية لتبرير المذابح. وقد وُضع تفسيرهم لقواعد الاشتباك وتطبيق المفاهيم الأساسية للقانون الدولي الإنساني، في خدمة العنف المفضي إلى الفناء.

ولكنْ هناك أيضًا اختلاف مهم بين الحالتين؛ فالإبادة الجماعية في غزة تحدث أمام أعين الجميع.

وإذا كان الأمر قد استغرق بعض الوقت في سريلانكا لجمع الأدلة وإجراء تحقيقات مستقلة حول الانتهاكات، فإن الاهتمام العالمي بغزة والصور الحية لأطفال مقطوعي الرؤوس والجثث المتفحمة يمكن أن يمنع تكرار ما حدث في سريلانكا من رعب.

أظهرت وسائل الإعلام بالفعل كيف تعرضت "المنطقة الآمنة" جنوب قطاع غزة لقصف بقنابل تزن 2000 رطل، مما أسفر عن مقتل آلاف الفلسطينيين. قامت المحكمة الجنائية الدولية بجمع الأدلة، وتسعى الآن إلى إصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.

لاحظت محكمة العدل الدولية استخدام إسرائيل العنفَ بلا هوادة ضد المدنيين، وأمرت الحكومة بـ "الوقف الفوري" لهجومها في رفح، موضحة أنها لم تقم بإجراءات كافية "للتخفيف من المخاطر الهائلة التي يتعرض لها السكان الفلسطينيون نتيجة الهجوم العسكري في رفح".

وردت إسرائيل على حكم أعلى محكمة في العالم بمواصلة قصف المناطق الآمنة، وجاءت مذبحة المبنى 2371 بعد 48 ساعة فقط من صدور قرار المحكمة.

بعد أقل من أسبوعين، أدّى هجوم جوي إسرائيلي آخر على مدرسة تديرها الأمم المتحدة في مخيم النصيرات، المصنف كـ"منطقة آمنة"، إلى مقتل ما لا يقل عن 40 شخصًا، معظمهم من النساء والأطفال. وفي 9 يونيو/حزيران، أدت عملية إسرائيلية لتحرير أربعة أسرى إسرائيليين في نفس المخيم إلى مقتل 274 فلسطينيًا وإصابة مئات آخرين.

ورغم أن الأنظار متجهة نحو رفح وبقية قطاع غزة المدمر، فإن إسرائيل لا ترتدع، إذ ترتكب جرائمها تحت الأضواء، في حين تواصل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا تزويدها بالأسلحة.

لقد كان لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية كلمتهما، وكذلك جنوب أفريقيا، وإسبانيا، وأيرلندا، وسلوفينيا، والنرويج. ويدعو الطلاب المعتصمون في الجامعات وحركات التضامن العالمية حكوماتهم إلى تطبيق حظر الأسلحة والمطالبة بوقف إطلاق النار، وهم يشهدون كيف حوّلت إسرائيل المناطق الآمنة (التي أنشأتها) إلى حقول للقتل.

وكأي مستعمر في التاريخ، فإن تسريع إسرائيل ممارسات الإبادة في غزة، ومحاولتها الخرقاء الادعاءَ بالتزام القانون هما بعض التجلّيات الواضحة لمشروعها القائم على نزع الملكية. وينبغي للقوى الاستعمارية السابقة مثل المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا أن تدرك ذلك، كما يجب على الولايات المتحدة أن تدركه هي الأخرى. فكما أن العيون تتّجه نحو غزة، فإنها تتّجه أيضًا نحو تلك الدول التي تواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة، مما يجعلها شريكة في جرائمها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات المناطق الآمنة

إقرأ أيضاً:

ماذا تعرف عن قاعدة غوانتانامو التي ستستضيف المهاجرين؟

قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي جعل ترحيل المهاجرين جزءاً أساسياً من حملته ورئاسته، أمس الأربعاء، إن الولايات المتحدة ستستخدم مركز احتجاز في خليج غوانتانامو بكوبا، لاحتجاز عشرات الآلاف من "أسوأ الأجانب المجرمين".

كما وقع على مذكرة رئاسية، وقال إنه سيوجه المسؤولين الفيدراليين لتجهيز المرافق لاستقبال المهاجرين المجرمين في الولايات المتحدة بشكل غير قانوني.

وقال توم هومان، مسؤول الحدود، إن إدارة الهجرة والجمارك الأمريكية ستدير المنشأة. ومع ذلك، لم تتضح تفاصيل الخطة على الفور.

What to know about Guantanamo Bay, the base where Trump will send 'criminal aliens' https://t.co/sg2MFDzUvX

— ABC7 News (WZVN-TV) (@ABC7SWFL) January 30, 2025 كيف تستخدم القاعدة؟

وحسب تقرير لوكالة "أسوشييتد برس"، تشتهر القاعدة البحرية الأمريكية في كوبا بالمشتبه بهم الذين تم جلبهم بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، إلا أنها تضم ​​منشأة صغيرة منفصلة تستخدم لعقود من الزمن لاحتجاز المهاجرين.

ويُستخدم مركز عمليات المهاجرين للتعامل مع الأشخاص الذين يتم اعتراضهم، أثناء محاولتهم الوصول إلى الولايات المتحدة بالقوارب بشكل غير قانوني. وأغلب هؤلاء الأشخاص من هايتي وكوبا.

ويشكل المركز جزءاً صغيراً من القاعدة، ويتضمن عدداً قليلاً من المباني وليس لديه القدرة على استيعاب 30 ألف شخص، الذي سبق وصرح ترامب أنه يمكن إرسالهم إلى هناك.

معقل للإرهابيين

ومن جهته، قال هومان للصحافيين "سنقوم فقط بتوسيع مركز المهاجرين الحالي".

ويعمل مركز احتجاز المهاجرين بشكل منفصل عن مركز الاحتجاز العسكري، وقاعات المحاكم المخصصة للأجانب المعتقلين في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، خلال ما أسمته تلك الإدارة "حربها على الإرهاب".

ويضم هذا المرفق 15 معتقلاً، بما في ذلك العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) خالد شيخ محمد. وهذا أقل من ذروته التي بلغت نحو 800 معتقل.

ما يصل إلى 30 ألفاً..ترامب يوجه باحتجاز مهاجرين في غوانتانامو - موقع 24قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأربعاء، إنه يريد السجن العسكري في غوانتانامو، المخصص عادة للمعتقلين المتهمين بالإرهاب، جاهزاً لاستقبال ما يصل إلى 30 ألف مهاجر غير نظامي.

 

من سيُحتجز في غوانتانامو؟

وقال مسؤولون في الإدارة الأمريكية، إن مراكز احتجاز المهاجرين في غوانتانامو سوف تستخدم "لأسوأ الأسوأ". وقد استخدمت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم، وهومان، هذه العبارة أثناء حديثهما إلى الصحفيين خارج البيت الأبيض.

وكان بيان البيت الأبيض أقل تحديداً، حيث قال إن "المنشأة الموسعة من شأنها توفير مساحة احتجاز إضافية للمجرمين الأجانب، ذوي الأولوية العالية والمتواجدين بشكل غير قانوني في الولايات المتحدة، ومعالجة احتياجات إنفاذ قوانين الهجرة المصاحبة".

وقال مسؤول في الإدارة، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته إن "المركز سوف يستخدم لإيواء المجرمين الخطرين، والأشخاص الذين يصعب ترحيلهم".

هل توجد مساحة كافية؟

ووفق "أسوشييتد برس"، تعهد ترامب بترحيل ملايين الأشخاص الذين يعيشون بشكل غير قانوني في الولايات المتحدة، لكن ميزانية إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الحالية، لا تحتوي إلا على ما يكفي من الأموال لاحتجاز حوالي 41 ألف شخص .

وتحتجز إدارة الهجرة والجمارك المهاجرين في مراكز المعالجة التابعة لها، وفي مرافق الاحتجاز التي تديرها شركات خاصة، إلى جانب السجون والمعتقلات المحلية. ولا توجد لديها مرافق مخصصة لاحتجاز الأسر، التي تشكل ما يقرب من ثلث الوافدين إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.

كما تم استخدام القواعد العسكرية الأمريكية مراراً وتكراراً منذ سبعينيات القرن الـ 20، لاستيعاب موجات المهاجرين الفارين من فيتنام وكوبا وهايتي وكوسوفو وأفغانستان.

Decisión gob EEUU de encarcelar en Base Naval en Guantánamo a migrantes, en enclave donde creó centros de tortura y detención indefinida, muestra desprecio hacia condición humana y Derecho Internacional

Es en territorio de #Cuba ilegalmente ocupado fuera jurisdicción cortes EEUU pic.twitter.com/riqxW5lSni

— Bruno Rodríguez P (@BrunoRguezP) January 29, 2025 رد فعل كوبا

لقد استأجرت الولايات المتحدة غوانتانامو، من كوبا لأكثر من قرن من الزمان. وتعارض كوبا هذا الإيجار وترفض عادة دفع الإيجار الاسمي الذي تدفعه الولايات المتحدة.

وانتقد مسؤولون حكوميون قرار ترامب، حيث اعتبر الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل القرار "عملاً وحشياً"، ووصف القاعدة بأنها "تقع في أراضٍ كوبية محتلة بشكل غير قانوني".

وقال وزير الخارجية برونو رودريغيز: "إن قرار الحكومة الأمريكية بسجن المهاجرين في قاعدة غوانتانامو البحرية، في جيب أنشأت فيه مراكز تعذيب واحتجاز غير محدد الأجل، يُظهر ازدراءً للحالة الإنسانية والقانون الدولي".

مقالات مشابهة

  • حميدتي يعترف بخسارة ميليشيات الدعم السريع بعض المناطق أمام الجيش السوداني
  • وزير الخارجية: مصر ترحب بانتشار الجيش اللبناني وتدين الهجوم على المدنيين
  • أطفال حدائق أكتوبر في جولة ثقافية وتوعوية بمعرض الكتاب ضمن برنامج المناطق الجديدة الآمنة
  • الجيش السوداني يسيطر على أم روابة وسط مخاوف من انتهاكات بحق المدنيين
  • ماذا تعرف عن قاعدة غوانتانامو التي ستستضيف المهاجرين؟
  • الأمم المتحدة: الذخائر المتفجرة تهدد حياة المدنيين في غزة والضفة
  • الجيش الأمريكي ينقل صواريخ “باتريوت” من “إسرائيل” إلى أوكرانيا
  • موافقا للتوقعات.. البنك المركزي في سريلانكا يبقي على سعر الفائدة
  • حميد الأحمر: ''الظروف والجهات التي أوصلت الحوثيين إلى صنعاء وتواطئت معهم قد تغيرت ومأرب عصية عليهم''
  • الفاو: الاحتلال دمر 75% من حقول المحاصيل الزراعية في غزة