بعد مرور أسابيع قليلة على فوزه بولاية ثالثة، جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مساعيه لتحقيق أحد الأهداف طويلة الأمد له ولحزبه، بإحياء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد برزت هذه المساعي بوضوح خلال اجتماع حلف الناتو في ليتوانيا منتصف يوليو/تموز الماضي، فبينما كان الموضوع الأهم المطروح على الأجندة الرئيسية يتعلق بحسم قضية ضم كييف إلى حلف الناتو، ظل الرئيس الأوكراني زيلنسكي بعيدا عن الأضواء، فيما برز نجم الرئيس التركي الذي فاوض خصومه وحلفاءه الغربيين على السواء لإقناعهم بالدور الكبير(1) الذي لعبته تركيا -ولا تزال- في صد "الخطر الروسي" عن أوروبا بأكملها.

اطلب المستحيل.. ثم احصل على الصعب

صممت تركيا خطواتها تزامنا مع تسريع الغرب تحركاته لضم السويد وفنلندا لحلف الناتو، وهما بلدان أوروبيان قررا فجأة الخروج عن إرث تاريخي من الحياد، بالانحياز لأوكرانيا ضد روسيا. وبحسب شروط(2) الانضمام للحلف، يجب موافقة جميع الأعضاء الثلاثين بالإجماع على الحليف الجديد، ورغم التوافق الغربي الواسع على الأمر، اصطدمت الجهود باعتراض تركي صريح على انضمام البلدين، احتجاجا على صِلاتهما بحزب العمال الكردستاني(3) الذي يحمل السلاح في وجه الحكومة التركية منذ عام 1984.

إلى جانب هذه المخاوف الأمنية المشروعة لأنقرة، صعّدت تركيا غضبها ضد السويد، وأخذ الرفض التركي أبعادا جديدة بعد حرق نسخة من القرآن الكريم أمام سفارتها في ستوكهولم في يناير/كانون الثاني الماضي، لتقرر الرئاسة التركية(4) تأجيل اجتماع الآلية الثلاثية بين تركيا والسويد وفنلندا الخاص بالتفاوض حول شروط انضمام البلدين للناتو إلى أجل غير مسمى.

ومع إدراكها لحاجة أوروبا، ورغبة أميركا الملحة في ضم البلدين إلى الحلف الأطلسي، مع ما يعنيه ذلك من تحوُّل بحر البلطيق(5) إلى منطقة نفوذ للناتو، إلى جانب السيطرة أكثر من 1,300 كيلومتر من الحدود الروسية-الفنلندية التي ستستضيف قواعد الحلف وأسلحته، فإن تركيا سعت لاستغلال تأثيرها للمطالبة بشيء ثمين في مقابل إعطاء موافقتها على قرار سيُغير شرق أوروبا، ويقلب موازين القوى الجيوسياسية.

استخدم الرئيس التركي حيلة بسيطة في التفاوض تقوم على طلب المستحيل ثم الحصول على الصعب، وذلك حين ربط(6) عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وكما هو متوقع، رفض الأوروبيون الربط بين الأمرين، فيما راهن الأتراك على الوقت الذي يشكل مروره ضغطا كبيرا على القوى الغربية، خصوصا مع اشتعال المعارك على جبهات القتال في أوكرانيا.

كسب أردوغان بعض رهاناته بعد صبر ليس بالطويل، وبدأ سيل التنازلات التي كانت قبل عقود بعيدة المنال، فتعهدت السويد بالتخلي عن دعم حزب العمال الكردستاني، ورفعت حظر تصدير السلاح المفروض على أنقرة، كما تعهدت بالموافقة على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي بين تركيا وأوروبا(7)، وهي خطوة كانت تمثل أولوية مُلحّة لتركيا اقتصاديّا، حيث شهد عام 2022 ذهاب 40.5% من الصادرات التركية(8) إلى أوروبا، بما يُعادل 103 مليارات دولار أميركي.

وإلى جانب هذه المكاسب، حصلت تركيا على موافقة أميركية لشراء طائرات "إف-16" التي تمثل عماد سلاح الجو التركي، مع صفقة أخرى لتحديث الأسطول القديم من تلك المقاتلات. لم يكن كل ذلك كافيا لأنقرة التي ضغطت أيضا لفتح باب انضمامها للاتحاد الأوروبي(9) رغم تعثر أكثر من محاولة سابقة للانضمام، لكن كل هذا لا يعني انسحاب أنقرة من التفاوض على هذا المطلب الذي يُعَدّ مكسبا إضافيا لكل ما حققه من قبل بالفعل.

 

الرقص على الحبل الروسي

في غضون ذلك، كان التحدي الأكبر أمام تركيا ألا يتسبب توجهها الغربي في تقويض تفاهماتها القائمة مع روسيا، خاصة مع استمرار القتال في أوكرانيا الذي يضع الكثير من هذه التفاهمات على المحك. استندت السردية الروسية في الحرب الأوكرانية بالأساس إلى قناعات أمنية لا تقبل التشكيك بشأن ضرورة إعادة رسم خارطة شرق أوروبا، ومنع أي مساعٍ أوكرانية للانضمام إلى حلف الناتو. ورغم أن تركيا حاولت التزام الحياد خلال الصراع للحفاظ على علاقاتها مع موسكو، دون الإخلال بالتزاماتها تجاه أوروبا بموجب عضويتها في الحلف الأطلسي، فإنها منحت الضوء الأخضر لدولتين أخريين تتقاربان مع موسكو في الجغرافيا بالانضمام إلى الحلف.

ترى موسكو أن انضمام فنلندا والسويد، اللتين تُصنَّفان اليوم ضمن ما يُعرف بدول السد أو الحاجز، إلى الناتو يُمثِّل تهديدا إستراتيجيا لنفوذها، وتطالب علنا بعدم اقتراب الحلف الأطلسي من حدودها التي تمتد على طول 1,300 كلم مع فنلندا وحدها، التي كانت مقاطعة روسية طيلة قرن من الزمان قبل أن تحصل على استقلالها عام 1917 إثر معاهدة(10) وصفها الرئيس الروسي بوتين بأنها خيانة للشيوعية.

في الواقع، لم يكن تشديد الخناق على الحدود الروسية ليتم لولا موافقة تركيا على عبور الناتو إلى هذه المنطقة، وهو ما دفع الكرملين(11) إلى توجيه رسالة علنية على لسان المتحدث باسمه مدعيا أن تركيا ينبغي ألا يكون لديها "أوهام" بشأن عرض الاتحاد الأوروبي، في إشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي سيظل مُحرَّما على تركيا باعتباره "ناديا مسيحيا خالصا" لا مكان فيه لدولة مسلمة، حتى لو كانت علمانية. جاء التحذير الروسي بعد أقل من شهر على توتر العلاقات بين البلدين على إثر تسليم أنقرة رهائن أوكرانيين لكييف، بعد أن كانت قد تسلَّمتهم في وقت سابق من موسكو على أن تحتفظ بهم تركيا إلى نهاية الحرب. واعتبرت روسيا(12) قرار تسليم أردوغان الرهائن للرئيس الأوكراني خلال زيارته الأخيرة "طعنة في الظهر" تعني أن تركيا تنتهج خطوات تتحول من خلالها تدريجيا من "دولة محايدة" إلى "دولة غير صديقة".

ورغم ذلك التصعيد الخطابي، كان من اللافت أن علاقة روسيا مع تركيا مضت دون تصعيد دبلوماسي، حتى مع مزاعم الجيش الروسي(13) بأن أوكرانيا طلبت من تركيا تعديلا على المسيّرة التركية "بيرقدار" بما يجعلها قادرة على تنفيذ عمليات في العمق الروسي. ربما تملك موسكو أسبابها الخاصة لعدم التصعيد، فهي حاليا ليست في موقف يتيح لها السماح بتدهور علاقاتها مع أنقرة، كما أن تركيا أيضا تتجنب تدهور علاقتها مع روسيا حتى تواصل الاستفادة من لعب دور الوسيط بين روسيا والغرب، كما يرتبط البلدان بتفاهمات عسكرية في كلٍّ من ليبيا وسوريا وأذربيجان.

يرتبط البلدان أيضا بعلاقات اقتصادية تَحُول دون انخراطهما في عملية تصعيد غير محسوبة، حيث لا تزال أنقرة تُعوّل على موسكو للتحول إلى مركز لنقل الغاز(14) الروسي إلى أوروبا، كما أن تركيا المتعطشة للطاقة تستورد 44% من احتياجاتها من الغاز الروسي، وهي تدفع ثمنه بالروبل بدلا من الدولار، وهو ما يُسهم في تقليل العجز الحاصل في مخزونها من العملة الأجنبية. وتدين أنقرة لموسكو بإدخالها نادي الطاقة النووية، وذلك عبر محطة "أكويو" التي تُشيدها روسيا بتكلفة 20 مليار دولار. يعني ذلك أن المصالح المشتركة تجعل كلا البلدين يتمسك بهذا التحالف المفيد، رغم التنافر الجيوسياسي الذي سبّبه الملف الأوكراني، وتوجه تركيا نحو تعزيز علاقاتها مع الغرب.

لعبة التوازن تحتاج تركيا إلى حلف الناتو (والعلاقات مع الغرب) لأنه يزيد من نفوذها السياسي، وفي المقابل يحتاج الحلف أيضا إلى وجودها لكونها تُمثِّل ضمانا لأمن الكتلة الغربية من الجنوب بسبب عمقها الجيوسياسي. (غيتي)

على مدار تاريخها، فرضت الجغرافيا السياسية على روسيا إتقان "لعبة التوازن" بين القوى الكبرى". في هذا السياق، يلفت تحليل لموقع "ستراتفور"(14)، وهو مركز دراسات أمني أميركي، إلى أن عوامل القوة الجيوسياسية التي منحت تركيا دورا أكبر في محيطها عرَّضتها أيضا للتهديدات الأمنية من خلال وضعها بين العديد من البلدان القوية والقوى العظمى على مدار تاريخها، وفي حين أنها لم تكن قوية بما يكفي لفرض سياساتها من جانب واحد، فإنها أيضا ليست ضعيفة لدرجة إجبارها على الدخول في مدار قوة عظمى أخرى بشكل كامل.

ووفقا لهذا الطرح، تحتاج تركيا إلى حلف الناتو (والعلاقات مع الغرب) لأنه يزيد من نفوذها السياسي، وفي المقابل يحتاج الحلف أيضا إلى وجودها لكونها تُمثِّل ضمانا لأمن الكتلة الغربية من الجنوب بسبب عمقها الجيوسياسي. في الوقت نفسه، تحتاج تركيا إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا من أجل الحفاظ على هامش المناورة الذي تتمتع به في إدارة علاقتها مع الولايات المتحدة وأوروبا.

في ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم حقيقة مفاوضات تركيا مع الاتحاد الأوروبي، ففي حين تدرك أنقرة أن مسيرة الانضمام للكتلة الأوروبية لن تكون مفروشة بالورود، وربما لن تكلل بالنجاح في نهاية المطاف بناء على السوابق التاريخية، فإن إبقاء الملف على الطاولة يسمح لأنقرة بانتزاع الكثير من المكاسب في علاقتها مع الغرب. في الوقت نفسه، يمكننا أن نتوقع أن أنقرة لن تمضي في تحالفها الغربي إلى الحد الذي يمكن أن يسبب ضررا لا يمكن إصلاحه في علاقاتها الروسية. تختبر تركيا وضعها إذن في عالم جديد مستندة إلى ثقتها في قدرتها على إجادة "لعبة التوازن الصعب" حتى النهاية، ففي وسط المصالح الغربية والروسية المتنافرة، يبدو أن أنقرة ما زالت قادرة على اللعب بطريقة جراحية دقيقة، تكفل لها تحقيق أكبر عدد من المكاسب، وتجعلها طرفا مهما وشريكا إستراتيجيا للغرب والشرق على السواء.

___________________________________

المصادر:

What to Make of Turkey’s Move to Unblock Sweden’s NATO Bid Enlargement and Article 10 NATO Membership for Sweden: Between Turkey and the Kurds Turkey cancels trilateral Sweden-Finland meet after protest -state TV Финляндия подписала законы для вступления в НАТО: что это значит для России Erdogan links Sweden’s NATO membership to Turkey’s EU accession If EU embraces Turkey, Ankara to back Sweden’s NATO bid: Erdogan Turkey: share of exports to the European Union (EU27) as a proportion of total exports from 2013 to 2022 EU Ready to Boost Links to Turkey But Accession Still Taboo The Treaty of Brest-Litovsk  Kremlin says Turkey should have no illusions over its EU bid روسيا: تركيا تتحول إلى دولة غير صديقة الدفاع الروسية: البنتاغون يعتزم نقل برامج أسلحة بيولوجية غير مكتملة من أوكرانيا إلى دول أخرى The Modern Geopolitics of Turkey

 

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی إلى حلف الناتو ترکیا إلى مع الغرب أن ترکیا الذی ی

إقرأ أيضاً:

التطبيع بين أنقرة ودمشق.. مسار محفوف بالألغام والأثمان

بالنظر إلى طبيعة الملفات الشائكة والخلافية بين أنقرة ونظام الرئيس السوري بشار الأسد لا يمكن أن تكون عملية التطبيع بين الجانبين "سهلة" كما يرى خبراء، ورغم أن التصريحات الرسمية الأخيرة كسرت جزءا من الجمود في العلاقة قد يختلف المشهد بصورته المعلنة عند الغوص بالتفاصيل.

أولى تلك التفاصيل سلطت الضوء عليها صحيفة "الوطن" المقربة من النظام، إذ تحدثت، الأربعاء، عن وجود اتصالات مستمرة بين دمشق وموسكو وعواصم عربية من أجل أن "يخرج أي لقاء مع تركيا بتعهد واضح وصريح وعلني بالانسحاب الكامل من سوريا، وفق أجندة محددة زمنيا".

الصحيفة اعتبرت أن ما سبق "ليس شروطا مسبقة"، وقالت إنها "قاعدة أساسية يمكن البناء عليها للبحث في المتبقي من الملفات"، على رأسها "دعم المجموعات الإرهابية والمقصود بها وتعريفها".

وتقدم تركيا دعما لآلاف المقاتلين في شمال سوريا، وهؤلاء يتبعون لتحالف "الجيش الوطني السوري"، وينسحب دعمها أيضا إلى الشق الإداري والخدمي والسياسي، حيث تستضيف أعضاء كثر من المعارضة السياسية السورية على أراضيها.

في المقابل يعتبر نظام الأسد المسلحين المعارضين في شمال سوريا "إرهابيين". وعلى مدى السنوات الماضية خاض ضدهم عمليات عسكرية، كما أن الكثير من أعضاء تلك الفصائل المسلحة كانوا قد انتقلوا بأسلحتهم الخفيفة، بموجب اتفاقيات رعتها روسيا في ريف دمشق ودرعا وحمص وسط البلاد.

ولا يبدو أن الجانب التركي مستعد حتى الآن لتصنيف حلفائه على الأرض كـ"إرهابيين"، وهي النقطة التي أثارتها صحيفة "الوطن" شبه الرسمية، دون أن تحدد جهة مسلحة دون غيرها.

ورغم أن أنقرة تشترك وتتقاطع مع نظام الأسد في عداء "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) المسيطرة على مناطق في شمال وشرق سوريا، تختلف طريقة التعاطي والنظر عند كل طرف عن الآخر.

وتنظر أنقرة إلى "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية على أنها ذراع عسكري مرتبط بحزب "العمال الكردستاني" المصنف على قوائم الإرهاب لديها، وفي واشنطن وعواصم أوروبية أخرى.

أما نظام الأسد فقد صنّف "العمال الكردستاني" في ثمانينات القرن الماضي على أنه منظمة "إرهابية". لكنه لم يتخذ ذات الإجراء مع "قسد"، وتباينت تصريحاته ضدها خلال السنوات الماضية ما بين وصف أعضائها بـ"العملاء" من جهة وبـ"الخونة" من جهة أخرى.

كما أن الكثير من التقارير الإعلامية وعدة أوراق لمراكز أبحاث محلية وغربية كشفت على مدى سنوات ماضية خيوطا اقتصادية وخدمية تربط كل من النظام و"قسد".

واتضح شكل خيوط أخرى على العلن بعد عام 2019 عندما أبرم الطرفان (النظام وقسد) عدة تفاهمات بخصوص الانتشار العسكري على الأرض، مما فتح بابا لعناصر قوات الأسد للدخول إلى شمال شرق سوريا برفقة عناصر من الشرطة العسكرية الروسية، والذين تمركزا في قواعد بعد ذلك، أبرزها في مطار القامشلي.

"مسار معقد وطويل"

بالنسبة لتركيا وكما يقول الصحفي والباحث التركي، ليفنت كمال لا يوجد إمكانية من جانبها للتطبيع مع النظام السوري في الوقت الحالي.

ويوضح أن بلاده تركز على قضيتين رئيسيتين: حزب "العمال الكردستاني" واللاجئين، لكن في هاتين القضيتين، يتعارض موقف النظام السوري وشروطه مع أنقرة، وفقا لكمال.

سياسة تركيا تجاه سوريا.. حيثيات موقف "لم يتغير" رغم أنها ضربت على وتر "حساس" لدى الكثير من المعارضين السوريين لم تحمل تصريحات وزير خارجية تركيا، حقان فيدان جديدا على صعيد سياسة بلاده تجاه الملف السوري بحسب خبراء ومراقبين، وعلى العكس أعطت صورة أوضح لخارطة طريق طويلة يتطلب المضي بها اتخاذ "خطوة تلو خطوة".

وتشير أنقرة إلى قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 الخاص بعودة اللاجئين، لكن النظام السوري كان قد عرقل تطبيقه منذ سنوات، ويواصل التهرب من خطواته حتى الآن.

ومن ناحية أخرى، فإن أكبر حليف لتركيا في الحرب ضد "العمال الكردستاني" هو المعارضة السورية، والتي يريد النظام أن يتم تصنيفها على أنها "إرهابية".

ويعتقد الباحث كمال أن تصنيف تركيا للمسلحين المعارضين في الشمال "أمر مستحيل". ويردف بالقول: "بل إن من المستحيل إقناع المعارضة السورية بالانضمام إلى النظام في عملية مشتركة دون إعلانهم إرهابيين".

ويرى الباحث في الشأن التركي، محمود علوش أن "عملية التطبيع مسار معقد وطويل"، وأن الطرفين يدركان حقيقة ذلك بطبيعة الحال.

وما يجري الآن بحسب حديث الباحث لموقع "الحرة" "محاولة لخلق هامش تتحرك من خلاله الدبلوماسية لكسر الجمود في مسار المفاوضات ومحاولة التوصل إلى بعض التفاهمات".

علوش يشير إلى أنه "لا ينبغي الإفراط في الرهان على الفرص الجديدة الناشئة". ومع ذلك، "لا ينبغي أيضا التقليل من أهمية الحوافز والمزايا التي يتطلع لها إردوغان والأسد من وراء التوصل إلى تفاهمات في بعض القضايا المهمة لكليهما"، وفقا لقوله.

"رغبة مشتركة تحركها ضغوط"

ويقيم في تركيا أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، وتضغط أحزاب من المعارضة لإعادتهم إلى البلاد، من منطلق وصفها بأنهم يشكلون "مشكلة وطنية".

وتمثل أحداث الاعتداء على ممتلكات السوريين في ولاية قيصري التركية آخر فصول تلك الضغوط من جهة وحملات التحريض ضدهم من جهة أخرى.

ولم يبد النظام السوري أي بادرة لإعادة اللاجئين، سواء الموجودين في تركيا أو في دول الجوار وأخرى أوروبية.

ويشترط بحسب تصريحات مسؤوليه رفع العقوبات الغربية عنه والبدء بعملية إعادة الإعمار قبل مناقشة أي خطوة لعملية العودة.

إضافة إلى ذلك ما تزال الأمم المتحدة تؤكد أن سوريا "ليست آمنة لعودة اللاجئين".

وتقول منظمات حقوق إنسان دولية ومحلية إن النظام السوري لا يريد عودتهم، وإن عملية تهجيرهم لم تكن على هامش الأعمال العسكرية في معظمها، بل بشكل ممنهج.

ويعتقد الكاتب والصحفي المقيم في دمشق، عبد الحميد توفيق أن "مسألة التطبيع بين دمشق وأنقرة معقدة وشائكة"، ويقول إن "المفخخات فيها متعددة، سواء محلية أو سورية أو تركية أو تلك المرتبطة بمؤثرات اللاعبين على الأرض السورية".

ومن بين اللاعبين إيران وروسيا، إذ يريدان التطبيع "ضمن حدود المكاسب".

وكذلك الولايات المتحدة الأميركية التي يراها توفيق "العنوان الأهم في مسألة تعطيل مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة أو الدفع به، رغم أن الفرضية الأخيرة مستبعدة".

وعلى نحو خاص يعتقد الكاتب أنه "من الواضح أن هناك رغبة مشتركة للمضي بمسار التطبيع، ناتجة عن ضغوط يتعرض لها كل من الجانب التركي والسوري".

إردوغان "يغازل" الأسد.. انفتاح على إعادة العلاقات التركية السورية أطلق الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان تصريحات "غزلية" بخصوص علاقة بلاده مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد.

وفيما يتعلق بتركيا يعتبر أن تلك الضغوط تتمثل بـ"مطرقة اللجوء السوري والوجود المسلح لفصائل المعارضة في شمال سوريا وملف إدلب وتحرير الشام".

وتتوسع دائرتها أيضا لتصل إلى مسألة "فشل الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة قبل شهرين، من أجل التوصل لتفاهمات".

وأورد توفيق أحاديث أن "الولايات المتحدة طرحت فكرة على أنقرة، بأنها مستعدة بأن تعمل على إخراج حزب العمال وقياداته من شرق الفرات، وتقوم بتوليف قسد كفصيل سوري، لكن الأتراك رفضوا الأمر"، وعادوا إلى تحفيز مسار التطبيع مع الأسد عبر الجانب الروسي.

"عملية قراءة نوايا"

ويعيش في شمال سوريا 6 ملايين نسمة، وهم المركز الرئيسي للمعارضة، وتم نفيهم جميعا وبشكل تقريبي من قبل النظام بطريقة أو بأخرى.

وبالتالي لا يمكن لأنقرة أن تقنعهم بالعودة إلى النظام السوري، بحسب الصحفي التركي كمال. ومن الواضح أن أنقرة تدرك موقف النظام بدقة، ولكن في بعض الأحيان يتعين عليها الحفاظ على بعض الخطاب الدبلوماسي لدفع المحاورين إلى العمل، وفقا لقوله.

ويضيف أن أنقرة تعلم أيضا أن "أيدي النظام مقيدة فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني والمسلحين الإيرانيين".

ويمكن وضع التصريحات التركية الأخيرة وأبرزها تلك التي وردت على لسان إردوغان ضمن "عملية قراءة للنوايا"، كما يتابع الصحفي التركي.

ويقول: "أنقرة عبّرت عن موقفها السياسي بأن سوريا مصانة وحدة أراضيها، خالية من أمراء الحرب والمنظمات الإرهابية والميليشيات الإيرانية، ويستطيع السوريون ضحايا الحرب العودة إليها بحرية وأمان، وتجري فيها انتخابات ديمقراطية وعمليات سياسية".

ويعتبر أن "هذا الموقف يعني بالفعل التفكيك السياسي للنظام بطريقة أو بأخرى"، وأن "أنقرة ليست منفتحة على خيارات أخرى".

"مليء بالألغام"

وأظهرت التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس النظام السوري، بشار الأسد، الأسبوع الماضي، أن حقبة جديدة يمكن أن تبدأ على صعيد عملية التطبيع بين أنقرة ودمشق.

وكانت تلك العملية قد بدأت نهاية عام 2022، لكنها توقفت العام الماضي، بسبب إصرار الأسد على شرط انسحاب القوات التركية من شمال سوريا قبل أي عملية حوار.

لكن الأسد نفسه تراجع قليلا إلى الوراء خلال الأيام الماضية. وبعد لقائه مبعوث بوتين إلى سوريا، ألكسندر لافرنتيف، أعلن أنه "منفتح على كل المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها ومحاربة الإرهاب وتنظيماته".

ويوضح الباحث علوش أن "دمشق بدأت تتعاطى بواقعية أكبر في مقاربة الحوار مع أنقرة من خلال تخفيف شروطها، خصوصا فيما يتعلق بملف الوجود العسكري التركي، لأنها تدرك أن تركيا ليست بوارد التخلي عن هذا الوجود قبل تحقيق أهدافها ومصالحها".

كما أن "دمشق غير مستعدة ولا قادرة حتى على ملء فراغ الانسحاب التركي من شمال سوريا في الوقت الراهن". 

ولذلك يقول الباحث إن "مبدأ المساومات سيهيمن على العملية التفاوضية بين الطرفين"، وإن "فرص نجاحها تتوقف على مدى استعداد كل طرف لتقديم ما يحتاجه الآخر منه".

وترعى موسكو مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة منذ بدايته، وانضمت إليها إيران في وقت لاحق، وتتجه الأنظار الآن إلى العراق كلاعب رابع.

ومن المقرر أن تستضيف العاصمة العراقية بغداد في الأيام المقبلة اجتماعا تركيا-سوريا، كأولى خطوات وساطتها في هذا الأمر.

ووفقا لحديث الكاتب عبد الحميد توفيق تعمل روسيا على "خارطة طريق دون إعلان" للمضي بعملية التطبيع بين أنقرة والنظام السوري.

وتقف وراء ذلك 3 أهداف حسب قوله: الأول: التقرب من تركيا ودفع الولايات المتحدة الأميركية للشعور بالقلق.

ويذهب الثاني باتجاه إرسال رسالة واضحة لجعل تركيا مركزا لضخ الغاز الروسي باتجاه أوروبا.

وتحاول موسكو إعطاء رسالة للأتراك إنهم في حال استجابوا لما تريده موسكو في سوريا "ستعمل الأخيرة على توليف حالة سياسية مع كييف عبر أنقرة"، كما يضيف الكاتب المقيم في دمشق توفيق.

ويعتقد أن "روسيا لها مصالح من ذلك، وتريد توسيع دائرتها في سوريا، لكي تنتقل من ظاهرة الوجود العسكري إلى النتائج السياسية".

ما المتوقع على خط دمشق-أنقرة؟

بعد حادثة الاعتداءات في قيصري وما تبعها من الغضب الذي خيّم على مشهد الشمال السوري قال إردوغان إن هناك فائدة كبيرة في فتح القبضات المشدودة في السياسة الخارجية، وكذلك الداخلية. وأكد بالقول: "ولن نمتنع عن الاجتماع مع أي كان، كما كان الحال في الماضي".

لكنه في المقابل أضاف: "عند القيام بذلك، سنأخذ مصالح تركيا في الاعتبار في المقام الأول، لكننا لن نسمح لأي شخص يثق بنا، أو يلجأ إلينا، أو يعمل معنا، أن يكون ضحية في هذه العملية.. تركيا ليست ولن تكون دولة تتخلى عن أصدقائها".

ويعتقد الباحث علوش أن "تركيا لن تتخلى عن حضورها العسكري والإداري ولا عن علاقتها بالبيئة السورية الحاضنة لها في الأفق المنظور، لأن هذا الحضور والعلاقة يشكلان ركيزة أساسية في سياستها السورية".

وحتى في الوقت الذي تتركز فيه أولوياتها على تقويض مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية "لا تزال أنقرة تتعاطى مع حل الصراع السوري على أنه حاجة وليس خيارا"، وفق قوله.

علوش يوضح أن "مسألة تعريف التنظيمات الإرهابية إحدى الإشكاليات المهمة".

ويقول: "علينا أن ندرك أن طريق التطبيع مليء بالألغام، لكن إذا توفرت الإرادة السياسية لدى أنقرة ودمشق للقفز على هذه الألغام، يمكن لهما الاتفاق على المبادئ العريضة لعملية التطبيع".

ويضيف أيضا أن "هناك مصلحة مشتركة للطرفين في تقويض مشروع الحكم الذاتي للوحدات الكردية"، وأن "الأسد يبحث عن الأثمان الكبيرة التي يريد الحصول عليها من تركيا مقابل منحها ما تحتاجه في ملف أمن الحدود".

ويبدو أن دمشق تمكنت من إدارة ورقة "قسد" و"حزب العمال" مع الأتراك "بمهارة" على حد وصف الكاتب عبد الحميد توفيق.

وتم ذلك من جانبها "بحيث لم تواجه بقسد وتفرط بها ولم تصطدم معها، ولا تزال ترتبط معها بخيوط اقتصادية وتبادل عملة ونفط".

ومنذ أسبوع أرسلت "قسد" للنظام السوري مئات الشاحنات المحملة بالنفط، في مقابل طلبها من النظام ضخ العملية السورية المحلية، لأنها شحّت في مناطقها، كما يقول الكاتب.

ويرى أن "الخيوط المذكورة جميعها أدارتها دمشق بمهارة، بصرف النظر عن التقييم".

وفيما يتعلق بمسألة "توصيف وتعريف الإرهاب" يستبعد توفيق أن يكون ذلك معلنا من كلا الطرفين (أنقرة، دمشق)، لكنه يقول إنه "العمل وفق ذلك سيجري، باعتباره نقطة التقارب".

و"إذا ما تم الاتفاق على التخلص من العبئين الخطيرين سواء (قسد أو فصائل المعارضة)"، يعتقد الكاتب أن "مسار التطبيع سيكون جاريا، دون أن يحدث ذلك بين ليلة وضحاها، حيث ستكون العوائق كبيرة وطويلة".

مقالات مشابهة

  • خلال لقائه برئيس الوزراء المجري.. بوتين يكشف موقفه من تسوية الأزمة الأوكرانية
  • "العمال" يتولى حكم بريطانيا بعد 14 عاما.. ومحاضر: العودة للاتحاد الأوروبي أولوية الحزب
  • بالصور| 22 مسيرة حاشدة بصعدة تحيي الصمود الكبير للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة
  • حلف شمال الأطلسي: رئيس وزراء المجر لا يمثل «الناتو» في روسيا
  • التطبيع بين أنقرة ودمشق.. مسار محفوف بالألغام والأثمان
  • سبب رفض روسيا وأوكرانيا تدخل تركيا كوسيط لإنهاء الحرب
  • أوكرانيا تسقط 21 مسيرة روسية وتتراجع في مدينة إستراتيجية شرقا
  • لماذا تخاف أوروبا من عودة ترامب إلى البيت الأبيض؟!
  • روسيا تصد هجوما أوكرانيا على ميناء بالبحر الأسود .. ودول الناتو ترفض خطة لدعم كييف
  • تركيا تؤكد تحديث سياساتها إزاء سوريا بناء على مصالحها الوطنية