عربي21:
2025-05-02@06:04:57 GMT

الدولاب السوري الذي لم يكن يدور

تاريخ النشر: 10th, June 2024 GMT

قال الدكتور راتب شعبو في شهادته في بودكاست "في الظل": إن ألم التعذيب بالكبال مستمر وطويل، وليس مثل التعذيب بالدولاب الذي يخفت بعد الجلد.. يمكن اقتراح عمل متحف لآلات التعذيب السورية، أما متحف الآلام فنقع على مشاهد منه في شهادات الناجين.

المشهور من مواهب بشار الأسد وملكاته أنه فيلسوف، وطبيب عيون يا سهام في العين، وليس بشاعر، وتتجلى فلسفته وسفسطته في حواراته مع فضائيات "سفساط" المقاومة (وقد صارت الدنيا إلى سفساطين).

. خذ هذا الشاهد، يسأله المحاور عن البرميل، فيقول: لا يوجد عندنا براميل أو طناجر! لكن لآلات تعذيبه أسماء شعرية لطيفة، وقد فرحتُ بأسمائها فرحة عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بابنه عبد الرحمن، حينما رجع إلى أبيه وهو يبكي ويقول: لسعني طائر! قال: فصفه لي يا بنيّ! قال كأنّه ثوب حبرة! قال حسّان: قال ابني الشّعر وربّ الكعبة! وكان الذي لسعه زنبورا.

حينما سمعت باسم أول آلة تعذيب سورية، قلت: السجان السوري شاعر ورب الكعبة، وكان اسمها بساط الريح، وعدلت بين السجان والرئيس وسوّيت بينهما، فهما عندي توأمان، وكفتا ميزان وركبتا بعير، ثم تتالت قصائد حافظ الأسد: الكرسي الألماني، الدولاب وهو دولاب حقا وليس كناية أدبية، وفيه يوضع السجين كما العصي في العجلات، والأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة؛ وقد سميت باسمه آلة من آلات التعذيب كما سميت دافعة ارخميدس باسم مكتشفها، وقانون مولر للسوائل وقانون كيرشوف في التيارات الكهربائية وجدول مندلييف الدوري للعناصر، وكلها مشتملة على نوع من الدوران خفي أو ظاهر.

الأدب السوري هو أدب سجون، و"قصائد" الرئيس هي قصائد سجن أيضا، السجان هو وجه الرئيس الثاني، لولا السجان لما كان الرئيس. السجان هو حارس النظام الأول، أما خطب الرئيس وخطب أبيه فهي متهافتة وخالية من الشعر، وإن توفرت على بلاغات وجحدت، فإنما جحدها كذبه وبطشه وتكرارها.

الدولاب أشهر آلة تعذيب سورية، وهو أعظم اختراع بشري على الإطلاق، وقد اختُرع لتخفيف الحمل على الإنسان، وقد استُعمل في عربات الجر وبكرات متح المياه من الآبار، ولم يخطر لمخترعه استخدامه في التعذيب.

ووجدت أناسا فكهاء يزعمون أنَّ الانترنت أعظم اختراع بشري، ووجدت آخرين يدَّعون أنَّ المايوه البكيني أعظم منه!

وكانت منية المتمني في سوريا أن يتخذ سيارة بأربعة دواليب، لولا غلاء سعرها، وما غلاء سعرها إلا لارتفاع رسوم جمركتها، في بلد تقل فيه الخدمة والحركة، حتى قيل فيها الأمثال! أما الدراجة النارية، فممنوعة إلا برخصة لا ينالها إلا المقربون.

وثّقت منظمات حقوقية اثنتين وسبعين طريقة للتعذيب في المعتقلات السورية، أدناها الإهمال، وأعلاها سماع صرخات الأطفال والنساء وهم يتعذبون أو يغتصبون وراء الجدران
وكان الدولاب يستخدم في سوريا أحسن استخدام، ليس لمواكبة حركة التاريخ وحمل الأحمال، وإنما لتثبيت المعتقل، وتثبيت المعتقل يقتضي تثبيت المجتمع، وتثبيت المجتمع يفضي إلى تثيبت النظام.

وثّقت منظمات حقوقية اثنتين وسبعين طريقة للتعذيب في المعتقلات السورية، أدناها الإهمال، وأعلاها سماع صرخات الأطفال والنساء وهم يتعذبون أو يغتصبون وراء الجدران.

لا يجد المرء جمالا أو بديعا أو بلاغة سوى جماليات السجع في شعارات النظام السوري البعثي. يقول الدكتور راتب شعبو في شهادته إنَّ شعار "قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد" غير واقعي، وسيجد المرء في شهادة كل ناج من الموت أنَّ أساليب التعذيب غير واقعية، فقد حكم السوريين نظام لا يعرف مثله في التاريخ المعاصر أو الغابر، وإنَّ جميع المعتقلين أبرياءٌ اعتقلوا لتثبيت النظام، وبعضهم أطفال اعتقلوا لأسباب لا تخطر على بال بشر، وأن النظام كان يعتقل النابغين والمستبصرين وقائيا، كي يكونوا عبرة لمن يعتبر، وإرغاما لمن جحد وكفر. فالنظام مشاد بطريقة دينية، الرئيس هو الإله المعبود: من يعبد الرئيس يُكرم، ومن يتجنب الشرك به يَسلم، ومن يُشرك به يجرّم ويضرّس بأنياب ويظلم.

يُطوى المعتقل في الدولاب، فيصير دبره في جهة، وقدماه ورأسه في جهة ثانية، فيثبت النظام.

علم كاتب السطور بعد أن هاجر إلى المانيا مصداق قول القائل: إنَّ أعظم اختراع بشري على الإطلاق هو الدولاب، فكل شيء يدور على عجلات في أوربا: عكاكيز الكهول، عربات التسوق، بكرات المصانع، الرافعات، السيارات، الدراجات التي لها مئات الأصناف، السكوترات. هذه في الأشياء، أما الخلية الحية فتدور فيها الكريات البيض والحمر، وكل في فلك يسبحون، إلا النظام السوري الثابت، الذي تقلص كثيرا هذه الأيام بحرارة الحرب، على عكس قوانين الفيزياء المعروفة.

كان السوريون يشترون جرار الغاز، ويدحرجونها في الشوارع جاعلين منها دواليب، يدفعونها بأقدامهم كما يفعل صنّاع اللباد، لمشقة حملها على الأكتاف، وكان الدفع بالقدم خطرا أيضا، ومزعجا.

كل واحد من الرعية السورية كان "سيزيفا"، عاقبه الإله السوري بدحرجة جرة الغاز، الجرة كانت دولاب السوري الوحيد الذي يدور، حتى النواعير خرست.

أما اسم بساط الريح فمأخوذ من قصة من ألف ليلة وليلة، وهي آلة من لوحين متفاصلين بمفاصل، يطويان كالسجل، فيطوى معهما المعتقل، وهو عادة ما يكون من أنبغ السوريين وأكرمهم وأشجعهم، ثم يجال به العالم كما في أغنية فريد الأطرش من غير جناحين.

والشبْح، والكرسي الألماني، والتعذيب بالشمعدان.. يروي حذيفة ثابت، وهو ضابط مخابرات من الأقليات في شهادة مشهورة له، أنه كان يتعجب من ولع الموظفين السوريين المنتدبين في السفارة السورية في لندن بشراء الشمعدانات الرومانسية، حتى وجد أنها تستخدم في التعذيب، وليس للإنارة في المعابد. المعبد السوري الأشهر كان السجن، أما الأضاحي، فهي أكرم العقول السورية وأشرفها.

لنعترف أن النظام كان مبدعا في أمر آخر غير أسماء آلات التعذيب، وهو الشتائم، يسمع السوري المعتقل في السجن الذي يخلع فيه السجان قناعه الطائفي، شتائم لم تخطر على أذن بشر.

من خصائص الشعر نظما ونثرا، الاختصار، والاقتصاد اللغوي، وقد اختصر الشاعر السوري الوريث سوريا إلى الثلث، وشعبها إلى النصف، وهذا من البلاغة الشعرية الجغرافية والسكانية.

جامعة سجن تدمر وصيدنايا وعدرا هي أشهر جامعات ألم سورية مطلقا، وقد خرجت آلاف الشهداء ومئات الحكماء!

إن إنكار فضل الفاضلين جحود، اللهم نشهد.

وما زلنا ننتظر أن يدور الدولاب.. هو يدور إلى الخلف.

x.com/OmarImaromar

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التعذيب الأسد سجون سوريا سوريا الأسد تعذيب سجون سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

الدُّب … الذي بكته السماء !

مناظير الخميس 1 مايو، 2025

زهير السراج

manazzeer@yahoo.com

* في مساء حزين غابت فيه شمس العام الماضي، صعدت روح صديقي العزيز (عزالدين علي عبدالله)، المعروف بين أصدقائه بـ"عزالدين الدب"، إلى بارئها، وعلى وجهه نفس الابتسامة التي رافقته في الحياة، كأنما كانت تعانق الموت وترحب به، فبكته السماء قبل أن يبكيه البشر، وسالت دموعها فوق مقابر عين شمس في القاهرة، حيث وُري جثمانه الثرى بعد رحلة صمود طويلة، لا يملك من يعرفها إلا أن ينحني احتراماً أمام عظمة هذا الإنسان الفريد.

* لم يكن "الدب" مجرد لقب طريف أطلقه عليه الأصدقاء في صباه بسبب امتلاء جسمه، بل صار مع الأيام رمزاً لقلب كبير يسع الدنيا، وروح مرحة، وجَنان صلب لا تهزه العواصف. ورغم إصابته بالفشل الكلوي لأكثر من عشر سنوات واعتماده على الغسيل المنتظم، لم يكن أحد يصدق أنه مريض، فقد كان صحيح البدن، قوي النفس، عالي الضحكة، حاضر النكتة، سيّال الفكرة، متوقد الذهن.

* عرفته كما عرفه غيري إنسانا مثقفا ومحدثا لبقاً، مجلسه لا يُمل، وحديثه لا يُنسى، وتحليله السياسي والاجتماعي لا يشق له غبار. كان موسوعة متحركة، لا تسأله عن شأن في السودان أو في العالم إلا وتنهال عليك منه الدهشة والإفادة. ولم يكن هذا لشغفه بالسياسة فقط، بل كان عاشقاً للفن والشعر والغناء، يحفظ القصائد والأبيات والأغاني ومَن قالها ولحّنها وغنّاها وتاريخها، وكأنما خُلق ليكون ذاكرة حية لكل شيء جميل.

* عشق الفروسية ونادي الفروسية وسبق الخيل، وكان يحفظ عن ظهر قلب اسماء الفرسان والخيل وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وظل طيلة الخمسين عاما الاخيرة من حياته التي لم يغب فيها يوما واحدا عن ميدان السبق مع رفيقه وصديقه (ماجد حجوج) من أعمدة النادي والمؤثرين والمستشارين الذين يؤخذ برأيهم، ومحبوبا من الجميع.

* كان بيت أسرته في حي بانت شرق بأم درمان ندوة يومية يقصدها الناس من كل فج، ينهلون من علمه ويضحكون من قلبهم لطرائفه التي لا تنتهي، وحكاياته التي تتفجر دفئاً وإنسانية، كما لو أنه خُلق من طينة خاصة لا تعرف غير البهجة، رغم معاناته الطويلة مع المرض.

* ثم جاء يوم 15 أبريل، يوم الفجيعة الكبرى، وانفجر جحيم الحرب اللعينة في السودان، وسقطت القذائف على المدن والناس، وأظلمت الحياة، وانعدم الأمان وانهارت المستشفيات، وانقطع الدواء، وتوقفت جلسات الغسيل، فصار عزالدين يخاطر بحياته بحثاً عن مركز يعمل، ينتقل على عربات الكارو بين الدانات والقذائق وزخات الرصاص، ورغم كل ذلك لم تغب ابتسامته، ولم يفقد شجاعته.

* نزح إلى كسلا، ثم بورتسودان، الى ان قادته الأقدار إلى القاهرة، حيث احتضنه أصدقاؤه الأوفياء الدكتور مجدي المرضي، وشقيقه ناصر المرضي، والدكتور صالح خلف الله، وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم ووقفوا بجانبه حتى آخر لحظة من حياته، جزاهم الله خير الجزاء، وجعل ما فعلوه في ميزان حسناتهم.

* لكن القلب الذي صمد كثيراً، أنهكته أيام السودان، وضربات الحرب، وعدم انتظام الغسيل وصعوبة الحياة تحت نيران المدافع، فلم يحتمل، واختار الرحيل في صمت هادئ، بابتسامته البهية التي كانت عنواناً له في الحياة، كأنه يقول لنا وداعاً دون نحيب.

* نعزي أنفسنا وأسرته المكلومة، وشقيقاته العزيزات د. سامية، د. سلوى، وسميرة، وأصدقاءه الذين كانوا له عوناً وسنداً، ونبكيه بقدر ما أحببناه، ونترحم عليه بقدر ما أدهشنا بعظمة صبره وروعته وبهاء روحه. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

   

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تهدد النظام السوري بصورة مباشرة
  • كاتس يحذر الرئيس السوري أحمد الشرع
  • تعرف على النظام الغذائي الذي يقودك الى نوم هادئ وعميق
  • الوزير الشيباني: نحن نؤمن أن الطريق إلى الاستقرار يمر عبر الحوار، والتشارك الفعلي بين جميع مكونات الشعب السوري بعيداً عن الإملاءات، وتحت سقف السيادة السورية الكاملة، لأن لا أحد أحرص على سوريا من أبنائها، ولا يمكن لأي قوة خارجية أن تبني دولة قوية دون إرادة
  • الوزير الشيباني: نُثمّن كذلك جهود وزارة الخارجية السورية وفريقها، والدعم الذي قدمه السفراء العرب وممثلو الاتحاد الأوروبي. نقدر أيضاً دعم أبناء الجالية السورية في الولايات المتحدة وتفاعلهم الوطني الصادق
  • الدُّب … الذي بكته السماء !
  • من هدوء المدينة إلى نار الاشتباكات والطائفية... ما الذي حدث في جرمانا السورية؟
  • نبش قبر الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد بعد شهور على إحراقه (شاهد)
  • القصة الكاملة للمقاتل السوري مجدي نعمة الذي بدأت محاكمته اليوم بباريس
  • المشهد اليمني الذي يشبهُ غزة