هل فضضنا أختام التاريخ، وتصالحنا معه؟ هل أوْجدنا مرايا تُعبّر عن صُورِنا الحقّ التي نُحبّها والتي لا تروق لنا ولا نستلطفها؟ هل يقبل الأب نقد ابنه له، هل نُحسنُ الإنصات إلى الآخر؟ لا يُمكن لشعوب أن تنهض ولا لأفراد أن يتقدّموا وهم لم يتصالحوا مع ذواتهم ومع ماضيهم، شقٌّ مهمّ من عُقَدنا ناتج عن هيمنة الكبير وسطوته، وهي صورة شافّة عن هيمنة صُورة للتاريخ العربي نقيّة هنيّة.
المُصالحة مع التاريخ بابٌ واجبٌ على الفكر العربيّ أن يُفتِّحه على مصراعيه وأن يقف مُراجعا لثوابت انغرست في الذهنيّة العالمة والعالمة، والأهمّ أنّنا نغرسها في الذهن المتعلّم المتلقّي، فنُظهر له صُورا من تاريخ مُحرّفٍ سرعان ما تتهاوى أمام أبْسط نازلة يُواجهها طالب المعرفة، ومن أهمّ هذه الصُور أنّ العربيّ يحنّ إلى الماضي، ويروم استرجاعه، فأيّ ماضٍ هذا الذي يخلو من النقد والمراجعة وتعليم الطلبة أنّ السابقين لم يكونوا ملائكة وأنّ اللاّحقين ليسوا شياطين؟ بعض الدول العربيّة في تاريخها الحديث أخطأت في الإيمان ببريطانيا العُظمى قوّة منقِذةً من براثن الاستعمار العُثماني، ذلك أنّ بريطانيا لم تتوجّه إلى الدول العربيّة لسواد عيونها ولا رغبة في عتْقِها من تدمير العثمانيين وسطوتهم دون مقابل، وإنّما أرادت أن تستبدل مستعْمِرا بمُسْتعْمِر، وكذا الدول الكُبرى، تفعل في الشعوب خسيس الفعال. لقد غرست بريطانيا في خاصرة الدول العربيّة الكيان الإسرائيلي بمباركةٍ من قُوى عربيّة تُدرَّس اليوم على أنّها قُوى وطنيّة! يحتاج تاريخنا القديم والحديث إلى عقلٍ مُدبّر حتّى نبسّطه لأبنائنا ونُعطيهم الصورة المُشرقة التي نُريد دون أن تستبله عقولهم ولا ذائقتهم الناقدة، أن نفتح مجالا لإمكان النقد والتساؤل، فلا قداسة في التاريخ ولا قداسة في أشخاصه الذين هم أناس يخطئون ويُصيبون. كنت منذ قديم الزمن أبحث في «أيّام العرب في الجاهليّة» وهي حروبهم التي خاضوها على واجهتين، واجهة النزاع الذاتي بين العرب والعرب، وواجهة النزاع الخارجي بين العرب والفُرس، وهي صُوَرٌ من التاريخ مُستعادة بأشكال مختلفة، هذه الأيّام أو هذه الحروب استُعْملت لإثبات الفوضى التي كانت العرب تعيشها قبل الرسالة المُحمديّة، وما ساد الجزيرة العربيّة من إسالة دماء وتقتيل بسبب من غياب الوازع الديني، وهو كلامٌ خارجٌ عن الحقيقة، فالعربُ كانوا يحملون قيما أخلاقيّة منذ الجاهليّة تميّزهم عن بقيّة الأمم، وقد أثنى رسولنا الكريم على هذه القيم السائدة في الجاهليّة في أحاديث متعدّدة لعلّ أهمّها «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»، إضافة إلى إشادة الرسول عليه الصلاة والسلام بأخلاق العرب في الجاهليّة وبأحلافهم مثل حلف الفضول وبقيمهم. فالأيام هي حروب وقعت في جزيرة العرب كما وقعت في غيرها من الأمم، وكما وقعت أيضا «أيّام العرب» في الإسلام نزاعا قبليّا على السلطة. فتاريخ الأمم لا يُمكن أن يكون صفاءً وطُهريّة، وإنّما الغالب عليه دوما هو الصراع والنزاع، والعرب وكذا المسلمون أمّة من أمم خلق اللّه فعلت في التاريخ وانفعلت به. فالطهريّة التي نُدرسّها لأبنائنا سرعان ما تتهاوى وتتحوّل إلى الضدّ عندما يكبر الأطفال ويُدركون حقائق الأمور، وقد ينقلب الأمر كُرها للتاريخ وعدم تصديق مطلق له، الطهريّة التاريخيّة لا تُنتج فكرا ناقدا ثاقبا، وإنّما تُكسِّل طاقة النظر والتدبّر وتُعطّلها، تمنع الفكر الناقد من إدراك المنطق الذي يُمكن أن يؤدّي إلى الحق. وها نحن نرى «شعب اللّه المختار» الذي نزّه تاريخه ماذا يفعلُ وماذا يُجوّز لنفسه أن يفعل! الصفاء والنقاء مفهومان ملائكيّان، أمّا عالم الشهادة، عالم البشر، فهو عالم الدّنى والأفعال التي شقٌّ منها صالح وشقوقٌ منها مدمّرة للذات وللبشر. فكرة تقديس التاريخ والحنين إلى الماضي هي فكرة رجعيّة، فالتاريخ لم يكن يوما صفاءً مُطلقا، ولم يهنأ البشر بحياةٍ جَنِيَّة أبدا، مذ خدع الشيطان آدم، ومذ تقاتل قابيل وهابيل، كُتِب على الإنسان القتال، والنزوع إلى الحرب أكثر من نزوعه إلى السلم، ويبدو أنّ الوسْم الهوبزي للإنسان على أنّه مجبول على الشرّ هو الأسلم. فكرة تقديس التاريخ موصولة بفكرة الأبويّة المهيمنة، حيث يُمنع نقد «الكبير»، أو الاستماع للأقلّ سنّا أو «الأنقص عقلا»، عملا بمقولة «شاورهنّ لمخالفتهنّ»، هل نسمع الصغار والنساء؟ هل تخلّصنا من عُقدنا السلطويّة وأقمنا حوارا منه يُمكن أن نرى ذواتنا في مرايا عدد، أن نرى صورتنا عند الطفل، أن نعرف صورتنا عند المرأة (باعتباري أكتب من داخل الفكر الذكوري)، هل سألنا يوما أنفسنا، هل كُنّا عبر مراحل التاريخ قتلى أو سفّاحين، ضحايا أو أصحاب بطش، هل تاريخنا الناصع الذي يُخدَشُ شرفه برواية تُكتَب كان ناصعا فعلا مثل خرقة بيضاء؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجاهلی ة العربی ة
إقرأ أيضاً:
بدء العمل بالتوقيت الصيفي.. مذكرة تحدد التاريخ
ذكرت الامانة العامة لمجلس الوزراء في مذكرة بموجب تقديم الساعة ساعة واحدة اعتباراً من منتصف 29-30 آذار 2025 تاريخ بدء العمل بالتوقيت الصيفي. لقراءة المذكرة اضغط هنا مواضيع ذات صلة وزير العمل يُصدر مذكرة لتبسيط إجراءات تسجيل العمال الأجانب Lebanon 24 وزير العمل يُصدر مذكرة لتبسيط إجراءات تسجيل العمال الأجانب 19/03/2025 11:18:25 19/03/2025 11:18:25 Lebanon 24 Lebanon 24 بلدان عربية تحدد بداية رمضان في تواريخ مختلفة Lebanon 24 بلدان عربية تحدد بداية رمضان في تواريخ مختلفة 19/03/2025 11:18:25 19/03/2025 11:18:25 Lebanon 24 Lebanon 24 قاسم: سنمارس العمل المقاوم بالأساليب والطرق والتوقيت انسجاماً مع المرحلة وقرار القيادة Lebanon 24 قاسم: سنمارس العمل المقاوم بالأساليب والطرق والتوقيت انسجاماً مع المرحلة وقرار القيادة 19/03/2025 11:18:25 19/03/2025 11:18:25 Lebanon 24 Lebanon 24 مذكرة من الأسمر بإسم الإتحاد العمالي إلى وزير العمل عن حقوق العاملين في القطاعين العام والخاص والعسكريين Lebanon 24 مذكرة من الأسمر بإسم الإتحاد العمالي إلى وزير العمل عن حقوق العاملين في القطاعين العام والخاص والعسكريين 19/03/2025 11:18:25 19/03/2025 11:18:25 Lebanon 24 Lebanon 24 قد يعجبك أيضاً هل تتوسع الحرب لتطال لبنان؟ Lebanon 24 هل تتوسع الحرب لتطال لبنان؟ 05:00 | 2025-03-19 19/03/2025 05:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 بعد خروج الجيش السوري.. الجيش يدخل بلدة حوش السيد علي (فيديو) Lebanon 24 بعد خروج الجيش السوري.. الجيش يدخل بلدة حوش السيد علي (فيديو) 04:46 | 2025-03-19 19/03/2025 04:46:34 Lebanon 24 Lebanon 24 شحادة زار "تجمّع رجال وسيدات الأعمال": التحوّل الرقمي أداة لتنمية الاقتصاد Lebanon 24 شحادة زار "تجمّع رجال وسيدات الأعمال": التحوّل الرقمي أداة لتنمية الاقتصاد 04:44 | 2025-03-19 19/03/2025 04:44:04 Lebanon 24 Lebanon 24 ميشال متى بحث مع رئيس الجامعة اللبنانية الثقافية أوضاع الاغتراب اللبناني Lebanon 24 ميشال متى بحث مع رئيس الجامعة اللبنانية الثقافية أوضاع الاغتراب اللبناني 04:38 | 2025-03-19 19/03/2025 04:38:40 Lebanon 24 Lebanon 24 الراعي يلتقي الخازن Lebanon 24 الراعي يلتقي الخازن 04:34 | 2025-03-19 19/03/2025 04:34:39 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة للبنانيين.. احذروا شراء الذهب Lebanon 24 للبنانيين.. احذروا شراء الذهب 14:20 | 2025-03-18 18/03/2025 02:20:00 Lebanon 24 Lebanon 24 دانييلا رحمة ستُصبح أماً.. قريبا! Lebanon 24 دانييلا رحمة ستُصبح أماً.. قريبا! 05:46 | 2025-03-18 18/03/2025 05:46:10 Lebanon 24 Lebanon 24 في منزله... وفاة أحد أبرز الفنانين (صورة) Lebanon 24 في منزله... وفاة أحد أبرز الفنانين (صورة) 11:03 | 2025-03-18 18/03/2025 11:03:21 Lebanon 24 Lebanon 24 مذكرة بإقفال كلّ الادارات العامة بمناسبة عيد البشارة Lebanon 24 مذكرة بإقفال كلّ الادارات العامة بمناسبة عيد البشارة 10:41 | 2025-03-18 18/03/2025 10:41:23 Lebanon 24 Lebanon 24 بالصور... مُذيعة الـ"ال بي سي" السابقة تُغادر لبنان: إلى اللقاء القريب Lebanon 24 بالصور... مُذيعة الـ"ال بي سي" السابقة تُغادر لبنان: إلى اللقاء القريب 07:18 | 2025-03-18 18/03/2025 07:18:32 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان 05:00 | 2025-03-19 هل تتوسع الحرب لتطال لبنان؟ 04:46 | 2025-03-19 بعد خروج الجيش السوري.. الجيش يدخل بلدة حوش السيد علي (فيديو) 04:44 | 2025-03-19 شحادة زار "تجمّع رجال وسيدات الأعمال": التحوّل الرقمي أداة لتنمية الاقتصاد 04:38 | 2025-03-19 ميشال متى بحث مع رئيس الجامعة اللبنانية الثقافية أوضاع الاغتراب اللبناني 04:34 | 2025-03-19 الراعي يلتقي الخازن 04:32 | 2025-03-19 تمام سلام بحث مع الحجار التطورات فيديو "انت مريض نفسي ".. ممثلة لبنانية شهيرة تشتم وتنفعل بشكل هستيري على رامز جلال (فيديو) Lebanon 24 "انت مريض نفسي ".. ممثلة لبنانية شهيرة تشتم وتنفعل بشكل هستيري على رامز جلال (فيديو) 00:53 | 2025-03-19 19/03/2025 11:18:25 Lebanon 24 Lebanon 24 فنّانة تتكلم عن تعرضها للتنمر (فيديو) Lebanon 24 فنّانة تتكلم عن تعرضها للتنمر (فيديو) 04:42 | 2025-03-16 19/03/2025 11:18:25 Lebanon 24 Lebanon 24 بالفيديو.. تشوّه بسبب "ستاربكس" فحصل على هذا التعويض الكبير Lebanon 24 بالفيديو.. تشوّه بسبب "ستاربكس" فحصل على هذا التعويض الكبير 02:31 | 2025-03-16 19/03/2025 11:18:25 Lebanon 24 Lebanon 24 Download our application مباشر الأبرز لبنان خاص إقتصاد رمضانيات عربي-دولي فنون ومشاهير متفرقات Download our application Follow Us Download our application بريد إلكتروني غير صالح Softimpact Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24