ساعات على انتهاء مهلة الأفارقة لانقلابيي نيامي.. هل تتدخل الإيكواس في النيجر لإعادة بازوم إلى السلطة؟
تاريخ النشر: 4th, August 2023 GMT
لم تبق غير ساعات قليلة قبل نهاية الأجل الذي ضربته المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) برئاسة نيجيريا للتدخل العسكري في النيجر إذا لم يبادر الانقلابيون بإعادة الرئيس المنتخب محمد بازوم إلى السلطة، ورغم أن هذا التوجه يعتبر الخيار الأخير الذي تتحدث عنه الهيئة الأفريقية الأقوى في المنطقة، فإنه يعتبر أيضا الأًصعب بالنسبة لأنظمة وشعوب المنطقة.
وتضم إيكواس في عضويتها 15 دولة هي غامبيا وغينيا وغينيا بيساو وليبيريا ومالي والسنغال وسيراليون وبنين وبوركينافاسو وغانا وساحل العاج والنيجر ونيجيريا وتوغو الرأس الأخضر، ويبلغ مجموع سكانها نحو 350 مليون نسمة (إحصائيات 2021)، وتبلغ مساحتها الإجمالية 5 ملايين كيلومتر مربع، أي 17% من إجمالي مساحة قارة أفريقيا.
وقد تدحرج الملف من أيدي الرؤساء إلى طاولة النقاش بين أيدي قادة ورؤساء أركان الجيوش في دول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، وذلك في اجتماع متواصل في أبوجا حتى صباح اليوم الجمعة.
ليس الأسبوع بالزمن الطويل، لكنه أيضا ليس بالمهم في نظر الانقلابيين الذين أكدوا بوضوح أنهم لن يرضخوا للتهديد، ولن يعيدوا بازوم إلى السلطة.
ومن باب "أعذر من أنذر"، فقد أرسلت الإيكواس وفدا للتفاوض بقيادة الرئيس النيجيري السابق الجنرال عبد السلام أبو بكر إلى نيامي للتفاوض، ولا يتوقع أن يعود الرجل وفريقه بتوبة الانقلابيين ولا بعودة بازوم إلى السلطة، فلدى العسكريين الجدد ما يراهنون عليه من تجييش للشارع النيجري ضد "الغزو الأفريقي والغربي " المرتقب.
إيكواس.. تهديد صارم ومخاوف من ضعف التماسك
وقد أعلنت حتى الآن عدة دول من المنظمة الغرب أفريقية استعداها للمشاركة في القوة العسكرية الموجهة إلى النيجر، ومن تلك الدول السنغال وبنين ونيجريا، فيما لا يستبعد أن تنخرط تشاد أيضا في المجهود العسكري "الإيكواسي"، فضلا عن فرنسا التي تمتاز بامتلاكها قوة عسكرية جاثمة على الأراضي النيجرية، ويمكن أن تكون عنصر ارتكاز في مواجهة انقلابيي نيامي.
وفي مقابل ذلك فإن دول السبق الانقلابي أخذت موقفا معارضا بقوة للتدخل العسكري وأعلنت مالي، بوركينافاسو، غينيا، (دول يقودها انقلابيون) أن أي عمل عسكري ضد النيجر هو عدوان على تلك الدول.
وفي نفس التوجه يمكن أن تحسب الجزائر، التي تملك حدودا بألف كلم مع النيجر، وتملك حساسية كبيرة تجاه التدخل العسكري الأجنبي في المنطقة.
أصابع على الزناد وترقب متصاعدتتوفر قرائن متعددة على قرب التدخل العسكري، وتتزايد المخاوف من نوعيته وزمنه ودائرته إذا انطلق، ومن تلك المؤشرات:
مكانة النيجر ومحوريتها لدى فرنساتحظى النيجر بمكانة هامة في الإستيراتجية الفرنسية والغربية بشكل عام؛ باعتبارها آخر رهان للقوى الغربية في منطقة الساحل، وآخر بلد لم تصل إليه أيدي الانقلابيين، وأكثر مورد للطاقة بالنسبة لفرنسا، وعنصرا أساسيا في التوازن العسكري في العالم بالنسبة للولايات المتحدة التي ترى في النيجر رقعة أساسية من دائرة قوتها الأفريقية (آفريكوم).
وازدادت أهمية النيجر في الحسابات الإستراتيجية الفرنسية بمنطقة الساحل، بعد مغادرة القوات الفرنسية لمالي وبوركينافاسو إثر الانقلابيين الذين شهدها البلدان وقادهما ضباط عسكريون أداورا ظهورهم لفرنسا، وولوا وجوههم شطر روسيا.
ومن المؤكد أن فرنسا ستبذل كل ما أوتيت من قوة وجهد سياسي إن لم نقل عسكري لوأد هذا الانقلاب لأنه على الأرجح يمثل ضربة كبيرة لمصالحها الاقتصادية والسياسية ومكانتها الإستراتيجية وتأثيرها في المنطقة.
إجلاء الرعايا الغربيين من النيجروقد تم الأمر بالفعل بالنسبة لفرنسا وعدد من الدول الأوربية والغربية، وهو أمر قد يكون طبيعيا في حالات الاضطراب السياسي والأمني، ولكنه في حالة كهذه قد يشي بقرب التدخل العسكري، الذي تقرع الآن طبوله منظمة الإيكواس.
ولعل هذا الموقف هو ما جعل زعيم الانقلابيين في النيجر الجنرال عبد الرحمن تياني يعتبر الأمر استعجالا لا داعي له، معتبرا أن الفرنسيين "ليس لديهم سبب موضوعي لمغادرة النيجر"، لأنهم "لم يتعرضوا بتاتا لأدنى تهديد".
تصعيد في الخطابومع قرب انتهاء مهلة الإيكواس لانقلابيي النيجر بدأت نبرة التهديد تتصاعد من لدن قادة سياسيين وعسكريين في منظمة الإيكواس، في ظل إصرار حكام النيجر على رفض المهلة وعدم ظهور أي بوادر لإمكانية قبولهم بعودة الرئيس المخلوع محمد بازوم للسلطة سلما.
وتوحي تلك الإنذارات والتهديدات المتصاعدة أن هامش المناورة والتفاوض بات ضيقا أو متلاشيا بالنسبة لقادة المنظمة الساعين إلى حماية الرقعة الساحلية من لهيب الانقلابات.
اجتماعات متواصل لقادة الجيوشوفي محاولة من الإيكواس لإظهار جدية تهديداتها بالتدخل العسكري، دخل قادة أركان دولها منذ يومين في اجتماع متواصل بالعاصمة النيجيرية (أبوجا)، وهي خطوة تتداخل فيها أبعاد الحرب النفسية مع "الأبعاد العملياتية" المتعلقة بالتخطيط للتدخل العسكري المحتمل.
طلب رسمي بالتدخلوبالتوازي مع تهديدات الإيكواس تحدث عسكريو النيجر عن وثيقة وقع عليها كل من وزير الخارجية السابق رئيس الوزراء بالنيابة قاسومي مسعود، وقائد قوات الحرس الوطني العقيد الرائد ميدو جيري، تطلب من فرنسا رسميا "شن ضربات عسكرية على القصر الرئاسي بنيامي".
وهو ما يمثل محاولة لإضفاء صبغة "شرعية" من الناحية القانونية والسياسية على أي مشاركة عسكرية فرنسية في التدخل العسكري المحتمل.
الخوف من انتقال العدوىيرى قادة الإيكواس في إفشال انقلاب النيجر السد الأخير ضد الانقلابات التي عادت بقوة إلى أفريقيا، ولذلك سيبذلون كل الجهود من أجل عودة -ولو رمزية- لبازوم إلى كرسيه السليب.
ومن المعلوم أن انقلاب النيجر ليس الأول من نوعه بالمنطقة خلال السنوات الأخيرة، فقد عاد زخم الانقلابات في المنطقة إلى سابق عهده، وتتالت المحاولات الانقلابية الناجحة والفاشلة بشكل متسارع في المنطقة منذ العام 2020، حيث شهدت كل من مالي وغينيا وبوركينافاسو انقلابات متتالية، وباتت هذه البلدان محكومة بمجالس عسكرية.
ويخشى قادة الإيكواس وحلفاؤهم الخارجيون من استمرار انتقال هذه العدوى إلى بقية دول المجموعة، خصوصا إذا أفلت المسؤولون عنها من العقاب واستتب لهم الأمر، وهو ما يزيد من حرص المجموعة على إفشال الانقلاب سلما أو حربا.
وتنقل وكالة الأنباء الألمانية عن كونفيدانس ماكهاري، الخبير الأمني في "إس بس إم إنتليجنس" قوله إن حل الأزمة هو "مسألة بقاء" لقادة المنطقة، مشيرا إلى أنه "إذا سُمح لمخطّطي الانقلاب بالإفلات من العقاب، ستعيش دول أخرى تحت تهديد الانقلابات".
ليست رحلة استجمام.. عقبات أمام التدخل الأفريقي
بيد أن مؤشرات ودوافع التدخل العسكري -وهي كثيرة ومتعددة- تقابلها كوابح وتعقيدات متضافرة هي الأخرى، تحول دون التقدم نحو خيار من هذا القبيل نظرا لما يحيط به من "مخاطر" وما قد تترتب عليه من تداعيات قد لا تحمد عقباها، ومن هذه العقبات:
موقف الرئيس بازوممن المعلوم أن الرئيس النيجري المخلوع محمد بازوم ما زال متمسكا بمنصبه، ويرفض أي تنازل عنه لصالح الانقلابيين، رغم كونه خاضعا للاحتجاز من طرفهم، ورغم الضغوط والتضييق الذي تزايد عليه في الأيام الأخيرة من طرف الانقلابيين، فإن هذا الفليسوف الذي اختطفته السياسة من التعليم لم يعبر بعد عن موقف واضح من قبول أو رفض التدخل العسكري الأجنبي لإعادته إلى السلطة.
تهديد جيران النيجر بمواجهة التدخلويتعلق الأمر أساسا بدولتي مالي وبوركينافاسو، إضافة إلى غينيا، فيما تعبر نيجيريا عن مواقف صارمة تجاه جارتها الفقيرة التي تعتمد على كهرباء أبوجا.
وقد اعتبرت مالي وبوركينا فاسو في بيان لهما أن أي تدخل عسكري في النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب على بلديهما، وهو ما يعني أن تداعيات التدخل العسكري لن تقتصر فقط على النيجر بل ستتجاوزه إلى البلدان المجاورة.
وبالإضافة إلى ذلك، سارعت الجزائر -من خارج دول المنظمة- للتعبير عن موقف صارم ضد التدخل العسكري خشية تصاعد موجة العنف في المنطقة.
خطر الحرب الأهلية في النيجرلا يعرف حتى الآن شكل التدخل العسكري المفترض الذي تنوي دول الإيكواس تنفيذه في النيجر -إن كانت تنوي تنفيذه فعلا- ولكن لا يستبعد بالنسبة للعديد من المراقبين أن يؤدي إلى إشعال فتيل حرب أهليه مفتوحة في بلد يعيش على أمواج الفقر في جدب الصحراء، وفي ظل استمرار قادة الانقلاب وما يتبع لها من وحدات رئيسية وأساسية بالسلطة ورفضها أي تنازل عنها لصالح الرئيس محمد بازوم.
معارضة أوروبية للتدخلرغم الموقف الأوروبي والأميركي القوي ضد الانقلاب، والدعم الفرنسي القوي لإجراءات الإيكواس، فإن قضية التدخل العسكري لا تبدو محل اتفاق بين جميع الدول الأوروبية؛ حيث دعا وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، يوم الأربعاء، إلى استبعاد أي تدخل عسكري غربي في النيجر لأنه سيعتبر استعمارا جديدا.
شبح التدخل الروسيلا يعرف حتى الآن إن كانت روسيا قد فتحت خط اتصال مع انقلابيي النيجر حتى الآن، ولكن المرجح أن أي تدخل عسكري في البلاد، سيمنح موسكو مسوغا إضافيا للشراكة العسكرية في كتابة مستقبل هذا البلد الأفريقي، وهي فرصة يعمل الروس كثيرا من أجل الوصول إليها.
انهيار الإيكواسلا يستبعد الكثيرون أن تصل التداعيات الكبيرة للتدخل العسكري بالنيجر إلى كيان منظمة الإيكواس نفسها، خصوصا إذا انسحبت منها دول معارضة للتدخل، وهو ما سيفقد المنطقة آخر هيئاتها الفاعلة.
أما مجموعة دول الساحل الخمس المعروفة بـ"جي 5″ والتي تتكون من بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، فهي أصلا في حالة موت سريري بعد موجة الانقلابات التي ضربت جميع دولها باستثناء موريتانيا.
توقف استخراج وتصدير اليورانيومومن شأن التدخل العسكري كذلك، أن يحمل معه تأثيرات سلبية كبيرة على مصادر الطاقة الفرنسية، وهو ما قد يضفي مزيدا من الالتهاب على الصيف الباريسي المفعم بالأزمات، خصوصا أن فرنسا لا تملك أي مؤشرات على إمكانية نجاح هذا التدخل، مما سيقلص حضورها الأفريقي، لتؤوب إلى آخر "أبنائها البررة" في المنطقة وهو الرئيس الشاب محمد إدريس ديبي كما يصفه بعض معارضيه.
إمكانية ترحيل الفوضىوذلك باتجاه الدول المتحمسة للتدخل، فالسنغال التي تعيش أزمة سياسية عميقة جدا، قد تكون عرضة لردود فعل شعبية معارضة ومتضامنة مع حكام النيجر، كما أن التداخل العرقي بين مكونات الجيشين في النيجر ونيجيريا قد يعوق تدخل هذه الأخيرة في حربها على الجار الشقيق.
وتشير وكالة الأنباء الألمانية في أحد تقاريرها إلى تشكيك الخبراء في أن الجنود النيجيريين سيوافقون على الانتشار في النيجر نظرا إلى الروابط القوية بين الجيشين اللذين يضمان في صفوفهما العديد من الهوسا، وهي مجموعة إثنية موجودة بكثرة في كل منطقة الساحل.
وقال مسؤول عسكري رفيع المستوى طلب عدم كشف اسمه "من غير الوارد أن يذهب الجنود النيجيريون إلى النيجر ويقاتلوا جنودها الذين نعتبرهم أشقاء لنا".
وقال الباحث في معهد هادسون في واشنطن جيمس بارنيت إن " نيجيريا ستكون الأكثر قلقا من زعزعة الاستقرار في النيجر لأنها تتشارك معها في حدود طولها 1600 كيلومتر وليس بإمكان قوات الأمن النيجيرية ضمان أمنها كما يجب".
الاقتصاد.. أقوى أوراق الضغط
وفيما تحيط الضبابية بخيار التدخل العسكري، يراهن الغربيون والأفارقة أيضا على ورقة الاقتصاد بشكل خاص لكسر ممانعة الانقلابيين في نيامي، وتبدو هذه الورقة أكثر وأقوى ما تملك الإيكواس أيضا وأقلها تداعيات أمنية على بلدانها، وأكثرها إضرارا على المدى الطويل بالمجموعة الانقلابية، وقد بدأت فعليا ممارسة هذا الضغط من خلال قطع نيجيريا كهرباءها عن النيجر، لتنضم بذلك إلى كل من بنين وكوت ديفوار (ساحل العاج) في تطبيق العقوبات التي فرضتها مجموعة "إكواس" على النيجر إثر الانقلاب. ومعلوم أن النيجر تعتمد في استهلاك الكهرباء على نيجيريا بنسبة 70%.
ويتوقع مراقبون أن التأثيرات الاقتصادية الأكبر قد تكون للعقوبات التي ربما تفرضها المجموعة النقدية لغرب أفريقيا (مجموعة الفرنك الأفريقي) التي تتبع بنوك النيجر لها بحكم عضوية البلاد فيها، وقد أعلنت حتى الآن عن فرض بعض العقوبات، ولكن أكثر ما يخشاه الانقلابيون هو أن تباشر القيام بإجراءات أكثر خطورة من قبيل تجميد الحسابات وإغلاق المصارف، مما يعني كف يد المجلس العسكري عن الوصول للنقد المتاح في النيجر، وعدم قدرته على دفع رواتب الجنود والموظفين المدنيين في الدولة.
كما يؤكد الأوربيون أنهم سيمتنعون عن دعم الميزانية النيجرية وهو ما يعني الخنق السريع لاقتصاد بلد يخنقه الجفاف والفساد والأزمات منذ عقود، حيث أعلن البنك الدولي إيقاف صرف الأموال إلى النيجر حتى إشعار آخر.
صمود أم رهان على الزمن؟يسعى زعيم الانقلابيين إلى مواجهة التدخل بما أمكن من ترميم للقوة الضعيفة لبلاده، وفي سبيل ذلك أكد رفض مجلسه للتدخل العسكري واستعداده لمقاومة أي تدخل أجنبي، ولإظهار أن التهديد هامشي، أعاد الرجل فتح حدوده مع جيرانه الخمس، فيما قرر الاتصال والتشاور مع دول "الحالة الانقلابية" التي صرحت بأن العدوان على النيجر عدوان على العواصم الثلاث.
ومن الإجراءات التي سارع إلى اتخاذها خلال الأيام الأخيرة أيضا تعيين حكام عسكريين جدد على المناطق الثمانية في البلاد، وهو ما يضمن إحكام القبضة الأمنية وإبعاد المحسوبين على الرئيس السابق.
كما سارع أيضا إلى التترس بالتأييد الشعبي وتجييش مشاعر الغضب تجاه القوى المناوئة للانقلابيين الجدد، والاستفادة من الزخم الشعبي في قمع مناوئي الانقلاب من داخل البلاد، حيث تجاوز عدد المعتقلين 180 شخصا بحسب مصادر الحزب الحاكم سابقا في البلاد.
وفيما يطبق الفقر بمخالبه على شعب النيجر، فإن الخناق الاقتصادي ينبئ هو الآخر بأيام نحسات في هذا البلد الصحراوي الذي يعيش سكانه بنحو دولارين في اليوم للفرد الواحد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: بازوم إلى السلطة التدخل العسکری فی المنطقة محمد بازوم فی النیجر عسکری فی حتى الآن أی تدخل وهو ما
إقرأ أيضاً:
رؤية نقدية لمؤتمر لندن للقضايا الإنسانية حول السودان
د. محمد عبد الحميد أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
لا ينطلقُ كاتب هذا المقال من أي موقف عدائي أو حتى متوجس نحو بريطانيا صاحبة الدعوة لمؤتمر لندن حول القضايا الإنسانية في السودان الذي عُقد في منتصف أبريل 2025م ... فالكاتب عمل ومايزال منذ العام 2013م ضمن فريق المدربين المشاركين بمنظمة RedR UK البريطانية وهي منظمة تعمل في تدريب الكوادر والأطر العاملة في الحقل الإنساني. كما أن الكاتب لا يشعر بالإنتماء النفسي أو الوجداني لمنظومة الحكم القائم الآن في السودان. وإنما يسعى لتسليط الضؤ من ناحية تخصصية لأوجه القصور التي شابت المؤتمر والدعوة له.
إن أهم ما نُركزُ عليه عادةً في تدريب الكوادر والطواقم الإنسانية في حالة أي تدخل إنساني هو عملية "تحليل السياق الكلي" للواقع الذي يُراد التدخل فيه. وذلك للتعرف على أصحاب المصلحة Stakeholders بإستخدام شكل فين Venn Diagram وهي الأداة التي تُحدد القوى أو الفاعِليّات المؤثرة والمتأثرة بعملية التدخل الإنساني إن كان مشروعاً إنسانياً أو برنامجاً تنموياً أو حتى دراسة مسحية... وتضمن هذه العملية عنصرين مهمين الأول: عدم ترك أي فاعل او صاحب مصلحة خلف المتدخلين. الثاني: مد جذور الثقة بين المتدخلين إنسانياً وأصحاب المصلحة لتحقيق أكبر فائدة مرجوة من عملية التدخل الإنساني.
إضافة لعملية تحليل السياق يتم التأكيد على الصبغة الإنسانية الخالصة لعملية التدخل والتي تحتكم في مجملها على مجموعة مبادئ وقيم يجب أن تُوضع في لُب عملية التدخل وهي الإلتزام بالمعايير الأخلاقية الأساسية لعملية التدخل الإنساني بعيداً عن المواقف السياسية أو التحيزات الفكرية أو العقائدية أو الإثنية أو ما إلى ذلك... وذلك بالتمسك الصارم بجملة قيم أهمها ما ورد في المبادئ الحاكمة للحركة الدولية لجمعيات الهلال والصليب الأحمر وهي مبادئ (الإنسانية، الحياد، عدم التحيز، الخدمة التطوعية والإستقلالية) فإذا كانت الإنسانية بشكل عام مفهومة وتقضِي أو تهدف لحماية الإنسان وحفظ كرامته، فمن الضروري التوقف سريعاً عند مبدئي الحياد وعدم التحيز... وهما المبدآن اللذان يصنعا الثقة في الفاعل الإنساني ويمهدا له ضمن إشتراطات أخرى ما يُعرف في أدبيات الإتحاد الدولي للصليب والهلال الأحمر بالوصول الآمن Safe Access... إن التَقيّدَ بجملة هذه المبادئ والإجراءات تُبعِد الفاعل الإنساني من "غُواية الموقف السياسي" وتجعله محلاً للثقة وتضمن بالتالي سلاسة التدخل وأمن المتدخلين وبلوغ عملية التدخل غاياتها وهي تقديم الخدمات الإنسانية اللازمة للمستفيدين.
يمكن القول إجمالا أن بريطانيا في دعوتها للمؤتمر لم تلتزم بكونها فاعل إنساني. فقد أهملت أصحاب المصلحة في النزاع لا سيما الحكومة السودانية بإعتبار أنها صاحبة مصلحة في عملية التدخل، وقد كان يقتضي التقيّد بمبدئي الحياد وعدم التحيز. كما كان جدير بها ألاَّ تتصرف مع حكومة السودان بموقف سياسي مُسبق حتى لو كانت الأخيرة متهمة بعرقلة عمليات الإستجابة الإنسانية... وما يُثير الدهشة أن بيان المؤتمر قد أوصى بضرورة فتح الممرات الإنسانية الآمنة لعمليات الإغاثة في المعابر وهذه توصية لا يمكن تحقيقها إلا عبر التفاهم مع أصحاب المصلحة في هذه الحالة هما الحكومة وقوات الدعم السريع. وهو الأمر الذي يفقد في المحصلة النهائية بريطانيا المصداقية في التدخل الإنساني ويؤكد طغيان الموقف السياسي على الدوافع الإنسانية.
إن قصور بريطانيا في كيفية الدعوة للمؤتمر لم تقتصر فقط على الناحية الفنية وما يرتبط بها من فقدان للمصداقية، وإنما أتبعته بقصور دبلوماسي كذلك، وهو الأمر الذي ما كان ينبغي أن يفوت على دولة عُظمى كبريطانيا صاحبة الخبرة الجمّة في المجال الدبلوماسي.
مهما يكن من شئ، فالمعروف أن عقد المؤتمرات من هذه الشاكلة يُعتبر محفلاً دبلوماسياً لا سيما وأن بريطانيا قد قصدت بأن يكون متعدد المسارات Mluti track، فقد وجهت الدعوة لِطيفٍ واسعٍ من دول جوار السودان والفاعلين الإقليميين والدوليين دولاً ومنظمات وحتى دولة الإمارات المتهمة بدعم أحد طرفي الحرب. فقد كان من المفترض أن تسعى بريطانيا لتنفيذ غايات المؤتمر عبر التفاوض والتقارب المباشر مع "الأطراف المعنية الحكومة والدعم السريع" بممارسة النفوذ عليهما إما بطرح الحوافز والمغريات، أو التلويح بالعقوبات والجزاءات كل ذلك في إطار دبلوماسي هادئ ورزين يُبيّنُ للطرفين المتنازعين ويشرحُ لهما عواقب ما قد يترتب على عدم السماح بتمرير المساعدات الإنسانية من المواقع التي يسيطران عليها في الميدان.. فقد كان جدير بالمحفل الدبلوماسي أن يكفل في نهاية الأمر وسيلة ناجعة للتواصل والتفاهم ويأخذ على طرفي الحرب ميثاقا غليظاً لمراعاة جوانب المعاناة التي تحيق بالمدنيين جراء نقص الحاجات الإنسانية. وهذا ما كاد يقوله وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي عند تأكيده بأن الحالة السودانية تتطلب (دبلوماسية صبورة)، فبرغم وجاهة هذا الطرح إلا أنه قد أُفرغ من محتواه تماماً بتغييب أطراف النزاع.. فلم تعد الدبلوماسية التي أنجزها المؤتمر سوى تظاهرة علاقات عامة جُمِعت فيها تبرعات وتعهدات والتزامات تماماً كما حدث في مؤتمر باريس في مايو من العام 2024م حيث أصبح مؤتمر لندن وكأنه deja vu لمؤتمر باريس.
ربما كان هذا القصور الدبلوماسي البريطاني ومن قبله الفرنسي مؤشران على أن الدبلوماسية الأوربية ليست في أحسن حالاتها. وأن إغفالها هذا الجانب المهم بهذه الطريقة وفي هذا الظرف الحرج الذي يموج بالتغيرات السياسية على الصعيد الدولي قد يقصي بها عن كونها فاعل قوي على الساحة السياسية السودانية ليفتح الأفق للاعبين آخرين لديهم أطماعهم ومصالحهم في منطقة القرن الأفريقي، كالصين وروسيا.
إن فشل بريطانيا ومن قبلها فرنسا الذريع في أحداث اختراق في الحالة الإنسانية في السودان عبر الدبلوماسية يؤكد صدقية رؤية ومقولة السياسي والدبلوماسي والمفكر السينغافوري كشور محبوباني بأن القرن الحادي والعشرين لم يعد غربياً وإنما آسيوياً.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com