منذ عقود مضت والنظام الدولي، لم يعد نظاما دولياً لجميع الدول بكافة قاراته دون تمييز بين الأعضاء، بل أصبح هذا النظام رهينة الدول الكبرى وفق سياسات وتوجهات بعينها، وخاصة الولايات المتحدة في كيفية إدارة الخلافات والصراعات والأزمات بين الدول، ما عرقل دور الأمم المتحدة التي كانت ساعية في أن ترد الحقوق إلى أصحابها لو أُبعد حق النقض، لتتخذ قرارت عادلة ضد من يخالف القوانين التي وضعت أو التي تتخذ آنياً في الظروف الراهنة، لذلك العالم أصبح كأنه يعيش في شريعة الغاب لا شريعة نظام عالمي، وليس في عالم متحضر تنويري وعقلاني، لكن الأمر عكس المقولات التي كُتبت في ديباجة النظام الدولي ومنظمة الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية، وهذه إشكالية قانونية وأخلاقية، أن يتراجع الضمير العالمي عن وضع حد للمظالم والابادات الجماعية والطرد والتهجير لأصحاب الحق الأصلي كالفلسطينيين، وغيرها من الممارسات التي تخالف الحقوق والقرارات الدولية، كما يحدث في فلسطين ودول أخرى، ومنها حقوق الإنسان التي تهدر كرامته وعدم العيش الكريم، في ظل ما يقولون أنه عصر حقوق الإنسان (الأنسنة)، لكن الأقوال تخالف في الواقع والممارسات الفعلية.

وهذه المواقف التي تتخذها الولايات المتحدة، وبعض الدول التي هي ضمن حلف الناتو، لم تلتزم بكل مرئيات النظام الدولي ولا قرارات المنظمة الدولية في مناسبات كثيرة، وأصبح حق النقض(الفيتو) سيفاً مسلطاً على الدول التي لا تسبح في فلكهما، وليس هذا فحسب، بل حتى صارت تتخذ قرارات خطيرة كأن تشن الحروب،خارج القرارات الدولية.

ففي عام 2003، قامت الولايات المتحدة بشن حرب على جمهورية العراق، ثم احتلاله، بذريعة وجود أسلحة نووية يخفيها النظام العراقي في بلاده، وتشكل خطرا على الاستقرار العالمي، وعلى جيرانه. وبعد سنوات قليلة ظهر أن السلاح النووي العراقي مجرد كذبة مخترعة ومعدة، وتم ترتيبها بأصوات استخباراتية، وتم نشرها عبر الأمم المتحدة قبل شن الحرب التي قتلت أكثر من مليون عراقي بسبب آثار هذه الحرب، والتجويع بسبب الحصار عليه عدة سنوات، وسمع كل العالم أجمع تلك الفرية على منبر الأمم المتحدة، ثم بعد عدة سنوات اعترفت الولايات المتحدة عبر رئيسها الأسبق جورج بوش الابن بعدم صحة خبر السلاح النووي، وكذلك بعد الحرب على أفغانستان عام 2002، والتي كانت بسبب اتهام تنظيم القاعدة بتدبير هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكانت هذه ـ كما قالت الولايات المتحدة، هو الرد على القاعدة التي اعترفت بهذه الهجمات، ودولة طالبان هي التي تؤوي القاعدة وعناصرها في أفغانستان، وبالرغم من رفض العالم لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن الحرب خلقت أزمات للشعب الأفغاني كله، وهو لا دخل له بما فعلته القاعدة، التي ضربت الأبرياء في الولايات المتحدة، ومنهم العشرات من المسلمين الأمريكيين، كما أن الحرب لم تأت من خلال مجلس الأمن، بل من خلال الولايات المتحدة ودول متحالفة معها، باعتبارها القطب الأوحد في النظام الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بقي النظام الدولي بعيدا عن العدالة الدولية المجمع عليها من خلال الأمم المتحدة، وهذه للأسف جلبت الصراعات والتوترات والأزمات الدولية، والمنظمة الدولية تم تغييبها عن الدور المطلوب، وكما تم في قراراتها عند التأسيس بعد الحرب العالمية الثانية.

ولو رجعنا إلى النظام الدولي القائم الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، كما أشرنا آنفاً، لوجدنا انه بعد قيامه انقسم العالم إلى معسكرين متنافسين ـ المعسكر الرأسمالي الليبرالي، والمعسكر الإشتراكي، أو كما يسمى أحيانا المعسكر الشيوعي، حيث برزت سمات هذه المرحلة من الصراع الدولي على المصالح وعلى الإستراتيجية بين الشرق والغرب، وكان السباق على التسلح والتفوق العسكري والتفوق الاقتصادي على أشده، بين هذين المعسكرين، بالوسائل التكتيكية حينا، وبالوسائل الاستخباراتية أحيانا أخرى، ولعل إثارة أو تشجيع الحروب الجانبية بين الدول هي السياسات القائمة والدائمة والثابتة في هذا الصراع الدولي، وما تزال، بهدف إيجاد وسائل للاختراق السياسي والإقتصادي الذي يهدف بطبيعة الحال إلى إضعاف قدرة أحد الأقطار للآخر، دون الوصول إلى مرحلة الصدام الخطير بينهما والقبول بسقوف محددة للصراع بينهما، بحيث يبتدعون الحروب، ويحركون الدول البائسة والنامية، بأن تتصارع ويبيعون لها الأسلحة والتقنيات الحديثة والقروض المؤجلة، بحيث تبقى هذه الدول رهينة لهذه الاستراتيجيات. وهذه أزمات أثرت حتى على الدول الكبرى، وبدأت الآن تعاني ماديا واقتصاديا ، وما يزال الحبل على الغارب كما تقول الأمثال.

ويرى البعض أن الاتحاد السوفييتي ـ آنذاك ـ هو الخاسر في هذه المرحلة من الحرب الباردة وتوابعها، ومن الصراع بالنهاية بحكم ضعف قدرات الدول التابعة له في هذا المعسكر، خاصة المنضوية تحت الاتحاد السوفييتي، الدول التابعة له اتحادياً، من غير الدول المشاركة معه في حلف وارسو، يدفع لها ويساهم في ميزانيتها الاقتصادية والعسكرية، وبعد المتغيرات في المعسكر الشرقي، بانهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي كله، ثم توحيد ألمانيا بعد ذلك بأشهر قليلة، بعد ما كانت منقسمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ثم تغير النظام الدولي بعد خروج الاتحاد السوفييتي، من المعادلة التوازنية لتظهر أن (الحرب الباردة)، بين القطبين العالميين انتهت فعلا، وإن بدأت تعود بعد أن استعاد الاتحاد الروسي قدراته، كما ان «كتلة عدم الانحياز» هي الأخرى انحلت عمليا ليبدأ العالم بالتشكل ضمن مرحلة جديدة ذات سمات مختلفة نوعيا عن المرحلة السابقة ونظامها والأسس والقواعد التي تحكمها عدا التصريح الشهير الذي أدلى به الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب أثناء حرب الخليج الثانية، بأن سلطة القانون «لا سلطة الغاب هي التي تحكم هذه الدول في المستقبل»! لكن هذا لم يتحقق، وبقيت الولايات المتحدة هي التي لا تخضع للنظام الذي انتهى بخروج أحد القطبين من الساحة الدولية، ولم يحدث أن تأسس نظام دولي جديد، بل أصبحت الولايات المتحدة هي القطب الأوحد(وحيد القرن) في الساحة الدولية.

بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، شنت إسرائيل حربا على غزة، وبدلا من استخدام الحرب الإخلاقية، فإنها قامت بإبادة جماعية للشعب الفلسطيني في غزة، وليس هذا فحسب، بل لم تترك شيئاً قابلا للحياة، في مدينة صغيرة بغزة فيها أكثر من مليونين من السكان، ناهيك عن قتل ما يقرب من خمسين الفاً من السكان غير المصابين، وأغلبهم من الاطفال والنساء وكبار السن، ولاتزال، ولم تترك الولايات المتحدة الولايات المجال للأمم المتحدة، لوقف إطلاق النار، بل هي التي تطرح المقترحات! وتم تغييب الأمم المتحدة، وحتى تم تهديد محكمة العدل الدولية، وهذه من مشكلات النظم القانونية التي تخضع للتوجهات السياسية وليس للعدالة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاتحاد السوفییتی الولایات المتحدة الأمم المتحدة النظام الدولی هی التی

إقرأ أيضاً:

انتهى السلام الأمريكي وما يليه سيكون أسوأ   

على مدى نحو ثمانية عقود، استفادت الإنسانية من النظام الدولي الذي بنته القوة الأمريكية وحافظت عليه.  

تايوان معرضة لخطر أكبر من الصين

كتب نيكولاس كريل في موقع "ذا هيل، أن "السلام الأمريكي" الذي تميّز بعلاقات دولية مستقرة، وبتوسع التجارة العالمية، وبازدهار غير مسبوق، وبغياب النزاع بين القوى العظمى، انتهى فجأة، وما سيليه سيصدم كل الذين تعودوا على مكاسبه. 

لم يكن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية مثالياً، لكنه حقق نتائج ملحوظة. أنتجت القيادة الأمريكية أطول فترة دون حرب كبرى بين القوى العظمى في التاريخ الحديث. وتراجع الفقر العالمي بشكل كبير، حيث انخفض عدد الذين يعيشون في فقر مدقع من أكثر من نصف سكان العالم في الخمسينيات، إلى أقل من 10%.

"The tragedy is that many Americans, frustrated by the costs of global leadership, fail to recognize the many indirect benefits they’ve received from it."https://t.co/HhKsAm4MZ6

— Sebastian Huluban (@HulubanS) March 1, 2025

وتوسع الحكم الديمقراطي إلى مستويات غير مسبوقة. وأنشأت المؤسسات الدولية، من الأمم المتحدة إلى منظمة التجارة العالمية، منتديات لحل النزاعات سلمياً. وحدث كل هذا تحت مظلة التفوق العسكري الأمريكي والالتزام بالنظام الدولي القائم على القواعد. إن تلك الحقبة انتهت، ليس بحدث حاسم، لكن بالتخلي الأمريكي عنها عمداً.
ولفت الكاتب إلى أن المطالب الأخيرة للرئيس دونالد ترامب، من محاولة شراء غرينلاند من الدانمارك رغم إرادتها، والتهديد بفرض تعريفات عقابية ضد الحلفاء والجيران، إلى إجبار أوكرانيا على تسليم الثروة المعدنية مقابل استمرار الدعم الأمريكي، تشير إلى تحول جوهري. وتتخلى أمريكا عن دورها مسؤولة عن النظام لمصلحة التحول إلى مجرد قوة عظمى أخرى لا تهتم إلا بمصالحها. وستكون العواقب واسعة النطاق وشديدة.

Pax Americana: deposing leaders, seizing turf, redrawing borders—all while two powers carved up the world /2https://t.co/nXRun8i5wh

— Brandon Zicha (@ProfBZZZ) March 1, 2025

يرى الكاتب أن الضمانات الأمنية التي منعت نشوب الصراعات المسلحة، ستضعف.وطيلة عقود ردع المعتدون المحتملون عند معرفة أن مهاجمة حلفاء أمريكا من شأنه أن يؤدي إلى تدخلها. ومع تآكل هذه المصادقية، فإن القوى الانتهازية ستختبر الحدود. فتايوان معرضة لخطر أكبر من الصين، ودول البلطيق والدول الأخرى المتاخمة لروسيا أكثر عرضة للخطر.
وستتحول الدول الأصغر، على نحو متزايد، بيادق في منافسات القوى العظمى. فخلال "السلام الأمريكي"، كان بوسع الدول الصغيرة أن تمضي في علاقاتها الدولية باستقلالية معقولة، محمية بالمعايير الدولية المدعومة من الولايات المتحدة. وفي النظام الناشئ متعدد الأقطاب، ستواجه هذه البلدان الإكراه من القوى الإقليمية التي تسعى إلى إنشاء مناطق نفوذ.
ونحن نشهد فعلاً هذه الديناميكية مع الغزو الروسي لأوكرانيا، والمواقف العدوانية المتزايدة من الصين في بحر الصين الجنوبي. ومثلها كمثل أسماك القرش التي تشم رائحة الدم في الماء، تستعد القوى المعادية للعودة إلى عالم حيث، كما كتب ثوسيديديس الشهير "الأقوياء يفعلون ما في وسعهم، والضعفاء يعانون ما وجب عليهم". ستصبح الحروب الكبرى بين الدول أكثر شيوعاً مما كانت عليه خلال العقود الماضية.
وغير بعيد، سيصبح اختلال توازن القوى بين الدول النووية وغير النووية أكثر وضوحاً وخطورة. خلال فترة "السلام الأمريكي"، حمت المظلة النووية الأمريكية الحلفاء، ما أدى إلى تقليل حوافز الانتشار النووي. وبما أن هذه الحماية باتت غير جديرة بالثقة، فستواجه البلدان خياراً صارخاً، إما تطوير أسلحة نووية، أو قبول الضعف. ومن المرجح أن تكون النتيجة انتشاراً للنووي، ما يزيد خطر سوء التقدير والحوادث واندلاع سباقات التسلح الإقليمية.
وسيعاني الازدهار الاقتصادي مع تفكك الاقتصاد العالمي المتكامل. لقد خلق النظام الذي تقوده الولايات المتحدة الظروف المثالية للعولمة، بممرات شحن آمنة، وقواعد يمكن التنبؤ بها، وتجارة حرة نسبياً. ودون قوة عظمى تعمل على فرض هذه المعايير، سترتفع النزعة الحمائية، وستتمركز سلاسل التوريد، وتتراجع الكفاءة الاقتصادية.

إن الدول الأكثر فقراً، التي استفادت بشكل كبير من الاندماج في الأسواق العالمية، ستعاني أكثر من غيرها مع تراجع الاستثمار إلى ملاذات أكثر أماناً. وستشهد الدول الأكثر ثراءً انخفاضاً في مستوى معيشتها بسبب منع الوصول إلى الأسواق التي توفر عمالة أرخص.
والمأساة هي أن الكثير من الأمريكيين، الذين يشعرون بالإحباط من تكاليف القيادة العالمية، يفشلون في إدراك الفوائد غير المباشرة العديدة التي حصلوا عليها منها. صحيح أن الحفاظ على الهيمنة الأمريكية لم يكن حراً، ولكن بتحمل تلك التكاليف، تمكنا من الحفاظ على عالم يفضي بشكل ملحوظ إلى صون مصالح الولايات المتحدة. إن عصر الأسواق المستقرة للصادرات، والقدرة على الوصول إلى الموارد بشكل موثوق، والقليل من التهديدات الأمنية المباشرة، يقترب من نهايته، مع ابتعادنا عن دور القوة المهيمنة الخيّرة نسبياً.  
ومن شأن الفوضى المقبلة أن تلحق الضرر بالأمريكيين أكثر مما يدركون، وذلك بالتهديدات العسكرية المتزايدة والاضطرابات الاقتصادية. إن الذين يحتفلون بتراجع أمريكا عن القيادة العالمية، سيدركون قريباً أن أمنيتهم ​​قد تحققت على مخلب قرد. إن العالم الذي سيتبع "السلام الأمريكي" سيكون أكثر فقراً، وأكثر خطورة، وأقل حرية، وهو درس قاس عن مدى تحسن النظام المنقوص، الذي تقوده الولايات المتحدة مقارنة مع البدائل التي يقدمها التاريخ.

مقالات مشابهة

  • الولايات المتحدة تعلّق المساعدات العسكرية لأوكرانيا
  • تقارير: الولايات المتحدة تعلّق المساعدات العسكرية لأوكرانيا
  • زيلينسكي: نعوّل على دعم الولايات المتحدة لإحلال السلام
  • ما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟
  • زيلينسكي: نأمل في الحصول على دعم الولايات المتحدة لتحقيق السلام
  • مطار الملك خالد الدولي يتصدر التزام الرحلات الدولية
  • إيلون ماسك يعلن دعمه لانسحاب الولايات المتحدة من الناتو والأمم المتحدة
  • رئيس الدولي للخماسي الحديث: مصر من أفضل الدول التي تنظم البطولات واللعبة أصبحت أكثر متعة وإثارة بالنظام الجديد
  • انتهى السلام الأمريكي وما يليه سيكون أسوأ   
  • الضربات التي أوجعت الولايات المتحدة!!