هو السؤال الأبدي الذي يطرحه كلّ المهتمين بالأدب، والذي لا يتوقفون عن استعادته في كلّ فترة: هل علينا أن ننشر، بعد رحيل كاتب ما، ما لم ينشره في حياته؟ بمعنى آخر، هل علينا أن نصدر تلك المخطوطات التي تكون غارقة في عتمة الأدراج والأرشيفات، تلك المخطوطات التي لم يعمد، هو نفسه، إلى إخراجها للنور حين كان لا يزال بعد على قيد الحياة؟
تساؤل، لم يجد لغاية اليوم، أي جواب، أو لنقل أي «حلّ» متفق عليه.
وثمة من يضيف، من غير الضروري أن تكون كلّ المخطوطات التي لم تُنشر هي مخطوطات عادية، غير صالحة للنشر، إذ قد تحوي على روائع لم ينتبه لها الكاتب نفسه. لنأخذ مثال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، الذي لم ينشر في حياته سوى عدة قصائد، وبعد موته بسنوات، تم اكتشاف «تلك الحقيبة» التي كانت تحوي آلاف الأوراق، ليخرج منها أدب عظيم، لا يزال يؤرق كثيرين لغاية اليوم، أو حتى مثال كافكا الذي طلب من ماكس برود إحراق كل ما كتبه، لكن صديقه رفض ذلك، لنكتشف هذه القامة العظيمة في الأدب المعاصر (وإن كان ذلك غير صحيح أي لم يطلب منه إحراق أي شيء، وفق ما نقرأ في «رسائل إلى ماكس برود 1904 ـــ 1924»، منشورات «ريفاج»، 2008).
في أي حال، من الأشياء الجميلة التي تعيدنا إلى هذا السؤال، العثور على قصة (نوفيلا، في 47 صفحة) في الأرشيف الشخصي للشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث (صدرت ترجمتها إلى الفرنسية مؤخرا عن منشورات «لا تابل روند») بعنوان «ماري فنتورا والمملكة التاسعة». كانت بلاث، كتبت هذه القصة وهي في العشرين من عمرها، في العام 1952 (أي قبل أشهر قليلة من محاولة انتحارها الأولى)، وقد رفضت يومها مجلة «مادموازيل» نشرها (على الرغم من أن الشاعرة قد فازت بمسابقة هذه المجلة في العام السابق). إزاء هذا الرفض، شعرت الكاتبة بخيبة أمل كبيرة، وقد سعت لاحقا إلى إعادة كتابتها وتشكيلها، بل وحتى تقليصها إلى النصف، لكن من دون جدوى.
في أي حال، هل كان الموضوع الذي تناولته بلاث، بلهجتها الخاصة، قد أخاف لجنة القراءة، ولذلك لم تُنشر هذه القصة؟
كانت بلاث قد وصفت قصتها هذه بأنها «حكاية رمزية غامضة»، تستعير مناخها من موضوعات الكتاب المقدس والميتافيزيقية والخيالية. كذلك تستحضر فيها قصة قصيرة للكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي مليئة بالكرب. إنها عن قطار يقود ركابه إلى كارثة حتمية، مع عدم وجود إمكانية للعودة. فــ «المملكة التاسعة» هي مملكة الإرادة المتحجرة، مملكة «الأعصاب المشلولة» من التقاعس عن العمل، أو مملكة الرعب العنيد الباهت المرعب للوجود الراكد، حيث تتفكك قوى الرغبة، المشغولة بالدوران «من دون كلل» نحو «الدكتاتورية الشمولية»، مثل التوجيهات الأبوية الحازمة والحاسمة التي يجب علينا دائمًا أن نضحي بأنفسنا من أجلها. لذا كانت ماري فينتورا، الفتاة المسكينة، تميل إلى طاعة والديها، على الرغم من مخاوفها، وتسعى جاهدة للتكيف مع مطالبهما دون تخمين غرضهما.
ما من أحد كان يعرف مقدمًا إلى أين تقود المملكة التاسعة! لقد دفعها والداها إلى القطار برغم أنها لا تريد مغادرة المنزل. وحين صعدت على المتن بدأ قلقها يخف حين شعرت بالراحة في العربة والمتعة حين بدأت تحتسي «شراب الزنجبيل». ومع ذلك، كان الجو العام مليئا بــ «سلبية قاتلة»، كأنه «عصر جليدي يشارك فيه ركاب القطار الآخرون»، غير المبالين والمنهكين، لغاية أن ظهرت أمام فنتورا سيدة عجوز صارمة وخيّرة، لتحيك بسلام وعي هذه الفتاة الصغيرة. هذا الوعي الذي كان يختمر بالثورة، بصمت. لقد وجدت في كلامها ما يغذي ثورتها وحتى رغبتها الشرسة بالحرية، إذ لم تعد هذه الفتاة ترغب في التعامل مع «الخطأ» الأصلي، ولا الشعور بالذنب، ولا كل هذه الطبقات المتراكمة فوق الأنا التي تصم العصاب، أي صعوبة الوجود ببساطة.
من المؤكد أن البشر يحتاجون إلى العمل وليس الهدوء، كما أشارت فيرجينيا وولف في كتابها «غرفة خاصة بالمرء». لكن بالنسبة لبلاث، كان هذا الاحتمال الواعد يعني «تدريب المرء على إغراءات الكتابة الثرثارة: استيعاب النثر الهادف»، من أجل الحصول على حياة رائعة وحرة، كما قالت. لذا كانت ترى أنه يجب علينا، ومهما كان الثمن، أن نخرج من المحنة، من «القفص الزجاجي»: وهذا يعني، (كما كتبت في مذكراتها)، أن نعقد العزم على خلق: «الفرار إلى الأمواج، والوسواس، والتصوف، في أي مكان»، كي تتحرر من «العبء المرعب، والشنيع، ومن المسؤولية الذاتية، ومن الحكم الذاتي النهائي».
إذا كان «العالم صفحة فارغة»، كما كتبت في يومياتها (الترجمة العربية عن منشورات المدى)، فإن الحاجة الملحة هي فهم الواقع على حقيقته، في مساميته الحساسة، وخصوصيته، وانتشاره، فكيف يمكننا حل السؤال المرتبط بالزمن؟ بتجربة هذا البُعد الشخصي، الذاتي تمامًا، الذي يحدد «وجهة نظر الشخص التي يجب أن يقولها، وأن يبدأ من نفسه وينفتح على الخارج: هكذا ستكون حياتي رائعة وستتوقف عن أن تكون قفصًا زجاجيًا. لو كان بإمكاني فقط أن أتمكن من جعل هذا العبور قصة قصيرة».
كيف لا يمكننا أن نبقى صامتين، غير متأثرين، جالسين فقط، مطيعين، خلف الزجاج؟ من خلال الانطلاق في الخيال، يمكننا الرد بسذاجة. من خلال السعي إلى إعادة الاتصال مع ديمومة الأمن الداخلي، حتى لو كان مؤقتًا، ما يسمح لنا بمعارضة القوانين واللوائح التي يفرضها الآخرون.
هذا ما حققته ماري فنتورا، حين هربت من القطار لتواجه بشجاعة المصير الذي كان ينتظرها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
رئيس الشاباك لنتنياهو: إسرائيل لم تهزم حماس..وإقالتي كانت تجب أن تبنى على ادعاءات واضحة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال رئيس جهاز الشاباك رونين بار، اليوم الخميس، إنإسرائيل لم تهزم حركة حماس بعد، وتخوض حربًا متعددة الساحات، وفق نبأ عاجل أفادت به قناة «القاهرة الإخبارية».
وأكد رئيس الشاباك في رسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل تمر بفترة صعبة ومعقدة، و59 محتجزًا لا يزالون في قلب قطاع غزة.
وأشار «بار»، للوزارء الإسرائيليين، إلى أنه قاد بشكل شخصي صفقة التبادل بموافقة من «نتنياهو»، موضحًا أن الادعاءات ضده لا أساس لها من الصحة على الإطلاق، وليست سوى غطاء لدوافع أخرى غريبة ومرفوضة.
وتابع رئيس الشاباك في حديثه مع الوزراء، أن «نتنياهو» كان يمنعه من اللقاء بهم خلال السنة الماضية، وأنهم غير مطلعين على معظم التفاصيل، بسبب توجيهات رئيس الحكومة.
وأكمل: «قرار استبعادي من فريق التفاوض، كان يهدف إلى إجراء مفاوضات دون التوصل إلى صفقة، خلافًا للادعاءات هناك تعاون بين الجهاز الذي أديره ورئيس الحكومة منذ بدء الحرب».
ونوه «بار»، إلى أن قرار إقالته كان يجب أن يبنى على ادعاءات واضحة، يستطيع الرد عليها، وأن «الشاباك» ينفذ السياسة التي يضعها المستوى السياسي، وسيستمر في ذلك.