"إنني مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قراري (التنحي)، وفى نفس الوقت فإن صوت جماهير شعبنا بالنسبة لي أمر لا يرد. ولذلك فقد استقر رأيي على أن أبقى في مكاني وفي الموضع الذي يريد الشعب منى أن أبقى فيه، حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان".

كان ذلك جزءا من الخطاب الذي حرره الإعلامي الشهير محمد حسنين هيكل بتنسيق مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي بادر بإرساله إلى رئيس مجلس الأمة وقتها محمد أنور السادات ليتلوه على الحضور في العاشر من يونيو/حزيران 1967.

كان يفترض أن يتوجه الرئيس إلى مجلس الأمة (البرلمان) ليتحدث مع النواب الذين تجمعوا هناك منذ إعلانه تنحيه، لكن قيادة الحرس الجمهوري منعته من ذلك مؤكدة له أنها لا تستطيع ضمان سلامته بسبب الجماهير الحاشدة التي تملأ الطرقات، والتي لا تزال تتقاطر من قرى مصر ومدنها على القاهرة لمطالبة الرئيس بالبقاء وقيادة البلاد نحو النصر ومحو آثار العدوان.

الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كان مصرا على التنحي -بحسب المقربين منه- لكنه خضع لرغبة الجماهير (غيتي) التنحي

وقبلها بساعات، في يوم التاسع من يونيو/حزيران، كان عبد الناصر قد تحدث في خطاب شهير عن الهزيمة القاسية التي حدثت قبل 4 أيام، وأعلن تنحيه عن الحكم، وخاطب الشعب قائلا "لقد اتخذت قرارا أريدكم جميعا أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبى معها كأي مواطن آخر".

وتابع "إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحا أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر".

لكن الرئيس سرعان ما تراجع عن القرار الذي طالب من الجماهير بمساعدته على تنفيذه، و"استجاب لمطلب الشعب" ببقائه في الحكم، "حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان".

وبعد أن أنهى السادات قراءة رسالة الرئيس قام رئيس الوزراء وقتها محمد صدقي سليمان وبعد أن حمد الله، شكر الرئيس على استجابته لرغبة الشعب، كما وقف وكيل مجلس الأمة سيد مرعي وحاول الكلام لكن الدموع غلبته وأغمي عليه.

ثم ما لبث أن قرر المجلس -تحت التصفيق المستمر والرقص فرحا- منح الرئيس عبد الناصر كل صلاحياته ليقوم بالتعبئة الكاملة والشاملة لإعادة البناء العسكري والسياسي للبلاد لمواجهة التحديات.

مسرحية؟

التنحي والتراجع عنه بعد خروج الجماهير الحاشدة إلى الشوارع مطالبة الرئيس بالبقاء في السلطة، لا يزال موضوعا يثير الجدل، بين من يرى أنه كان "مسرحية" رام من خلالها الرئيس استعادة الشرعية الشعبية بعد الهزيمة القاسية في الخامس من يونيو/حزيران، وبين من يؤكد أنها كانت تطورا طبيعيا للأحداث خال من أي تلاعب سياسي.

يقول محمد حسنين هيكل، وكان أحد الأصدقاء المقربين من عبد الناصر ويده الإعلامية الضاربة، إن الرئيس كان صادقا في إصراره على التنحي عن الحكم وتكليف صديقه ورفيقه في "ثورة 23 يوليو" زكريا محيي الدين بتسلم زمام رئاسة الجمهورية.

ويوضح هيكل في كتابه "حرب الثلاثين سنة.. الانفجار 1967″، وفي برنامجه السابق على قناة الجزيرة "مع هيكل"، أن عبد الناصر أخبره أنه مقتنع بضرورة استقالته وتحمله مسؤولية الهزيمة القاسية، وأكد له أنه اتفق مع المشير عبد الحكيم عامر على استقالتهما معا، وتكليف وزير الدفاع وقتها شمس بدران بتولي مسؤولية رئاسة الجمهورية بشكل مؤقت في انتظار ترتيب الأوضاع.

وطلب من هيكل يوم الثامن من يونيو/حزيران تحرير خطاب التنحي، لكن عند مناقشتهما الخطاب صبيحة اليوم الموالي في بيت الرئيس، يقول هيكل إنه تحفظ على اسم شمس بدران، وذلك باعتباره أحد رموز "النكسة"، واقترح على عبد الناصر التفكير في بديل آخر، وليكن هو أقدم الأعضاء بالضباط الأحرار الذين لا يزالون في دائرة السلطة، ولم يكن سوى زكريا محيي الدين.

محمد حسنين هيكل هو من حرر خطاب التنحي لجمال عبد الناصر (مواقع التواصل) "لازم أمشي"

ويصر هيكل على أن عبد الناصر كان لا ينفك يردد عبارة "لازم أمشي"، في إشارة إلى أنه لا بد أن يستقيل متحملا مسؤولية الهزيمة، وذلك رغم أن المقربين منه رفضوا بشدة فكرة التنحي عندما علموا بها حتى قبل أن تذاع.

ويلخص هيكل أسباب تراجع عبد الناصر عن التنحي في الحرص على ضبط المشهد الداخلي واستيعاب غضب الجماهير والشارع الذي يغلي، وتفادي حدوث شرخ في المنطقة العربية التي سارع بعض حكامها للتواصل مع مكتب عبد الناصر لثنيه عن التنحي.

وذلك إلى جانب تفادي إحداث جرح غائر آخر في معنويات الضباط والجنود المصريين والسوريين الذين كانوا لا يزالون يقاتلون في سيناء والجولان. وبحسب هيكل، فإن قيادات أجنبية هي الأخرى تواصلت مع سفراء مصريين، مظهرة بشكل أو بآخر رغبتها في أن يتجاوز الرئيس المصري المحنة الحالية، ويبقى في مكانه لتحقيق الأفضل لشعبه.

ويوضح هيكل أن لحظات صدق نية عبد الناصر بلغت حد الطلب من هيكل متابعة المهام نفسها مع الرئيس القادم، زكريا محيي الدين، وعندما مد يده مودعا هيكل -صديقه- قبيل إلقاء الخطاب مع بداية مساء العاشر من يونيو/حزيران، لاحت دمعة في عين الرئيس، يقول هيكل في كتابه إنه لاحظها وسرعان ما التفت كيلا يرى الرئيس دمعة في عينيه هو الآخر.

أمر مدبر

لكن على عكس هذه اللوحة التي رسمها هيكل، شدد بعض قادة "ثورة 23 يوليو"، ومقربون من الرئيس عبد الناصر على أن قرار التنحي كان مجرد لعبة سياسية أخيرة اضطر الرئيس للتشبث بها لاستعادة شرعية ضاعت مع النصر الساحق الذي حققته إسرائيل منذ الساعات الأولى من صبيحة الخامس من يونيو/حزيران.

وأكد المعارضون أن إصرار عبد الناصر في خطابه على الحديث عن "استعداده لتحمل المسؤولية كلها"، يوضح بجلاء أنه ينفي كونه المسؤول الرئيسي عن الهزيمة، على عكس ما يورده أنصار الرئيس.

يحكي عبد اللطيف البغدادي -عضو مجلس قيادة الثورة وأحد أبرز قادة الضباط الأحرار- في الجزء الثاني من مذكراته أنه توقع هو وبعض زملائه أن تبدأ المسيرات الشعبية بعد انتهاء الرئيس من إلقاء خطاب التنحي، وهو ما حدث فعلا.

وتابع أنه شاهد تحركات من شباب حزب الاتحاد الاشتراكي -حزب النظام- في الحافلات التي جهزت لهذا الغرض برغم الظلام المخيم على العاصمة التي منعت فيه الإنارة ليلا لتجنب القصف الإسرائيلي.

ويوضح البغدادي أنه ومن معه استنتجوا أن "الأمر مدبر ومرتب من قبل"، بحيث تتحرك المنظمات التابعة للاتحاد الاشتراكي وتحشد الجماهير للمطالبة ببقاء الرئيس بمجرد انتهائه من إعلان تنحيه.

انطلقت التحركات في القاهرة ابتداء، ثم سرعان ما بدأت الأنباء تأتي من الأقاليم بأن حشودا هائلة خرجت للشوارع، وهي على استعداد للانتقال للعاصمة للمشاركة في هذا الحشد الجماهيري الكبير.

"الحج" نحو القاهرة

ويشرح اللواء جمال حماد، كاتب أول بيان لانقلاب 23 يوليو/تموز وأحد أبرز قادة الضباط الأحرار، أن السلطات في القاهرة اتصلت به -وكان وقتها محافظا لكفر الشيخ- ولما علمت منه أن الناس محتشدة في الشارع غاضبة مما جرى، طلبت منه توفير وسائل نقل عمومية وإرسالهم للقاهرة للمشاركة في المظاهرات الحاشدة.

ففعل ما أمر به، لكن هو لم يذهب معهم، وهو ما عرضه للمساءلة والمحاسبة لاحقا، بحسب ما أكده هو في حواره مع الجزيرة في برنامج "شاهد على العصر". وزاد أن كل المحافظين طلب منهم ذلك، ثم انتقلوا مع الجماهير الغاضبة إلى القاهرة، ليشارك الجميع في مظاهرات اليوم الخامس بعد الهزيمة، للمطالبة ببقاء عبد الناصر رئيسا للبلاد.

وعلق حسن إبراهيم -أحد الضباط الأحرار ومن أقرب أصدقاء عبد الناصر- على ما جرى بأنها خطة محبوكة "رسمها عبد الناصر بذكاء شديد". وزاد أن "من يدرس سيكولوجية الجماهير يعرف أنها عندما تجتاز محنة من المحن وتختلط في أذهانها الأمور، فإنها لا تعرف ماذا تفعل، ولذلك فهي تندفع وراء مفجر يفجرها ويوجهها الوجهة التي يريدها".

جمال عبد الناصر برفقة صديق عمره عبد الحكيم عامر قبل أن تفرق بينهما الحرب (مواقع التواصل)

وأوضح حسن إبراهيم، في شهادته لسامي جوهر "الصامتون يتكلمون" أن عبد الناصر "استغل مشاعر الناس في ذلك اليوم، وأعد لهم مجموعة من الشباب وزعهم على مختلف أنحاء القاهرة، حددت لهم ساعة الصفر للتحرك، وهي لحظة إعلانه تنحيه عن الحكم، وبطبيعة الحال ستندفع خلفهم بقية الجماهير، وهذا ما حدث".

الغريب أن المشير عبد الحكيم عامر، حاول هو الآخر بعد إعلان عبد الناصر تنحيه عن الحكم، أن يتوجه إلى مقر الإذاعة لإعلان اعتزاله السلطة، لكنه مُنع من ذلك.

وأورد سامي جوهر رواية محمد عبد الرحمن السكرتير الصحفي للمشير عامر، قال فيها إن عامر كان متوجها فعلا صوب الإذاعة لإعلان استقالته، لكن في الطريق أقنعه الفريق الذي كان معه بالعدول عن ذلك لاحتمال منعه، فاقتنع بكلامهم وتوجه معهم إلى منزل وزير الدفاع شمس بدران، ومن هناك بعث بنص الاستقالة لتُتلى في النشرة الإخبارية لكنهم رفضوا إذاعتها.

مما اضطر مكتب عامر لإرسالها لوكالات الأنباء التي سارعت لنشرها، ووافقوا لاحقا على بثها عبر أثير الإذاعة المصرية.

لكن الأحداث تطورت بشكل متسارع، إذ "أعادت" الحشود عبد الناصر إلى الحكم في مثل هذا اليوم من عام 1967، في حين بقي المشير في حكم المستقيل، مما دفع بكبار قادة الجيش المقربين منه للمطالبة بعودته هو الآخر، ودخل الطرفان في لعبة صراع على السلطة انتهت باعتقال المقربين من عامر الذين كانوا يخططون لتنفيذ انقلاب، وسيطرة عبد الناصر على السلطة السياسية والعسكرية، وأسدل الستار على هذا المشهد بـ"انتحار" المشير.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات من یونیو حزیران جمال عبد الناصر الضباط الأحرار المقربین من عن الحکم

إقرأ أيضاً:

الكشف عن مؤامرة خططت لقطع النيل عن مصر

كشفت هيئة الإذاعة البريطانية “BBC”، عن مؤامرة إنجليزية خططت لقطع النيل عن مصر خلال حرب العدوان الثلاثي في 1956.

وتُعتبر أزمة السويس عام 1956 مرتبطة بشكل وثيق بنهر النيل، حيث تراجع الغرب عن تمويل مشروع السد العالي دفع الزعيم المصري جمال عبد الناصر إلى اتخاذ قرار بتأميم قناة السويس، مما أدى إلى هجوم بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر.

وزير الخارجية: تنسيق إيجابي مع أوغندا بشأن نهر النيل.. وأوريبم: لن نسمح بانقطاع المياه وزير الخارجية السوداني: نستطيع التعايش مع سد النهضة.. وإثيوبيا تتعمد الإضرار بمصر

 

لكن هناك جانب آخر يتعلق بالنيل في سياق هذه الأزمة، حيث فكر البريطانيون في قطع إمدادات النيل عن مصر كوسيلة للضغط على عبد الناصر لإجباره على التخلي عن السيطرة على قناة السويس.

وانتهت أزمة السويس في 22 ديسمبر 1956 عندما أكملت القوات الفرنسية والبريطانية انسحابها من مدينة بورسعيد، ولكن ما هي العلاقة بين بريطانيا ونهر النيل؟ وكيف كانت خططها لقطع النيل عن مصر؟.

وأدرك البريطانيون أن نهر النيل يمثل شريان الحياة لمصر، وبعد احتلالهم للبلاد، حرصوا على حماية مصالح مصر المائية في النيل، لكن الوضع تغير لاحقًا خلال أزمة السويس.

وقبيل الهجوم الثلاثي على مصر، المعروف بأزمة السويس في عام 1956، وضعت الحكومة البريطانية خطة سرية غريبة تهدف إلى قطع نهر النيل عن مصر، في محاولة للسيطرة على قناة السويس.

وقد بدأت المناقشات حول هذا الموضوع في سبتمبر من عام 1956، حين كانت أزمة السويس تقترب من ذروتها.

وتشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن الأزمة بدأت في يوليو 1956 عندما قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس، التي كانت تحت سيطرة فرنسا وبريطانيا.

قدمت قناة السويس لبريطانيا مساراً بحرياً أقصر إلى إمبراطوريتها. ومع بداية القرن العشرين وزيادة أهمية النفط، أصبحت القناة توفر طريقاً بحرياً مختصراً إلى حقول النفط في الخليج العربي، مما جعل بريطانيا ملتزمة بحمايتها، كما تعرضت قناة السويس للهجوم خلال الحربين العالميتين.

وبعد فترة قصيرة من بداية الحرب العالمية الأولى، أعلنت بريطانيا مصر محمية، وأرسلت قوات بريطانية وهندية لحماية قناة السويس. في المقابل، أرسلت تركيا، التي انضمت إلى الحرب كحليف لألمانيا في عام 1914، قواتها للاستيلاء على القناة في فبراير 1915.

لكن هذا الهجوم تم صدّه. وبحلول عام 1916، تم دفع الخطوط الدفاعية البريطانية إلى عمق صحراء سيناء لمنع أي محاولات أخرى.

وفي عام 1936، تم توقيع المعاهدة الأنجلو-مصرية في لندن، التي أعلنت أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، لكنها سمحت للقوات البريطانية بالبقاء في منطقة قناة السويس لحماية المصالح المالية والاستراتيجية لبريطانيا حتى عام 1956، حيث سيتم تقييم الحاجة إلى وجود تلك القوات وإعادة التفاوض بشأنها إذا لزم الأمر.

وفي 19 أكتوبر 1954، تم توقيع معاهدة جديدة بين الأطراف المعنية، حيث مثلت مصر في هذا الاتفاق جمال عبد الناصر، رئيس وزراء النظام الجديد الذي تولى الحكم بعد الإطاحة بالملك فاروق قبل عامين. ومن الجانب البريطاني، كان أنطوني نوتينغ، وزير الدولة للشؤون الخارجية، حاضراً. وقد نصت المعاهدة على أن تستمر لمدة سبع سنوات.

وبموجب هذه الاتفاقية، كان من المقرر سحب القوات البريطانية من مصر بحلول يونيو 1956، على أن تُدار القواعد البريطانية بشكل مشترك من قبل فنيين مدنيين من كلا البلدين.

كما وافقت مصر على احترام حرية الملاحة في قناة السويس، وتم الاتفاق على إمكانية عودة القوات البريطانية في حال تعرضت القناة لأي تهديد من قوة خارجية.

في تلك الأثناء، كانت مصر تسعى لبناء السد العالي في أسوان، وقد تعهدت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في يناير 1956 بتقديم الدعم المالي لهذا المشروع.

وتغير الموقف الأمريكي بشكل ملحوظ، حيث أصبحت الولايات المتحدة مقتنعة بعدم نجاح مشروع السد، ورغبت في تقليص الإنفاق على المساعدات الخارجية. كما كانت واشنطن قلقة من شراء عبد الناصر للأسلحة السوفيتية.

في 19 يوليو، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس السفير المصري في واشنطن بأن حكومته قررت عدم تمويل بناء السد. وقد اتخذ وزير الخارجية البريطاني سلوين لويد نفس الموقف.

لاحقًا، رفض البنك الدولي تقديم المبلغ الذي تعهد به لمصر، والذي كان قدره 200 مليون دولار.

تشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن عبد الناصر رد على القرارين الأمريكي والبريطاني بإعلان الأحكام العرفية في منطقة القناة وتأميم شركة قناة السويس في 26 يوليو 1956، متوقعًا أن الرسوم التي ستجمع من السفن العابرة للقناة ستغطي تكاليف بناء السد خلال خمس سنوات.

وقد كانت بريطانيا وفرنسا تخشيان من أن يقوم عبد الناصر بإغلاق القناة، مما سيؤدي إلى قطع شحنات النفط المتدفقة من الخليج العربي إلى أوروبا الغربية.

وكانت الأمور تتجه نحو نقطة الغليان، ومن هذا المنطلق، قرر البريطانيون قطع شريان الحياة عن مصر للضغط على عبد الناصر ودفعه للتخلي عن السيطرة على قناة السويس.

تشير وثائق حكومية بريطانية من فترة الخمسينيات إلى أن بريطانيا كانت تخطط سراً لخفض تدفق مياه نهر النيل خلال المواجهة مع عبد الناصر أثناء أزمة السويس.

وطُلب من المخططين العسكريين البريطانيين وضع خطة لتقليل تدفق النهر بشكل كبير، ما قد يؤدي إلى إثارة الاضطرابات بين المزارعين المصريين.

كان لدى المخططين العسكريين البريطانيين اعتقاد بأنهم يمكنهم استخدام أحد السدود في أوغندا لتقليل منسوب مياه نهر النيل، مما سيؤثر سلباً على الزراعة والاقتصاد في مصر.

وقد أشار الخبراء إلى أن التأثير سيكون أكبر إذا تم تقليل تدفق المياه من سد شلال أوين في أوغندا، حيث سيؤدي ذلك إلى خفض مستوى بحيرة فيكتوريا، التي تُعتبر أحد المصادر الرئيسية للنيل الأبيض، إذ أن ثلاثة أرباع تدفق النهر يأتي من بحيرة فيكتوريا عبر سد شلالات أوين الذي يمد أوغندا وكينيا بالطاقة الكهربائية.

أوضحوا أن هذا السد قادر على احتجاز 80% من المياه المتجهة نحو الشمال، مما يعني أن مستوى بحيرة فيكتوريا سيرتفع بمقدار 24 سنتيمتراً فقط. وفي غضون 16 شهراً، سيكون التأثير ملحوظاً في مصر، مما سيؤدي إلى "آثار خطيرة".

وتتناول الوثائق كيف كانت مصر تعتمد بشكل كبير على النيل الأبيض خلال الفترة من فبراير إلى يوليو، حيث كان المزارعون يركزون على زراعة الأرز والقطن، ورغم أن هذه المحاصيل قد تتعرض لأضرار جسيمة نتيجة لهذا الإجراء، إلا أنه من غير المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تدمير الاقتصاد أو التسبب في مجاعة خطيرة.

كما أشارت الوثائق إلى أن الخبراء اقترحوا أن التهديد بقطع النيل عن مصر قد يكون له تأثير فعّال، حيث ذكروا أن التهديد بالتدخل في النهر، الذي يمتد لأكثر من 4000 ميل، سيكون له "أثر نفسي كبير على المصريين الذين لطالما اتخذوا موقفاً أنانياً تجاه استخدام مياه النيل، متجاهلين حقوق الدول الأخرى التي تعتمد على النهر".

وأوضح جون هانت، المسؤول في الحكومة البريطانية، أن "التهديد باتخاذ هذا الإجراء قد يؤدي إلى نشر رسالة بين المصريين مفادها أنه إذا لم يتراجع عبد الناصر، فإن بريطانيا ستقوم بقطع النيل".

ومع ذلك، حذرت الوثائق من أن "مصر كانت دائماً قلقة بشأن سيطرة بريطانيا على منابع النهر، نظراً لأهمية النيل بالنسبة لها، وبالتالي فإن أي اقتراح للسيطرة على النيل دون موافقة مصر من المؤكد أنه سيؤدي إلى عواقب وخيمة".

وتم تقديم الخطة السرية إلى السير أنتوني إيدن، رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، قبل ستة أسابيع فقط من غزو فرنسا وبريطانيا لقناة السويس في نوفمبر 1956، عقب تأميمها من قبل عبد الناصر.

في 24 سبتمبر، أرسل سكرتير مجلس الوزراء نورمان بروك وثيقة مكونة من خمس صفحات توضح "الحقائق البارزة" من وزارة الدفاع إلى رئيس الوزراء، استجابةً لطلبه.

ومع ذلك، حذر مستشارو رئيس الوزراء من أن قطع المياه عن نهر النيل سيؤدي حتماً إلى نشوب حرب وزيادة "كراهية الأجانب في العالم العربي".

كما أن مثل هذه الخطوة كانت ستؤثر بشكل كبير على صورة بريطانيا في العالم، وقد تترتب عليها عواقب وخيمة على دول مثل أوغندا وكينيا وتنزانيا.

وفي النهاية، تم التخلي عن الخطة لأنها اعتبرت غير قابلة للتطبيق وقد تؤدي إلى عواقب خطيرة.

وعندما أخفقت الجهود الدبلوماسية في حل الأزمة، قامت بريطانيا وفرنسا، التي كانت تسعى للانتقام من موقف مصر المؤيد للثورة الجزائرية، بالتخطيط سراً لعمل عسكري لاستعادة السيطرة على قناة السويس.

وبذلك، أصبح إيدن، الذي أشار إلى سياسة الاسترضاء البريطانية تجاه أدولف هتلر في الثلاثينيات، يدرس إمكانية تنفيذ عمل عسكري قد يؤدي إلى الإطاحة بعبد الناصر واستعادة النفوذ البريطاني في المنطقة.

في تلك الأثناء، كان بعض المشرعين البريطانيين يدّعون أن هذا الإجراء قانوني.

وكشفت الوثائق أن المدعي العام السير ريغينالد مانينغهام بولر كتب رسالة قوية يتحدى فيها هذا الإجراء.

فقد كتب لإيدن قائلاً: "لا أستطيع أن أجد أي حجة يمكن أن تدعي أنها تبرر قانونياً مطالبتنا لمصر بسحب قواتها من جزء من أراضيها التي تدافع عنها، أو التهديد باحتلال أراضيها بواسطة القوات المسلحة إذا لم تستجب لهذا الطلب".

أبلغ وزير مجلس الوزراء في ذلك الوقت، السير نورمان بروكس، رئيس الوزراء بعدم إثارة قضية شرعية الحرب في خطاباته.

وجدت بريطانيا وفرنسا حليفاً مستعداً في إسرائيل، التي زاد عداؤها لمصر نتيجة إغلاق ناصر لمضيق تيران (عند مصب خليج العقبة) والهجمات المتكررة التي نفذتها قوات الكوماندوز المدعومة من مصر ضد إسرائيل خلال الفترة بين 1955 و1956.

في أكتوبر من عام 1956، اجتمع إيدن مع نظيريه الفرنسي غي موليه والإسرائيلي ديفيد بن غوريون في سيفرس بالقرب من باريس، حيث تم التوصل إلى اتفاق سري ينص على أن تقوم إسرائيل بشن هجوم على مصر، مما يوفر ذريعة لغزو أنجلو-فرنسي لقناة السويس.

وأصدر بن غوريون تعليماته للجنرال موشيه ديان، رئيس أركانه، لوضع خطة لشن هجوم على مصر.

في 29 أكتوبر 1956، قاد الهجوم الإسرائيلي عملية إنزال جوي للسيطرة على ممر ميتلا، مما أدى إلى اندلاع قتال عنيف.

في اليوم التالي، أصدرت بريطانيا وفرنسا إنذاراً للطرفين بضرورة وقف القتال فوراً.

استمر الإسرائيليون في عملياتهم، متوقعين هجوماً مضاداً من الجانب المصري، لكن جيش عبد الناصر بدأ في الانسحاب بدلاً من ذلك.

بين 29 أكتوبر و5 نوفمبر، تمكنت القوات الإسرائيلية من احتلال شبه جزيرة سيناء، باستثناء شريط ضيق على طول قناة السويس.

وفي 5 نوفمبر 1956، بعد حوالي ثلاثة أشهر و10 أيام من تأميم عبد الناصر لقناة السويس، بدأ الهجوم الأنجلو-فرنسي على المدينة، والذي تضمن قصفاً جوياً أسفر عن تدمير القوات الجوية المصرية.

في 5 و6 نوفمبر، نفذت القوات البريطانية والفرنسية عمليتي إنزال في بورسعيد وبور فؤاد، وبدأت احتلال منطقة القناة.

هذا التحرك العسكري قوبل بمعارضة من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على حد سواء.

تشير الوثائق البريطانية إلى أنه رغم اعتراض الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور على السيطرة على القناة، إلا أن جهاز الاستخبارات البريطاني كان يعمل سراً مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لوضع خطة للإطاحة بعبد الناصر، الذي اعتبره إيدن بمثابة هتلر الشرق الأوسط.

كما أضافت الوثائق أنه في 8 أكتوبر، أي قبل شهر من الغزو، أبلغ وزير مجلس الوزراء السير نورمان بروك إيدن عن محادثات سرية أجراها رئيس لجنة الاستخبارات باتريك دين في واشنطن مع وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية الأمريكية، حيث قال بروك: "توافق الأمريكيون معنا على أن أهدافنا المشتركة تتطلب إزاحة عبد الناصر عن السلطة".

ومع ذلك، بينما كانت الطائرات الحربية البريطانية والفرنسية تستعد للهجوم، أبلغ دين أن وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس أراد حذف فقرات رئيسية من الوثيقة الأنجلو-أمريكية المشتركة المتعلقة بالمحادثات.

وفي منتصف ليل 6 نوفمبر، تم الدعوة إلى وقف إطلاق النار بناءً على إصرار الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد.

في نفس اليوم، اضطر إيدن إلى تغيير موقفه، وتحت ضغط من الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

كانت القوات الأنجلو-فرنسية قد وصلت إلى جنوب بورسعيد، لكنها لم تكن قد سيطرت بالكامل على القناة عندما تم إيقاف العمليات.

على الرغم من أن العملية كانت تسير نحو تحقيق نجاح عسكري كبير، إلا أنها توقفت بسبب الضغوط الدولية.

في 22 ديسمبر، قامت الأمم المتحدة بإجلاء القوات البريطانية والفرنسية، وانسحبت القوات الإسرائيلية في مارس 1957.

أثرت أزمة السويس سلبًا على سمعة السير أنتوني إيدن، مما أدى إلى استقالته في يناير 1957.

مقالات مشابهة

  • الأولمبية العراقية تحث الجماهير على البقاء في الكويت
  • تسجيلات فيديو تظهر ثقوبا مجهولة المصدر على هيكل الطائرة الأذربيجانية المنكوبة (فيديو)
  • تسجيلات فيديو تظهر ثقوبا مجهولة المصدر على هيكل الطائرة الأذربيجانية المنكوبة
  • بعد انتشال أحدهم.. حكاية وفاة شابين في التنقيب عن الآثار بجبل أبورواش
  • عاجل | الرئيس التركي: لن ننسى الجرائم الوحشية التي ارتكبها نظام الأسد في حق شعبه
  • أوزفالدو ريوس حبيب شاكيرا السابق يتحدث عن قصة حبهما: حكاية روحانية رغم فرق العمر
  • "جبر بخاطره".. حكاية إنسانية خلف صورة شيخ الأزهر وتلميذ معهد الأقصر
  • موعد عرض مسلسل وتر حساس الحلقة الأخيرة.. مصير غامض ينتظر «كاميليا»
  • حكاية السمكة والشبكة والحركة
  • الكشف عن مؤامرة خططت لقطع النيل عن مصر