جرائمُ الإبادة في غزةَ.. نموذجٌ لتجسيد القوى الاستعمارية للمالتوسية
تاريخ النشر: 11th, June 2024 GMT
يمانيون/ تقارير/ الدكتور عبدالرحمن المختار تعملُ القوى الاستعماريةُ الصهيوغربية -وَفْــقًا لخُطَطٍ طويلةِ الأَمَدِ- قائمةً على قناعاتٍ واضحةٍ ومحدَّدةٍ، وغالبًا ما تكونُ مكشوفةً، وهي قناعاتٌ قائمةٌ على الشرِّ للبشرية عُمُـومًا، وللعربِ والمسلمين خُصُوصاً.
وقد أدرك غيرُ العربِ مبكِّراً خطورةَ تلك القناعات على شعوبهم وأممهم؛ فعملوا وأعدُّوا واستعدُّوا لمواجهتها، وتمكّنوا من حيازةِ عواملِ القوةِ المتمثلة في القدرات الاقتصادية والعسكرية، وجميعُها مثَّلت عاملَ ردعٍ للقوى الاستعمارية الغربية.
أَمَّا العربُ ورغم إدراكِهم لقناعاتِ الصهاينة التي يربون أجيالَهم عليها، ورغم إدراكِهم بتوجُّـه القوى الاستعمارية الغربية نحو بلدانهم وشعوبهم، خُصُوصاً بعد أن أشهرت الشعوبُ الأُخرى قوةَ الردع في وجهِ هذه القوى، ومع كُـلِّ ذلك قَبِلَ العربُ بتكبيلِ أنفسهم طواعيةً؛ انتظارًا للمصير المحتومِ القادم من قوى الشر الاستعمارية ليفتكَ بهم؛ وليحوِّلَ بلدانَهم إلى حقول تجاربَ تباد فيها شعوبُها، شعبًا تلوَ الآخر، وكُــلٌّ ينتظرُ دورَه، وكُــلٌّ يعتقدُ أنه غيرُ معنيٍّ بما جرى ويجري لغيره من الشعوب، وإن لم يكن الفاصلُ الجغرافي سوى جِدارٍ إسمنتي بعَرض 30 سم، أَو بوابة حديدية، وكُــلٌّ يدركُ أن المسألةَ مسألةُ وقتٍ فقط، ليصلَ الدورُ إلى الجميع!
ومن أعد واستعد من الشعوب الأُخرى، لمواجهة قوى الشر الاستعمارية، لم يكن لديهم من المعلومات المؤكَّـدة ما يكشفُ لهم كافةَ التفاصيل عن حقيقة نوايا وتوجُّـهات تلك القوى، وما يجبُ عليهم عملُه لمواجهتها، كما هو الحالُ عند العرب، وما يتوافرُ لهم من معلومات تفصيلية مؤكَّـدة عن سببِ عداوة أعدائهم، وعن نفسياتهم، وعن كيفيةِ الإعداد والاستعداد لمواجهتهم؛ فالله -سُبحانَه وتعالى- قد بيّنَ سببَ العِداء بشكل واضح لا لَبْسَ فيه ولا غموض، وهذا السببُ هو دينُ الأُمَّــة، وليس شيئاً آخرَ؛ فقال عَزَّ من قائلٍ: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ وقال تعالى في مجال الاستعداد ﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.
وواضحٌ جِـدًّا من الآية الكريمة الآمرة بالإعداد، أن اللهَ -سُبحانَه وتعالى- قد اعتبر أعداءَ الأُمَّــة أعداءً له في المقام الأول ﴿عَدُوَّ اللَّهِ﴾ ومن ثَمَّ فالأصلُ أن يعيَ العرب أنه لن يفلحَ مَن عاداهم؛ لأَنَّهم بمعية الله -سُبحانَه وتعالى- ﴿عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ فالله تعالى في صَفِّهم، ولن يخذلَهم، وهو فوقَ ذلك لم يكلفْهم ما لا يطيقون؛ فما عليهم إلا الأخذُ بالأسباب ﴿مَا اسْتَطَعْتُم﴾ وقال تعالى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ صدق اللهُ العليُّ العظيم.
وقد أوضح الشهيدُ القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ- بشكل مفصَّلٍ وجليٍّ في دروس من هدي القرآن الكريم، وفي شرحه لهذه الآية تحديدًا من سورة محمد، أن مصيرَ مؤامرات الأعداء وتهديداتهم ومخطّطاتهم، هو الضياعُ والخُسران، لكن -ومع كُـلّ ما تضمنته الآيات الكريمة من دلالات واضحة- ذهب حكامُ الشعوب العربية باتّجاه آخرَ خلافًا للتحذيرات والتنبيهات القرآنية، ذهبوا باتّجاه مولاة أعداء الله وأعداء شعوبهم وأمتهم، تحتَ عناوين التطبيع، والشراكة والتحالف الاستراتيجي، وغيرها من المصطلحات، التي مكَّنت القوى الاستعماريةَ من تكريسِ وجودها العسكري في نطاقٍ واسعٍ من جغرافيا الأُمَّــة العربية، وهو يُعَدُّ –واقعًا- احتلالًا عسكريًّا للبلدان التي تتواجدُ فيها قواتٌ عسكرية لهذه القوى.
ويُستثنَى من الواقع المرير لشعوبِ الأُمَّــة العربية شعبُ الإيمَـان والحكمة، حَيثُ أثمر تحَرُّكُ الشهيدِ القائد وجهودُهُ الكبيرة، وقد تجسَّدت هذه الثمرةُ في نهوضِ الشعب اليمني لتحريرِ أرضِهِ من دنس الغزاة الأمريكان، وهو يسهمُ اليوم بشكل فعَّالٍ مع ثُلَّةٍ قليلةٍ من شُعُوبِ الأُمَّــة العربية والإسلامية في مواجَهة أعداء الأُمَّــة، ونصرة لمظلومية أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزةَ، وكل الأراضي الفلسطينية المحتلّة؛ أما الكَثْرِةُ مع الأسف الشديد من شعوب الأُمَّــة العربية وحكامها، فقد ارتضوا لأنفسهم الامتثالَ لمخطّطات القوى الاستعمارية الغربية؛ انتظارًا لتجسيد فكرة الإبادة البشرية المالتوسية، التي تنفِّذُها هذه القوى الإجراميةُ؛ فما هي هذه الفكرةُ ومَن هو صاحبُها؟
تعودُ فكرةُ الإبادة البشرية إلى ما ورد في نظرية توماس مالتوس في كتابِه حول السكان، ومشكلة النمو السكاني المتسارع مقارنة مع نمو الموارد الغذائية، حَيثُ قدَّم مالتوس في نظريته حلولًا ذاتِ نزعةٍ إجرامية وحشية، لمشكلة الزيادة السكانية، تتمثل هذه الحلول في الحروبِ والفيضانات والكوارث والأوبئة، وهذه النظرةُ وما تضمَّنته من أفكار تجسِّدُ القيمَ المرتبطة بعقيدةِ القائل بها، والقائمين من بعده على تنفيذها بصورٍ وأشكال متعددة؛ فمن هو توماس مالتوس؟ وكيف طَوَّرَ أنصارُه من بعدِه أساليبَ تنفيذ نظريته ضد البشرية؟
توماس روبرت مالتوس وُلِدَ عام 1766م، في إنجلترا، ودرس اللاهوت في جامعة كمبردج، وتدرَّجَ إلى أن أصبح سنة 1798م كاهناً بكنيسة إنجلترا وعُيِّنَ 1805م أُستاذاً للتاريخ العام، والسياسة، والتجارة والتمويل في كلية شرق الهند الجديدة، بالقرب من لندن، وظل كذلك حتى هلاكِه سنة 1834م.
خلاصةُ نظرية مالتوس:
وَفْــقاً لعدد من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية، تتلخَّصُ نظريةُ مالتوس في عِلم السكان، التي نشرها سنة 1798م في أن (قوةَ السكان في التكاثر أعظمُ من قوة الأرض في إنتاج الغذاء؛ فالبشر يتزايدون كُـلَّ خمسة وعشرين عاماً بحسب متتالية هندسية (10-20-40-80-160-…) في الوقت الذي يتزايدُ فيه الإنتاجُ الغذائي وفْــقَ متتالية حسابية فقط (10-20-30-40-50-…) وورد ضمن النظرية (ولمَّـا كان الإنسان لا يستطيعُ الحياةَ دون غذاء، فَــإنَّ هاتين القوتين غيرُ المتساويتين في النمو، لا بد لهما من موانعَ تدفعُ بهما إلى التكافؤ؛ وبما يعني تقليلَ نسبة التزايد السكاني؛ لتتعادل مع نسبة الإنتاج الغذائي).
وهذه الموانع -وَفْـقًا للنظرية- عواملُ سلبيةٌ أَو إيجابية، تحول بين الناس وبين التناسل؛ فالعوامل السلبية الوقائية تتمثل في عدم الزواج؛ بسَببِ الفقر أَو غيره من الأسباب، واستخدام وسائل منع الحمل، وبالرذيلة (العلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية والعلاقات غير الطبيعية كالشذوذ الجنسي) وهو ما تتزعَّـــمُ الإدارة الأمريكية الترويجَ له اليوم تحت مسمى (المِثْلَية)، وهي تعمل على الترويج لهذا المنكر في الشعوب العربية؛ بوصفه أحدَ أهمِّ مظاهر الحريات الشخصية!
ويأتي دورُ العوامل الإيجابية في حال فشل العوامل السلبية في حفظ التوازن بين السكان والغذاء، ووَفْــقًا للنظرية ستتكفل الطبيعة بقتل المواليد الجدد؛ بسَببِ الأمراض، والمجاعات، والحروب، وتتضمن النظرية نصائحَ متعددةً للحكومات، منها خفضُ أُجُور العمال؛ حتى لا يتمكّنوا من الزواج المبكّر أَو إنجاب عدد أكبر من الأطفال، وكذلك عدم الإنفاق على العاطلين عن العمل؛ حتى لا يتحولوا إلى آكلين عديمي الفائدة!
تعديلُ فكرة الإبادة للبشرية:
وَفْــقًا لما ذهب إليه عددٌ من الكُتَّاب؛ فَــإنَّ أنصارَ نظرية مالتوس راجعوا ما ورد فيها من أفكار حول إبادة البشرية، ولم تخرج مراجعتُهم للنظرية عن الموافقة على المبادئ التي وضعها مالتوس، غير أن من يسمون بالمالتوسيين الجدد، ومنهم الباحث الفرنسي فرانسيس بلاس، والأمريكي تشارلس نوروتون، يرَون ضرورةَ وضع قيود على الزواج، من خلال منع الحمل لمواجهة الخصوبة الطبيعية العمياء (غير الموجَّهة) ومن الحلول التي نادى بها أنصارُ النظرية الإبادةُ الجماعيةُ التي تسبِّبُها الحروب.
وفي المقابل أكّـد المعارضون للمالتوسية، أن الوقائع الاقتصادية والتقنية، التي شهدها العالَــمُ مثّلت رَدًّا مُهِمًّا على نظرية مالتوس، حَيثُ ترافق مع النمو السكاني تطوُّرُ تقنيات الزراعة، الذي ترتب عليه نموٌّ كبيرٌ في معدلات الإنتاج الزراعي، تحديدًا في العديد من البلدان، التي تشهد نمواً سكانياً مضطرداً.
وحديثًا وفي محاضراتِه الرمضانية تناول السيدُ القائدُ/ عبدالملك بدر الدين الحوثي مسألةَ تهيئة الله -سبحانَه وتعالى- الأرضَ للإنسان وما أودع فيها من مخزونٍ غذائي كبير ومتعدد، يمكن للإنسان تحصيلُه بالسعي في استصلاح الأرض التي ستجودُ بالتأكيد بما أودعه اللهُ فيها من خيرات، سواء في باطنها أَو على سطحها، وفي هذه المحاضرات ما يدحض كُـلَّ ما ورد في نظرية مالتوس وأنصارِه من بعده من افتراءات.
ويؤكّـد بعضُ الكُتَّابَ أن (لعنةَ مالتوس بقيت تتردّدُ في دورات الصراع بين الشمال الغني والجنوب الفقير على كوكب الأرض، وفي سياساتِ الأنظمة النازية والفاشية والشيوعية والرأسمالية؛ فكل هذه الأنظمة قامت بممارسات الإبادة الجماعية للشعوب، وفي وقائعَ باتت من الأحداث الراسخة في تاريخ البشرية عبرَ حربَين عالميتين وعشرات الحملات الاستعمارية التي قادتها القوى الاستعماريةُ الغربية) والمؤكَّـد أن النصيبَ الأوفرَ من حصاد الإبادة الجماعية لتلك الحملات الاستعمارية كان من نصيبِ الشعوب العربية، فقد أبادت تلك القوى ملايينَ من سكان الشعوب العربية في الجرائر وفلسطين وليبيا والعراق والسودان واليمن وغيرها من الشعوب العربية، ولا تزالُ القوى الاستعماريةُ وإلى اليوم ترتكِبُ بحَقِّ الشعوب العربية جرائمَ إبادة جماعية تحت عناوينَ وذرائعَ متعددةٍ لعل أبرزها ذريعة الإرهاب الذي فصَّلَ القولَ حولها الشهيدُ القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي -رِضْـوَانُ اللهِ عَلَيْـهِ-.
أُورُوبا والمالتوسية:
سبَقَ للدول الاستعمارية الغربية الترويجُ لفكرةٍ مفادُها: أنَّ سببَ الأزمة يكمُنُ في عدم قيام الحكومات في العالم الثالث بما هوَ مطلوبٌ منها؛ كي تُصْلِحَ واقعَها الزراعي، وروَّجَت لفكرةٍ أُخرى مفادُها: أنَّ سببَ الأزمة هو الاستهلاكُ لدى الشعوب الفقيرة، ولدى شعوب الدول الناهضة، ونَسَبَ البعضُ إلى المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، أنها أرجعت أسبابَ ارتفاع أسعار الغذاء إلى السياسات الزراعية السيئة، وتغيّر العادات الغذائية في البلدان النامية، وأن تلك العادات مسؤولة أَسَاساً عن ارتفاع أسعار الغذاء، وأكّـدت ميركل أنَّ من يسافر إلى الهندِ سيلاحظ أنَّ النقاش الرئيسي يدورُ حول الوجبة الثانية؛ فالناسُ باتوا يأكلون مرتين في اليوم، وَإذَا كانَ ثلثُ الشعب الهندي البالغ تعدادُه مليارَ نسمة يفعلُ ذلك؛ فالثلث عددهم 330 مليون نسمة؛ فإذا استهلكوا فجأةً طعاماً يعادل مِثْلَي ما كانوا يستهلكونه، فَــإنَّ هذا سينعكس علينا! وَإذَا بدأ 100 مليون صيني في شرب الحليب أَيْـضاً، فَــإنَّ حصص الحليب لدينا ستقلّ!
أمريكا المالتوسية:
أصدر مجلس الأمن القومي للولايات المتحدة -وهو أعلى هيئة لصُنع القرار في السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية- في 10 ديسمبر 1974م، وثيقةً سريةً بعنوان مذكرة الأمن القومي (NSSM-200) والتي تسمى أَيْـضاً بتقرير كيسنجر، كان موضوعه (آثار النمو السكاني في جميع أنحاء العالم على الأمن الأمريكي والمصالح الخارجية) هذه الوثيقة التي نُشرت بعد وقتٍ قصير من المؤتمر الدولي الرئيسي للسكان في بوخارست، كانت نتيجة للتعاون بين وكالة المخابرات المركزية (CIA)، ووكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (USAID)، ووزارات الخارجية والدفاع والزراعة، وقد تم نشرُه للجمهور عندما رُفِعَت السريةُ عنه ونقله إلى الأرشيف الوطني الأمريكي في عام 1990م.
ويتجسَّدُ الهدفُ الأَسَاسيُّ من هذا التقرير في رسم خُطَّةٍ للحكومة الأمريكية لتقليلِ عدد السكان؛ مِن أجلِ الوصول إلى المواد الخام والموارد الهامة في البلدان الأُخرى، خَاصَّةً الأقلَّ نموًّا؛ لتبقَى الولايات المتحدة قويةً، وورد في التقرير ما نصُّه (سيتطلَّبُ الاقتصادُ الأمريكي كمياتٍ كبيرةً ومتزايدة من المعادن من الخارج، خَاصَّةً من الدول الأقل نموًّا، هذه الحقيقة تعطي الولايات المتحدة اهتماماً متزايدًا بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتلك الدول، ويمكن أن يؤديَ تقليلُ الضغوط السكانية، من خلال انخفاض معدلات المواليد وتقليل عدد السكان إلى زيادة احتمالات هذا الاستقرار، بناءً على هذا تصبحُ سياسةُ تقليل السكان ذاتِ صلة بإمدَادات الموارد والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة بشكل مباشر).
وفي تحليل تفصيلي لذلك التقرير أشار البعضُ إلى عدد من العوامل التي تضمنها، والتي تمثل إشكاليةً من وجهة نظر مُعِدِّي التقرير، يمكن أن تُعِيقَ التدفُّقَ السلسَ للمواد الخام والموارد الطبيعية الهامة للولايات المتحدة من الدول الأقل نموًّا، وعلى رأس تلك العوائق التي تضمنها التقرير، أنه إذَا كان عدد الشباب المناهضين للإمبريالية كبيرًا فسوف تصعُبُ السيطرةُ عليهم؛ لذلك لا بُـدَّ من تقليل عددهم، وقد حدّد التقرير 13 دولة بالاسم وتحت عنوان (التركيز على الدول الرئيسية) ويتضمن هذا العنوان ضرورةَ العمل على تركُّزِ المساعدة في تقليل النمو السكاني في هذه البلدان وهي: (الهند، بنغلاديش، باكستان، نيجيريا، المكسيك، إندونيسيا، البرازيل، الفلبين، تايلاند، مصر، تركيا، إثيوبيا، وكولومبيا).
وليس مستبعَدًا أبدًا تخطيطُ القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، لخفض عدد سكان مصر وتركيا وإثيوبيا من خلال حروب تُعِدُّ هذه القوى لإشعالها قريبًا بين مصر وإثيوبيا، والسببُ الظاهرُ سيكون سَدَّ النهضة، ودفاع كُـلٍّ من البلدَين عن حقوقه المائية في مياه نهر النيل، والمسألة مسألة وقت فقط، ولا يُستبعَدُ أَيْـضاً إشعالُ القوى الاستعمارية الغربية حربًا أُخرى بين مصر وتركيا، وسيكون السبب الظاهر حقوق التنقيب عن الثروات في البحر المتوسط، والسبب الخفي الذي يمثل هدفًا أمريكيًّا غربيًّا تسعى لتحقيقه القوى الاستعمارية الغربية المالتوسية، هو القضاء على العدد الهائل لسكان هذه الدول؛ فمصر وتركيا بلدان كبيران ومهمان وعدد سكان كُـلٍّ منهما كبير ومؤثر ومقلق للإدارة الأمريكية والقوى الغربية الأُخرى، وإن كانت تنظر إلى سكان هذين البلدين وجيشَيهما بأنهم عبارةٌ عن ذخيرة مركومة في المخازن وغير مستخدَمة، خُصُوصاً بعد التأثيرات الواضحة لحربها الناعمة على شبابهما، لكنها تخشى أن يأتيَ في يوم ما مَن يفتح هذه المخازن ويوجِّهُ ما بداخلها من ذخيرة إلى صدرِ ورأسِ هذه القوى الاستعمارية.
ولذلك لن تتردّدَ أبدًا القوى الاستعمارية المالتوسية في تدمير جيوش هذه البلدان ومقومات قوتها، وتشعل اقتتالًا بينيًّا بين شعوبها، كما حصل سابقًا في إثيوبيا، وكما هو حاصل اليوم في السودان وليبيا وغيرها من البلدان العربية، وتكون النتيجة النهائية تدمير القوى الاستعمارية المالتوسية لهذه الدول، ولن تقبلَ هذه القوى بأقلَّ من هذه النتيجة، وهي تعتمد الهدوء والتروِّيَ لتنفيذ خططها، وتحقيق أهدافها، وهو ما لم يدركه العربُ والمسلمون، ولم يتعظوا مما قدّمه التاريخُ القريب والبعيد من دروس وعبر، بل لم يستوعبوا الإنذارَ الدائمَ الذي قدّمه ولا يزالُ يقدِّمُه القرآنُ الكريم، حول سبب عداء واستهداف القوى الاستعمارية الغربية، والمتمثل في دِين الأُمَّــة كما ذكرنا آنفًا، ومع ذلك لا يزالُ الحكامُ العربُ والمسلمون يتعامَون عن أهداف هذه القوى رَغْمَ وضوحها.
وَورد أَيْـضاً في تقريرِ كسينجر، وكما أوضح التحليل المفصَّل ما نَصُّه (يجبُ أن يكونَ تخفيضُ عدد السكان الأولويةَ القُصوى للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم الثالث عامة، وجعل عمليات التعقيم (العُقم) الجماعي اللاإرادي وتحديد النسل شرطًا أَسَاسيًّا لمساعدة الولايات المتحدة لهذه البلدان) كما أكّـد التقريرُ بشكل محدّد وواضح أن الولايات المتحدة عليها عـدمُ الإعلان عن الأنشطة التي تقوم بها حكومتُها لتقليل عدد السكان، وأن تقوم باستخدام المنظمات غير الحكومية المختلفة، على وجه التحديد مؤسّسة باثفايندر والمؤسّسة الدولية لتنظيم الأسرة IPPF)، ومن خلال الاعتماد على الوكالات المتعددة الأطراف، وخَاصَّةً صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية الذي لديه بالفعل مشروعاتٌ في أكثرَ من 80 دولةً؛ للحد من عدد السكان على نطاق أوسعَ، مع زيادة المساهمات الأمريكية لهذه الجهات حتى تقومَ بمهامها على أكمل وجه).
وهنا يجب أن نفهمَ الأهداف الحقيقيَّةَ لإنشاء المجالس العليا للسكان في البلدان العربية، ومنها المجلس الأعلى للسكان في بلادنا؛ فأهداف هذه المجالس تنحصِرُ في تمكين الإدارة الأمريكيةِ من تجسيد أهدافها التي تضمنها تقرير كسنجر وذلك من خلال هذه المجالس بالتنسيق مع صندوق الأمم المتحدة للأنشطة السكانية المموِّل لأنشطتها!
تطرُّفُ المالتوسية في نُسختها المعدَّلة:
في تناولات متعدِّدةٍ أشار البعضُ إلى ما ورد في كتاب الدكتور جيه كولمان الذي نُشر عام 1992م بعنوان (العالم 2000، مخطّط للإبادة الجماعية العالمية) ومن ذلك ما ورد في صفحته الرابعة ونَصُّه (إننا نشهدُ أَيْـضاً الأوبئةَ الكبرى لعام 1987-2000م في شكل الإيدز، الهربس، الكوليرا، الجدري، السُّل، ونعلم أن الفيروس الذي يسببه مصطنع، وأن التجارب الأولى أجريت في إفريقيا على حدود سيراليون ونيجيريا).
ونقل البعضُ عن تيد تورنر -وهو رجلُ أعمال يمتلك العديد من وسائل الإعلام، مثل، استوديوهات يونيفيرسال، وقناة CNN- قوله في مقابلة مع مجلة أودوبون عام 2008، (سيكون إجمالي خفضِ عدد سكان العالم من 250 إلى 300 مليون شخص في عام 2025م؛ أي انخفاض بنسبة 95٪ عن المستويات الحالية، وهذا سيكون مثاليًّا) وفي يناير عام 2016، نشر موقع الأخبار Your News Wire مقالًا بعنوان (بيل غيتس يعترف بأن اللقاحات مصممة بحيث يمكن للحكومات تقليل عدد السكان) ويضيف تأكيد غيتس أن المنطق الذي يؤمن به هو (الصحة = الموارد ÷ الناس) ولأن الموارد ثابتة نسبيًّا؛ فَــإنَّ المنطقَ يقتضي خفضَ عدد السكان.
وأورد البعض مقتطفات من كتاب (تخطيط النخب العالمية لإزالة ملايين الناس من العالم) لمؤلفه تريسي سمارت، المنشور عام 2016م ومن ذلك (تهدف خطة النخب العالمية إلى تخفيض عدد سكان العالم بمقدار 4 مليارات قبل عام 2050م؛ لذا كان جدول أعمال النخبة العالمية هو إحداث تدمير للأكلة عديمي الفائدة، من خلال المجاعة والأمراض والحرب البيولوجية (الإيدز وأنفلونزا الخنازير) والمواد الكيميائية والكائنات المعدَّلة وراثيًّا، والمضافات الغذائية والمياه الملوثة، والأدوية والتطعيمات، والهواء السام الملوَّث، والمبيدات الحشرية، والإشعاع، لتنفيذ “الحل النهائي” لإخلاء 4-5 مليار شخص من الأرض، وأنه بلا شك ستستغلُّ النُّخبةُ في العالم الصناعات والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا النانو الناشئة حديثًا لخلقِ فيروس “سلاح حيوي” فائقٍ يخلُقُ جائحةَ “قتل عالمي” للوصول إلى هدفِهم بسرعة).
ويبدو أن فيروسَ (كورونا) مثَّلَ تجربةً أوليةً لنموذج الإبادة البشرية عن طريق القتل بهذا السلاح الحيوي، وأن ما يحدث اليوم في جغرافيا غزة، رفح، النصيرات نموذجٌ لتجسيدِ الفكرة المالتوسية للإبادة البشرية باستعمال السلاحِ التقليدي في نُسخته المطوَّرة شديدةِ الفتك والتدمير، ويعد تواجُدُ القوى الاستعمارية الغربية عسكريًّا وعلى رأسها الأمريكية في المنطقة العربية نذيرَ شؤم على شعوبها، تحديدًا تلك التي تتواجد ُعلى أراضيها وفي مياهها القواعدُ العسكرية الأمريكية، وما لم تبادِرْ هذه الشعوبُ من الآن لطردِ المحتلّين، رَغْمَ أنها قد تأخَّرت كَثيراً، فَــإنَّها إنْ لم تفعلْ قد لا تَــصْــحُ أبدًا؛ لأَنَّها ستكون قد ذُبحت من الوريد إلى الوريد، وحينَها سيُعَدُّ ما حصل في غزةَ هَــيِّــنًا مقارنةً بما هو متوقَّعٌ أن يحصلَ لها؛ باعتبَار أن غزةَ في حالة يقظة وانتباه ومواجَهة، أمَّا الشعوبُ العربيةُ الأُخرى، التي تتواجدُ على أراضيها القواعدُ العسكرية الأمريكية وغيرُها من القوات الغربية المالتوسية؛ فهذه الشعوبُ في حالة سُباتٍ طويل، ومن السهل جِـدًّا أن ينقَضَّ عليها المحتلّ، ويصيبَها مباشرةً في مقتل، وكيف لا يمكِنُه ذلك وهو في عُقرِ دارِها، ويتأبَّطُ القناعةَ بأحقيتِه في اغتيالِها؟!
#العدوان الصهيوني على غزة#القوى الاستعمارية#المالتوسيةالعدو الصهيونيالمصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الشعوب العربیة النمو السکانی ــة العربیة عدد السکان تقلیل عدد هذه القوى الغربیة ا ما ورد فی عدد سکان ه وتعالى من خلال أ ی ـضا ف ــإن
إقرأ أيضاً:
المفكر التونسي الطاهر لبيب: سيقول العرب يوما أُكلنا يوم أُكلت غزّة
تحت وطأة القضايا المصيرية التي تفرض نفسها على الفكر والسياسة والمجتمع، يظل الحوار مع المفكرين الكبار ضرورة لفهم الواقع واستشراف المستقبل. ويستضيف هذا الحوار المفكر وعالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب.
ولبيب كاتب ومترجم وباحث في علم الاجتماع، شغل لبيب منصب المدير العام للمنظمة العربية للترجمة في بيروت بين عامي 2000 و2011، وساهم في تأسيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع عام 1985 في تونس، والتي يشغل فيها الآن منصب الرئيس الشرفي، كما يتولى الإشراف على مشروع "نقل المعارف" الذي يهدف إلى ترجمة الأعمال الفكرية العالمية إلى اللغة العربية
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2قتلوا العرعير ورفاقه وطلابه.. عن الإبادة التعليمية في غزةlist 2 of 2العلويون.. القصة الغامضة لحكم سورياend of listيضع لبيب تشخيصا دقيقا لحالة التبعية السياسية والفكرية في العالم العربي، محذرا من الاستبطان البنيوي للخوف كأحد مظاهر الضعف الذي تستغله قوى الهيمنة العالمية. كما يناقش بشاعة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ويفكك الترابط العميق بين المشروع الصهيوني والمشاريع الإمبريالية في الشرق الأوسط، مستعرضا كيف تحولت التبعية العربية من حالة مفروضة إلى تبعية طوعية في بعض الأحيان.
كما يسلط الضوء على أزمة الفكر العربي في التعامل مع القضية الفلسطينية، متسائلا: هل لا تزال "القضية المركزية" أم أنها تحولت إلى "فضيحة العرب الكبرى"؟
إعلانوبينما يُعرف الطاهر لبيب بجهوده في البحث السوسيولوجي، يكشف في هذا الحوار عن تحوله إلى الرواية من خلال عمله "في انتظار خبر إنّ". فهل جاء هذا التحول نتيجة إحساس بضيق الأفق البحثي في التعبير عن تعقيدات الواقع العربي؟ وهل يمكن للرواية أن تحمل مشروعا فكريا قادرا على تجاوز الحدود الأكاديمية؟
بوصفكم عالم اجتماع، ما قراءتكم لما ارتكبه الاحتلال الإسرائيلي من جرائم الحرب والإبادة الجماعية في قطاع غزّة بدعم غربي وصمت عربي تقريبا؟ما حدث ويحدث في فلسطين وفي بعض "ضواحيها" العربية قد يفاجئ ببشاعة وحشيّته، ولكنه لا يفاجئ إذا نُظر إليه، كما هو في الواقع، على أنه تحيين رأسمالي نيوكولونيالي لمشروع "الشرق الأوسط الجديد". إسرائيل طرف حليف مجرَّب وجاهز لهذا التّحيين، والشرق الأوسط مهيّأ له، لا بما فيه من مصالح فحسب وإنما، أيضا، بقابليته للإضعاف والاستسلام. وأشير، عَرضا، إلى أن الشرق الأوسط تسمية سيئة النيّة، إذ هي، أصلا، للفصل بين العرب، وهي للوصل بينهم حين يُراد تضخيم ما يهدّد إسرائيل ومصيرها.
الشرق الأوسط تسمية سيئة النيّة، إذ هي أصلا للفصل بين العرب، وهي للوصل بينهم حين يُراد تضخيم ما يهدّد إسرائيل ومصيرها
قوى الهيمنة تتصرّف على أساس أن هذه القابليّة للإضعاف والاستسلام هي معطى موضوعي يحول دون تحوّل أيّ قدرة شرق أوسطيّة إلى قوة فاعلة. إسرائيل، منذ نشأتها، كانت ولا تزال وكيل هذه القوى ورأس حربتها في الشرق الأوسط، ولأنها كذلك لا يمكن التخلّي عن مناصرتها، وقد رأينا كيف كان جنون الهبّة إلى هذه المناصرة.
لا نتصور أن قيادات هذه القوى لها من الجهل والغباء والعمى ما يجعلها تعتقد، حقا، أن الإبادة الجماعيّة لآلاف الأطفال والنساء والشيوخ وما صاحبها من تدمير وتهجير هو "دفاع عن النفس"، ولكننا نعلم أنها تتنكّر لتعاريف الظواهر وللمبادئ والقيم الإنسانية والقوانين الدوليّة، بما فيها تلك التي تدّعي الدفاع عنها، كلّما رأت أنها تعطّل هيمنتها.
إعلانخارج الترابط الوظيفي بين قوى الهيمنة والمشروع الصهيوني لا تُفهم ولا تُفسّر بشاعة الإبادة، وكلّ الآمال والحلول المستسلمة للهيمنة مستسلمة، ضمنا، للمشروع الصهيوني الذي لا تزال إسرائيل الكبرى بلا حدود، غير تلك التي في نصوص الدين القديمة والأساطير وفي أذهان خامات اليمين وسياسييه. فالإبادة الجماعية، من هذا المنظور، هي آلية من الآليّات التي يتطلّب وحشيتها "الحل النهائي" لحسم الصراع.
الإبادة الجماعية هي آلية من الآليّات التي يتطلّب وحشيتها "الحل النهائي" لحسم الصراع
إذا سلّمنا بالترابط بين المشروع الصهيوني ومشاريع قوى الهيمنة، فكيف نفسّر الصمت العربي أمام هذا الترابط؟أما ما يسمّى صمتا عربيّا فهو، في الحقيقة، قناع المصالح العليا والسفلى إذا خافت. هذا الخوف مستبطن في السياسة، وقوى الهيمنة تجيد تضخيمه واستثماره في تخويف السياسيين الذين يمرّرون خوفهم إلى شعوبهم. استبطان الخوف هذا ليس، بالضرورة، لقلة الشجاعة، فهذه تحضر وتغيب، وإنما هو من أعراض تبعيّة بنيويّة.
استبطان الخوف ليس بالضرورة لقلة الشجاعة، فهذه تحضر وتغيب، وإنما هو من أعراض تبعيّة بنيويّة
أستعمل هذا المفهوم القديم لوضوحه في الدلالة على وضع يفقد فيه مجتمع قدرته الذاتية على التحكّم في قدراته وخياراته الكبرى، وترتسم فيه لصاحب القرار حدود إرادته وقراره. طبعا، يترك المتبوع للتابع هامشا محسوبا للحركة، قد يتسع أو يضيق، ولكنّه، في كل الحالات، لا يمسّ مصالح المتبوع. ومهما يكن فقد بيّن صمت العرب أن الهامش المتروك لتحركهم لا يتّسع لمواجهة إبادة جماعية لمن يقولون إنهم "أهلهم"، رغم أن هذه الإبادة حرّكت بقايا إنسانيات العالم.
على أن الأغرب في الوضع الحالي أن تبعيّة العرب، ولها أوصاف كثيرة، تبدو، في بعض حالاتها، تبعيّة طوعيّة، وهذا ما زاد من صلف قوى الهيمنة ومن استخفافها، علنا، بمشاعر العرب وبسياساتهم وسياداتهم، وقد شاهدنا وسمعنا كيف يكون التعبير عن الصلف والاستخفاف تعبيرا سوقيّا، بالمعنييْن للكلمة.
الأغرب في الوضع الحالي أن تبعيّة العرب، ولها أوصاف كثيرة، تبدو، في بعض حالاتها، تبعيّة طوعيّة، وهذا ما زاد من صلف قوى الهيمنة ومن استخفافها
ما قاله "الإمبراطور" عن تهجير الفلسطينيين واضح، فوراء مساندته التطهير العرقي والتهنئة به يفترض أن المعنيين بصفقة التهجير من العرب يفقدون إنسانيتهم، خوفا وطمعا، ويتنازلون عن سيادتهم الوطنية وأمنهم القومي. لولا هذا الافتراض ما كان يفكر في صفقة تهجير. لولا هذا الافتراض ما كان يجرؤ على القول إن عرب الشرق الأوسط سيفعلون ما أقول لا ما يقولون.
إعلانويبدو، أو هكذا نتمنى، أن هذا الاستفزاز سيجمع العرب ليقولوا له، جماعيّا، ما لا يستطيعون قوله فرادى: لا. إن أجمعوا على هذه اللا فستكون تاريخيّة. وإذا كنت أصف البلدان المتاخمة لفلسطين بـ"الضواحي" فلأنّ مصير هذه البلدان أصبح ملحقا بمصير فلسطين وليس العكس، كما كان يُتوهّم.
لقد تبين أن ما حدث ويحدث في فلسطين و"ضواحيها" العربيّة هو نتيجة منطقيّة لقابليّة التبعيّة. هذه القابليّة معقدة الحل، و"فك الارتباط"، كما كان يقال، أو التخفيف منه ليس سهلا ويتطلب تكتلا ما. إنْ لم يتصدَّ العرب، بدءا بمن هم في "ضواحي فلسطين"، للمشروع الصهيوني المتمدد فسيقول العرب يوما: أُكلنا يوم أُكلتْ غزّة!
القضيّة الفلسطينيّة، بوصفها قضية العرب الكبرى، أين أصبحت، من ناحية فكريّة؟القضية الفلسطينية لم تكن، يوما، قضية العرب الكبرى وهي، اليوم، فضيحتهم الكبرى. لم يسئ إليها أحد مثلما أساء إليها العرب، والعرب هنا حكّامهم. في مرحلة كان فيها الصراع يسمّى صراعا عربيا إسرائيليا رفعت الأنظمة، خصوصا منها الأكثر استبدادا، شعار القضية الكبرى في وجه مطالب شعوبها، باعتبار أن لا شيء يعلو عليها، ولم يستفد من هذا الشعار غير إسرائيل التي ظهرت للعالم وكأنها، فعلا، محاطة من كل جانب بأعداء يريدون إزالتها من الوجود. وعندما استنزف الواقع هذا الشعار أصبح الصراع فلسطينيا إسرائيليا، قبل أن ينتهي صراعا حمساويا إسرائيليا. وعبر هذا التراجع اكتفى العرب، حتى الآن، بأبغض كلمتين وأشدّهما عجزا: الشّجب والتّنديد.
هذا سياسيّا، وأما فكريّا فأول ما يشار إليه هو قدرة الفلسطيني على الإبداع، وهو إبداع مؤسِّس في مجالات متنوعة، لا في الرواية والشعر فحسب، وإنما كذلك في العلوم الإنسانية والاجتماعية. فالأسماء كثيرة، من غسان كنفاني ومحمود درويش إلى هشام شرابي وأدوار سعيد، على سبيل المثال والاختزال، لا الحصر. هذا الإبداع أشعّ، عربيّا، وأثّر في الكتابة وفي التحليل لدى الكثيرين منا. الإشارة إلى هذا مهمّة حتى لا ننظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم "موضوعا" نسقط عليه آراءنا وهُواماتنا وننسى أنهم منتجو معنى، نتلقّاه منهم وندين لهم به.
إعلانلم ينفصل الاهتمام بالإنتاج الفكري الفلسطيني عن الاهتمام بالمسألة الفلسطينية وعن السرديات التحرّرية الكبرى، ويبدو أن هناك تراجعا لهذا الاهتمام، أغلب ظنّي أن بدايته كانت مع الإحباط الناتج عن اتفاق أوسلو عام 1993. وسواءٌ صحّ هذا أم لم يصح، فإنّ ما حدث ويحدث في فلسطين أعاد الاهتمام بالقضية الفلسطينية ولكنه اهتمام قليل الفكر، في مجمله، ارتجالي، في شكل مقاطعَ، أو هو من النوع الفايسبوكي، تعبيرا عابرا عن مشاعر ومواقف هي من الحسّ المشترك.
ما يترسّب هو أن المقاومة، مهما لحق بها ومهما كان الثمن، هي فكرة لا تموت
ما يترسّب من كل هذا هو فكرة المقاومة أو المقاومة بما هي فكرة. ما يترسّب هو أن المقاومة، مهما لحق بها ومهما كان الثمن، هي فكرة لا تموت. هذه الفكرة ما هي؟ من سينقلها من القوة إلى الفعل؟ هذا النوع من الأسئلة مطروح على جيل قادم يتناوله برؤيته وبوسائل فكرية وعمليّة لا نعرفها، في عالم لن يكون كما عرفناه.
لاحظنا، خلال الحرب على غزّة أن من المفكرين الغربيين من كان ضدّ الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني ومنهم أيضا من كان مؤيّدا لها.. هل هذا التأييد قائم على فكر حقا، أم هو موقف أيديولوجي سياسي؟ما حدث ويحدث صدم الفكر المؤنسَن، أينما كان، ولكنّ الفكر، أيّ فكر، مشدود، عن وعي أو عن غير وعي، إلى كينونة ذهنيّة يتفاوت المفكرون في التعبير عنها أو في تحييدها. هذا طبيعي. الفكر العربي هو، أيضا، مشدود إلى كينونة ذهنية أو ثقافية وإن كان هذا الشدّ، في الأغلب، بالدوران حولها، في حين أن الفكر الغربي، موازاة لهيمنة بلدانه، توسّع وهيمن بما نشره من معارف ورؤى جديدة تمّ تلقّيها وتثبيت مرجعيّتها. نقد ما يسمّى مركزية فكرية غربيّة، مهما كان جادّا ومقنعا، قد يمسّ أعراضها وسوء نواياها ولكنّه لا يبطلها ولا يعطّلها. النقد الذاتي الغربي نفسه لا ينفصل عنها، مهما تسامى.
هناك مفكرون كبار نعتبرهم مراجع أساسية لم يتخلّصوا من مركزية الفكر الغربي، لماذا؟ إعلانالفيلسوف كانط، مثلا، في كتاباته عن الجغرافيا التي نادرا ما يتمّ الرجوع إليها، نظر باستعلاء ألماني إلى شعوب "غير متحضّرة" ورأى، بصورة غريبة، أن "على خط العرض الذي يمرّ بألمانيا، مع بعض الدرجات على جانبيه، يعيش، ربما، أعظم الناس وأجملهم في القارة".
وهيغل، في كتابه "العقل في التاريخ"، لا يكتفي بوصف شعوب أفريقية وآسيويّة بأوصاف تُعتبر، اليوم، عنصريّة وإنما ذهب إلى مساندة استعمارها. متحدّثا عن شمال أفريقيا، يقول "إن هذا الجزء من أفريقيا يمكن ويجب أن يُلحق بأوروبا، مثلما حاول فعله الفرنسيون، مؤخّرا وبنجاح".
وماركس نفسه الذي واجه الرأسمالية واستغلال الإنسان للإنسان، اعتبر أن عرب الجزائر التي زارها بقوا خارج أي تطور ومعادين للحضارة، وهذا يبرّر استعمارهم، تحسينا لأوضاعهم، ولربما لخلق ظروف ثوريّة.
قريبا منّا، هابرماس التنويري لم يتردّد، مع زملاء له من الألمان، في تبرير الإبادة الجماعية في غزة بدفاع إسرائيل عن نفسها. هؤلاء الذين ذكرتهم يُعتبرون من عمالقة الفكر ومرجعياته، وتشترك فلسفاتهم في اعتماد مقولتي العقل والتقدم. صدمة ما حدث تطرح، من جديد، سؤال: أيّ عقل وأيّ تقدّم؟ وأعتقد أن الأجوبة المصدومة ستفقد بعض اطمئنانها وأنها ستنزع إلى النقد. وأما الحذر فمن العودة إلى خصوصيّة عدميّة.
من أقوالكم المشهورة "إن الثورات تأكل أولادها، دائما، والخوفُ أن تأكلهم باكرا". هل ينطبق هذا على ما يجري في سوريا، حاليا؟لا نعرف ثورة فاعلة انتقلت إلى سلطة من دون أن تأكل أولادها، وأولادها هم الفاعلون فيها، بدءا بقياداتها. وأما الأكل فأنواع متنوعة، من التهميش والإقصاء إلى التصفية، وغالبا ما يكون ذلك في البحث عن التموقع أو في الصراع على المعنى. يكفي أن نستحضر الثورتين الفرنسية والروسية. لا نتحدث عن انقلابات عسكرية، على الطريقة العربية، وصفت نفسها، هي أيضا، بالثورية.
إعلانوأما القول إن هذا ينطبق أو لا ينطبق على ما يجري في سوريا فأراه قولا متسرّعا، لأن جدليّة ما يجري لم تتبلور ولم تتّضح بعد. ما يعرَّف به الفعل الثوري ليس الحدث وإنما الصيرورة. هل هي ثورة؟ لا يجيب عن هذا ملاحظ من خارج سوريا. فاعل الفعل هو الذي يسمّيه، وللمفعول من أجلهم تبنّي التسمية أو رفضها.
ما يجري في سوريا يخرج عن مألوف ما سمّي "الربيع العربي" بنوع فاعليه والقوى المتدخلة فيه والرهانات الجيوسياسية وتركيبة المجتمع الذي يجري فيه
ومهما كانت التسمية، فالواضح أن ما يجري في سوريا يخرج عن مألوف ما سمّي "الربيع العربي" بنوع فاعليه والقوى المتدخلة فيه والرهانات الجيوسياسية، إضافة إلى تركيبة المجتمع الذي يجري فيه. إن كان هناك من مشترك فالأبرز هو الإطاحة برأس السلطة، وهذا، في حدّ ذاته، إنجاز كبير، وإن كان شرطا ضروريّا غير كافٍ، كما يقال، لتحقيق ثورة. هذا إذا كان المقصود بالثورة تغييرا جذريّا، ذا مدٍّ شعبي، يخترق مستويات الواقع ومجالاته كلّها ويحيّد ما يمكن أن يعيد إلى ما قبله.
بهذا المعنى يصعب الحديث عن ثورات وقعت في العالم العربي، وإذا كان هناك ما يمكن تسميته ثورة فالمؤكّد أننا لم نعرف ما نفعل به. الثورة تتطلّب قطيعة ما، ومفهوم القطيعة لا وجود له في الثقافة العربية ولا في السائد من الحسّ العربي المشترك. هذا الغياب عطّل الانتقال الثوري وسهّل الانتكاسة.
صدرت لكم رواية بعنوان "في انتظار خبر إنّ" اهتمّ بها الأكاديميون والنقاد.. ماذا يعني هذا المرور من البحث إلى الرواية؟في المرور إلى الرواية رغبة في قول ما لا يتّسع البحث لقوله ولا لطريقة قوله. البحث مشروط، عرفا، بانضباط نظري ومنهجي ومرجعي، رغم أنّ بعضه، في الكثير من البحوث، شكلي وغير مفيد. النص الإبداعي، ومنه الرواية، يتحرّر من هذا الانضباط، وإن كانت له، هو الآخر، مقاييسه. المعرفة، في الحالتين، سند ضروري. المرور من البحث السوسيولوجي، مثلا، إلى الرواية لا يعني الاستغناء عن الرصيد المعرفي بدعوى الإبداع وإلّا فالخسارة مضاعفة. الروائي من دون سندٍ معرفي هو مجرّد حكواتي، ولو أجاد السرد. طبعا، ليس مطلوبا منه ولا مقبولا أن يحشو النص بمعارفه ولا أن يتكلّف ذلك ولكن على النص أن يوحي بما وراءه من تأمّل معرفي في ما يقال ويوصف. في المرور إلى الرواية، أيضا، بحث عن الكتابة، فإذا كان في البحث كلّ شيء ما عدا الكتابة، على حدّ تعبير رولان بارت، فإن الرواية، ككلّ نصٍّ إبداعي، لا تكون من دون كتابة. متى تكون الكتابة كتابةً؟ هذا هو السؤال.
إعلان