الوقائع الخفية لتفريغ السجون .. كيف قام الجنجويد بإطلاق سراح أخطر العناصر الإرهابية”1 – 2″

المحقق: عزمي عبد الرازق

كانت ليلة 21 أبريل/2023 من أصعب الليالي على ضباط السجون في الخرطوم، وأبردها على قلب زينب، تلك الفتاة الجميلة، قيد المحاكمة في سجن النساء، وهى تأمل بعد أن سقطت أسيرة للفكر الداعشي، أن تخلصها ميليشيا الدعم السريع من وحشة سجن التائبات، وأُخريات وجدن أنفسهن فجأة في العاصمة القديمة، يواجهن مصيرهن الغامض، وكذلك عُتاة المجرمين والعناصر المتطرفة، لا ضير من تسميتهم، وتقصي أثر هروبهم الكبير، خطوة خطوة، حد انخراطهم في صفوف القتال إلى جانب كتائب الجنجويد، ومدى فداحة الأمر، والخرق المتعمد لقوانين السجون، وهو ما سوف نتطرق إليه بالصور والأسماء في (المحقق)، دون أن نغفل صراحة الإجابة على السؤال المهم: كيف حدث ذلك؟

صيحات الخوف والرصاص
في خضّم القِتال الذي كان يدور وسط الخرطوم، أيام الجمعة والسبت تحديداً، قبل الذهاب إلى هدنة أولى رعتها الوساطة، مكنت الميليشيا من المزيد من التوغلات، هنيهة وانقطعت المياه، تلتها صيحات الخوف ودوي الرصاص، ثم ما لبث أن ذوى التيار الكهربائي شيئاً فشيئاً، غرقت الأسوار العالية للسجون في الظلام، بينما انخرطت ميليشيا الدعم السريع لتوها، أو قبل ذلك، بتدابير غير عفوية، في حملة انتقامية مسعورة، طالت سجون الخرطوم كلها، بدءاً بالهدى وسجن سوبا، وليس إنتهاءاً بكوبر، 25 آلاف سجين خارج الزنازين، حررتهم هكذا بلا مقدمات، وإذ ما يبدو كان ذلك للانتقام، أو لتعويض فشل مغامرة حميدتي العسكرية.

لتعم الفوضى إذن، أو يُهجّر الناس من بيوتهم بالإكراه لتسكنها القطط، والسجون كذلك، كما أقسم قائد الجنجويد صادقاً، وقليلاً ما يصدُق.
أنفق جهاز المخابرات العامة ما يربو على الثلاث أعوام، نفّذ فيها أكثر من (17) عملية أمنية اعتراضية ضد تنظيمات إرهابية، استهدفت، بصورة دقيقة جداً، أوكار الخلايا النائمة، في المدن والصحارى، لتنظيمات خطيرة، من بينها داعش والقاعدة وحركة حسم، وقد أسفرت تلك الحملة عن توقيف ما يفوق المائة إرهابي ومتطرف، إلا أن الميليشيا، آلت على نفسها أن تفاقم الأوضاع سوءاً، بتحرير أولئك، وضمهم إليها لتعزيز سيناريو الفوضى، وترويع الآمنين، وهو عمل متعمد لإشاعة الجريمة، لا مناص من الرضوخ لحقيقته الماكرة.

الميليشيا تبحث عن عناصرها المُتطرفة
من المهم الإشارة إلى أنّ السُلطات السودانية سلّمت بعض الأجانب_المطلوبين في قضايا إرهابية_ إلى دولهم، بينما احتفظت بالبقية إلى حين محاكمتهم، إذ أن خطورتهم متعدية، فكثير منهم ينتمي إلى داعش، بقناعات جنونية، بينهم فتيات في مقتبل العمر، والبعض الأخر يعملون في تجارة المُخدرات والسلاح، وقِلة تتحرك في مسارات الاتجار بالبشر، وليس من قبيل المصادفة، أن يكون لهؤلاء علاقة بنشاطات جُبلت عليها الميليشيا نفسها، بعيداً عن الأضواء، فالأمر لم يعد سراً اليوم، وإلى جانب إطلاق سراح علي رزق الله السافنا، المتهم بجريمة قتل عمد، ومحيميد وأبو الدقير، فقد جلب آل دقلو أيضاً مئات المرتزقة من مناطق أفريقية تنشط فيها جماعات بوكو حرام وداعش، وسمتهم الطباع العنيفة في القتال، وأفتضحت أمرهم تلك النزعة المتطرفة التي لا تكترث لقوانين الحرب، أو اتفاقية جنيف لحماية المدنيين.!
ولعل احصائية من تم تسليمهم لدولهم من العناصر الإرهابية بلغت (47)، جميعهم من الذكور، فيما بلغ عدد الموقوفين في انتظار المحاكمات (26) إرهابياً، وسواء كانت تلك العناصر التي تم تسليمها أو لا تزال في قائمة الانتظار، فهى عموماً عناصر مُدربة على القتال، شديدة الخطورة، ولن يترددوا إطلاقاً من الانخراط في أي أنشطة غير قانونية، فذاك دأبهم، إذ أن الجزء الأكبر منهم ينتمي إلى خلية جبرة، بتخصص العديد من أفرادها في صناعة المتفجرات، ولذلك تم التحفظ عليهم تحديداً في معتقلات جهاز المخابرات، ولم يتم إطلاق سراحهم عندما فتحت الميليشيا كافة السجون، في ولاية الخرطوم، لأن واجب الجهاز يحتم عليه القيام بدوره في حماية المجتمع وتنحية الخطر، والحد من الجريمة المنظمة، أو العابرة للحدود، مهما كان الثمن.

الهروب الكبير
ليس ثمة ما يدعو لعدم الريب في نية قوات التمرد من الوصول إلى أسوار تلك المعتقلات، وتدوين المباني بقصد فتح ثغرات تمكن مَن تريد وقوعهم في أحضانها، وقد بدا المشهد شبيهاً بـ”ذا شاوشانك” أو بالأحرى قصة “الهروب من ألكتراز”، وهو ما أدركه أمجد فيصل، أحد القادة الذين التحقوا بتنظيم داعش في سوريا، حين وجد من يعينه على الفرار، فهو بالرغم من أنه ليس في عمر يسمح له بالهروب، إلا أنه كان يحفر بأظافره، ضمن مجموعة الأربعة التي كانت تنام وتصحى تحت وطأة القصف المتواصل، لعدة أشهر، حتى منتصف يناير 2024، حين تسللوا عبر فتحات السقف، في ذلك اليوم تحديداً تعرض مبنى المخابرات لموجة كثيفة من النيران، وهى في الحقيقة تغطية لهجمات معلومة المقاصد، وقد أدى التدوين الكثيف إلى حدوث أضراراً بالغة في هيكل المبنى، وتسبب أيضاً في تدمير كامل للسور الخارجي، وتساقطت المقذوفات داخل غرف المعتقلين أنفسهم، بشكل تسبب لهم بإصابات مباشرة.
استبسل أفراد الحراسة، في صد ذلك الهجوم، إذ أن واجبهم كان يحتم عليهم منع هروب المساجين، لكن الهجوم كان عنيفاً متواصلاً، والأسلحة غير متكافئة، نجم عنه استشهاد العديد من الضباط والجنود المنوط بهم تأمين المعتقلين، وقد بدأ الأمر بزحف عناصر الميليشيا نحو المنطقة المحيطة بالمباني، ومن ثم ضربوا، بعد ذلك، حصاراً محكماً عليها، ومنعوا وصول أي تعزيزات تساعد في تماسك القوة التي تقوم بمهام الحماية والتامين، واستعانت قيادة الدعم السريع بالطليعة الأولى المتطرفة الهاربة لتحرير البقية، وصناعة كتيبة إرهابية تضمر من الشرور ما يقُضُّ المضاجِع، فما الذي حدث بعد ذلك.؟

نواصل

كيف قام الجنجويد بإطلاق سراح أخطر العناصر الإرهابية وتفريغ السجون “2 -2”

خلال الـ”10″ أشهر الماضية تعرضت مُعتقلات جهاز المخابرات العامة، أو بالأحرى مواقع حبس العناصر المُتطرّفة في الخرطوم، إلى هجمات متواصلة، وكان الهجوم الضاري، وسط نباح الكلاب المسعورة آواخر الليل، مسنوداً بكتيبة إنقاذ، الهدف منه، بلا مواربة، تحرير المجموعة الإرهابية، حبيسة الجدران، لتنضوى بالمرة تحت لواء مليشيا الدعم السريع، في نسخته النهائية المتوحشة.

هجوم وراء هجوم
خلقَ ذلك الهجوم المتكرر حالة من الفوضى، مكّنت مجموعة الأربعة، أمجد فيصل، الوحي الإمام، أحمد إبراهيم، صلاح سالم، من الهروب، عبر فتحة قيصرية أوقعتها قنبلة يدوية، في جدران الحمام المُلحق بالسجن المُخابراتي.

في مارس 2024 قامت الميليشيا بهجوم آخر ليلي عنيف، مصحوب بتدوين، على كافة المعتقلات، مما أدى، مرة ثانية، إلى هروب مجموعة تضم 13 من العناصر الإرهابية، وقد تم التمهيد، لكل ذلك القتال المفضي لمكيدة جهنمية، بتسلل كتيبة من مليشيا الدعم السريع، لتطويق المبني تماماً، تعينها في مهمتها، خلية الأربعة الهاربة، والتي اتضح لاحقاً أن بعض عناصرها التحق بمقرات الجنجويد في بحري.

كان ضمن المجموعة الأخيرة رجل متخصص في صناعة المتفجرات اسمه أبوعبيدة، وشاب آخر في مقتبل العمر، حليق اللحية، إن لم يكن بالأمرد، تشيء ملامحه بأنه صومالي، فضلاً عن أحد قادة تنظيم داعش في سيناء، وهو موسى حمدان، ممن ينتمون إلى خلية جبرة، تلك التي فقد فيها جهاز المخابرات بعضاً من عناصره في العام 2021، وعلى رأسهم “الجوكر”، ذلك الفتى صاحب القدرات المهولة والخارقة في عالم الشبكات وتفكيك جرائم المعلوماتية.

معقل الإرهاب والجاهزية
بعد هروب المجموعة الآخيرة، ونعني بها مجموعة الـ”13″، أصبح مجمل العناصر الإرهابية التي قامت الميليشيا المتمردة بتهريبهم “17” معتقلاً، وتبقى فقط قائمة تضم “9” أفراد، فيما لا تزال الميليشيا، إلى اليوم، تضرب حصاراً عليهم، دون أن يتوقف دوي مدافعها وبنادقها صوب تلك المعتقلات، كما لو أن إطلاق الإرهاب من قمقمه ليعاود نشاطه في بلاد النيلين، أمر في غاية الأهمية بالنسبة لهم، وهذا بالضرورة لا يحتمل أكثر من تفسير، سيما وأن عملية نشر الفوضى، والهجوم على معتقلات الإرهابيين لم تكن نزهة، وقد أستشهد فيها بفدائية، أي تلك المعارك، “5” من الضباط، و”9″ أفراد من أطقم الحماية والتأمين.

من المهم الإشارة أيضاً إلى أنه منذ بداية التمرد أطلقت الميليشيا نحو “40” شخصاً من أخطر الإرهابيين والمجرمين، يمكن تصنيفهم وفقاً لمحابسهم، كالأتي: “23” من السجون العامة، و”17″ من معتقلات جهاز المخابرات، بشكلٍ يوحي، بل تكاد تكون حقيقة ناصعة، وهى أن العثور على هؤلاء، بعد فرزهم وتحريرهم، ليس من قبيل الصدفة، وإنما كان هو الهدف الأساسي الذي تم التخطيط له بعناية فائقة من البداية، وربما قبل الحرب، مروراً بحملات تجنيد المرتزقة الذين تم جلبهم من غرب أفريقيا والساحل، أي تلك المناطق التي تنشط فيهم داعش والقاعدة وبوكو حرام.

موالاة أصحاب العمائم السوداء
عملية إطلاق سراح العناصر الإرهابية والمجرمين لم تكن هدية عيد ميلاد بلا مقابل، وإنما أمر دُبّر بليل، لتنضم ذات العناصر لقوات (الجاهزية) تعينها في القتال وترهيب الناس وصناعة المتفجرات لتعويض النقص في الأسلحة والذخيرة، ولذلك فإن أغلبهم – إلى اليوم – موجود في مقرات الميليشيا، أمثال بكر حقار، التشادي الذي ينتمي للقاعدة، والنور جمعة وعثمان يوسف ممن بايعوا داعش على السمع والطاعة العمياء.
فيما أجهزت الميليشيا على موسى نذير، وأطلقت سراح أبو خالد، وهو سوداني، مقابل فدية مالية تقدر بـ”13″ ألف دولار، دفعتها أسرته بعد مساومة وتهديد بتصفيته، أما البقية فلا تتوفر معلومات كافية عنهم، وعلى رأسهم أبو فاطمة، وزيدان صالح، والنسيم، وهؤلاء خليط من جنسيات عربية مُختلفة.

لكن الحقائق المؤكدة، وهى دافع الميليشيا في تحرير الخلايا الإرهابية، أنها أخضعت بعض العناصر لاستجوابات مكثفة، وابتزاز للقتال معها، ونجحت في تجنيد بعضهم، وعلى رأس هؤلاء الصومالي عثمان يوسف، وهو مسلك بالضرورة يتنافى مع القوانين الدولية وقواعد الحرب في التعامل مع العناصر الإرهابية والمجرمين، حد ضمهم لصفوف القتال، دون أن تشعر، مليشيا التمرد، بالحرج وهى تنتعل حذاء الديمقراطية وترتدي قميص حقوق الإنسان الملطخ بدم الأبرياء، بصورة فاقعة، وهو الأمر نفسه الذي دفع المليشيا للتهرب من هذه التهمة، مولاة أصحاب العمائم السوداء، لتنسل منها وترمي بها أطفال قرية ود النورة.

عزمي عبد الرازق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: العناصر الإرهابیة جهاز المخابرات الدعم السریع إطلاق سراح

إقرأ أيضاً:

الجنجويد (الشر المطلق)

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
لم يتعرض شعب في العصر الحديث لمحنة (خليط العنف الهمجي والنهب الممنهج) كما تعرض لها الشعب السوداني علي يد هؤلاء الاوباش. والذين في غفلة من الزمن وعلي يد جهلة واشرار (العسكر والكيزان)، تم تزويدهم بكافة انواع الاسلحة، ورعايتهم علي خير ما تكون الرعاية، لقطاع الطرق والقتلة واللصوص. ليفرضوا سطوتهم علي البلاد ويذلوا رقاب العباد.
وبطبيعة تكوينهم المليشياوي ووظيفتهم القذرة وامتهانهم الارتزاق والعمالة، تم استدراجهم ومن ثمَّ استخدامهم اماراتيا، مرة كمرتزقة لخوض حروبها التوسعية (ليبيا). ومرة كنخاسة لاستيراد وتصدير المرتزفة (اليمن). ومرة لنهب موارد البلاد (الذهب). ومرة للسطو علي السلطة، لتصبح الدولة السودانية بمن وما فيها تحت طوعها ورهن تصرفها.
وللاسف منذ لحظة تكوين هذه المليشيا البربرية، بغرض اداء المهام القذرة التي يستنكف الجيش رغم ما اصابه من ادلجة عن اداءها. بدأ اسوأ فاصل للحرب الاهلية، لتدخل نفق الابادة الجماعية والانتهاكات المروعة، وتحوُّل الحرب الي اسلوب حياة ومصدر ثراء، وتاليا بؤرة جذب لحثالة البشر من كل فج عميق.
والحال كذلك، لحظة تكوين المليشيا، هي نفسها لحظة الخصم من الدولة ككيان ووظيفة. اي بوصف الدولة مناط الاستقرار والنظام، مناقضة للمليشيا بطابعها الفوضوي وطبيعتها الهمجية. وعليه، لم يصل الطموح بحميدتي للسيطرة علي السلطة، إلا بعد ان توسع نفوذه وتضخمت سطوته، مع بلوغ الدولة ادني مراحل انحطاطها. وما كان ذلك ليحدث لولا خضوع البلاد لقيادة من طينة البشير والبرهان اللذان لا يجيدان شيئا سوي سرد الاكاذيب والجعجعة الفارغة واللعب الغبي بالنار.
اما الجانب السيئ الآخر فمرده ان قوة المليشيا وانفساح المجال امامها للطغيان، يحمل في جوفه مخاطر بذات المستوي علي سلامة الدولة وامن المواطنين. وهو ما اثبتته هذه الحرب اللعينة بعد اندلاعها، والتي لم يُشهد لها مثيل علي مستوي الخسائر البشرية (الهدر والاستنزاف) والمعنوية (صعوبة تضميد الجراح) وتدمير البنية التحتية (احد التقديرات 200 مليار دولار).
وما يحير ان وجود المليشيا وتمدد نفوذها لا يمس كيان الدولة وامن المواطنين فحسب، ولكن قبل ذلك فهو ينتقص من هيبة وسمعة ومكانة وقدرة المؤسسة العسكرية! وهذا ناهيك عن سحبها بساط الامتيازات التاريخية من تلك المؤسسة، سواء من جهة السيطرة علي السلطة او احتكار المصالح الاقتصادية! ورغما عن كل ذلك فقد تواطأت ذات المؤسسة بالسماح لتكوينها اولا، وزيادة نفوذها ثانيا، وغض النظر عن خطورة ذلك علي الامن القومي! بل كثيرا ما انبري ما يسمي خبراء استراتيجيون وقبلهم كبيرهم البرهان للدفاع عن المليشيا والتقليل من حجم تجاوزاتها وخطورة تواجدها داخل الدولة. والسبب خضوع المؤسسة لرغبات ونزوات قادتها الانقلابيين، والذين لا يشغلهم شيئا سوي المحافظة علي سلطتهم المغتصبة ولو كان الثمن ضياع البلاد وتشريد اهلها!!
وعلي العموم هنالك تحولان حاسمان خدما المليشيا وزادا من اطماع قائدها المغامر الطموح، وهو ما انعكس وبالا علي البلاد واهلها.
التحول الاول هو استقدام البشير لهذه المليشيا من دارفور للحفاظ علي سلطته في العاصمة، قبل ان يشملها برعايته كابنه المدلل. وبعد نجاحها في قمع انتفاضة 2013م بدموية مفرطة، زاد وله البشير بها واطمئنانه لجانبها، وهو ما دفعه لمزيد من الاغداق عليها من اموال الدولة ومواردها الطبيعية (ذهب جبل عامر) والتغاضي عن انتهاكاتها (تهم الابادة) وبما في ذلك الاساءة للجيش (تسجيل مشهور لحميدتي 2014م). وساعد علي احتضان البشير لهذه المليشيا، من جهة تخوفه من غدر الاسلامويين وسيطرتهم علي الجيش، ومن جهة زيادة نفوذ وطموحات قائد جهاز الامن قوش، وهو ما جعل كل الاطراف المتصارعة والمتنافسة علي السلطة تحاول شراء رضا الغادر حميدتي. ومن جهة إحاطة البشير في تلك المرحلة بسواقط المستشارين والمساعدين من امثال طه عثمان وعبدالغفار الشريف اللذان لا تخفي ارتباطاتهم بالخارج، ومن ثمَّ تزيين وتلميع المليشيا للبشير علي حساب نفوذ وسيطرة الاسلامويين.
ويبدو والله اعلم ان جزء من بواعث حرب اليمن التي تولي كبرها محمد بن زايد عبر تحريضه لمحمد بن سلمان، هو توافر الدماء الرخيصة بعد تسليع المقاتلين عبر وكلاء المليشيا (حميدتي) والجيش (البشير، البرهان وابنعوف). وما لم يحسب حسابه هؤلاء الاوغاد، الذين لا يفتقرون للذكاء والحكمة فحسب ولكن الشهامة والرجولة الي اشتهر بها السوادنيون، ليمرغوا سمعتنا في التراب. انهم بهذا الصنيع الوضيع فتحوا الباب للامارات ليس لنهب الموارد السودانية نظير الفتات الذي تتفضل به عليهم، وانما التدخل حتي لتغيير النظام السياسي وتركيبة البلاد الاجتماعية ومن ثم اخضاعها لمشيئتهم، وهو التاثير الذي لم ينفك حتي الآن يحكم مجريات الحرب المدمرة! والحال ان اكبر ابتلاء تتعرض له امة، ان يتصف قادتها بالبلادة والتبلد ونقص المروءة، وللاسف هذا نصيبنا من القيادات التي فرضتها علينا المؤسسة العسكرية منذ الاستقلال، وما زال الحبل علي الجرار!!
والتحول الثاني هو قيام الثورة التي صادفت بلوغ نفوذ حميدتي درجة لعبه الدور الحاسم ليس في ازاحة البشير فحسب، ولكن السيطرة علي كامل البلاد منذ ذهاب البشير والي قيام الحرب، بعد تحالفه المشبوه مع البرهان، الذي ارتضي ان يلعب دور الواجهة! وهي سيطرة استغلاها نهاب الفرص حميدتي خير استغلال. ليبني وخلال ثلاث سنوات دولة موازية عمادها القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية والعلاقات الخارجية، من دون عوائق من اي نوع، بل بتسهيلات غريبة ومريبة من البرهان! وغالبا هذه العلاقة المريبة ودور الامارات فيها، هو ما اضفي علي هذه الحرب غرائبية تحاكي الافلام الفنتازية! وعلي راس ذلك الصراع المفتعل بين الكائن السيامي المكون من الرجلين. بل من يصدق ان حرب بكل هذا الدمار والانتهاكات وشارفت علي العامين، لا يُعرف مصير اكبر راس في هذا الكائن السيامي؟ ولا طبيعة العلاقة مع الامارات؟!
المهم وكما سلف كان هنالك تناسب بين قوة المليشيا ودرجة نفوذها وسطوتها، وبين الثمن الذي دفعته البلاد وشعبها. خاصة وان المليشيا في اصل تكوينها قوي شر وتخريب ونهب وقتل، ولطالما كانت مصدر قلق لكل حادب علي الوطن وشعبه. عليه لو كان هنالك مجرد وهم ولو بنسبة 0,1% ان هكذا مليشيا شرانية يمكن ان تخدم قضية خيِّرة للبلاد واهلها، فقد اكدت هذه الحرب العدوانية وما رافقها من تخريب ممنهج وانتهاكات متعمدة، درجة ضلال هذا الوهم ومن ثمَّ خطورة عواقبه. وتجربة الجيش والاسلامويين (جهاز الامن) مع المليشيا التي وفروا لها كل شئ، ثمَّ غدرت بهم، اكبر دليل وبرهان (وكما يقول المثل من جرب المجرب حاقت به الندامة)! لذلك اي محاولة للتقرب من المليشيا، ناهيك عن التحالف معها باي صورة من الصور، بعد كل الذي حدث منها، لهو الخسران المبين. اما التبرير بالتصدي للفلول فهو اقرب للعذر الاقبح من الذنب، ليس لان المليشيا هي في الاصل اداتهم القذرة، وهي مكون شر وقذارة وبربرية اصيل، وتاليا مناقضة للحضارة ومضادة للدولة وبيئة خصبة للعمالة والارتزاق، ولكن فوق كل ذلك هي مرجعية لاصدار احكام قطعية علي كل من لا يرفضها ولا يعاديها ولا يجرم فظائعها! وإلا علي ماذا يتصدرون المنابر؟ والي ماذا يدعون اصلا؟ والحال كذلك لا يستغرب المرء لماذا يسيطر العسكر والكيزان، ويرفض كثير من الثوار هذه الاحزاب السياسية والمنظمات المدنية والحركات المسلحة. وكما يقال مع هكذا طبقة سياسية مفلسة وقادة حركات مسلحة انتهازية ونشطاء مدنيين هواة، لا يحتاج العسكر الي حلفاء او مبررات للسيطرة علي الحكم الي قيام الساعة! (قال حكومة موازية قال، بل وتقدم خدمات/ بالله....، والسؤال والحال كذلك اين عائلة دقلو من كل ذلك بعد الجرائم الي اقترفوها/ جرائم حرب...؟ وما موقعهم من الحكومة المقترحة في اماكن سيطرتهم؟ ومن اين تستمد تفويضها، طالما هي بديل لحكومة الامر الواقع ببورتسودان؟ والحال كذلك، اليس في ذلك اعتراف وشرعنة لحكومة بورتسودان من حيث لا يحسبون؟!).
وصحيح ان مسألة التخلص من المليشيا ظلت هاجس يؤرق قوي الثورة والقوي السياسية عكس المكون العسكري! كما ظل الثوار يدفعون اثمان فادحة لاجرام المليشيا وفرضها كامر واقع، وهذا غير تحالفها مع كل اعداء الثورة (تحالف الموز وقوي الشر الاقليمية) لافراغ الثورة من مضمونها. ولتتوج كل ذلك بمشاركتها في الانقلاب علي حكومة الثورة. وهذا ناهيك عن حضور حميدتي المخجل في صدارة المشهد، بل وترؤسه لكل لجنة او اتفاقية او اي كان، المهم ان يكون رئيسا والسلام، وهو لا يفقه في كل ذلك شرو نقير! وهذا عندما لا يتعاطي لغة قطاع الطرق وكانه همباتي في فيافي دارفور، وصدق الاعلامي الساخر يوسف حسين وهو يمسح به البلاط (والاصح المُراح)!
وصحيح ايضا ان الاتفاق الاطاري اقلاه ظاهريا في جانب منه، كان محاولة لتجنيب البلاد شر الاصطدام بين اطراف المكون العسكري، علي ان تؤجل معضلة المليشيا لحلها في المستقبل. وهذا بالطبع اذا كان هنالك حكمة وجدية وهو ما لا يعرف لا عن الطبقة السياسية ولا المؤسسة العسكرية! خاصة وان تكوين ورعاية المليشيا من الاخطاء الكبري في حق الوطن والجرم الفادح في حق المواطنين، والتي اقترفها نظام الانقاذ بكل لا مسؤولية وقصور رؤية سياسية ليسا غريبان عليه.
ولكن باندلاع الحرب اتسع الفتق علي الراتق ودخلت البلاد في كارثة تاريخية تهدد بقاءها من قبل قوي همجية فوضوية تضليلية. وليدخل صراع السلطة ولاول مرة بين مكونين عسكريين. ترتب عليه إخراج القوي السياسية من المشهد، إلا من جهود خجولة لايقاف الحرب. وهو مطلب ليس عقلاني فحسب ولكن قبل لك انساني ووطني. ولكن المعضلة ان طرفا الحرب لا يؤمنان إلا بالقوة، ليذهب المطلب ادراج الرياح. كما ان موازين الحرب طوال الفترة الماضية كان تصب في صالح المليشيا وبصورة مريبة! وهو ما يعني ان ذهابه في ذلك الاتجاه يعني تقوية المليشيا، اي اعادة انتاج ذات الاوضاع الي قادت للحرب، ان لم يكن بصورة اسوأ! خاصة وان الغدر هو النهج الوحيد المتبع في مخططاتها ومخططات داعميها في الخارج.
المهم ليس هنالك اسوأ من الحرب وما ينتج عنها، كما لا اعتقد ان هنالك قضية عادلة او حقوق مغتصبة يمكن استردادها عبر الحرب في العصر الراهن. اي بوصف الحرب عدو للحياة والحضارة والانسانية، بل هي ما تبقي من تراث الهمجية. ولكن كل ذلك لا يمنع ان الحرب هي الظاهرة الوحيدة التي لم تتوقف منذ وجود المجتعات البشرية وصراعها من اجل السيطرة غالبا، والدفاع عن النفس بصورة اقل. وما يؤسف له ان كل جهود الحكماء والعظماء من اجل ايقافها، تمخضت فولدت شئ من التنظيم والتخفيف من آثارها. وهذا بالطبع ما يتعلق بالجيوش النظامية في الدول الديمقراطية، وليس جيوش الدكتاتوريات وبصورة اشمل المليشيات (ويا كافي البلاء نحن عالقين بين النوذجين الاخيرين).
وبما ان حربنا الراهنة هي اكثر الحروب كلفة وقذارة، وبما انها في جانب منها تتعلق ببقاء الدولة، فهذا يعني اي هزيمة واندحار للمليشيا هو في صالح الدولة والمواطنين والعكس صحيح، اي تقدم او انتصار لها فهو علي حساب بقاء الدولة وسلامة المواطنين. اي غض النظر عن الخلافات السياسية واخطاء المؤسسة العسكرية المزمنة، إلا ان الوقوف معها ودعمها هو واجب المرحلة، علي اعتبارها الجهة الوحيدة المكافئة للمليشيا عسكريا. وسواء استمرت الحرب او كان هنالك اتفاق، فمن المصلحة ان يكون الجيش في موقف القوة. لانه بكل المعايير لا يمكن المساواة بين الجيش والمليشيا، وهذا ليس من ناحية نظرية ولكن من خلال مجريات هذه الحرب نفسها، وانعكاسها علي كيان الدولة وحياة المواطنين. فانتصار المليشيا او دخولها اي بقعة يعني مباشرة انتفاء وجود الدولة وانكشاف حياة المواطنين، عكس اماكن وجود الجيش او تحريره لاي بقعة، فعندها يتوفر الحد الادني من الدولة والحماية للمواطنين.
اي الموضوع ليس موضوع سياسة او مكاسب ولكنها وقائع علي الارض، تظهر رعب المواطنين من المليشيا واحتفاءهم بالجيش. وكون سياسي او ناشط او كاتب يتغافل عن هذه الوقائع، فكيف والحال كذلك يتحدث عن دفاعه عن الوطن والمواطنين، او يتشدق بالتغيير والديمقراطية والدولة المدنية وغيرها من اللغو الذي لا يحمي مواطن او يقيل عثرة دولة، طالما هي نفسها في مهب الريح بسبب وجود وعنف وهمجية المليشيا. ومن يشكك في ذلك ماذا نسمي استهداف المليشيا لمحطات الكهرباء والسدود وميناء بشائر والمستشفيات ومواقف المواصلات والمساجد بطريقة متعمدة، ناهيك عن ما تكشف عن صناعة المخدرات وتزييف العملة في اماكن سيطرتها، ويبدو ما خفي اعظم؟!
كما ان مواجهة الكيزان والجيش علي حلبة السياسة والسلطة، هي مهمة كل قوي تتصدي للمسألة الديمقراطية والدولة المدنية من ناحية مبدئية، اي ليس عليها ان تدركها طالما موازين القوي مختلة، وانما تضع بصمتها وتترك ارث وتخط طريق للاجيال القادمة. اما مهادنة المليشيا او الاستعانة بها كما ينادي بعض السذج او اصحاب المصلحة الخاصة، فهذا يمكن ان يقال عنه كل شئ، إلا انها مساعٍ حميدة للديمقراطية او الدولة المدنية او مراعاة مصلحة الوطن والمواطنين.
واخيرا
اسوا من هذه الحرب بكل كوارثها هو عدم الاستفادة من تجربتها المريرة وتعويض كلفتها حكمة وانجازات. وهذا ما يتبدي من كل الاطراف المشاركة في الحرب او الداعمة للمتقاتلين او المنتظرة في الرصيف علي امل تنزيل الدولة الفاضلة المرتجاة. فما زالت لعنة السلطة التي لازمت البلاد من الاستقلال، بعد ان تحولت لعظمة نزاع، بدل تحولها الي رؤية موضوعية ووسيلة نهوض بالدولة وآلية لترقية حياة المواطنين. هي ما يحكم المشهد السلطوي بعد ان تردت بمتوالية هندسية مع مرور الزمن، حتي وصلنا مرحلة تنازعها بين قتلة ومجرمين (حميدتي والبرهان).
والمؤسسة العسكرية ما زالت ترتهن لقيادتها وتفرض وصايتها، رغم انها المسؤول الاول عن ما آلت اليه الاوضاع. والكيزان ما زالوا في ضلالهم القديم ولم يتعلموا درس، ان اضعاف القوي السياسية وطردها من المشهد السياسي، لا يعني خلو المشهد من المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وانما يخلق فراغ يُملأ بالقوة الحاملة للسلاح، مما يرفع كلفة الاستجابة بعد خراب مالطة.
اما حملة السلاح فكل ما يتم جنيه من مكاسب، لا يساوي عُشر ما يتم خسرانه انسانيا وماديا، كما انه يغيب اهل الكفاءة لصالح امراء الحرب وتجارها. ويكفي ان حميدتي بقوة السلاح امتلك اموال قارون ووصل لمنصب النائب الاول رسميا والمتحكم الاول عمليا، ولكن ماذا كانت النتيجة؟
اما تقدم التي احسن الظن بها، فما زالت تثبت يوما بعد يوم انها اقل قامة حتي من الشعارات التي ترفعها، ناهيك ان تلبي تطلعات المواطنين المتفاوتة ما بين التغيير الجذري ومجرد الاستقرار باي ثمن.
اما حمدوك مندوب الامارات الدائم (ما عارفين نقوليهو شنو، غايتو عليهو العوض ومنو العوض). وبالمناسبة حتي اليوم لم تكشف لنا سر محاولة اغتيالك المزعومة! او ماذا كنت تفعل في منزل البرهان بعد الانقلاب؟ فهل كنت مضرب عن الطعام كوسيلة احتجاج؟ او طالبت بالحاقك برفاقك في المعتقلات؟ ولماذا لم تعرض لنا كشف حساب باموال القومة للسودان يا زول ياشفاف؟ اذا كان هذا حال حكومة الثورة وقائدها كما يدعون، ليها حق تلحق امات طه؟! والله يجيب العواقب سليمة. ودمتم في رعايته.
////////////////////////////////  

مقالات مشابهة

  • جراهام عبد القادر: ما تعرض له السودان من تدمير في قطاعات الثقافة والتراث بسبب المليشيا الإرهابية كان عملا ممنهجا
  • السودان ياسف لتنكر الحكومة الكينية لالتزاماتها باستضافتها لمناسبة توقيع ما سمي باتفاق سياسي بين مليشيا الجنجويد الإرهابية وافراد ومجموعات مؤيدة لها
  • الميليشيا، تصنع الأزمات والمآسي بيد، وتقدّم الحلول المسمومة باليد الأخرى
  • داعية إسلامية: الرزق ليس مالا فقط.. النعم الخفية لا تعد ولا تحصى
  • شاهد.. نهاية أخطر مجرم في مصر
  • خالد سلك يتبنى خطاب الميليشيا عن محاربة دولة 56، ويدعمها
  • «الداخلية» تقضي على أخطر عصابات المخدرات في المنوفية
  • مناوي: ما ترتكبه الميليشيا يفوق جرائم داعش وبوكو حرام
  • شاهد بالفيديو.. بعد ألقت قوات العمل الخاص بالجيش القبض عليه.. إعلامي معروف بالدعم السريع يعترف:(استخدمتني المليشيا للترويج لها ونتمنى الجيش يحرر كل السودان من ويلات دولة آل دقلو الإرهابية)
  • الجنجويد (الشر المطلق)