كتاب «الوهابية الرستمية» وضجيج وسائل التواصل الاجتماعي
تاريخ النشر: 10th, June 2024 GMT
العلاقات العمانية السعودية، وغيرها من العلاقات السياسية والثقافية في الخليج العربي، المتأمل فيها يجدها قائمة على الإحياء والبناء لا الفرقة، ونتائج هذا ما نشهده اليوم -والحمد لله- في منطقة الخليج، وبعد أكثر من نصف قرن من نهضة بشرية وعمرانية ومعرفية، ومن استقرار سياسي وأمني، ونحن في شهر الحج المعظم، إذ يحج الآلاف إلى بيت الله الحرام آمنين مطمئنين، ويؤدون شعائر حجهم، وطقوس دينهم بكل سلاسة ويسر، يفدون إلى مكان واحد، ويدعون ربا واحدا، ولا يمكن تحقق ذلك لو أن تفكير أصحاب الأمر من الساسة وغيرهم بذات تفكير بعض علماء الدين، الذين للأسف ما زالوا يعيشون وهم الخلاف المذهبي، والصراع الطائفي، مع إدراكي الكبير، رغم الكليات والحوزات الدينية في الخليج، والتي ما زالت تغذي المذهبية أو الطائفية، إلا أن أغلب الأجيال الجديدة تجاوزت هذه الخطابات، ولم يعد يمثل لها قيمة، وتجاوزنا والحمد لله صراعات مرحلة الصحوة في قضايا ما ورائية من جهة، وماضوية من جهة أخرى، ولا يعني هذا عدم وجود أصوات تدعو إليها، ولم ننتقل بعد في جعل هذه المؤسسات الدينية والجامعات والكليات والحوزات، إلى مراكز تشتغل على مراجعة الذات، وتوسعة دائرة المشترك، وتقبل المختلف، والاشتغال بعقل الإحياء والنهضة والبناء، لا بعقل الصراع مع الآخر، ولكن نأمل ذلك مع إرادة سياسية تعجل في تمكينه، كما عجلت في تمكين الإحياء والبناء والنهضة، أمام التحديات التي تعيشها المنطقة.
والمتتبع لنهضة السعودية في رؤيتها الجديدة يجد تطورا ملحوظا في استيعاب الآخر، من الاهتمام بالفلسفة والثقافة والفكر والتنوير، وعقدت مؤتمرات وحدوية في ذلك، والسعودية لها ثقلها الإسلامي والعربي وفي الخليج أيضا، ومؤهلة بشكل كبير في إيجاد نهضة إسلامية وحدوية، وهذا لا يعني عدم وجود أخطاء وهنات تخرج من أصوات كانت سعودية أو خليجية أو عربية وإسلامية، أو حتى دولية، وقد يكون لها ارتباط بمؤسسات لها تأثيرها بالشكل العام، ومع هذا يجب دراسة مثل هذه الأمور بعقلانية، والمتأمل في سياسات المنطقة أنها تغلب التعقل في دراسة مثل هذه القضايا، وخصوصا الدينية، ولا ينبغي جر السياسي إليها؛ لأن مآلها الصراع المؤدي إلى الكراهية والعنف والتطرف إذا ارتبطت بالسياسة.
ومن متابعتي لمعالي الدكتور عبد اللطيف بن عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الشيخ، من أحفاد الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ)، أجده يتميز بالحزم ومحاربة التطرف، واستمتعت بلقائه في رمضان الماضي والذي كان في برنامج في الصورة مع عبدالله المديفر على روتانا خليجية، ومنح عام 2022م درع قائد وصانع سلام، ولحكم انتسابه نسبا ومذهبا إلى دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، له حقه في الدفاع عن هذه الدعوة ومذهبها الكلامي بحثا ومعرفة، كما يحق ذلك لأي أتباع مذهب ومدرسة أخرى، والدولة المركزية تحفظ الجميع، وتوسع دائرة المشترك لأجل الإحياء والبناء والنهضة والاستقرار، كان في السعودية أم عُمان أم الخليج أم أي دولة قطرية ومركزية أخرى.
بيد أن المؤسسات الدينية الرسمية عليها أن تمايز بين كونها تحت مظلة الوطن الجامع للجميع، وبين اتجاهات أفرادها ولو على رأس الهرم، وما زالت للأسف المؤسسات الدينية الرسمية في الخليج، الإفتائية فيها أو الإرشادية والوعظية والبحثية لا تمايز بين الأمرين، وهذا من أكثر إشكالات المؤسسات الدينية الرسمية في الخليج، بل في أغلب الوطن العربي، فهي غير قادرة على استيعاب المختلف عنها دينيا وفكريا حتى في الوطن الواحد، وإشراكه في المؤسسة، كما أنها تميل إلى مذهب وخطاب كلامي وفقهي واحد، يؤدي إلى تهميش المذاهب الأخرى المشتركة معها في الوطن، والأصل أنها تكون جامعة للجميع تحت مظلة الإحياء والنهضة وبناء الواقع.
عدم التمايز هنا هو الذي وقع حوله الضجيج نتيجة كتاب «الوهابية الرستمية: ضلال مبين وعداء للدين» لمعالي الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالسعودية، وهو صورة واحدة من عشرات الصور في المؤسسات الدينية الرسمية للأسف، أنها لا تمايز بين المؤسسة الجامعة، وميولات أفرادها المذهبية، فهناك الكتب المذهبية الخالصة التي تُنشر في هذه المؤسسات، هدفها الانتصار لمذهب معين، أكثر من التركيز على المشتركات، ولست هنا لبيان أمثلة لذلك، فلدي عشرات الأمثلة في غالب الأقطار العربية، ومنها الخليجية.
وكما أسلفتُ من حق عبد اللطيف كغيره من المؤلفين في أي مجال ديني وثقافي وفكري ومعرفي كتابة ما يقتنعون به، ويتوصلون إليه، ولكن لكل بابه ومكانه، ومن حق الآخر نقده ونقضه، ولكن دون إدخال المؤسسات الدينية الرسمية في هذا الجدل، والمتأمل في هذا الكتاب جدلية طرحت قديما، حيث لما أطلق خصوم دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب عليها اسم «الوهابية» رفضوا هذا المصطلح، ومنهم من رده بدعوى أن الوهابية هم أتباع عبد الوهاب بن عبدالرحمن بن رستم (ت 171هـ)، وممن كتب في هذا مبكرا محمد بن سعد الشويعر في كتابه «تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية»، وهؤلاء ومنهم عبد اللطيف وقعوا في خطأ تأريخي ومنهجي، فالقضية في الأصل في إشكالية التوريث، ففئة وعلى رأسهم عبدالله بن يزيد الفزاري (ت 179هـ) رفضوا توريث عبدالوهاب، ومالوا إلى زعيمهم يزيد بن فندين، وبما أن الخلاف قديم بين تلاميذ أبي عبيدة الكبير (ت 150هـ)، لهذا تسمى خصومهم بالوهبية، أي الخالصة الموحدة على ما عليه المسلمون الأوائل، أو نسبة إلى عبدالله بن وهب الراسبي (ت 38هـ)، مع أن ابن وهب ليس له آثار كلامية أو فقهية، وإنما تعلقه بإمامة الدفاع على الأغلب، فانتسابهم إلى الوهبية أي على ما كانوا عليه في عهد أبي عبيدة الكبير ومن بعده، بينما أطلق على أتباع ابن فندين النكارية أو النفاثية أو اليزيدية أو الفزارية، وهم يحبذون اسم مستاوة، قيل نسبة إلى أهل الاستواء والحق، وقيل نسبة إلى قبيلة مستاوة، وظهر منهم علماء كبار، خصوصا في الأندلس، وتعرضوا ذاتهم إلى اضطهاد من الوهبية، وكان بينهم جدل خرج عنه نفائس المذهب الإباضي في المغرب العربي، وجميعهم إباضية مذهبا، ويشتركون في ذات الأصول الكلامية والفقهية.
على أن كتاب «الوهابية الرستمية» ضعيف منهجيا، وأغلب نقولاته من الكتب الإباضية وغيرها، وفيه خلط بين إباضية المغرب والمشرق، ويبدو أنه رد على الإباضية أكثر منه لبيان مصطلح «الوهابية» معرفيا ومنهجيا، ووقع بذاته في تناقضات، كقوله «فقد عطلت هذه الحركة أركان الإسلام مثل الحج والصيام»، ثم قال في موضع آخر نقلا عن أبي القاسم يزيد بن مخلد الوسياني (ت ٣٥٨هـ ): « ... أنتم الوهبية تحتسبون إعادة الحج وتؤثرونه لكثرة فضله»، كذلك نقل عن فاليري هوفمان أنها قالت: «ويعد كتاب العقيدة الوهابية واحدا من أهم المراجع الواضحة في هذا الموضوع، وهو كتاب غير منشور خصص للمبتدئين من طلبة الشريعة» وتقصد كتاب «العقيدة الوهبية» لأبي مسلم البهلاني (ت 1339هـ)، وقد أشار إليه المؤلف ذاته في موضع آخر، فما ذكر عن هوفمان خطأ في الترجمة أو الطباعة.
على أن أخطر ما في الكتاب – من وجهة نظري- أنه يدعو إلى العنف من خلال اجترار نصوص تأريخية لها ظرفيتها، فأغلب الإباضية اليوم في شمال أفريقيا سواء في تونس أو جبل نفوسة بليبيا أو الجزائر متعايشون مع المالكية عموما، ومع دولهم المركزية خصوصا، ولهم حريتهم في عباداتهم ومساجدهم، بينما المؤلف أورد نصوصا تدعو إلى الاستيلاء على مساجدهم، ومنعهم من إظهار شعائرهم، وسجنهم وتقييدهم، وعدم جواز زواجهم من المالكية، وإن استدعى الحال جواز قتلهم عند البعض، وهذه نصوص تأريخية لها خطورتها على السلم الاجتماعي، وقد تستغلها الجماعات المتطرفة كما حدث في جربة وجبل نفوسة، وهذا ما يحاربه الدكتور ذاته، وعانت حتى المملكة من مثل هذه الجماعات المستوردة لمثل هذه النصوص.
وحتى لا يكون كلامي مطلقا فهو مثلا ينقل عن أبي القاسم السيوري المالكي (ت 462هـ) حول تجمعات الوهبية الإباضية: «أما هدم المسجد الذي كانوا يصلون فيه فلا، لكن يخلى منهم، ويعمر بأهل السنة، ويمنع العزابة (الغرابة) من الدخول إليهم، والتصرف عندهم، ومنعهم من ذلك عين الحق والصواب، والنكاح الذي أحدثوا من نسائنا يفسخ (ويفسح نكاح من تزوجوه من أهل السنة)، وسجنهم وضربهم إن لم يتوبوا (هو الحق) من الأمر من الحق، ويردون إلى مذاهب أهل السنة، ومن قدر على ما ذكرناه فيلزمه فعل ذلك إذا كانت قدرته ظاهرة، ولا يتركون يخالطون الناس»، وينقل أيضا عن أبي الحسن اللخمي (ت 478هـ) أنه «إذا أظهر هؤلاء القوم الذين ذكرت مذهبهم وأعلنوه وابتنوا (وأنشأوا) مسجدا يجتمعون فيه، وصلوا العيد بناحية من المسلمين بجماعة، (إذا كان الأمر كما ذكرت، فهذا باب عظيم يخشى منه أن تشتد وطأتهم، ويفسدوا على الناس دينهم، وتميل الجهلة ومن لا تمييز عنده إليهم، فواجب على من بسط الله قدرته ( يده في الأرض) أن ( يستهينهم) يثنيهم ( يستتيبهم) مما هم عليه، فإن لم يرجعوا (يتوبوا) ضربوا وسجنوا، ويبالغ في ضربهم، فإن أقاموا على ما هم عليه (فإن لم ينتهوا) فقد اختلف في قتلهم».
مثل هذه النصوص، وغيرها من النصوص التي أوردها خصوصا عن الخوارج، وقد ناقشت آثارها السلبية في كتابي «فقه التطرف»، لها ظرفيتها التأريخية، ولها مثيلاتها في جميع المذاهب الإسلامية بلا استثناء، فكتب التراث كتب بشرية فيها من الحسن المستفاد منه، وفيها من السيئ الذي انتهى زمنه، ونقول عفا الله عنهم جميعا وغفر لهم، وعلينا اليوم أن نتجاوز القراءة الإسقاطية السلبية للتراث، إلى القراءة النقدية والتعايشية، وأن نعيش الواقع بحيث نغرس في عقول الناس المحبة والإحياء والعلم والنهضة، وليس الصراع وكراهية الآخر، لتنبت وفق هذا نباتات متطرفة حينها لن ترحم حتى القريب ذاته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عبد الوهاب فی الخلیج محمد بن مثل هذه على ما بن عبد فی هذا
إقرأ أيضاً:
هل مواقع التواصل الاجتماعي ستُنهي مشاهدة التلفزيون؟.. ياسر عبد العزيز يجيب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور ياسر عبدالعزيز، الخبير الإعلامي، إن وسائل التواصل الاجتماعي كانت اللاعب الرئيسي المؤثر الكبير والوسيط الإعلامي في الانتخابات الأمريكية، وكثير من أفراد الجمهور خصوصا الأصغر سنًا يتزودون بالأخبار والآراء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي يتراجع الاعتماد على الوسائط التقليدية مثل التليفزيون والصحيفة والإذاعة، وأصبحت فاعل رئيسي في صياغة التوجهات لدى الناخبين وقراراتهم التصويتية.
وأضاف عبدالعزيز ، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج "كل الزوايا" مع الإعلامية سارة حازم طه، المُذاع على قناة "أون"، أن مشاهدة المحتوى عبر وسيط مثل التليفزيون والتليفون والراديو ستكون إلى زوال، لأن المستقبل يتجه إلى زراعة العدسات في العيون وأن يكون التلقي مباشر بدون الاعتماد على وسائط.
وأشار إلى أن الناس التي تنتج محتوى وتوصله للجمهور باقية ولن تفنى، ولكن أن يكون الوسيط هذا جريدة أو صحيفة مطبوعة أو مجلة فهذا لن يستمر، والآن الصحف الورقية تحتضر.
وتابع عبدالعزيز : "كل يون بنشوف تطورات تكنولوجية، لكن المُعد والمصور والمذيع وظائف موجودة إلى أبد الآبدين، ولكن الوسيط هو من سيتغير".