«العُلا».. سردية الفن السعودي
تاريخ النشر: 13th, June 2024 GMT
نوف الموسى (العُلا)
وصلتُ إلى المملكة العربية السعودية، عبر مطار الأمير سلطان بن عبد العزيز في محافظة تبوك، أتذكر اللحظة التي خرجت فيها إلى الفضاء العام للمطار بقرب مواقف السيارات، بينما كنت أنتظر «أبو تركي»، السائق المسؤول عن رحلتي المتجهة نحو محافظة «العُلا»، والتي تستغرق بالسيارة ما يقارب الساعتين ونصف الساعة إلى الثلاث ساعات، كان الهواء عليلاً وقتها في فبراير من هذا العام، وبينما الشمس على وشك الأفول، جلستُ أتأمل مسجداً أنيقاً، بالقرب من المطار، حينها نادى عليّ أبو تركي: إلى العُلا صحيح؟ بعدما شرحت له أوصافي وأني أحمل معي شنطة سفر صفراء، ابتسمت وقلت له: نعم صحيح، رد عليّ مباشرة: «لازم نقهويك، الرحلة طويلة»، واتجه مباشرة لمقهى صغير يتوسط مساحة موقف السيارات، واختار لي قهوة طيبة كما وصفها، وبذلك أعلن أبو تركي ترحاب أهل تبوك، بعفوية تامة، وبدأ الطريق، ولا يبدو لي بأني سأرى التضاريس الطبيعية لرحلتي البرية، خاصةً أننا نسري في الليل، إلا أن أبو تركي كان البدوي الترحال في أصالة وصفه لروح الجغرافيا وامتداد القبائل العربية هناك في «تبوك» حتى «نيوم»، وقال لي: «تسرين بالليل وسط الجبال البعيدة، مرسومة بخطوط الأوليين، تعتقدين أنك في وسط مدينة من ذهب أصفر، إلا أن الحضارة في عمق ذرات الحجر، وبيوت الطين اللامعة، تعالي أهديك مروية العُلا، يخبرونا عن ملحمة مدائن صالح، رغم أن نحن أهل تبوك «بِعيدْ»، لكني أجزم أن سيرة الحجر، تطواف يجسر بيننا الطريق، هناك المزارع في العُلا يمسك بيديه النخيل ويعصر من التمر سكر هالسنين، ونحن البدو في الشمال نثبت خطاوينا ونسجل بكرمنا تاريخ المسير».
رائحة متفردة
كل شيء اختلف تماماً مع شروق الشمس، إنها المرة الأولى التي أدرك فيها أن للجبل بهيبته الطاغية يمتلك رائحة متفردة، قد امتزجت بطبيعة الحال مع أشجار الحمضيات الشهيرة في محافظة العُلا، خاصةً بعد أن استدلت ستارة النافذة المائلة، في نُزل حميمي وبسيط بالقرب من مزارع النخيل الممتدة في المنطقة المحيطة، تذكرت نصيحة «أبو تركي» بعد أن أوصلني بسلام مسائي عند البوابة الرئيسة لنُزل: «سترينها في الصباح شامخة، أما في الليل فإنها تنصهر مع الأرض وتتوحد»، هكذا بفطرته يرمي أبو تركي مروياته الشفاهية ببلاغة ويرحل، وكأنه يفسر لي الرؤية الشعبية لبواطن تلك الجبال الموثقة للمواقع الأثرية، مثل موقع «حجر»، الذي يتضمن ما يزيد على 110 مقابر نحتها الأنباط، أبرزها مقبرة «لحيان بن كوزا»، إلى جانب مقابر «جبل البنات». ولا يُمكن التفكير بالمروية التاريخية لتلك المواقع في محافظة العُلا دونما رؤية قريبة كذلك لمقابر مملكة «دادان» التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2000 عام، والتساؤل عن المعنى الذي بإمكانه أن يتشكل عبر تأسيس فضاء ثقافي وفني معاصر للمدينة، بالتوازي مع المكون الحضاري للمواقع الأثرية، وذلك وفق استراتيجية الهيئة الملكية لمحافظة العُلا بالتعاون مع وزارة الثقافة السعودية. وقد تنبهت لهذه النقطة الجوهرية عند زيارة منطقة «ديمومة»، المصممة في قلب «العُلا»، والتي تحتفي بأعمال تركيبية قائمة على مفهوم الانسجام مع البيئة الطبيعية، منها عمل «وردة العُلا الصوتية» للفنان الياباني يوري سوزوكي، فأول ما يخطر على بال متأمل يجلس تحت ظلال أشجار النخيل المتقاطعة مع العمل، أنه إذا ما كان أهل العُلا وأناسها يشتهرون بالزراعة، ومروا من هنا، فكيف يقرأ المزارعون التداخل بين فعل إبداعي قائم على مفهوم امتصاص الأصوات من البيئة ونقل موسيقى المكان وتكبيرها من خلال الأبواق الموجودة في العمل، وبين مشاهداتهم البصرية الفطرية للجبل والأرض والشجر، فالوصول إلى اكتشاف هذه العلاقة، ستوضح جزءاً حيوياً من هوية مستقبل المدن الثقافية عبر دمج الفن في المحيط الطبيعي والبيئة الاجتماعية.
مسيرة عبر الزمن
«الناس الناس»، ظللت أرددها بداخلي، وأنا في رحلة الحافلة المتوجهة إلى منطقة «وادي الفن» في محافظة العُلا، إيماناً مني بأن مساحة شاسعة تقدر بـ 65 كيلومتراً مربعاً للمشروع، تحتفي بمسيرة فنية عبر الزمن، مقرر أن يتم استكمالها هذا العام، بكل تأكيد ستحدث اصطفافاً جماهيرياً لأهل المملكة والزوار من مختلف دول العالم، وذلك من خلال المشي على أقدامهم وسط رمال الصحراء وبين مرتفعات الجبال، للتمعن بحالة سرمدية لافتة لكيفية تشكل الفنون مع الأرض، حيث أتيحت لي فرصة مشاهدة تحضيرات لمعارض مؤقتة وتكليفات فنية وحوارات مستمرة لفنانين من السعودية والعالم، مثل مشاهدة عرض الأداء للفنان العالمي تينو سيغال، حضرت عمله «من دون عنوان» المشارك وقتها في النسخة الثالثة لـ «معرض صحراء X العُلا» لعام 2024، لن أنسى أبداً، عندما مشيت مع مجموعة من الزوار في المعرض المفتوح، باتجاه ممر جبلي، وإذ بنا نتفاجأ بشخصين يقتربان منّا في حالة من الاقتناص والانتظار، كنا فعلياً قد دخلنا في مساحة لتأدية فن أدائي للفنان تينو سيغال، ولم نع ذلك تماماً، جسدُ الفنانين كان بمثابة تطور طبيعي لصوت وشكل المكان، كان الأداء عفوياً وبرياً في تكوينه، لوهلة تخفت الهوية الجسدية للشخصين(المؤديين)، ووفقاً للأداء الإبداعي يخيل للمشاهد أنهم كائنات صافية، بتعبيرات حقيقية لحالات الاكتشاف الأول للإنسان عن حالة وجوده على الأرض، مثلما هي الدمعة الأولى والابتسامة البدائية وحالة الحركة الصامتة باتجاه كل شيء لإحداث الرغبة أو ربما التحرر منها، وقتها شعرتُ شخصياً بارتباط عميق مع المؤديين، شيء ما أعادني إلى أعماقي، وأعماق الأشياء كلها، دونما أن أصل إلى تفسير، وقد يكون هذا الهدف الأسمى، أن نعود للطبيعة دونما تفسير، كما وُجدنا فيها ببداهة تامة.
تجربة روحية
في الحقيقة، لا يمكنني أن أتجاوز ما عايشته من تجربة وعي روحية، مع مجموعة من المبدعين والمثقفين، وسط فضاء مفتوح ضمن مسيرة «وادي الفن»، استمعتُ خلالها إلى صوت مؤدييْن يقدمان تراتيل مطمئنة، ممثلةً عملاً فنياً للفنانة السعودية عهد العمودي، التي ترى أن أعمالها في توسع دائم نحو مساحة أكبر من الصوت والضوء، كنا جميعنا نمشي مثلما هو مفهوم الطواف في الثقافة الإسلامية، فيها تبادل مؤديان حواراً شعرياً بينهما، متخذين من مواقع مرتفعة على هضبة صخرية أو تلة رملية مسرحاً لتقديم الأداء، وبهيبة التعبير كما هو في مجالس الذكر الطويلة تغنى أحد المؤديين بالماء قائلاً: «ومثلي مفردٌ، ألف الترقي، أنا الماء الذي ربي اصطفاني بحمل الأرض، أحملها برفقي، بدوني كل هذا الكون ميت، وقد شُرفت بالوصف الأدقِ. بما معناه في آي مُبِيٍن، جعلت الماء إحياءً لخلقي». ووسط كل الذهول الذي عشناه جميعنا، بعد أن انقطعت وسائل تواصلنا مع العالم الخارجي انقطع اتصال الإنترنت على ما أذكر وأصبحنا متحدين مع الطبيعية، شاهدنا سيدة تمشي أمامنا وهي تروي الأرض بالماء استكمالاً لعرض الأداء كمن يبارك ويتبارك، ببساطة تعبيرية تسقي رتابة الوجود وتهدي الهوية قدرتها على التشكل الندي، ليستمر الحوار معنا نحن القادمون من مختلف ثقافات العالم إلى صحراء العُلا.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: العلا السعودية الفن السعودي فی محافظة أبو ترکی
إقرأ أيضاً:
بين رضوان الفنّان وحسين صاحب الألوان!
بين رضوان الفنّان وحسين صاحب الألوان!
في ذكرى 6 ابريل نستعيد بعض ذكريات زمان الانتفاضة
لا مفر من الوقوع في فخاخ الحزن في الذاكرة! أثناء تفتيش طابور الوجوه التي تصطف في ضوضاء المغيب، في وهج رياحين الذاكرة. تتساقط الصور مثل شريط سينمائي، الصبايا يتدافعن في مواسم قطع التمور، الجلبة في قلب القرية ليلة عيد الفطر، غناء الصبايا في مواسم الحصاد. فجأة رأيت وجها يتقدم صفوف الانتظار، يسبقه نغم يحفر أخدودا في قلب الذاكرة تتساقط فيه ذكريات زمان حسبته ضاع في النسيان. رأيته يعمل بجد في جمع محصول التمر. وفي الاستراحات حين يهبط الرجل الذي يقوم بقطع سبائط ثمار النخيل، ليرتاح قليلا قبل ان يصعد الى شجرة اخرى، كان رضوان يغني على طنبوره، كان يحفظ اغاني البنات التي تؤدى في مناسبات الاعراس. كان صوته يرتفع أحيانا في الجروف الغارقة في ماء الدميرة:
(أنا زولي ما جة يمة انا زولي ما جة)!
ولأن هذا الزول أدمن عدم (الجية) أدمن الغياب. كان هو يعلن سأمه أحيانا من هذا الزول، الذي يغني له الناس جميعا دون ان يستطيع أحد ولا حتى أكثر العرّافين شهرة الجزم بمكان وجوده، ففي حين تؤكد نسخة قديمة من الاغنية: أنه في الكويت (باني بيت)، ويبدو أنه قنع من الوطن وخيرا فيه، قنع من نأكل مما نزرع ومما نقلع ومن خطاب الوثبة وخطاب (الكضبة). تعود نفس الأغنية في طبعة تسعينية لتؤكد أنه في (توريت) مات شهيد! في تماه جهادي مع إعلام الكذب الحكومي، ورغم أن ملف القضية المزمنة يفترض أنه أغلق بموته التأصيلي، لكن الأغنية سرعان ما تعيد اليه الحياة لتعطيه في نسخة أخرى صفة علماني سعيد (كمّل الفرحة وخلاني منشرحة).
انتهى رضوان الى القول: لو كان ماشي بالخلف كان وصل!!
كان العالم سعيدا في زمن الانتفاضة. قبل وقوع الكارثة. كان العالم كله يمارس الحياة بضراوة كأن الجميع شعروا بوقع خطوات الانقلاب المشئوم الذي يسير الموت في معيته حذوك النعل بالنعل، الانقلاب الذي كانت تنسج أشرعته في الغيب الجماعي والانشغال بممارسة الديمقراطية، التي سيسميها الانقلابيون وصحافتهم فوضى تستلزم ظهور النبي العسكري الذي سيستعيد هيبة السلطة ويملآ الدنيا ضبطا وربطا وجورا.
ينسجون شراع انقلابهم من قماش الاهمال الرسمي والاستهتار الطائفي. الشراع الذي سيصبح (كفنا) لطموح بلدنا نحو الحرية والاستقرار والوحدة ودولة القانون.
لم يعد (زولي) وحده من يمشي بالخلف. قطار وطننا أيضا أصبح ومنذ بيان الكذبة الأولى يسير الى الخلف. حتى وجدنا أنفسنا نرزح في قرون جاهليتنا الوسطى. دولة القبيلة. ندمن هز ساعاتنا في زمن(البكور) لنعرف في أي قرن نحن.
يطلق حسين خوجلي طائر شؤمه المسمى ألوان، تصنع من الديمقراطية الوليدة وحكم القانون، جنازة وتشبع فيها لطم، (تلّمع) في قيادات المستقبل! عينك يا تاجر، تنسج من بحر أكاذيبها خرابا متعمدا وانهيارا وشيكا في كل شيء، وتنادي وامعتصماه! دون وجود حتى نساء يسحلن في طرقات عمورية، فيلبي بشيراه النداء: فارس دينكيشوتي، ينتمي لعصور ما قبل التاريخ، يأتي في زمان أغبر. لو رآه دون كيشوت لأسف على اضاعة عمره في منازلة طواحين الهواء، فليس أسهل من الانقلاب طريقا لسعادة الدنيا وللشهرة ودخول التاريخ من أوسع أبوابه. ترتسم على وجهه (تكشيرة) عسكرية تخفي جزعه الدنيوي وحبه للتسلط، لتعطي انطباعا أوليا بجديته في استعادة هيبة السلطة! وإنه خير من نستأجر ونستجير بقوته وأمانته، ليكتشف الجميع أنه: أسد فقط حين يشن الحرب علي بني وطنه الذين يفترض به حمايتهم. أما في حرب الفساد وجيوش الاجانب التي تحتل الاراضي، فيصبح بقدرة قادر نعامة ربداء تجفل حتى قبل أن يصفّر الصافر! يا للكارثة. لقد استولى على السلطة من يكذب ويصدّق أكاذيبه! لو قرأ هذا المعتوه ومن خلفه جوقة النفاق والاعلام الكاذب فقط تاريخ الاسلام الذي يتشدقون بالدفاع عنه، لعرفوا أن هيبة السلطة مناطها العدل، مناطها أخلاق الحاكم القويمة، الذي يساوي بين مصيره ومصير بغلة تعثر في أرض العراق! وليس التكشيرة والعصا التي ستتحول لاحقا الى بندقية سريعة الطلقات تزرع الموت والدمار في أرجاء الوطن كله. يأتي راكبا صهوة جواد الحركة الاسلامية المريض، المتوثب للسلطة. ترى نفسها أحق بأية امتيازات دنيوية او أخروية. تنّصب نفسها راعيا رسميا للبشر تعيد صياغتهم وتربيتهم، بما يضمن طاعتهم لأولي الأمر، والزهد في الدنيا طمعا في نعيم الآخرة.
جريمة واحدة اختطاف فتاة وقتلها جعلت منها ألوان انهيارا تاما للقانون والاخلاق! واستخدمتها مسمارا في النعش الوشيك للنظام الديمقراطي. فملأت الدنيا زعيقا، حتى بات الناس يخافون أن يخرجوا الى الشوارع فيتلقفهم الجناة القتلة. وها هو صاحب الألوان، بعد أن أكمل دورته القوس قزحية، وجاء ليتربع فوق (وجوهنا) يتناسى الملايين من ضحايا العهد الذي بشّر به. ضرب الناس بالرصاص في المساجد. هدمت القرى فوق رؤوس أهلها. عذب الناس في بيوت الأشباح واغتصبت الحرائر في بيوت أجهزة الأمن، التي يفترض أن تنشر الأمن في الربوع، فإذا بها تشيع الموت والخوف والدمار. أصبح الموت هو القاعدة والحياة هي الاستثناء. ولا حياة لمن تنادي. كل من تنادي أصبح في عداد المفقودين.
الجنرال الانقلابي سيكون الوحيد الذي يدخل من باب التاريخ، ثم يثب خارجا من فوق جداره، يركل نفسه بنفسه ليسقط خارجا. تلاحقه لعنات شعب لم ير في تاريخه مثيلا للظلم الذي وقع عليه في عهد جنرال توازت لديه رغبات التسلط والشروع المعلن في الرقص فوق أشلاء وطن.
حسين خوجلي الذي كان في أيام الديمقراطية يلّمع في المجهول، (يلّمع من لا يستحقون كما اعترف) يعود ليمارس الآن نفس أدواره القديمة، بل أسوأ منها، فبدلا من المجهول، يشكّر الآن (الراكوبة) في الخريف وعلى رؤوس الأشهاد. بعناية جزار محترف يحاول تسويق (الشخت والعظام الصدئة) باعتبارها لحما. يزيح بعض الأسماء من المنضدة أمامه ويقدم أسماء أخرى قديمة باعتبارها لم تكن تملك الحل والعقد، باعتبارها لم تتلوث في المستنقع الذي أنتنت روائحه حتى الأرواح. دون أن ينتبه الى أنه يمارس نفس لعبة ألوان القديمة. الفرق أنه ينطلق من مرحلة زمنية ترقى الى عصور الاستبداد الوسطى وليس الى عقد الثمانينات زمان الانتفاضة. يستخدم التكنيك نفسه: الاشخاص! لو أنه صادق، لو أنه يفهم أن المشكلة ليست في الاشخاص بقدر ماهي في النظام، بقدر ما هي في دولة القانون، دولة الصحافة الحرة. دولة المؤسسات الراسخة القوية. التي يتضاءل دونها الأشخاص، يصبحون مجرد أشخاص، يعبرون من أمامها فيما هي ثابتة مثل الجبل. لو أنه يفهم ذلك بعقل وقلب مفتوح على الاخلاص لهذا الوطن، وليس للموازنات وأرباح الاعلانات: لما شن حملته الألوانية الأولى لتدمير دولة القانون التي ولدت من رحم معاناة شعبنا وتوقه نحو الحرية والانعتاق. ولما غرق في الحملة الثانية لإنقاذ و(تلميع) من أضاعوا بلدنا، من أضاعوا وطنا عرضوه للبيع في كل محفل وبالتقسيط المريح.
حقا أن زولي (لسة) ما جة كما ظلت الأغنية تؤكد في طبعاتها اللاحقة. زولي تخلى عن طموحاته الجهادية، وانسحب من موته عائدا الى الأغنية. قنع من خير الدنيا بالإياب. رضوان الذي بقي وفيا لفنه، ولأزمنة ما قبل الطوفان. قرر أن يتفرغ لقضية (زولي). سألت عنه أحد الاخوة وعرفت انه بخير. نجا من كشّات التجنيد الاجباري، ومن جائحة الاسهالات المائية، نجا من الفجوة الغذائية، ومن الموت كمدا أو جوعا.
سألت: شغال شنو؟
جاءتني الاجابة: شغال فنّان!
حتى وقت قريب لم يكن البعض يصدقون أن الفن يمكن أن يكون شغلة. مثل جارنا المسن الذي سأل فنانا متجولا عثر عليه في إحدى الحفلات.
عندك ملوية؟ (أي هل لديك عمل؟)
فقال الفنان: لا ( يبدو أن الفنان نفسه لم يكن يعترف أن عمله كفنان يجب أن يسمى عملا.
عندك عس لبن؟
أي هل لديك ماعز للبن؟
فرد الفنّان الذي يبدو أنه لم يكن من عشاق حليب الماعز: لا!
فسأله المسن بصبر نافذ: عندك شنو طيب!
تنفس الفنّان الصعداء. أخيرا سؤال يصلح للإجابة، وقال: عندي طنبور!
قال المسن خاتما حوار الطرشان الفني: سوهن إتنين!
رضوان سوّاهن أربعة، ليس أربع نساء مثل اهل النظام، أنشأ فرقة موسيقية. حين بدأ في احتراف الفن كما عرفت. كانت فرقته فقيرة ومرهقة. ينام العازفون أثناء الفواصل وأحيانا داخل الاغنية. بسبب أعمالهم الشاقة اثناء النهار لكسب العيش في زمان الانقاذ. وبسبب فوضى ضجة الموسيقى والعرقي الجيد لم يكن هناك من يميز صوت الشخير من صوت الآلات الموسيقية والساوند سيستم المشروخ. تقفز العناكب أحيانا مع ضربة قوية للطبلة بسبب الفقر وقدم الآلات الموسيقية التي انتهى زمانها الافتراضي قبل قرون. فوضى الموسيقى الترابية كانت تترك أحيانا أثرا رومانسيا سيئا في نفوس بعض السكارى الذين يبحثون عن أنغام تاهت عنهم منذ ثمانينات القرن المنصرم. فيبدأون بالعراك وتحطيم كل شيء. لكن رضوان الذي يملك جسدا قويا. كان يؤمن أن الفن يحتاج أيضا لمنطقة خضراء لحمايته من عشّاق البهجة الانتحاريين.
المعجزة أنه كان يواصل الغناء أثناء ضرب السكارى المزعجين. كأنه ينتقم من ذلك (الزول) الذي لا يجئ رغم أننا نغني له منذ منتصف الثمانينات: زمان الانتفاضة! يمة أنا زولي ما جة يمة!
#لا_للحرب
ortoot@gmail.com
أحمد الملك