قال الدكتور السيد عبد الباري، أحد علماء الأزهر الشريف، إن يوم عرفة بحديث النبى صل الله عليه وسلم "سيد الأيام"، لكل شئ كبيرة وأيام الله عظيمة لأنها من صنع الله، ولكن هناك من الأيام ما الله أمر بإحياءه على الخصوص، ورأس هذه الأيام وسيد الأزمان يوم عرفة.

دعاء يوم عرفة وأفضل أوقات التكبير.. ردد باستمرار "فضائل يوم عرفة".

. ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي بأوقاف الفيوم 

وأوضح العالم الأزهري خلال حلقة برنامج "مع الناس"، المذاع على فضائية "الناس"، أنه كما قال أهل العلم أن العرف هو الطيب، وقيل عرفة أى التعريف وهو معرفة الخلق بجلاله وهو السبب الأعظم للوجود.

ولفت السيد عبد الباري إلى أن الخلق تعرفوا على ربهم فى يوم عرفة فى عالم الذر، ثم ألا يقول أحد كنت من الغافلين أرسل رسلا وأنزل كتبا، ووضع العقول فى النفوس، 

وأضاف : "فى حديث قيل موقوف عن ابن عباس يقول الله خلق آدم يوم الجمعة ويقول صل الله عليه وسلم أدخل الجنة ساعة وأهبط من الجنة يوم الجمعة فنزل إلى أرض هى عرفة، فمسح الله تعالى بيده على ظهر آدم، فاخرج من ظهره ذريته إلى يوم القيامة، فقال: كان منهم رجلا بين عينيه صنور فقال آدم لربه: أى ربى من هذا فقال له: رجل من آخر الأمم من ذريتك يا آدم يقال له داوود، قال : ربى كم عمره، قال: 60 سنة، فقال أى ربى فاعطه من عمرى 40، فلما جاء ملك الموت إلى آدم عليه السلام قال آدم لربه: أى رب أولم يبقى من عمرى 40 سنة، فقال النبى معلقا على الحديث: فنسى آدم فنسيت ذريته، فجحد آدم فجحدت ذريته، فخطأ آدم فخطأت ذريته.

وتابع :"وقيل عرفة، إنه من تعريف جبريل عليه السلام لخليل الرحمن إبراهيم مناسك الحج، وهذا كله جائز"

يوم عرفة أحد الأيام المعلومات التي أثنى الله عليها في كتابه قال الله - عز وجل-: «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ» [سورة الحج:28]، قال ابن عباس –رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة.

وجاء دعاء يوم عرفة مستجاب لجميع العباد، حيث روي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: «لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْمَلِكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» رواه الترمذي (3585).

 

وجاء دعاء يوم عرفة ما ورد عن النبي المصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث قال " اللهم آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، رب اغفر وارحم وعفوا عما تعلم إنك الأعز الأكرم"، وأشرف ما في الدنيا قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له.


كذلك قول لا إله إلا الله هو من أفضل الذكر خلال يوم عرفة، بالإضافة إلى الاستغفار، وحسن التأدب، والابتسام فى وجه المؤمنين.

أدعية يوم عرفة

قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: «لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْمَلِكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» رواه الترمذي (3585).
من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم فى يوم عرفة هو " اللهم آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، رب اغفر وارحم وعفوا عما تعلم إنك الأعز الأكرم"، وأشرف ما في الدنيا قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

كذلك قول لا إله إلا الله هو من أفضل الذكر خلال يوم عرفة، بالإضافة إلى الاستغفار، وحسن التأدب، والابتسام فى وجه المؤمنين.

.

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: عرفة يوم عرفة الأزهر بوابة الوفد الله علیه وسلم یوم عرفة ى الله ع لا الله

إقرأ أيضاً:

رمــــال الشَّتات نُصَيْبُ بن رَباح العَبْدُ الحُرّ

في تلك البادية الموزّعة برمال القبيلة، والكثبان المترعة بالأنساب والطائفيّة عاش «نصيْب» خالي الوفاض إلا من دمٍ يسري في عروقه لحياةٍ مضرّجةٍ بالشّقاء، عاش وفي داخله يناوشه أملٌ حين يصبح، وحلمٌ يقضّ هجْعته حين يمسي. كانت أمّه سوْداء تخدم في بيوت السّادة والأشْراف، فوقع عليها سيّدها فحبلتْ به! تفتّحتْ عيْناه على أمٍّ ضعيفةٍ مجرّدةٍ من القيمة والمكانة، وعمٍّ يتاجر بالبشر، فتاجر به بعْد وفاة أبيه، وباعه عبْدًا ذليلًا!

دقيق الأطْراف، تبين عظام صدْره من ثوْبٍ شفّافٍ يكاد يسْتره، خفيف العارضيْن، ناتئ الحنْجرتيْن، منْعزلٌ كنخْلةٍ خاويةٍ تقف شامخةً في صحْراء. يخْفي أبو الحجْناء في عـقْله ثورةً ناعمةً من نوْعٍ خاصّ تكبر في جوّانيّه، يحدّث بها نفسه في خلْوته، يتماهى معها، ينْصهر الاثنان ذات لحظةٍ فوْق الرّمال الحارقة، بعيدًا عن أنظار القبيلة، وعلى غيْر هدًى يمْضي الفتى الهزيل يسْتفّ رمال الكلمات في جزيرةٍ مترامية الأطراف! قرّر ذات لحظةٍ أنْ يواجه العالم الحرّ، قاده تفْكيره أنْ يسرّ لأخته الأمة ذات السّواد المظْلم. أمامة لا تمْلك من الأحلام سوى أنْ تعيش تحت سماءٍ مكشوفةٍ بنجوم الرّقّ والعبوديّة، ولم تحْلمْ ذات ليْلةٍ أنْ تمطر عليها سماء القبيلة بقطْرة ماءٍ من حرّيّة الحياة.

تحبّ أمامة أخاها كثيرًا، تذْرف الدّموع كلّما جاء يحدّثها ويشْكو لها حاله، تنْظر في مقْلتيْه عذابات السّنين، وتقْرأ في عقْله حيرة الحياة ووجع البائسين.. تحدّث نفْسها: كسْر الرّوح يرى في وجْه أخي نصيْب.. دار حوارٌ بيْنهما.. قال لها: أيْ أخيّة، إنّي قد قلت شعْرًا، وأنا أريد عبْد العزيز بن مروان، وأرجو أنْ يعْتقك الله به وأمّك، ومنْ كان مرْقوقًا من أهل قرابتي. حمْلٌ ثقيلٌ كسر ظهرها لحْظة سماعه! أتداريه وتدسّه بين أضْلعها، وتواري سوْءة أخيها أمْ تبثّه لأخيها العبْد؛ كي يصْحو من سكْرته؟ قالتْ له: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! يا بن أمّ أتجْتمع عليْك الخصْلتان؛ السّواد، وأنْ تكون ضحْكةً للنّاس!

في تلك الرّمال الملوّثة بالعنْصريّة، المسْودّة بفاجعة المآل، يسْرح «نصيْبٌ» ذو اللّوْن الحائل، والشّعْر المفلْفل، والخلْقة المشوّهة، بأفكاره على امتداد الصّحراء في موْطنه الحجاز، في عيْنيْه يلمع بريق الأمل، وبين جوانحه روحٌ وثّابةٌ للأفق، يدرك أنّ الطّريق إلى الأحلام بعيدةٌ، وأنّ السّواد الذي يلْفح وجْهه يحول بيْنه وبيْن أبْواب الخلفاء والسّادة، كان باب والي مصْر، ووليّ العهْد عبْد العزيز بن مرْوان يغْزو تفْكيره، ويتمثّل في خياله.

سرى الهمّ تثْنيني إليْك طلائعهْ

بمصْر وبالحوْف اعْترتْني روائعهْ

وكمْ دون ذاك العارض البارق الّذي

له اشْتقْت منْ وجْهٍ أسيل مدامعهْ

أعنّي على برْقٍ أريك وميضه

تضيء دجنّات الظّلام لوامعهْ

إذا اكْتحلتْ عيْنا محبٍّ بضوْئه

تجافتْ به حتّى الصّباح مضاجعهْ

وهو الذي تواءم مع العزْلة حتّى في نزق العشْق، حرم من أنْ يغْدو إنسانًا يكْتظّ بالمشاعر حين أحبّ أمةً سوْداء، فكان يقنع بالإشارة إليها بعيْنيْه أو حاجبيْه، وفي الطّريق حكايةٌ من زجاجٍ مهشّمٍ يسْرد جروح القلْب، واغْتراب الذّات، ووجع الرّوح:

وقفْت لها كيْما تمرّ لعلّني

أخالسها التّسْليم إنْ لمْ تسلّم

ولمّا رأتْني والوشاة تحدّرتْ

مدامعها خوْفًا ولمْ تتكلّم

لقدْ بيعتْ محْبوبة «نصيْب» فأوْلدها سيّدها! فهلْ في نفْسك منْها شيْءٌ، يا نصيْب؟ سؤالٌ بحجْم رمال الصّحاري الشّاسعة في ظهيرة صيْفٍ حارّ لفح وجْهه بالذّكرى.. نعمْ، عقابيل أحْزان..! وهو المكْتظّ بلوْعة الفراق في كلّ لحْظةٍ من لحظات السّنين، والمتمدّد على خلجات الفؤاد لكلّ ما هو جميلٌ يلمْلم به صفاء الحياة.. تتراءى له ليْلى في الازدحام، فتهيج الذّكريات، وينْشقّ الصّدْر عن وجع الفراق:

وداعٍ دعا إذْ نحْن بالخيْف من منى

فهيّج لوْعات الفؤاد وما يدْري

دعا باسْم ليْلى غيْرها فكأنّما

أطار بليْلى طائرًا في صدْري

أراد «نصيْب» أنْ يتمرّد على واقعه المحاصر بقيْد العبوديّة، وهدْر الكرامة ومهانة الذّات، قرّر الخروج إلى مصْر، وكان حينئذٍ عبْدًا لبني محْرزٍ الضّمْريّ، حاولت أمّه أنْ تثْنيه عنْ ذلك، فقالتْ له: إنّك سترْقد ويأْخذك ابْن محْرزٍ يذْهب بك.. ولمْ يكْنْ ليبال بقوْلها، فهذا العبْد يحْمل بيْن دفّتيْه قلْبًا مدمًّى لكنّه نابضٌ بالحياة... يطارده الواقع البغيض في كلّ لحْظةٍ... تمدّد نصيْب بثوْبه الرّثّ الرّقيق على دكّةٍ من الرّمال، وهو يمنّي النّفْس بلقْيا الأمير في مصْر، غطّ في الرّقاد، مرّتْ عليْه طيوفٌ كثيرة؛ وجْه أمّه الحزين، لوْعة أخْته، عوز أقربائه، وفقْرهم تحْت نير السّياط، وذلّ الحاجة، لكنّ طيْفًا كبيرًا ظلّ يلاحقه ويقضّ هجْعته، إنّه طيْف الحرّيّة. الحرّيّة هي الخلاص الأوْحد من العذابات كلّها، هكذا كان يفكّر... فبيْنا هو راقدٌ إذْ هجم عليْه ابْن محْرزٍ، وجماعته... تبدّد حلم الرّحيل.. صرخت الأمّ، بكتْ وندبتْ حظّ ابْنها، تعلّقتْ بثوْب سادته، واسْتجْدتْهم أنْ يطْلقوه، فأطْلقوه، فرجع إلى أمّه عبْدًا ذليلًا.. وبالدّموع تحْضن الأمّ ابْنها: أخْبرْتك يا بنيّ أنّه ليْس عنْدك أنْ تعْجز القوْم.

لم يكن الحلم الذي يتواءم مع منامه على رمال القبيلة ليبْصر النّور في فضاءٍ مكْفهـرٍّ بغيوم الرّقّ والعبوديّة. لعْنة اللّوْن تطارده في الأمْكنة والأزْمنة، حتّى عنْدما تهبّ نسائم الأحْلام في هجْعته تنْقضّ عليْها السّياط ويحاكم صاحبها بالانْقلاب على الأعْراف؛ العبْد لا يحْلم ...! لكنّ العبْد الأسْود ظلّ يعْكف على صناعة حلمه في خلْسة الأيّام واللّيالي، وفي ذات لحْظةٍ شدّ رحاله ليْلًا ليتماهى لوْنه مع غلس الظّلام في غفْلة من القوْم!... عبْدٌ يدّعي الفصاحة وإجادة الشّعْر، يسْتجْدي الدّخول على والي مصْر! تعجّب الرّجال الأحْرار والشّعراء الكبار! أنّى لهذا الصّدْع الأسْود بالفصاحة والشّعْر؟!.. يقول: « ضرْت باب عبْد العزيز بن مرْوان، فنحّيت عن الوجوه..».

ألا هلْ أتى الصّقْر ابْن مرْوان أنّني

أردّ لدى الأبْواب عنْه وأحْجب

وأنّي ثويْت اليوْم والأمْس قبْله

على الباب حتّى كادت الشّمْس تغْرب

وأنّي إذا رمْت الدّخول تردّني

مهابة قيْسٍ والرّتاج المضبّب

وأهْلي بأرْضٍ نازحون وما لهم

بها كاسبٌ غيْري ولا متقلّب

جاءه القرار أنْ «مرْه بالحضور ليوْم حاجتنا إليْه».. أرْبعة أشهرٍ ونصيْبٌ على باب والي مصْر.. «عليّ بالأسْود» ـــ قال الأمير ـــ وهو يريد أنْ يضْحك منْه النّاس.. أدْخل نصيْبٌ بالهيْئة الّتي أرادها له عبْد العزيز.. في جبّة صوفٍ محْتزمًا بعقالٍ.. فأخْرجوه ثمّ ردّوه في جبّة وشْيٍ ورداء وشْيٍ. «فلا شيْء أقْسى على نفْس الإنْسان منْ أنْ يجد نفْسه، وقد أسْقط من حسْبان الآخرين كإنْسان، وصار شيْئًا مجرّدًا من القيمة والاعْتبار، بلْ إنّه يصْبح ملْهاةً يعْبث بها بصورةٍ مزْرية».(1) لا قيمة لهذا العبْد سوى حفْنة دنانير في مجْتمعٍ تسوسه عنْجهيّةٌ مقيتة، وفي مجْلس دلالةٍ يسْترْخص الإنْسان من لوْنه... فقال: أنْشدْنا... إنّها اللّحْظة التي كان ينْتظرها مدّة وقوفه على الباب، ابْتلع ريقه وكأنّه يجْرع دواءً مرًّا، تشْزره السّادة في مجْلس الأمير.. منْ أيْن لهذا العبْد أنْ يحْظى بالدّخول على الأمير؟!.. فأنْشدهم. لاقتْ قصيدته اسْتحْسانًا من علْية القوْم، ومع ذلك الظّفر الممْسوخ فإنّ المبْلغ الّذي دفع لنصيْب لمْ يرقْ لأيْمن بن خريْم الشّاعر الحرّ ذي المكانة السّامقة في المجْلس، وأكْبر أنْ يدْفع هذا المبْلغ فيه، قائلًا: والله لنعْم الغادي في أثر المخاض. هذا، أيّها الأمير، أرى ثمنه مائة دينارٍ. قال: فإنّ له شعْرًا وفصاحةً. قال: قيمته ثلاثون دينارًا. قال: يا أيْمن، أرْفعه وتخْفضه أنت! قال: لكوْنه أحْمق، أيّها الأمير! ما لهذا وللشّعْر! أمثْل هذا يقول الشّعْر! أو يحْسن شعْرًا! فقال: أنْشدْه، يا نصيْب، فأنْشده. فقال الأمير: كيْف تسْمع، يا أيْمن؟ قال: شعْر أسْود، هو أشْعر أهْل جلْدته.

يرْوي الأصْفهانيّ في كتابه «الأغاني» أنّ عبْد العزيز حمل الشّاعر على بخْتيٍّ قدْ رحله بغبيطٍ فوْقه، وألْبسه مقطّعات وشْيٍ ثمّ أدْخل إليْه فأمره أنْ ينْشد! فاجْتمع حوْله السّودان وفرحوا به .. ! ماذا تبقّى من شتات الكرامة والإنْسانيّة سوى لسانٍ يعوّض به نقْصه وضعة مكانته في مجْتمعٍ لا يعْترف إلّا بالأحْرار، ولكن إذا كان الوجود الإنْسانيّ الصّحيح هو في صحيحه وجودٌ اجتماعيٌّ، والتّاريخ البشريّ هو تاريخ الرّغبات فيها، فبالتّالي هو تاريخ الصّراع من أجْل اعْتراف الآخرين بحرّيّة الذّات واسْتقلالها، وهذا الصّراع من أجْل إثْبات الذّات والحصول على اعْتراف الآخر بـ الأنا».(2)

لمْ يكن ذاك الاستنْكاف العنْصريّ الذي لقيه نصيْب في مجْلس الأمير ليحول دون بلوغ حلمه، بلْ جعل ذلك كلّه دبر أذنه، وطفق يصْدح بالشّعْر في أرْجاء الجزيرة كلّها، ولمْ يكنْ أبو الحجْناء ليتعجّل الانْعتاق من تمْريغ أنْفه أو منْ إراقة ماء الوجْه في مجالس القوْم، فهو يدْرك أنْ ليْس لوجْهه الأسْود ماءٌ صالحٌ للحياة في مجْتمع الأحْرار، ولكنْ على قوْل المتنبّي: وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبتْ في مرادها الأجسام

كان أبو الحجْناء، على الرّغْم منْ عواصف الأيّام واللّيالي، يسْتقْرب الانْعتاق، ويتطلّع إلى وسادةٍ دافئةٍ يتّكئ عليْها في مجْلس الأمير كما يفْعل الأحْرار المقرّبون. شحن نصيْبٌ طاقته الشّعْريّة:

لعبْد العزيز على قوْمه

وغيْرهم نعمٌ غامرهْ

فبابك ألْين أبْوابهم

ودارك مأْهولةٌ عامرهْ

وكلْبك آنس بالمعْتفين

من الأمّ الزّائرهْ

وكفّك حين ترى السّائليــن

أنْدى من اللّيْلة الماطرهْ

فمنْك العطاء ومنّي الثّناء

بكلّ محبّرةٍ سائرهْ

كان في كلّ مرّةٍ يأخذ بتلابيب الأمير، فيطْربه بجمال مديحه، وروْنق فصاحته، حتّى جاء يوْمٌ قرّر فيه عبْد العزيز بن مرْوان أنْ يضنّ به لنفْسه، فقال: أعْطوه أعْطوه. قال نصيْبٌ: إنّي ممْلوكٌ. فدعا الحاجب فقال: اخْرجْ فابْلغْ في قيمته... كان نصيْبٌ في وقْفته تلك بضاعةً مزْجاةً يساوم بها بأبْخس الأثْمان... دعا الحاجب المقوّمين فقال: قوّموا غلامًا أسْود ليْس به عيْبٌ. قالوا: مائة دينارٍ. قال: إنّه راعٍ للإبل يبْصرها ويحْسن القيام بها. قالوا: حينئذٍ مائتا دينارٍ. قال: إنّه يبْري القسيّ ويثقّفها ويرْمي النّبْل ويريشها. قالوا: أرْبعمائة دينارٍ. قال: إنّه راويةٌ للشّعْر، بصيرٌ به. قالوا: ستّمائة دينارٍ. قال: إنّه شاعرٌ لا يلْحق حذْقًا. قالوا ألْف دينارٍ. فأْعْطاه ابْن مرْوان المال وقال له اذْهبْ واشْتر نفْسك ثمّ عدْ إليْنا. انْعتق الشّاعر العبْد فانْتقلتْ ملْكيّته ليصْبح موْلًى لوالي مصْر! فرح نصيْبٌ بعتْقه المشوّه، فعدّه إنْجازًا، وإنْ كان يظلّ ملوّثًا بالعنْصريّة، فـقرْبه من الأمير منحه وهْم الحرّيّة، الوهْم الّذي يعيش به بقيّة حياته داخل أسْوار الأمْن منْ ذلّ السّؤال والحاجة. آنس الأمير من عبْده الجديد دماثة الخلق والفصاحة، وآنس أبو الحجْناء من موْلاه المرْوانيّ العطْف والكرم، فظفر الأخير بمكانةٍ خاصّةٍ في مجْلس السّادة الأحْرار، وأصْبح يشار إليْه بشاعر البلاط المصْريّ، وذاع صيته بيْن العامّة فتشوّق الجمْهور إلى سماع شعْره، ولذاذة صوْته، وهو الهارب من أعْماق الصّحْراء الّتي لمْ تعْترفْ يوْمًا بإنْسانيّته، ولمْ ترْحمْ اسْتكانة أمّه ولا ضعْف أهْله. الصّحْراء الّتي كان يتمرّغ في رمالها الحارقة؛ بحْثًا عنْ لقْمة عيْشٍ كريمةٍ يقْتات منْها رمق الحياة. على الرّغْم من ذلك كلّه، فإنّ الوطن بمآسيه القارّة في نفْسه يظلّ بذكْرياته المروّعة يحرّك غريزته الصّحْراويّة، ويشْعل في صدْره لهيب العاطفة تجاه الوطن وأهٍله.

مكث نصيْبٌ في رحاب مصْر فتْرةً طويلةً فعصفتْ به رياح الغرْبة والحنين إلى الحجاز وأهْله، وقد أبْطأتْ جائزته عنْد عبْد العزيز بن مرْوان، ووراءه منْ ينْتظر ليسدّ جوعهم.. تمثّلتْ له أمّه الأمة العجوز الضّعيفة، تخْدم بيوت السّادة والأحْرار، وأخْته أمامة بدموعها لحْظة الفراق... فاسْتعْطف الأمير برقيق الشّعْر:

وإنّ وراء ظهْري يا ابْن ليْلى

أناسًا ينْظرون متى أؤوب

أمامة منْهم ولمأْقييْها

غداة البيْن في أثري غروب

تركْت بلادها ونأيْت عنْها

فأشْبه ما رأيْت بها السّلوب

فأتْبعْ بعْضنا بعْضًا فلسْنا

نثيبك لكن الله المثيب

إنّه الإنْسان الذي يمْتلئ قلْبه حنانًا وعاطفةً تجاه أهْله جميعهم، فحين أصاب من عبْد العزيز بن مرْوان معْروفًا ابْتاع أمّه وأعْتقها، ثمّ ابْتاع أمّ أمّه بضعْف ما ابْتاع به أمّه فأعْتقها.

ذاع صيت نصيب الشاعر، وشهر حتى تسابقت الفتيات إليه ليشبب بهن، ويطمع في ودهن الفتية، ويخطبونهن؛ ومما يروى أن نصيبا وقف على أبيات فاستسقى ماء، فخرجت إليه جارية بلبن فسقته، وقالت: شبب بي. فقال، وما اسمك؟ فقالت: هند. ونظر إلى جبل وقال: ما اسم هذا العلم؟ قالت: قنا. فأنشأ يقول:

أحب قنا من حب هند ولم أكن ...

أبالي أقربا زاده الله أم بعدا

ألا إن بالقيعان من بطن ذي قنا ...

لنا حاجة مالت إليه بنا عمدا

أروني قنا أنظر إليه فإنني ...

أحب قنا إني رأيت به هندا

فشاعت الأبيات، وخطبت هذه الجارية من أجلها، وأصابت بقول نصيب فيها خيرا كثيرا.

وكانت بملل امرأة ينزل بها الناس، فنزل أبو عبيدة بن عبدالله بن زمعة وعمران بن عبدالله بن مطيع ونصيب. فلما رحلوا وهب لها القرشيان ولم يكن مع نصيب شيء، فقال لها اختاري إن شئت أن أضمن لك مثل ما أعطياك إذا قدمت، وإن شئت قلت فيك أبياتا تنفعك، قالت: بل الشعر أحب إلي. فقال:

ألا حي قبل البين أم حبيب ...

وإن لم تكن منا غدا بقريب

لئن لم يكن حبيك حبا صادقا ...

فما أحد عندي إذا بحبيب

تهام أصابت قلبه مللية ...

غريب الهوى يا ويح كل غريب

فشهرها بذلك، فأصابت بقول ذلك خيرا.

كبر نصيب، وكانت له بنات، فخاف عليهن من عوادي الزمن، فدخل يوما على عبد العزيز بن مروان، وسأله: يا أمير المؤمنين؛ لي بنيات سويداوات أرغب بهن عن السودان، ويرغب عنهن البيضان، فإن رأيت أن تفرض لهن فافعل؛ ففعل.

أصيب ولي العهد عبد العزيز بن مروان بمرض عضال، وكان أخوه الخليفة عبد الملك بن مروان يراسله في أن يتنازل عن ولاية العهد لابنه الوليد، رفض والي مصر وحين يئس الأخير من حمله على الأمر راسله في جعل ولاية العهد بعده لابنه الوليد، لكنه رفض ذلك أيضا، واحتج بأن ابنه «الأصبغ» أحق بها من بعده. أثقل هذا الأمر كاهل عبد العزيز، لكن خبر موت ابنه الأصبغ -الذي كان يعده لولاية العهد بعد أن تصير إليه- في الإسكندرية شابا، أحزنه كثيرا، وأرقده الفراش حتى اشتد به الوجع، ولازمه، وعجل في طي صفحة حياته.. توفي عبد العزيز بن مروان، فبكاه نصيب بكاء شديدا؛ فقد كان الدعامة التي تقيه حوادث الدهر، والسحابة التي يستظل بها من وهيج الواقع... فيسقط معاناته على الناقة.. «ويرى في موت عبد العزيز موتا لآماله»(3)

وكانت ركابي كلما جئت تنتحي ...

لديك وتثني بالرضا حين تصدر

فقد عريت بعد ابن ليلى فإنما ...

ذراها لمن لاقت من الناس منظر

ولو كان حيا لم يزل بدفوفها ...

قراد لغربان الطريق ومنقر

وبعد هذا الفراق المؤلم شعر نصيب أن ثمة رحلة تكتظ بالصراع تلوح له في الأفق، فالشعراء الأحرار لن يتركوا الشاعر الأسود يغلبهم، أو ينافسهم في المجالس، فتعرض للأذى بلفظ القول، وكان نصيب يتسامى عن مجالس اللهو والمجون، ويغض الطرف عن سلوك حاسديه، ويترفع عن فحش الكلام، ويبسط العذر لمن آذاه. روي أن أحدهم هجا نصيبا، وعيره بسواده، في قوله:

رأيت أبا الحجناء في الناس جائزا ... ولون أبي الحجناء لون البهائم

تراه على ما لاحه من سواده ...

وإن كان مظلوما، له وجه ظالم

فقيل له: ألا تجيبه! فقال: لا، ما وصفني إلا بالسواد وقد صدق، أفلا أنشدكم ما وصفت به نفسي؟ قالوا: بلى. فأنشدهم قوله:

ليس السواد بناقصي ما دام لي

هذا اللسان إلى فؤاد ثابت

من كان ترفعه منابت أصله

فبيوت أشعاري جعلن منابتي

كم بين أسود ناطق ببيانه

ماضي الجنان وبين أبيض صامت

إني ليحسدني الرفيع بناؤه

من فضل ذاك وليس بي من شامت

وحين أخبر أن نسوة يردن أن ينظرن إليك ويسمعن شعرك. قال: وما يصنعن بي! يرين جلدة سوداء، وشعرا أبيض، ولكن ليسمعن شعري من وراء ستر.

التقى نصيب في مجلس سليمان بن عبد الملك الشاعر الفرزدق، تجهم الأخير لنصيب، وأخذ يزدريه بنظراته المتعالية، ويحدث نفسه متسائلا: كيف لهذه الخلقة المشوهة أن يؤذن لها بالدخول على مجلس الخليفة؟! أخذ كل منهما ينشد الشعر في مديح سليمان، فغلب نصيب الفرزدق، فأعطى سليمان نصيبا جائزة ومنعها الفرزدق، فقال الأخير يذم نصيبا، ويعيره بعبوديته:

وخير الشعر أكرمه رجالا

وشر الشعر ما قال العبيد

كان الفرزدق مفطورا على العداوة والإيذاء، مطبوعا على الشر، ركب الفساد نحيزته منذ صغره فلم يعرف إلا به(4). ومثل الفرزدق لا يصبر على الهجاء وإيذاء الناس بفحش القول، وكان مروان بن الحكم قد طرده من المدينة لهجائه المقذع، قائلا له: أتدري ما مثلك؟ حديث تحدث به العرب أن ضبعا مرت بحي قوم وقد رحلوا، فوجدت مرآة، فنظرت وجهها فيها. فلما نظرت قبح وجهها ألقتها، وقالت: من شر ما أطرحك أهلك. ولكن من شر ما أطرحك أميرك، فلا تقيمن بالمدينة بعد ثلاثة أيام(5). ولم يكن الفرزدق فقط من تعرض لنصيب بالأذى بل فعلها شعراء آخرون؛ حسدا من عندهم؛ مثل جرير، والأحوص، وكثير عزة ... وحين قال ابن أبي عتيق لنصيب: إني خارج، أفترسل إلى سعدى بشيء؟ (وكان نصيب يحبها) قال: نعم، بيتي شعر. قال: قل؛ فقال:

أتصبر عن سعدى وأنت صبور ...

وأنت بحسن الصبر منك جدير

وكدت ولم أخلق من الطير إن بدا ... سنى بارق نحو الحجاز أطير

قال ابن أبي عتيق: يا ابن أم، قل غاق فإنك تطير. يعني أنه غراب أسود. فأنشد ابن أبي عتيق سعدى البيتين، فتنفست تنفسة شديدة. فقال لها: أوه! أجبته بأجود من شعره، ولو سمعك خليلك لنعق وطار إليك. (أراد استحقار نصيب أمام خليلته، وتشبيهه بالغراب).

رجع نصيب إلى موطنه وقد جاوز الستين من العمر، ولم تعد رجلاه الدقيقتان تحملانه إلا بعصا يخط بها درب الطفولة، حيث تزدحم الذاكرة في مشيته المتثاقلة بمشاهد البؤس والحرمان، يجر جسدا تمكنت منه الأوجاع، وهناك على الرمال حيث كان يحلم بالحرية ذات زمن، تمدد في ليلة صيف تزدان بنجومها، يرقب في الأفق كوكبا مسافرا يتضاءل شيئا فشيئا، لوح له بيده قبل أن يغمض عينيه؛ أن قرب رحالك من رحالي:

فيا لك من ليل تمتعت طوله ... وهل طائف من نائم متمتع

نعم إن ذا شجو متى يلق شجوه ...

ولو نائما مستعتب أو مودع

له حاجة قد طالما قد أسرها ...

من الناس في صدر بها يتصدع

تحملها طول الزمان لعلها ...

يكون لها يوما من الدهر منزع

في الصباح الباكر شوهدت عصا ترتكز شامخة على الرمال، ودائرة صغيرة خطت لتحيط بجسد مسجى، ترك ابتسامة ساخرة تختصر رحلة الشتات في الحياة.

هوامش:

1- الخشروم، عبد الرزاق، الغربة في الشعر الجاهلي، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق 1982م. ص97.

2- شتا، السيد علي، نظرية الاغتراب من منظور علم الاجتماع، ص44.

3- الزير، محمد حسن، الحياة والموت في الشعر الأموي، دار مية للنشر والتوزيع، الرياض 1989م. ص105.

4- كمال أبو مصلح وآخرون، الفرزدق، حياته وشعره، ط1، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت 1987م. ص12.

5- المصدر السابق، ص13.

أ.د. حمود الدغيشي أكاديمي عماني

مقالات مشابهة

  • ما هي أنواع الملائكة وحكم الإيمان بهم؟ علي جمعة يكشف
  • مصور فيديو فتاة الشرقية يكشف كواليسه: «كنت برتعش وأنا ماسك الموبايل»
  • عالم أزهري يوضح طريقة تربية الأبناء في ظل انتشار وسائل السوشيال ميديا
  • رمضان 2025: أمل عرفة تلتقي أمل الدباس في يا أنا يا هي
  • احذر من صيام هذه الأيام في شعبان.. ما الحكمة والمأثور عن النبي
  • رمــــال الشَّتات نُصَيْبُ بن رَباح العَبْدُ الحُرّ
  • موعد بداية شهر رمضان 2025.. باقي كام يوم على خير الأيام
  • هل آلاء عبد العزيز مسحورة .. أزهري يكشف الحقيقة بالدليل
  • أزهري: رحلة الإسراء والمعراج حقيقة ثابتة ومن يشكك فيها يخرج عن الملة.. فيديو
  • ما سبب رحلة الإسراء والمعراج وماذا رأى النبي؟ عالم أزهري يوضح