القاعدة اللوجيستية في البحر الأحمر: أبعاد التعاون بين روسيا والسودان
تاريخ النشر: 11th, June 2024 GMT
عواملُ عديدة تقف وراء رغبة موسكو في إنشاء مركز للدعم اللوجيستي للبحرية الروسية في ولاية البحر الأحمر بالسودان، ومبررات واضحة تدفع السودان للقبول بتلك الخطوة وفي هذا التوقيت بالذات.
فروسيا من جانبها تسعى لترسيخ وجودها على سواحل البحر الأحمر والبحث عن موطئ قدم في القرن الأفريقي وسط مشهد مليء بالتحولات السياسية، وبالتنافس بين القوى الإقليمية والدولية حول البحر الأحمر، وهو أمر مهمّ لحماية أمنها ومصالحها البحرية.
أما الحكومة السودانية فترى في الموافقة على إقامة هذا المركز تحقيقًا لأهدافها الإستراتيجية ومصالحها القومية، كما يمثل ترسيخًا للعلاقة مع موسكو التي تدعم السودان في المحافل الإقليمية، وتواصل الدعم العسكري واللوجيستي لجيشها الذي يخوض حربًا طاحنة ضد "قوات الدعم السريع".
ترى الحكومة السودانية في روسيا دولة صديقة، لها تاريخ قديم في تأهيل وتدريب الجيش السوداني، وهي تطمح لامتداد التعاون معها إلى مصفوفة اقتصادية متكاملة ذات بعد تنموي، ليشمل مجالات الطاقة والغاز والتعدين والزراعة وتطوير السكك الحديد والسلع الإستراتيجية كالقمح والنفط، فضلًا بالطبع عن تعزيز القدرات العسكرية والدفاعية.
لكنها تحاول في الوقت نفسه تأكيدَ أن هذا الاتفاق قائمٌ كما هو شأن العلاقات الدولية على المصالح لا العواطف، وأن التفاهمات والزيارات المتبادلة مع موسكو، لا تستهدف الإضرار بمصالح الدول الأخرى، ولا سيما المشاطئة للبحر الأحمر، فقد صرح السفير السوداني في موسكو محمد الغزالي سراج لوكالة "سبوتنيك" الروسية بأنّ: " القاعدة تمثّل نقطة دعم لوجيستي في البحر الأحمر"، وهي محاولة لطمأنة دول المنطقة والعالم أن تلك القاعدة الروسية لن تتعدّى كونها مركزًا لوجيسيتًا. وأنها لا تضر بالاتفاقية الأمنية الموقعة عام 2018م مع المملكة العربية السعودية، والدول المطلة على البحر الأحمر.
والظاهر أن الدولتين حسمتا أمرهما وأعادتا لواجهة الأحداث الاتفاق الذي ظلّ مجمدًا منذ العام 2019م، وينصّ على التعاون والتنسيق بينهما في استشراف التهديدات والقدرة على مواجهة التحديات، وتحسين الأمن السيبراني.
البحر الأحمر بأهميته الجيوسياسية، ظل دائمًا مسرحًا للتنافس. الدول المطلة عليه تسعى لحماية أمنها الوطني، والقوى الإقليمية الطامحة إلى قيادة المنطقة تسعى لفرض نفوذها فيه، والقوى العالمية الكبرى تسعى لحماية مصالحها الممتدة وراء البحار، ويمثل هذا البحر معبرًا رئيسيًا إليها.
على مدى العقود الماضية، شهدنا تزاحمًا إقليميًا ودوليًا على إقامة قواعد عسكرية في ساحل البحر الأحمر. دولة جيبوتي بموقعها المهم هي أبرز الدول التي شهدت هذا التزاحم، وهي تستضيف في أراضيها قواعد عسكرية فرنسية وأميركية وصينية وإيطالية. فلديها قاعدة "ليمونية" الأميركية التي أنشئت عام 2003م وهي تابعة لقوات "أفريكوم"، وبها 4000 جندي، وقاعدة "إيرون" الفرنسية بها 1700 عنصر، وتضم قوات فرنسية وألمانية وإسبانية تقوم بالمهام الاستطلاعية. والقاعدة الإيطالية تضم 300 عنصر وطائرات بدون طيار. أما الصين فأنشأت أول قاعدة عسكرية لها في العالم على أرض جيبوتي عام 2017م، وهي تضم 10 آلاف عنصر.
بالنسبة لدول القرن الأفريقي الساحلية، فتأجير الأرض لإنشاء قواعد عسكرية أجنبية، هو وسيلة للتعامل مع الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تعيشها والعقوبات الدولية المفروضة على بعضها. بعضها أيضًا يسعى عبر استضافة قاعدة عسكرية إلى تأمين دعم خارجي قوي لمواجهة أزمات داخلية أو تهديدات من قوى إقليمية ودولية. وهكذا يزداد التنافس يومًا بعد يوم، ويسعى مزيد من القوى إلى وضع أقدامها في هذه المنطقة لحماية مصالحها في أحد أهم الممرات في حركة التجارة العالمية. ولا يمكن فهم مسوَّدة الاتفاق حول إنشاء مركز دعم لوجيستي للبحرية الروسية في السودان، إلا في هذا السياق.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات البحر الأحمر
إقرأ أيضاً:
البحر الأحمر..الخليج الجديد في لعبة النفوذ
منذ أن انطلقت عمليات "عاصفة الحزم" في مارس 2015، كان يُفترض أن تكون عدن هي نقطة التحول الإستراتيجي التي تُعيد رسم خرائط الأمن القومي العربي على ضفاف البحر الأحمر، ذلك البحر الذي ظل طويلا مجرد ممر تجاري في حسابات الدول الكبرى، قبل أن يتحول تدريجياً إلى مسرح مفتوح لتصادم الإرادات، وتنافس المشاريع، واختبار التحالفات.
تحرير عدن في يوليو 2015 لم يكن مجرد انتصار عسكري موضعي، بل كان لحظة نادرة في التاريخ العربي الحديث: لحظة يمكن فيها للعرب، وبقيادة خليجية فاعلة، أن يصنعوا توازنا جديدا في الإقليم، يمنع تمدد إيران، ويغلق الباب أمام مغامرات الإسلام السياسي، ويُعيد للبحر الأحمر موقعه الطبيعي كحزام أمني عربي لا يُسمح باختراقه.
لكن بدلا من تحويل هذا الانتصار إلى نقطة انطلاق نحو إعادة بناء منظومة أمنية عربية فاعلة، دخل الملف في دوامة التشويش، وخضعت الأولويات لمساومات جانبية، وتداخلت الحسابات الإقليمية مع المزايدات الأيديولوجية، وأُفرغت عدن من مدلولها الرمزي والسيادي، ودُفع بالملف اليمني من مساره العربي إلى منطقة التدويل، حيث فقدت العواصم العربية زمام المبادرة، وبدأت القوى الدولية ترسم حدود النفوذ، وتوزّع الأدوار وفق مصالحها لا وفق الضرورات الأمنية للمنطقة.
هنا، ضاعت فرصة تاريخية كان يمكن فيها للعرب أن يفرضوا سرديتهم الخاصة، ويعيدوا تعريف البحر الأحمر بوصفه شأناً عربيا خالصا لا يُخترق إلا بإرادتهم، فلحظة عدن كانت قابلة للتحوّل إلى رافعة لإعادة تشكيل مفهوم الأمن القومي العربي، لكنها أُهملت، بل وأُحبطت بفعل التردد من جهة، والحسابات السياسية الضيقة من جهة أخرى، والمناكفة غير الموضوعية والمراهنة على جماعة الإخوان المسلمين في اليمن، واعتبارهم امتداداً قبلياً دون النظر إلى توجهاتهم الأيديولوجية أوقع طرفاً عربياً في تقديرات خاطئة ها هو ومعه المنطقة والعالم كاملا يدفع أثمانا باهظة لم يكن أحد في حاجة إلى دفعها لو أنه استحكم العقل والمنطق وقدم أولوية الأمن القومي العربي على المزايدة والرهانات المحكومة بالفشل سلفا.
ومع ذلك، يُحسب للإمارات، وهي أحد أبرز الفاعلين في التحالف العربي، أنها لم تتورط في الفوضى، بل تصرّفت كفاعل عقلاني يُوازن بين ضرورات الأمن والاستقرار وبين تعقيدات الداخل اليمني، فحافظت على مكتسبات تحرير عدن، ولم تفرّط في التوازنات الدقيقة التي تحكم المشهد، ولم تتعامل مع اليمن كحديقة خلفية، بل كفضاء إستراتيجي يرتبط بأمن الخليج والبحر الأحمر معا، بل يمكن القول إنها، حتى اللحظة، هي الطرف الوحيد الذي يتصرف بهدوء، ويعمل على تثبيت معادلات الحضور من دون ضجيج، وبمنطق إستراتيجي يراعي الجغرافيا والتاريخ معا.
فالبحر الأحمر، ببساطة، يتحول اليوم إلى "خليجٍ جديد". خليج لا تُطلق فيه الحروب بالصواريخ فقط، بل بالموانئ، وبالقواعد العسكرية، وبالتحالفات التجارية. من قناة السويس في الشمال إلى مضيق باب المندب في الجنوب، يتشكل خط جيوبوليتيكي أشبه بحزام النار، تمر عبره أكثر من 10 في المئة من تجارة العالم، ويتحكم في رئات الاقتصاد العالمي من الصين حتى أوروبا، هذا البحر، الذي ظل لعقود في الظل، بات الآن في قلب الصراع الدولي على النفوذ، وربما في طليعة الحروب القادمة.
تركيا أعادت التموضع في الصومال، وتسعى إلى موطئ قدم دائم في السودان، إيران وجدت في الحوثيين ذراعا إستراتيجية لتهديد الممرات البحرية، بل وتحويل البحر الأحمر إلى ورقة ضغط دائمة على خصومها، إسرائيل فتحت قنواتها مع السودان وإريتريا ضمن هندسة أمنية قديمة–جديدة، الصين تمتلك قاعدة عسكرية في جيبوتي، وتُراكم استثماراتها في الموانئ الأفريقية ضمن مشروع "الحزام والطريق"، وواشنطن، التي كانت غائبة عن مسرح البحر الأحمر لعقود واقتصر دورها على مكافحة القراصنة الصوماليين منذ تسعينات القرن العشرين، ها هي تحاول الآن بناء تحالف بحري موجه ضد هجمات الحوثيين التي أربكت شريان التجارة العالمية، وفضحت هشاشة المعادلات الراهنة.
كل من هذه القوى يتصرف وفق منطق مصالحه، ويعيد رسم خرائط نفوذه، ويُراكم حضوره العسكري والسياسي والاقتصادي، فيما العرب يراوحون مكانهم، أو يتنافسون على المساحات الصغيرة، ويفرّطون بالمشهد الكبير، فلا يزال العقل العربي أسير البرّ، وكأن الجغرافيا البحرية ليست امتدادا لأمنه، ولا معبرا حيويا لسيادته.
تاريخيا، ظل العرب ينظرون إلى البحار بوصفها حدوداً لا فضاءات. لم تكن لدينا إستراتيجية بحرية إلا حين استشعرنا الخطر، ولم يكن هناك تعريف للأمن القومي العربي في العصر الحديث إلا بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. عند تلك الحرب، اتخذ الزعيم جمال عبدالناصر قراره بدعم الثوار في عدن، ليتحقق الاستقلال الأول في 30 نوفمبر 1967، وبعدها، شرعت بريطانيا في الجلاء عن مستعمراتها في شرق قناة السويس، ما أسهم في تحقيق معظم البلاد العربية لاستقلالها الوطني.
ما نعيشه بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 هو مأزقٌ في البحر الأحمر. حين وصل التهديد إلى السفن والناقلات، تذكرنا أن لدينا ساحلاً طويلاً، لكنه بلا مظلة أمنية عربية مشتركة، ولا مشروعاً جيوسياسياً قادراً على مقاومة التدويل. ما يحدث في البحر الأحمر اليوم لا يمكن فصله عن مأزق العقل الإستراتيجي العربي، الذي لم يُحسن استثمار لحظات القوة، ولم يُدرك أن السيطرة على البر لا تكتمل إلا بالهيمنة على البحر. هذا ما صنعه المصريون عندما كانوا يقودون العالم العربي، حيث ربطوا أمن باب المندب بقناة السويس، فتحقق أمن واحد من أطول البحار في العالم، وفرض العرب سيادتهم عليه لعقود.
لولا ذلك التشويش الذي صاحب تحرير عدن، لربما كان المشهد اليوم مختلفا: ربما كان هناك تحالف عربي صلب، يمنع تدويل باب المندب، ويضع قواعد اشتباك واضحة ضد أي تمدد إيراني أو تركي أو غيره.
ومع ذلك، فإن الوقت لم يفُت بعد، ما زال ممكنا استعادة زمام المبادرة، لا عبر المغامرات، بل ببناء مشروع عربي واضح في البحر الأحمر، يستند إلى ثوابت الأمن القومي، ويضع خطوطاً حمراء لأيّ تمدد معادٍ، ويُعيد تعريف دور الدول العربية في هذه المنطقة التي تُعاد هندستها على نار هادئة.
البحر الأحمر ليس مجرد ممر ملاحي، إنه مرآة لمستقبل الإقليم، ومن لا يملك وزناً فيه، لن يملك صوتاً في تحديد مستقبل المنطقة، فليتحدث العرب مع أنفسهم بصراحة ويعيدوا تصويب المسار، فلا يمكن استمرار الرهان على جماعة الإخوان ولا يمكن أن يترك البحر الأحمر ليقرر مصيره الأتراك أو الإيرانيون أو حتى العم سام، فالقرار يجب أن يكون عربياً خالصاً ولا أخلص من الجنوبيين الذين كانوا وسيبقون في عدن لهم أرضهم وبحرهم.