تخطت شظايا الاشتباكات الدائرة بين حزب الله وإسرائيل، المناطق الحدودية، لتصيب بتأثيراتها كل الأراضي والقطاعات الحيوية اللبنانية، خاصة قطاع السياحة الذي تعرّض لضربة في الصميم، لاسيما في ظل التهديدات المتبادلة بين الطرفين بالتصعيد والتلويح بالحرب الشاملة.

ويخشى القيّمون على قطاع السياحة في لبنان أن يحرق طوفان النيران الذي وصل بلدهم، موسم الصيف المقبل، وتداعيات ذلك على العديد من القطاعات الأخرى التي تعتمد بشكل كبير على السياحة، الدعامة الأساسية للاقتصاد اللبناني.

ويترقب المعنيون حركة حجوزات السفر وأعداد الوافدين في الأيام المقبلة، خاصة المغتربين اللبنانيين، الذين اعتادوا زيارة أهلهم في كل موسم وعيد، بغض النظر عن الأوضاع الأمنية.

ورغم التهديدات الأمنية، تشهد حركة مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت هذه الأيام نشاطاً ملحوظاً، حيث بدأ عدد الركاب اليومي إلى لبنان يفوق العشرين ألفاً، من بينهم أكثر من 12 ألف وافد.

ومع ذلك تراجع عدد الوافدين إلى لبنان بنسبة 5,24 بالمئة وسجل 267 ألفاً و480 راكباً خلال شهر مايو الماضي، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، كذلك تراجع عدد ركاب العبور الترانزيت بنسبة 71,64 بالمئة وبلغ 210 ركاب.

أما مجموع الرحلات الجوية لشركات الطيران الوطنية والعربية والأجنبية التي استخدمت المطار خلال شهر مايو الفائت فبلغت 4294 رحلة (بتراجع 5,6 بالمئة عن مايو 2023)، منها 2151 رحلة وصول إلى لبنان (بتراجع 5,45 بالمئة) و2143 رحلة إقلاع من لبنان (بتراجع 5,76 بالمئة).

مخاوف أمنية

دفعت التهديدات الإسرائيلية للبنان بالتصعيد، بعض الراغبين في زيارة هذا البلد إلى تأجيل خططهم، بحسب ما يقوله رئيس اتحاد النقابات السياحية، رئيس نقابة أصحاب الفنادق في لبنان، بيار الأشقر.

وأضاف الأشقر، في حديث لموقع الحرة "طلبت الدول الغربية من رعاياها منذ السابع من أكتوبر، تاريخ بدء الحرب في غزة، عدم القدوم إلى لبنان، وإن قرروا ذلك فعلى مسؤوليتهم. إضافة إلى ذلك، لا تزال الدول الخليجية تمنع رعاياها من السفر إلى لبنان. هذه الأوضاع تؤثر سلباً على السياحة في هذا البلد، حيث تراجعت مقارنة مع العام الماضي الذي شهد نمواً في عدد الأجانب القادمين."

وأشار إلى أن "نسب الحجوزات الفندقية انخفضت بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات الماضية"، ويشرح "على الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة، إلا أنه يمكننا ملاحظة هذا التراجع بوضوحٍ من خلال مقارنة نسب التشغيل في فنادق بيروت خلال فصل الشتاء الماضي، حيث تراوحت بين 5% و20% فقط، بينما كانت تُسجّل في العادة نسباً تتراوح بين 30% و50%".

العنف والإجرام يهزان لبنان.. وظاهرة الأمن الذاتي تتمدد "في لمح البصر، انتُزِعت الحقيبة عن كتف شقيقتي من قبل مجرم يركب دراجة نارية برفقة شخص يقود بسرعة البرق، قبل أن يختفيا بسرعة في الأزقة الضيقة، تاركينا في حالة من الصدمة"... بحسب ما تقوله الصحفية إيمان أبو نكد.

ويكشف رئيس اتحاد النقابات السياحية أن "العديد من الفنادق خارج بيروت أغلقت أبوابها دون إعلان رسمي، بسبب تكاليف إعادة الفتح، كما أن بعض فنادق بيروت أغلقت جزئياً وفتحت الآن من أجل موسم الصيف."

السياح الذين يقصدون لبنان الآن هم بحسب الأشقر "من العراقيين والأردنيين والمصريين، لكن أعداد المصريين تراجعت بشكل ملحوظ بسبب الكابيتال كونترول في بلدهم وعدم تمكّنهم من إخراج المبالغ التي يريدونها."

التوقعات لعام 2024 كانت تشير إلى موسم واعد، وفقاً لما يقوله نائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسيري في لبنان، خالد نزهة، إلا أن "الأوضاع الراهنة والخوف من توسع رقعة الحرب، أديا إلى تحفظ عدد من المغتربين اللبنانيين الذين نعوّل عليهم لموسم سياحي ناجح، عن القدوم إلى لبنان، لاسيما مع عدم وجود مطار بديل لمطار بيروت في حال تم إغلاقه".

ويؤكد نزهة في حديث لموقع "الحرة" أن هذا القطاع شهد نموّاً ملحوظاً في عام 2023 مع افتتاح 300 مطعم جديد، فيما تم افتتاح 50 مطعماً آخر حتى الآن في عام 2024.

ويشير إلى دخول خمس علامات تجارية عالمية جديدة من مطاعم ومقاهي إلى السوق اللبنانية مؤخراً، ما يؤكد أن الثقة الكبيرة بالبلد مستمرة، بالإضافة إلى ازدهار قطاع تصدير العلامات التجارية اللبنانية إلى الدول العربية والعالم،.

ويلفت إلى تميز لبنان في مجال الطعام والخدمات والاستقبال والنظافة والضيافة، كما أن السياحة في هذا البلد تتميز بتنوعها، لكن النهوض بها يتطلب تحقيق الاستقرار على مختلف المستويات الأمنية والنقدية والمالية والاجتماعية".

وقبل أيام أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أن بلاده "جاهزة لشن عملية مكثفة للغاية" على الحدود مع لبنان، من أجل "إعادة الأمن" إلى شمال إسرائيل، مما أجبر عشرات الآلاف من السكان على مغادرة منازلهم جراء قصف حزب الله.

أسباب مخفية

يحذّر الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، من تراجع خطير في قطاع السياحة في لبنان، مشيراً إلى "انخفاض ملحوظ في أعداد القادمين إلى البلاد في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، التي كانت متراجعة بدورها عما كانت عليه قبل الانهيار الاقتصادي عام 2019."

ويوضح أبو شقرا في حديث مع موقع "الحرة" أن هذا التراجع، الذي بلغت نسبته حوالي 6% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، لا يقتصر فقط على انخفاض العدد الإجمالي، بل يشمل أيضاً تغيراً في نوعية السياح.

وفي حين كان لبنان يستقطب في السابق، بحسب أبو شقرا "سياحاً من مختلف أنحاء العالم، باتت الحركة السياحية اليوم مقتصرة بشكل أساسي على المغتربين اللبنانيين، خاصة المقيمين في أفريقيا، بالإضافة إلى الطلاب اللبنانيين العائدين من الخارج لقضاء العطلة، وهؤلاء لا يمكن اعتبارهم سياحاً".

لعنة الجغرافيا تلاحقهم.. مسيحيو شريط لبنان الحدودي يدفعون ثمن تمسكهم بأرضهم منذ عقود، تلاطمت بهم أمواج الحروب، حاصرتهم بلا رحمة، لكنهم، كشجر متجذّر، صمدوا، واجهوا العواصف، وتمسكوا بأرضهم. في صمت عاشوا معاناتهم، كتموا آلامهم، لكن عزيمتهم لم تنكسر، وإرادتهم ظلت عصيّة على الانحناء... إنهم مسيحيو الشريط الحدودي، الذين لطالما فُرِض عليهم دفع ثمن فاتورة حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

ويعزو الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، هذا التراجع إلى عاملين أساسيين، "أولاً المعارك في الجنوب ومخاطر توسعها إلى كل لبنان، وثانياً فقدان لبنان للبنى التحتية اللازمة لضمان تجربة سياحية ممتعة، إذ يعاني من انقطاع متكرر للكهرباء والماء، ونقص في خدمات الأمن، وتردّي حالة الطرق، بالإضافة إلى مشكلات في سلامة الغذاء وتلك كلها تعتبر أسباباً طاردة للسياح، الذين يبحثون عن وجهات سياحية آمنة توفر لهم الخدمات الأساسية".

ويضاف إلى ذلك، بحسب ما يقوله "تكاليف السفر والإقامة في لبنان التي تعتبر مرتفعة للغاية مقارنة بالدول المجاورة، وذلك بسبب احتكار طيران الشرق الأوسط لرحلات الطيران، وارتفاع تكاليف التشغيل في المطاعم والفنادق".

فعلى سبيل المثال، "تضطر الفنادق إلى دفع ما بين 30 إلى 35% من إيراداتها لتأمين الكهرباء والماء، بينما لا يتجاوز هذا المعدل عالمياً 10%.. هذا الارتفاع في التكاليف ينعكس سلباً على أسعار الخدمات السياحية، لذلك لا بد من تخفيض التكاليف الإنتاجية من خلال لامركزية الطاقة واعتماد مصادر الطاقة البديلة".

ويشير إلى تقرير "أرنست أند يونغ" عن أداء الفنادق ذات فئتَي الأربع والخمس نجوم في منطقة الشرق الأوسط، الصادر في يناير الماضي، الذي أشار إلى أن "نسبة إشغال الفنادق في لبنان 20%. وهذه النسبة منخفضة جداً مقارنة بالمعدل الوسطي الذي يجب أن تكون عليه، مما يهدد جزءاً أساسياً من الخدمات السياحية في البلاد."

وأحرز لبنان تقدماً في مؤشر تطوّر السياحة والسفر للعام 2024، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إذ حلّ في المرتبة 79 عالمياً من بين 119 دولة، بينما احتل المرتبة الثامنة بين 12 دولة عربية. ويمثل هذا التصنيف تحسناً ملحوظاً مقارنة بنتائج عام 2021، إذ ارتقى لبنان 7 مراكز على المستوى العالمي ومركزا واحدا على مستوى الدول العربية.

يقيّم مؤشر تطوّر السياحة والسفر العوامل والأنظمة التي تدعم النمو المستدام لقطاع السياحة والسفر. ويتضمن المؤشر 17 ركيزة موزعة على 5 مؤشرات فرعية هي: البيئة الراعية، والإطار التنظيمي، والبنى التحتية والخدمات، وموارد السفر والسياحة، والاستدامة.

وحصل لبنان على نتيجة 3.66 نقطة على المؤشر، مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 2.6% عن نتيجة عام 2021.

وتشير هذه النتائج إلى أن قطاع السياحة والسفر في لبنان يتمتع بمستوى من التطور يفوق بعض الدول مثل الإكوادور وتنزانيا، بينما يتخلف عن دول أخرى مثل سريلانكا وكينيا وأوزبكستان، وعلى صعيد الدول العربية، يتقدم لبنان على المغرب وتونس والكويت والجزائر فقط.

إصرار على النجاح

بغض النظر عن الأوضاع غير المستقرة التي يمر بها لبنان، يشدد نزهة على جاهزية قطاع المطاعم لاستقبال الزوار، مشيراً إلى "تنسيق الجهود بين النقابة وأصحاب هذه المؤسسات في مختلف المناطق لضمان تقديم أفضل الخدمات على مختلف المستويات"، وفيما يتعلق بسلامة الغذاء يعلّق "تولي النقابة اهتماماً كبيراً بها".

وعن الأسعار يوضح "هناك مروحة أسعار تناسب مختلف الميزانيات، كل مطعم يحدد أسعاره الخاصة بناءً على موقعه وما يقدمه، وجميع المؤسسات تلتزم بعرض أسعارها المصدقة من وزارة السياحة على مداخلها".

ويشير إلى أن قطاع المطاعم في لبنان يعاني من أعلى تكاليف تشغيلية في الشرق الأوسط، إذ يضطر مشغلوه إلى تأمين احتياجاته من كهرباء وماء ونقل بشكل مستقل، مما يشكل عبئاً كبيراً عليهم.

ويؤكد نزهة على أن هذا القطاع يشكّل ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني، إذ يتمتّع بقدرة تشغيلية كبيرة وقدرة استهلاكية عالية، ويستهلك كميات كبيرة من المنتجات الغذائية المحلية، بما في ذلك المشروبات الروحية والنبيذ، ويوفّر فرص عمل لعدد كبير من اللبنانيين وتألقه العام الماضي ساهم في عودة 10 آلاف لبناني من أصحاب الاختصاص الذين هاجروا قسراً، كما يساهم في زيادة إيرادات الدولة من خلال الضرائب التي يدفعها.

من جانبه يلقي الأشقر الضوء على غياب الدعم الحكومي لقطاع السياحة، مشيراً إلى أن "الحكومة لا تقدّم أي مساعدة تذكر، بينما تثقل كاهلنا بأعباء هائلة من الضرائب إلى فواتير الكهرباء والمياه من دون أن تؤمن هذه الخدمات، التي نضطر إلى تأمينها عبر مولدات خاصة ذات كلفة الباهظة، وشراء المياه".

وبعد أن كان لبنان بلداً جاذباً للسياح، تحوّل الآن إلى مصدّر لهم، بحسب أبو شقرا، إذ "يغادره شهرياً أكثر من 25 ألف شخص لقضاء عطلاتهم في دول أخرى مثل تركيا ومصر وبالتحديد إلى شرم الشيخ، الأمر الذي يُفقد الاقتصاد اللبناني عائدات سياحية مهمة".

استمرار هذه الأوضاع يهدد بحسب أبو شقرا "مستقبل القطاع السياحي في لبنان، ومكانة هذا البلد الرائد على خريطة السياحة العربية والعالمية".

ورغم كل الضبابية التي تخيّم على الأجواء، يتمسك نزهة بنظرة متفائلة لمستقبل هذا القطاع خلال الفترة المقبلة، إذ يعوّل على عودة المغتربين اللبنانيين بكثافة، مما سينعش كذلك السياحة الداخلية، التي أحيّت العديد من القرى اللبنانية، سواءً على الساحل أو في الجبل.

كما يشدد الأشقر على الاصرار على إنجاح هذا الموسم السياحي: "جميع المؤسسات تقوم بحملات ترويجية، وهناك مطاعم وفنادق جديدة تفتح أبوابها في بيروت، كما تُقام مهرجانات في مختلف المناطق لجذب السيّاح المتواجدين في لبنان. الأمر يتعلق بالإرادة، فنحن لا نستسلم للحروب ولا للخضات الأمنية. وعلى مدى 30 عاماً ونحن نقاوم الظروف التي تعيق السياحة".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: المغتربین اللبنانیین السیاحة والسفر العام الماضی قطاع السیاحة السیاحة فی هذا البلد إلى لبنان من العام أبو شقرا فی لبنان إلى أن

إقرأ أيضاً:

د. كهـلان الخروصـي: هجـر القـرآن لا يقتصـر علـى الإعـراض عـن تلاوتـه بـل يشمـل عـدم التفاعـل مـع معانيـه

الكتاب العزيز شفاء للقلوب وموعظة للناس جميعًا دون تقييد بأحوالهم أو خطاياهم -

بذل الجهد في تعليم القرآن وتوجيه الأبناء نحو تعاليمه من أسمى أنواع البر -

نظم مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم محاضرة دينية لفضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان، بجامع السلطان قابوس بولاية قريات، وذلك في إطار سلسلة «اللطائف القرآنية»، وتطرق الشيخ إلى موضوع بالغ الأهمية بعنوان «مقدمات للتعامل مع القرآن الكريم»، مؤكدًا أن المحاضرة ستكون خفيفة في طرحها، لكنها غنية في معانيها تسهم في التهيئة الإيمانية والمعنوية التي يحتاجها المسلم في تلاوة وفهم القرآن الكريم. وأوضح الشيخ أن هذا الموضوع رغم اختلافه عن محاضرات سابقه في السلسلة، إلا أنه يشكل جزءًا لا يتجزأ منها، وأنه سيركز على ما ينبغي للمسلم أن يهتم به على الصعيد الشخصي لتحقيق استفادة حقيقية من كتاب الله، وبيّن أنه سيتجنب الدخول في الموضوعات العلمية المعقدة، مركّزًا على الأمور الشخصية التي يجب أن يوليها المسلم اهتمامًا حتى يستطيع الاستفادة القصوى من كتاب الله تعالى.

وأوضح الشيخ أن هذا الموضوع ضروري لأن العديد من الناس يتساءلون عن أفضل الكتب لتفسير آيات القرآن بعد سماع محاضرات أو دروس حول تلاوة القرآن أو تفسير معانيه، وأن البعض يشكو من أنهم لا يجدون ضالتهم في القرآن رغم قراءته، وقال: إن الكثير من الناس قد لا ينتبهون إلى المعاني العميقة الموجودة في القرآن، وعندما يتم إيقافهم على بعض هذه المعاني الواضحة، يكتشفون أنها سهلة ويسيرة الفهم، إلا أنهم لا يعرفون كيف وصلوا إليها، وأضاف الشيخ أنه من بين الدواعي لاختيار هذا الموضوع أيضًا هو التواصل مع بعض النساء اللواتي يتابعن شخصيات مؤثرة في الغرب، واللواتي أصبحن يكتشفن معاني عظيمة في القرآن الكريم، وهي معانٍ قد يغفل عنها بعض المسلمين أنفسهم.

التفاعل مع القرآن

استمر الشيخ في محاضرته متحدثًا عن ضرورة التفاعل مع القرآن الكريم، مشيرًا إلى أن القرآن هو لغتنا، ولكن رغم ذلك، لا نرى في كثير من الأحيان المعاني العميقة التي يحتوي عليها هذا الكتاب العظيم، وأوضح أنه سيحاول أن يسلط الضوء على بعض الإجابات المتعلقة بهذه القضية، خاصة في ظل التشكيك الذي يراه حول قدرة المسلمين، الذين نشأوا على القرآن الكريم، في الوصول إلى هذه المعاني.

ثم انتقل للحديث عن آية قرآنية تؤكد ضرورة التفاعل مع القرآن الكريم وفتح القلوب لاستقبال هداياته، مستعرضًا قول الله تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ»، وتساءل الشيخ، هل نرضى أن تقسو قلوبنا بسبب هجر القرآن الكريم، وهل نعرض عن معانيه وهداه بينما نحن محاطون بالفتن، وأكد على أن القرآن ليس مجرد كلام عابر، بل هو هداية ومرشد في زمن تتداخل فيه الحقائق وتتشابك فيه الأمور.

وأبرز الشيخ أن هذا النداء القرآني يوجهه الله لنا كأمة خُصت بهذا الكتاب العظيم، مؤكدًا على أن الدعوة للتفاعل مع القرآن ليست مجرد دعوة عابرة، بل هي دعوة لكل مسلم بأن يظل في صلة مستمرة مع كتاب ربه، حتى يحقق ما أنزل من الحق ويتجنب القسوة التي تصيب القلوب بسبب إعراضها عن التلاوة والتدبر.

ثم ذكر الشيخ حقيقة مهمة، وهي أن القرآن الكريم يتمتع بسلطان وهيبة وجمال لا مثيل له، مما يجعله ذا تأثير عميق على النفس البشرية، وأكد أن القرآن الكريم قادر على تغيير موازين الحياة وتوجيه الأنظار نحو الخير والهدى، وهذا ما أثبته القرآن في جيل الصحابة وفي تاريخ المسلمين، حينما أصبح القرآن هو الحاكم الذي ينظم حياتهم.

تأثير الكتاب العظيم

وأشار إلى أن الأدلة القرآنية على تأثير الكتاب العظيم كثيرة، مستشهدًا بآية كريمة تقول: «لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»، وأوضح أن هذا التأثير على الجبال الصماء يجب أن يدفعنا للتساؤل عن تأثير القرآن في أنفسنا، وهل نشعر بتأثيره على حياتنا اليومية، وتساءل عن مدى تفاعل قلوبنا مع كلمات الله، وهل نشعر بالهيبة والسلطان الذي يوجه حياتنا بشكل صحيح.

وأضاف: هل نحن نتعامل مع القرآن الكريم بالشكل الذي يليق بعظمته، هل نسمح لكلماته أن تغيرنا وتوجهنا؟ مبينا كيفية الارتقاء بأنفسنا لنجعل القرآن الكريم مصدرًا للسلطان والهيمنة على حياتنا، وأوضح أن ذلك يتطلب فهم الأسباب التي تمنع القرآن من أن يكون له التأثير المطلوب في نفوسنا، فقد أشار إلى آية قرآنية تبين عظمة تأثير القرآن، وهي قوله تعالى: «لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»، مستعرضًا سؤاله: ما الذي يمنعنا نحن من أن نكون في مثل هذا الوضع من التأثر بالقرآن الكريم؟

الموانع التي تقف في طريق

ثم تناول الشيخ مسألتين رئيسيتين: الأولى هي الموانع التي تقف في طريق التفاعل الحقيقي مع القرآن، والثانية هي المقدمات التي يجب توافرها من أجل أن يكون للقرآن هذا التأثير الكبير في حياتنا، وأكد أنه إذا تمكنا من التخلص من الموانع، فسنكون قد هيأنا قلوبنا لاستقبال النور والهدى من كتاب الله.

وأشار إلى أنه من بين الموانع التي تحول دون تأثير القرآن في حياتنا هو هجر القرآن، فقد بيّن أن هجر القرآن لا يقتصر على الإعراض عن تلاوته، بل يشمل أيضًا عدم التفاعل مع معانيه وعدم جعل القرآن رفيقًا يوميًا في حياتنا، ولفت إلى أن هذا الهجر يتفاوت بين الناس، حيث يعاني البعض من هذا الهجر رغم أن هناك إقبالًا متزايدًا على القرآن في بعض الأماكن، وخاصة في السلطنة التي تشهد اهتمامًا متناميًا بكتاب الله، إلا أنه أكد أن وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي أصبحت تشغل أوقات الناس بشكل كبير، مما أدى إلى تراجع مكانة القرآن في حياة البعض، وذكر أنه على الرغم من هذا التراجع في الاهتمام، فإننا نعيش في نعمة، إذ توجد فرص كثيرة للاهتمام بالقرآن الكريم، داعيًا إلى ضرورة استثمار هذه الفرص وتوجيه الجهود لتوثيق صلتنا بالقرآن.

كما أشار إلى أن ثاني الموانع التي تعوق استجابة النفوس لسلطان القرآن تتمثل في التصورات والأوهام التي لا أساس لها من الصحة، من أبرز هذه الأوهام هو الاعتقاد بأن القرآن الكريم هو كتاب خاص بأهل العلم والمشايخ فقط، وأن العوام ليس عليهم سوى تلاوته للحصول على الأجر دون فهمه أو تدبره أو تطبيقه، مؤكدا على أن هذا الفهم خاطئ تمامًا، وأن القرآن هو كتاب الله الموجه إلى جميع المسلمين دون استثناء، وأضاف أن القرآن الكريم ليس حكرا على فئة معينة، بل هو كتاب هداية لجميع المؤمنين، وهو الموجه إليهم من الله عز وجل ليأخذوا منه العِبر والهداية ويعملوا به في حياتهم اليومية، وشدد على أن هذا الوهم هو سبب في تقليص اهتمام العديد من المسلمين بكتاب الله، حيث يقتصر البعض على قراءته في رمضان أو في المناسبات، بينما يتجاهلون تدبره والعمل به بشكل مستمر في حياتهم.

قراءات تعرقل فهم القرآن

ثم تطرق إلى نوعين من القراءات التي تعرقل فهم القرآن وتطبيقه بشكل صحيح: الأولى هي «القراءة الحداثية»، التي تدعو إلى نزع القداسة عن القرآن ومحاولة تفسيره بأساليب تاريخية أو تفكيكية، مما يحرف معانيه، الثانية هي «القراءات المبنية على الإسرائيليات»، حيث يستعين البعض بقصص غير صحيحة موجودة في بعض كتب التفسير، وهي لا تمت إلى القرآن الكريم أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم بصلة، هذا النوع من القراءة يسهم في تشويه صورة القرآن في أذهان بعض الأجيال، ويؤدي إلى تبني أفكار مغلوطة عن كتاب الله.

وأشار الشيخ إلى أن القرآن الكريم هو رسالة خالدة، أنزلها الله تعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كتاب هداية للإنسانية جمعاء، لا يقتصر فهمه على فئة معينة، وأكد أن القرآن يجب أن يقرأ كما هو، بقداسته التي لا يمكن نزعها، وأنه لا يقتصر على التفسير التاريخي أو الفلسفي، بل هو رسالة من الله تهدف إلى الهداية والرشاد لكل البشر، محذرا من هذه الأوهام والقراءات المشوهة، ودعا إلى العودة إلى القرآن الكريم بصدق وإخلاص، وتدبره كما أنزل، ليكون له تأثيره العظيم في حياتنا وتوجيهنا نحو الصلاح والهداية.

وبين أن المانع الثالث الذي يحول بين المسلم واهتدائه بكتاب الله، هو توهم أن اعترافنا بنور القرآن الكريم واستفادتنا منه لا يكون إلا بعد تطهرنا من المعاصي والذنوب، والتوبة والرجوع إلى الله، يظن البعض أن عليهم أن يكونوا في أتم صلاح واستقامة قبل أن يفتحوا القرآن الكريم أو يقتربوا منه، ويعتقدون أن القرآن لا يستحق أن يُقرأ أو يُتدبر إلا من قبل الأشخاص الذين هم في حالة طهارة تامة، هذه الفكرة خاطئة، حيث بيّن الشيخ أن القرآن هو شفاء للقلوب وموعظة للناس جميعًا، دون تقييد بأحوالهم أو خطاياهم، موضحا أنه المصدر الذي سيعيننا على تصحيح أحوالنا مع الله ومع الناس، كلما اقتربنا من القرآن، كلما تم تصحيح أوضاعنا وأحوالنا في الحياة، وأصبح القرآن مصدر الهداية والراحة، يشرح الصدور ويبين الحق من الباطل، فالقرآن، حسب قول الله تعالى، هو الكتاب الذي ينزل بالحق ويقذف به على الباطل فيدمغه، فإقبالنا عليه يجعلنا نرى الحياة بوضوح ونتجاوز أي ظلم أو إثم قد نعيشه.

التأمل في نعمة الله

ثم انتقل إلى الحديث عن كيفية بناء علاقة قوية مع القرآن الكريم، وقال: إن أول خطوة هي إدراك فضل الله ورحمته التي يحيطنا بها، فدون هذا الإدراك لن نتمكن من بناء علاقة صحيحة مع كتاب الله، يجب أن نفهم أن القرآن خير مما يجمعه الناس من مال أو جاه، وأن ما يجمعه الناس من أشياء مادية لا يعادل القيمة الروحية والهدى الذي نحصل عليه من القرآن، مؤكدا على أن أول ما يجب أن نفعله لتصحيح صلتنا بالقرآن هو أن نبدأ بالتأمل في نعمة الله علينا وفضله، ونشعر بقيمة هذا الكتاب الكريم الذي أكرمنا الله به، لنبني بذلك بداية صحيحة لاستفادة أعمق من القرآن في حياتنا.

واستمر فضيلته في توجيه التأملات التي تسهم في بناء علاقة قوية ومستمرة مع القرآن الكريم، في هذه الأجزاء، شدد على أن من أعظم نعم الله على الإنسان أن جعله من أمة القرآن، أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الفضل العظيم يجعل المسلم في مكانة خاصة أمام الله عز وجل، وتلك نعمة لا تقدر بثمن، لذا، عندما يتوجه المسلم إلى القرآن، فإنما هو يطلب الهداية ويشكر الله على هذه النعمة التي تميز بها عن غيره من الأمم، موضحا أن تخصيص وقت لقراءة القرآن ليس منّة من المسلم على الآخرين، بل هو نعمة من الله، يجب أن يشعر بها المسلم ويشكر الله عليها، ما دام المسلم يخصص وقتًا للقرآن، فإنه لا يجب أن يتفاخر بذلك بل يكون دائمًا في حالة شكر واعتراف بفضل الله عز وجل، كما أن التفكر في فضل الله ورحمته وتقديره لهذه النعمة هو ما يجب أن يستشعره المسلم في قلبه ليتجدد العهد مع القرآن.

وأشار أيضًا إلى ضرورة تجديد العهد مع القرآن، والتمسك به بغض النظر عن العوائق كالفقر أو السن أو المرض، بل يجب على المسلم أن يسعى جاهدًا لتقوية صلته بالقرآن، وأن يظل مستشعرًا للنعمة التي منحها الله له، وتابع موضحًا أن هذه العلاقة بالقرآن لا تحتاج إلى طقوس أو شعائر معقدة كما يعتقد البعض، بل هي مجرد رجوع إلى كتاب الله وتدبره، مؤكدا على أن القرآن هو الملاذ الوحيد في وقت الفتن، وعندما يشعر المسلم بضيق أو شدة، فإن القرآن هو الذي سيرشد قلبه ويعطيه السكينة، لذلك، يجب أن يكون المسلم دائمًا في حالة استعداد لقبول هداية القرآن، وأن يطلب من الله فهمه والعمل به.

نية الخير في قلبه

وأضاف أن المسلم يجب أن يتحلى بنية الخير في قلبه، حيث قال: «اجعل قلبك قلب خير»، إذ إن الله سبحانه وتعالى إذا علم من العبد خيرًا في قلبه، فإن القرآن يفتح له ويجد فيه الهداية والأنوار، وهذه هي الرسالة الجوهرية التي يتعين على المسلم أن يتحلى بها عندما يفتح القرآن الكريم، داعيا إلى ضرورة إشراك الأجيال القادمة في هذه النعمة، فبذل الجهد في تعليم القرآن وتوجيه الأبناء نحو تعاليمه هو من أسمى أنواع البر.

كما تناول ضرورة الاقتراب من القرآن الكريم بتجرد كامل، بعيدًا عن التأثر بالأفكار أو الفلسفات الأرضية والتعقيدات التي قد تفرضها ثقافات أخرى، هذا التجرد يعني أن يتعامل المسلم مع القرآن دون أن يحمل عليه أفكارًا مسبقة أو تفسيرات متأثرة بالمفاهيم البشرية التي قد تشوه المعاني، موضحا أن هذا التجرد هو أحد الأسباب التي جعلت بعض غير المسلمين يكتشفون في القرآن الكريم معاني عظيمة، مثل الرحمة والعطف، عندما قرأوه بترجمة مباشرة دون التأثر بالثقافات الأخرى، لذلك، يجب على المسلم أن يتجرد من أي تأثير خارجي عند قراءته للقرآن ويقبل عليه بنية الاستفادة والإيمان.

ثم يلفت الشيخ إلى أهمية تحديد ما يريده المسلم من القرآن، من خلال تحديد الأسئلة أو المشكلات التي تشغل باله، يمكنه أن يجد الإجابات التي يبحث عنها في القرآن الكريم، وأكد على أن القرآن ليس مجرد كتاب تقرأه مرّة واحدة أو لبضعة أيام، بل هو مصدر دائم للبحث والتوجيه في مختلف شؤون الحياة، مشجعا على استمرار البحث في القرآن، وأن تكون العلاقة معه مستمرة ومتجددة، من خلال هذه المعايشة المستمرة، سيشعر المسلم دومًا بالاحتياج إليه، وسيكتشف جمال معانيه في كل مرة يقرأه فيها، القرآن يصبح حينها مصدرًا دائمًا للإجابة على الأسئلة والمشاكل اليومية التي يواجهها المسلم.

بالإضافة إلى ضرورة الاستعانة بأهل العلم وكتب التفسير لفهم أعمق للقرآن، خاصةً عندما يتعلق الأمر بمسائل معقدة أو متشابهة، هذه العلاقة مع القرآن لا تقتصر على القراءة فقط، بل تشمل أيضًا الفهم والتدبر المستمر، وفي النهاية، حث الشيخ الحضور على تحديد ما يودون الحصول عليه من القرآن، سواء كان علاجًا لمشاكل نفسية أو اجتماعية أو إيمانية، وفتح القرآن بشكل متجدد لتحقيق هذا الهدف.

مقالات مشابهة

  • د. كهـلان الخروصـي: هجـر القـرآن لا يقتصـر علـى الإعـراض عـن تلاوتـه بـل يشمـل عـدم التفاعـل مـع معانيـه
  • ماغرو زار المجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان: من دون الأبحاث يستحيل أن نتوقع التطورات التي تحصل في العالم
  • ماهي الدلالات السياسية التي تحملها زيارة وزير الخارجية السعودي إلى لبنان؟
  • ميقاتي: الحكومة الحالية استطاعت ان تتخطى كل الصعوبات التي واجهها لبنان
  • وجهة البحر الأحمر ضمن وجهات برنامج شتاء السعودية 2024
  • متى يبدأ رمضان ومتى ينتهي 2025؟.. شهر يقتصر على العطلات الأسبوعية فقط
  • الضمان الصحي: إلزام جميع الوافدين والمقيمين الأجانب بالحصول على وثيقة التأمين
  • وزير الخارجية يستقبل وزير الخارجية وشؤون المغتربين بالجمهورية اليمنية
  • دعوة من الكتائب للرئيس المُكلف والعماد عون: لعدم الرضوخ للابتزاز المتمادي الذي يمارسه الثنائي
  • الكتائب: لحكومة لا تتخطى القواعد التي أرساها خطاب القسم