تشير العديد من الدراسات والأبحاث إلى وجود علاقة وثيقة بين انتشار ظاهرة تعاطى المخدرات وارتفاع معدلات الجريمة. ومع ذلك، يبقى تحديد طبيعة هذه العلاقة، سواء كانت سببية أم مجرد ارتباط، موضوعاً معقداً، خاصة مع ارتفاع نسبة التعاطى بين الشباب على مستوى العالم. تشير الإحصائيات فى مصر إلى أن نسبة التعاطى تبلغ 45.
تعاطى المخدرات ليس مجرد فعل انعزالي، بل هو مشكلة تمتد تأثيراتها إلى نسيج المجتمع ككل، حيث يقود الإدمان إلى تدهور القيم الاجتماعية وزيادة معدلات الجرائم مثل السرقة والسطو، وسط بحث المدمن عن المال بأى وسيلة لشراء المخدرات. هذه الجرائم لا يمكن اعتبارها مجرد حوادث فردية بل كجزء من منظومة إجرامية أوسع، تنخرط فيها الفئات المدمنة فى أنشطة إجرامية مُنظمة، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمنى.
الأمر لا يتوقف عند الحاجة المادية للمخدرات، بل يتعداه إلى التأثيرات النفسية العميقة التى تحدثها المواد المخدرة. الكوكايين والهيروين، على سبيل المثال، يتسببان فى تغيرات نفسية وسلوكية حادة تدفع المتعاطين إلى التصرف بعنف وعدوانية، مما يزيد من احتمالية ارتكابهم لجرائم عنيفة. هذه السلوكيات العدوانية ليست سوى جزء من دائرة مفرغة من العنف والجرائم المرتبطة بالإدمان.
من جهة أخرى، قد تسهم عوامل أخرى فى خلق بيئة مواتية لتعاطى المخدرات والجريمة، كالفقر والبطالة، والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك التعرض للعنف أو الإهمال فى مرحلة الطفولة. وتظهر البيانات إلى أن ارتفاع معدلات الجريمة قد يرتبط بضعف سيادة القانون وتتزايد فى الأماكن التى تكون فيها فرص إنفاذ القانون ضعيفة أو غائبة.
لم تقف الدولة المصرية صامتة أمام ارتفاع ظاهرة الإدمان، بل قامت بجهود كبيرة لمكافحة تعاطى المخدرات والجريمة. فى عام 2018، أطلقت الحكومة المصرية حملة وطنية لمكافحة المخدرات بهدف الحد من انتشار هذه الظاهرة وعلاج المدمنين. وتتمثل استراتيجية الدولة فى تطوير منظومة عدلية فعالة، وتعزيز التعاون بين أجهزة إنفاذ القانون، وتوفير فرص العمل للشباب، وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى تقديم برامج التوعية والتثقيف لنشر الوعى بمخاطر المخدرات والجريمة وتعزيز القيم الإيجابية بين الشباب.
وأسفرت هذه الجهود عن نتائج إيجابية، حيث انخفضت نسبة تعاطى المواد المخدرة إلى 5.9% فى 3 عام 202مقارنة بـ10.2% فى عام 2014. كما انخفضت نسبة الإدمان إلى 2.4% فى عام 2023 مقارنة بـ3.4% فى عام 2014. كما قدمت الحكومة خدمات علاجية مجانية لـ813.1 ألف مريض إدمان فى المراكز العلاجية خلال الفترة من 2014 إلى 2022، بالإضافة إلى زيادة عدد مراكز علاج وتأهيل مرضى الإدمان بنسبة 133.3%، ليصل عددها إلى 28 مركزاً فى عام 2021 مقارنة بـ12 مركزاً فى عام 2014.
إجمالاً، المعطيات الحالية تستوجب على صانعى السياسات التفكير فى عدة اعتبارات لمواجهة هذه الظاهرة المعقدة بشكل فعّال. يجب التركيز على تعزيز البرامج الوقائية والتوعوية فى المدارس والمجتمعات المحلية لنشر الوعى حول مخاطر المخدرات وأثرها على الفرد والمجتمع، بما فى ذلك استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية والرقمية بشكل أكثر فاعلية للوصول إلى شريحة الشباب خاصة فى المناطق النائية والمحرومة، وتوعيتهم بمخاطر المخدرات بطرق تفاعلية وجاذبة.
وينبغى إعادة النظر فى برامج إعادة التأهيل لتتضمن الدعم النفسى والاجتماعى للمدمنين بعد انتهاء فترة العلاج، مع التركيز على تقديم فرص عمل وتدريب مهنى لضمان عدم العودة إلى الإدمان والجريمة.
ومن الضرورى تحسين البنية التحتية الاقتصادية وبناء الشراكات بين القطاعين العام والخاص لخلق فرص عمل مستدامة للشباب، بما فى ذلك تشجيع ريادة الأعمال وتقديم حوافز للشركات لتوظيف الشباب تشمل برامج التدريب المهنى المتخصصة تتناسب مع احتياجات السوق المحلى والعالمى. كما أنه من الأهمية الاستثمار فى البحث العلمى لدراسة الأنماط السلوكية والنفسية المرتبطة بالإدمان، بهدف تطوير استراتيجيات علاجية متقدمة تعتمد على البيانات والأدلة العلمية.
وأخيراً، تعزيز التعاون الدولى فى مكافحة تهريب المخدرات هو أمر مهم، وتطوير آليات تبادل المعلومات والتجارب الناجحة بين الدول، وتنظيم الحملات المشتركة لملاحقة تجار المخدرات وتفكيك الشبكات الإجرامية التى تعمل عبر الحدود، إلى جانب دعم المجتمعات المحلية لتطوير مبادرات ذاتية لمكافحة الإدمان والجريمة بطرق مبتكرة ومستدامة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المخدرات والجريمة معدلات الجريمة لفئة العمرية المخدرات والجریمة تعاطى المخدرات فى عام
إقرأ أيضاً:
ارتفاع معدلات الهجرة من إسرائيل.. أبعاد استراتيجية وسياسية واجتماعية
الثورة / المركز الفلسطيني للإعلام
منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023 تغيّرت معادلات التحرك الديموغرافي في إسرائيل بصورة لافتة، فلم يعد الحديث عن موجات مؤقتة من السفر لأغراض عمل أو استراحة صيفية فحسب، بل عن ميل متزايد نحو الاستقرار خارج “أرض اللبن والعسل الموعودة”، وهو ما يحمل دلالات استراتيجية وسياسية واجتماعية عميقة على مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
واقع الأرقام
كشف تقرير مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست الإسرائيلي، أن أعداد المهاجرين الإسرائيليين للخارج لفترة طويلة في الأعوام 2020 – 2024، كانت تتفوق على أعداد العائدين بواقع 145,900 مستوطن إسرائيلي.
ويظهر التقرير أن 34 ألف مستوطن غادروا إسرائيل لفترة طويلة في العام 2000، بينما عاد إليها 32,500 شخص، وفي العام 2021 غادر 43,400 شخص وعاد 33,600 شخص. وشهد العامان 2022 و2023 ارتفاعا كبيرا في ميزان الهجرة السلبية من إسرائيل؛ ففي العام 2022 هاجر 59,400 شخص بزيادة نسبتها 44% عن العام الذي سبقه.
في حين تظهر إحصاءات وتقارير متواترة ارتفاعاً ملحوظاً في رحيل الإسرائيليين بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023. وتشير تقارير إعلامية عديدة، نقلا عن إحصائيات رسمية، إلى أن عدد المغادرين زاد بشكل حاد في الأشهر التي تلت الهجوم، ففي شهر واحد سُجل خروج نحو 12,300 إسرائيلي لم يعودوا بحلول منتصف 2024. وفي فترة نوفمبر 2023–مارس 2024 غادر البلاد ما يقارب 30,000 شخص بشكل دائم أو طويل الأمد.
كما أظهرت بيانات مركز الإحصاء الإسرائيلي تزايدًا سنويًّا، حيث قدر خروج 82800 إسرائيلي في 2023، وفق تلخيصات نقلتها صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن بيانات الهجرة. واستمرت موجة المغادرة خلال 2024 مع تقارير حول نحو 40,600 مغادراً خلال الأشهر السبعة الأولى من 2024.
هذه المتغيرات تجعل ميزان الهجرة سلبياً في فترات متقطعة، أي أن عدد الخارجين فاق الداخلين في بعض الفترات.
من هم المغادرون.. وماذا يعني ذلك؟
التحليلات النوعية – ومن بينها تحقيقات صحفية ودراسات مراكز بحثية – تشير إلى أن جزءاً كبيراً من المغادرين هم من الفئات العلمّية والمهنية الحضرية والقطاع التقني والأكاديمي والطبي. وتقول صحيفة الغارديان البريطانية في تقريرها نشرته بعد عام من حرب الإبادة، إن هذا لا يعني أن كل الخروج يخصِّ الطبقة العليا، لكن رحيل النخب المهنية يرفع مخاطر ما يُعرف بـ”نزيف العقول” وتأثر القطاعات الحيوية: تكنولوجيا المعلومات، الطب، التعليم العالي.؟
وربطت الصحيفة ومراكز بحث يهودية أوروبية هذه الظاهرة بمخاوف تتعلق بالأمن الشخصي، والاستقطاب السياسي الداخلي، وتدهور جودة الحياة نتيجة الحرب وما رافقها من توترات.
وتؤكد أن الصحيفة أن الهجرة السلبية من إسرائيل تحمل أبعادا استراتيجية وسياسية، إذ تؤثر في المقام الأول على الجبهة الداخلية، فنزوح شرائح مهمة من السكان يضع ضغوطًا على القدرة الاحتياطية لإسرائيل في فترات أزمة – خاصة حين يتعلق الأمر بكفاءات طبية وعسكرية وتقنية، مبنية أن ضعف القدرة البشرية “يقلل من مرونة الدولة في إدارة ميدان المواجهة”.
أما سياسياً، فتبين الغارديان أن ارتفاع نسب الهجرة يعكس عزوفاً أو فقدان ثقة لدى قطاعات من المجتمع الإسرائيلي بالمؤسسات والحكومة، وهو ما يقوّي ديناميكيات داخلية مضادّة للحرب أو مؤيدة لها وفق الشرائح المنهمكة، وهذا بدوره يؤثر في سياسات صنع القرار ويزيد من عدم الاستقرار السياسي. وتطرح الصحيفة بُعد النفوذ الدولي في قراءتها لأرقام الهجرة، مشيرة إلى أن جاليات إسرائيلية متزايدة في أوروبا وأميركا قد تعيد تشكيل قنوات الضغط والدبلوماسية في أوقات يمكن أن تكون هذه الجاليات مصدر تضامن أو معارضة لسياسات تل أبيب.
تغيّر النسيج والهوية
أما عن الأثر الاجتماعي للهجرة العكسية من إسرائيل، فتقول الغارديان إن هجرة جماعية أو مستمرة تُخلف أثراً على الهوية الوطنية والنسيج الاجتماعي، فخروج أعداد من الليبراليين والمثقفين قد يترك فراغًا في المجال المدني ويقوّي نفوذ تيارات أكثر محافظة أو قومية داخل المجتمع الإسرائيلي؛ ما يعني تحولاً في موازين القوى الثقافية والسياسية على المدى المتوسط، وتغيراً في الخريطة الداخلية نحو مجتمع أكثر يمينية وتطرفا في صناعة القرار بسبب فقدان شريحة ليبرالية تدافع عن نهج سياسي مختلف، “ما يعني بأن خروج النخب يزيد الاحتقان السياسي ويغيّر ميزان القوى داخل المجتمع الإسرائيلي، ما قد يؤثر لاحقًا على خيارات الحكومة في إدارة الصراع أو التفاوض”.
وتضيف أن وجود أجيال إسرائيلية ناشئة في الشتات (أوروبا، أميركا الشمالية وأستراليا) سيعيد إنتاج صورة إسرائيل والهوية الصهيونية خارج حدود الدولة بطرق قد تتناقض مع الرواية الرسمية.
وبشأن تأثير الهجرة الإسرائيلية السلبية على مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فيقول الباحث الإسرائيلي المتخصص في شؤون يِنون كوهين، إن تغيّر نوعية المهاجرين الإسرائيليين بعد 2023 نحو خروج انتقائي للشرائح المتعلّمة والمهنية، ينذر باختفاء موارد بشرية حيوية (مهارات تكنولوجية وعسكرية مدنية) ما يقلل قدرة إسرائيل على تجنيد خبرات بديلة بسرعة، ويؤثر على الاستدامة العملياتية للقدرات الدفاعية غير المباشرة (صيانة أنظمة متقدّمة، دعم استخباراتي تقني، تكييف صناعات دفاعية لصيغ جديدة).
ويُقر كوهين بأن هذا التأثير لا يظهر فورا على الجبهات القتالية بالمعنى التقليدي، لكنّه على المدى المتوسط يقلص قدرة إسرائيل على الصمود اقتصادياً وتقنياً.
العسكرة البعدية ومسار الصراع فلسطينيا
في حين يناقش جوناثان جروسمان في دراسته: “العسكرة خارج الحدود الإقليمية: المهاجرون كجنود في إسرائيل”، كيف تحاول إسرائيل إبقاء الروابط العسكرية/الهوية مع “مواطنيها في الشتات”؟، مبينا أن الهجرة تمثل تحديًا للدول ذات الطابع العسكري مثل إسرائيل، لأنها تقوّض الرابط بين المواطن والأرض، وتضعف قدرة الدولة على السيطرة على مواطنيها أو تجنيدهم عند الحاجة، “فالمهاجرون الذين يغادرون هربًا من الخدمة العسكرية أو مناخ الحرب يسحبون معهم موارد بشرية حيوية تعتبر أساسًا في منظومة الدفاع والأمن القومي”.
ويضيف أن الدول – مثل إسرائيل – قد تحاول استعادة هذا الرصيد عبر عسكرة جالياتها في الخارج، من خلال تصويرهم كـ”جنود عن بعد” أو مطالبتهم بدعم الدولة الأم سياسيًا وماليًا. في المقابل، تُنتج هذه العلاقة توترًا بين المهاجرين والدولة، إذ يُنظر إلى من يغادرون زمن الحرب على أنهم “مواطنون سيئون” يتخلون عن واجبهم الوطني.
ويوضح جروسمان أن خطورة هذه الظاهرة تزداد في الدول التي تُعرّف المواطنة عبر الخدمة العسكرية – مثل إسرائيل – حيث يصبح الانخفاض في معدلات التجنيد أو ازدياد هجرة الشباب والضباط تهديدًا مباشرًا لاستدامة القدرات القتالية، مشيراً إلى أن هجرة النخب العسكرية والتقنية تُضعف منظومات القيادة والسيطرة، ما ينعكس سلبًا على الأداء العسكري في النزاعات الممتدة.
ويضيف: “الهجرة الإسرائيلية خلال حرب غزة لا يمكن قراءتها كمؤشر اجتماعي فحسب، بل كعامل استراتيجي مؤثر في توازن الصراع. فارتفاع معدلات المغادرة يحدّ من قدرة الدولة على التعبئة الطويلة الأمد، ويكشف هشاشة العقد الاجتماعي القائم على عسكرة المجتمع وربط المواطنة بالخدمة، وهو ما يُضعف السردية الصهيونية التقليدية حول “شعب في سلاح” في مواجهة الفلسطينيين”.