يبلغ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وأراض فلسطينية أخرى أكثر من نصف قرن الآن. ولقد أدى تلاشي الذكريات بمرور الزمن إلى عدم فهم لجذور وطبيعة العنف الحالي الذي يتركز الآن بين إسرائيل والفلسطينيين على قطاع غزة.
لقد حاول أغلب الخطاب الجاري خلال الأشهر الثمانية الماضية أن يطمس الذكريات بمزيد من القوة من خلال الزعم بأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني قد بدأ في السابع من أكتوبر سنة 2023، كأنما جاءت هجمة حماس على جنوبي إسرائيل في ذلك اليوم من العدم ولم يكن لها من دوافع إلا بعض الكراهية العميقة غير المفهومة للإسرائيليين.
لنا أن نتعلم الكثير من ذلك الصراع الطويل والمزعج، فمن ذلك كيف أن الصهاينة الأوائل أدركوا أن مشروعهم يتعلق بالضرورة باستعمال القوة ضد الشعب المقيم أصلا في فلسطين. ففي عام 1919 قال ديفيد بن جوريون ـ رئيس وزراء إسرائيل في قابل السنين ـ إن«هناك هوة، هوة ما لشيء أن يملأها... لا أعرف مَن مِن العرب سيوافقون على أن تكون فلسطين لليهود...إننا أمة تريد هذا البلد أن يكون لنا، وإن العرب أمة تريد هذا البلد لها». ثم جاءت أحداث أربعينيات القرن العشرين الدامية، فمنها مجازر وتهجير جماعي تتجاوز ما تحتفظ به الذاكرة الحية لدى أغلب الفلسطينيين اليوم لكنها كانت تجربة جماعية أليمة جعلت النكبة حية في الوعي الوطني الفلسطيني. كان الإرهاب ـ الذي احتل جزءا كبيرا من الصراع على فلسطين ـ يأتي من جماعات قادها رئيسان قادمان لوزراء إسرائيل هما مناحم بيجن وإسحق شامير.
بالنسبة لكثير من الأمريكيين الذين يبلغون من العمر اليوم عدة عقود، نجد أن الوعي المبكر بظاهرة الإرهاب الدولي قد ارتبط بالفلسطينيين في المقام الأساسي. إذ أصبح الإرهاب الدولي مفردة في عناوين أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بدرجة أكبر كثير مما كان عليها في سنين أسبق. إذ ارتكبت جماعات فلسطينية العديد من الهجمات اللافتة ذات العناوين الصادمة، من قبيل عمليات خطف متزامنة لطائرات وما أعقبها من تدمير لمهبط طائرات صحراوي سنة 1970 واغتيال لرياضيين إسرائيليين في أولمبياد ميونخ سنة 1972.
ولم يكن توقيت تلك الفورة أو قيادة فلسطينيين لمرتكبيها من قبيل المصادفة. فقد كان الحدث الأساسي الذي عجّل بذلك يتمثل في حرب سنة 1967 التي بدأتها إسرائيل وأدت إلى استيلائها على أراض عربية في فلسطين ومصر وسوريا فكانت تلك بداية احتلال مستمر منذ عقود لأراض فلسطينية.
لقد نفذت تلك الهجمات جماعات فلسطينية من قبيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والصاعقة، وفتح، وجماعات منشقة مثل أيلول الأسود (التي خططت ونفذت مذبحة ميونيخ). وتلك الجماعات كانت تمثل مجموعة متنوعة من الأيديولوجيات والتوجهات السياسية لم يوحدها إلا الغضب المشترك من القهر الإسرائيلي لإخوانهم الفلسطينيين. غير أنها كانت في الغالب جماعات علمانية لا إسلامية (بل إن مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وزعيمها لفترة طويلة هو جورج حبش الذي نشأ في الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية). ولم يكن لحماس التي لم تتأسس إلا في عام 1987 دور في أي من هذا. من النصائح المعهود إسداؤها لمن يشكو من سلسلة طويلة من العلاقات السيئة مع الآخرين أن ينظر إلى ما لعله هو نفسه يفعله فيتسبب في تكرار المشكلة بدلا من أن يستمر في لوم الآخرين. وهذه النصيحة تسري على البلاد مثلما تسري على الأفراد.
لكن إسرائيل ـ بعلاقاتها الطويلة العنيفة مع الفلسطينيين، وقد باتت مشفوعة الآن بعلاقات سيئة مع المحاكم الدولية وكثير من بلاد العالم، لا تأخذ بهذه النصيحة. وعجزها عن اتباع هذه النصيحة هو الذي يدفعها إلى الاستمرار في إراقة الدم ومفاقمة الكارثة الإنسانية التي حلت بقطاع غزة على مدار الأشهر الثمانية الماضية. إن هدف حكومة إسرائيل المعلن من مواصلة الهجوم هو «تدمير حماس». ولئن صدقنا قادة إسرائيل في ما يقولون فإنهم عازمون على مواصلة السعي إلى هدفهم، وهذا هو العائق الأساسي للتوصل إلى وقف لإطلاق النار.
وحتى لو أن صناع القرار الإسرائيليين لا يبالون ألبتة بمعاناة الفلسطينيين ولا يكترثون إلا بأمن المواطنين الإسرائيليين وسلامتهم، فإن هدف «تدمير حماس» هدف ضال على مستويات متعددة.
حماس ليست جيشا نظاميا يقاس تدميره بعدد الكتائب التي يقضى عليها. ولكنها حركة، وأيديولوجية، ووسيلة للتعبير عن السخط من قهر إسرائيل. ولقد حظيت بدعم من الفلسطينيين الذين رأوها أصرح الجماعات وقوفا في وجه إسرائيل، وبخاصة إن قورنت بالسلطة الفلسطينية الخاضعة لسيطرة فتح التي لا تعدو في نظر الفلسطينيين أكثر كثيرا من أداة في يد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. ولقد أدى سلوك إسرائيل في غزة إلى زيادة شعبية حماس بين الفلسطينيين، ومن المتوقع أن يكن نعمة على قدرتها على التجنيد. والأهم من ذلك، وبحسب ما يبين لنا تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أنه لا يوجد ما تتميز به حماس وتختلف به عن وسائل أخرى لمقاومة القمع الإسرائيلي. لقد نشأت حماس من جماعة الإخوان المسلمين. ولولا الاحتلال الإسرائيلي، لكانت بمنزلة فرع فلسطيني للإخوان المسلمين، لا يختلف في شيء عن فروع للجماعة في تونس والأردن ومصر (قبل التغيير الذي حدث في مصر في عام 2013)، أي فروعا لجماعة سلمية تنافس على السلطة كل في بلده. بل إن حماس نفسها قامت فعليا بدور المنافس السلمي على السلطة في بلدها حينما سنحت لها الفرصة لذلك. ومهما يكن رأي المرء في ما أصبحت عليه حماس اليوم، فقد أصبحت كذلك لا بسبب شيء في جيناتها تختلف به عن بقية الكيانات الفلسطينية، ولكنها أصبحت كذلك بسبب ظروف أخضعت لها إسرائيل الأمة الفلسطينية. ولو كان مقدورا لحماس أن تتلاشى في الغد، فإن جماعات أخرى سوف تستعمل العنف وسيلة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. فذلك ما فعلته جماعات مختلفة نشطت في ستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكذلك ستفعل جماعات أخرى، منها ما سوف يتكون في المستقبل ما دام الاحتلال مستمرا هو وما يرتبط به من معاملة للفلسطينيين. سوف تستقر المعاناة التي تعرض لها أهل قطاع غزة على مدار الأشهر الثمانية الماضية في الوعي الفلسطيني بجانب نكبة أربعينيات القرن الماضي والغزو الإسرائيلي سنة 1967 بوصفها سببا للغضب الفلسطيني ودافعا لجماعاتهم في المستقبل، ولن تنتهي القصة المفجعة بتدمير أي جماعة بعينها، وإنما بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإنهاء الاحتلال.
بول بيلار ضابط مخابرات أمريكي سابق شغل العديد من المناصب المرموقة ذات الصلة بالشرق الأوسط في الوكالة الأمريكية وله عدد من المؤلفات.
عن ذي ناشونال إنتريست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی إسرائیل فی
إقرأ أيضاً:
تحقيق صحفي: إسرائيل تطور أداة جديدة لتضييق الخناق على الفلسطينيين
كشف تحقيق أجرته مجلة "+972" الإلكترونية الإسرائيلية بالتعاون مع منصة "لوكال كول" العبرية وصحيفة غارديان البريطانية، أن الجيش الإسرائيلي يعكف على تطوير أداة ذكاء اصطناعي جديدة شبيهة بتطبيق شات جي بي تي، وتدريبها على ملايين المحادثات العربية التي تحصل عليها من خلال مراقبة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وتُعرف الأداة الجديدة التي يجري تطويرها تحت رعاية الوحدة 8200 -وهي فرقة النخبة في الحرب الإلكترونية داخل شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية- باسم نموذج اللغة الكبيرة "إل إل إم" (LLM)، وهو برنامج تعلم آلي قادر على تحليل المعلومات وتوليد النصوص وترجمتها والتنبؤ بها وتلخيصها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست: إسرائيل بنت مصنعا للذكاء الاصطناعي وأطلقت له العنان في غزةlist 2 of 2الموت القادم من الغمام.. كيف سهّلت شركات التخزين السحابي قتل الغزيين؟end of listويغذَّى النموذج الجديد، الذي يعمل الجيش الإسرائيلي على تطويره، بكميات هائلة من المعلومات الاستخباراتية التي يتم جمعها عن الحياة اليومية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال.
تضييق خناقووفق مجلة "+972" اليسارية الإسرائيلية، فإن النموذج الجديد كان لا يزال في طور التدريب في النصف الثاني من العام الماضي، ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كان قد نشر أو كيف سيستخدمه الجيش بالضبط.
ونسبت إلى 3 مصادر أمنية إسرائيلية أن الفائدة الأساسية التي سيجنيها الجيش من هذه الأداة الجديدة تتمثل في قدرتها على المعالجة السريعة لكم هائل من مواد المراقبة من أجل الإجابة عن أسئلة تتعلق بأفراد بعينهم.
إعلانوبالنظر إلى الكيفية التي يستخدم بها الجيش بالفعل نماذج لغوية أصغر، يبدو أن من شأن نموذج اللغة الكبير الجديد أن يزيد من توسيع نطاق تجريم إسرائيل واعتقال الفلسطينيين.
وأوضح مصدر استخباراتي ظل يتابع عن كثب تطوير الجيش الإسرائيلي للنماذج اللغوية في السنوات الأخيرة أن الذكاء الاصطناعي يضخم القوة، فهو "يسمح بتنفيذ عمليات باستخدام بيانات عدد أكبر -بكثير- من الأشخاص، مما يتيح السيطرة على السكان، ولا يتعلق الأمر فقط بمنع وقوع حوادث إطلاق نار".
مليارات الكلماتوأضاف "يمكنني تتبع نشطاء حقوق الإنسان، ومراقبة أعمال البناء التي يقوم بها الفلسطينيون في المنطقة "ج" (في الضفة الغربية). ولدي المزيد من الأدوات لمعرفة ما يفعله كل شخص في الضفة الغربية. وعندما يكون لديك الكثير من البيانات، يمكنك توجيهها نحو أي غرض تختاره".
وكشف التحقيق المشترك، الذي أوردت مجلة "+972" بعض تفاصيله في هذا التقرير، أنه بعد هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، استعانت السلطات في تطوير النماذج اللغوية بمواطنين إسرائيليين من ذوي الخبرة كانوا يعملون في شركات التكنولوجيا العملاقة مثل غوغل وميتا ومايكروسوفت.
ونقلت المجلة عن أحد المصادر أن روبوت الدردشة الآلي الخاص بالوحدة 8200 جرى تدريبه على 100 مليار كلمة باللغة العربية تم الحصول على بعضها من خلال مراقبة واسعة النطاق للفلسطينيين الخاضعين للاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يحذر الخبراء من أنه يشكل انتهاكا خطيرا لحقوق الفلسطينيين.
مختبروأعرب نديم ناشف، مدير ومؤسس المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، عن مخاوفه قائلا إن الفلسطينيين أصبحوا مادة في مختبر إسرائيل لتطوير هذه التقنيات واستخدام الذكاء الاصطناعي كسلاح، "وكل ذلك بغرض الحفاظ على نظام فصل عنصري واحتلال تُستخدم فيه هذه التقنيات للهيمنة على شعب والتحكم في حياته".
إعلانوذكرت المجلة أن مصادر استخباراتية إسرائيلية أكدت لها أن المشكلة الأكثر إلحاحا في الضفة الغربية لا تكمن بالضرورة في دقة هذه النماذج، بل النطاق الواسع للاعتقالات التي تتيحها.
وزادت تلك المصادر قائلة إن قوائم المشتبه بهم من الفلسطينيين تتزايد باطراد، حيث تجمع كميات هائلة من المعلومات بشكل مستمر ومعالجتها بسرعة باستخدام الذكاء الاصطناعي.