الوصايا…شهادات مبدعين في مواجهة الموت
تاريخ النشر: 10th, June 2024 GMT
صدر حديثاً عن دار «مرفأ» للنشر والتوزيع في بيروت لمجموعة مؤلفين، كتاب «الوصايا.. شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت».
الإصدار فكرة وتحرير الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ابنة باقة الغربية ريم غنايم، وقدمه الكاتب الأرجنتيني الكبير ألبرتو مانغويل، والفيلسوفة وأستاذة البلاغة والأدب المقارن الأمريكية جوديث بتلر.
وضم الإصدار 17 وصية لمبدعين من غزة، شهداء وأحياء، وهم: الروائي والقاص يسري الغول «وصية رجل حالم»، الشاعر والمترجم الشهيد رفعت العرعير «إذا كان الموت لزاماً علي»، الكاتبة هناء أحمد «أريد أن أنجو»، الكاتب سعيد عبد العزيز أبو غزة «على قبري»، الشاعر والكاتب الشهيد سليم النفار «إعلان براءة»، الشاعرة والروائية أمل أبو عاصي اليازجي «لقد زال همكم إلى الأبد»، الممثل والمخرج علي ابو ياسين «دقائق الحرب الطوال»، المترجمة والكاتبة نجوى غانم «غرفة آمنة»، القاصة ليان أسامة أبو القمصان «لا أمل لنا بالنجاة»، الشاعر حسين حرز الله «على قيد ما يشبه الحياة»، الكاتبة نعمة حسن «أنا نعمة حسن»، الشاعر والصحفي حسام معروف «منحاز لفكرة السد»، الشاعر والكاتب مصعب أبو توهة «إن كنت سأموت»، الطفلة ميار الجزار «اسمي ميار»، الكاتب والقاص سعيد محمد الكحلوت «بحثاً عن مأمن»، الشاعر والباحث يوسف القدرة «حياة كأنها الأبد»، الشاعر والروائي ناصر رباح «لم يعد الموت يهمنا».
ونقرأ على الغلاف الأخير للكتاب لصاحبة فكرة وتحرير الشاعرة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم حيث تقول: «لم يكن بالأمر اليسير أن أنشغل طيلة أربعة أشهر متواصلة وفي ظروف الحرب التي تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط الحياة الآدامية، أن لأحق فكرة تدوين وصابا وشهادات لمبدعين ومبدعات يطاردهم شبح الموت أينما ولّوا وجوههم».
وتضيف: «مع قسوة فكرة أن يدّون الكاتب وصيته للعالم، موته بين المحتمل والمؤكد، إلا أن حياة جديدة وُلدت من هذه القسوة، لتكون وثيقة للتاريخ والأدب تترنح بين سعي للصمود في وجه الموت، ووقوف في استراحة لحظيّة من الزمان والمكان دون تحديد وجهة، تهندس هذه الوصايا والشهادات شعرية جديدة وتقبض على المعنى مرة وتفلته مرّات، وتمنح للمشهد الأدبي الفلسطيني عموما، التفكير في العلاقة مع اللغة والكتابة بين الصمت والصوت ومدلولات المعنى الكامن فيهما بما لا يتجاوزهما أيضا. وتقول غنايم: بلا شك، أدخلتنا الحرب على غزة في صلة جدلية مع الكلمات وحربها مع ما هو خارجها، بما فيها حربها ضدنا، لتكشف بغضبها وثورتها ويأسها والأمل الكامن فيها عن قدرة الفلسطيني في التقويض والبناء تلقائيا، وهو يتأمل المشهد الدامي».
وتخلص غنايم إلى القول: «هذا الكتاب الذي كتب مقدمته كل من الكاتب الكندي – الأرجنتيني البرتو مانغول والكاتبة الأمريكية جودث بلتر، ما هو إلاّ بيان التفكير في عصر التدمير، تفكير يُترجم إلى كلمات تبرهن أن الكتابة تتمدد بقوة البازلت في كل اتجاه.».
وجاء في الإهداء: هذا الكتاب مهدى لروح الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت (1984-2023م) التي ارتقت مع طفلها جراء القصف الإسرائيلي في الثالث عشر من أكتوبر 2023م.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
انتحار الشاعر
في السادس من يونيو من عام 1982 كانت الدبابات الإسرائيلية قد بدأت اجتياحها البري للأراضي اللبنانية في عملية أطلقت عليها عصابة مناحيم بيجن اسم «سلامة الجليل». استباح الطيران المعادي في جولاته الأولى مكاتب القيادة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وقواعد فدائييها المتمترسين مع راجمات الكاتيوشا في تضاريس الجنوب. برا وبحرا وجوا، كان البلد الصغير يهوي ساعة بعد ساعة في جحيم القصف الإسرائيلي العنيف أمام صمت العالم وعجز العرب. ومع الانهيار السريع للخطوط الدفاعية الفلسطينية في القرى الجنوبية، كانت قوات العدو تتقدم نحو مشارف بيروت التي باتت تحت تهديد «الزمن الإسرائيلي» القادم على ظهور الدبابات. في ذلك اليوم العربي المرير، والمصادِف -صدفةً!- لذكرى هزيمة مروعة قريبة، هي هزيمة العرب بقيادة جمال عبدالناصر عام 1967، أطلق الشاعر اللبناني خليل حاوي «رصاصة الرحمة» على صدغه من بندقية صيد فرنسية الصنع، ومات على شرفته:
«مُبحرٌ ماتت بعينيه الطريقْ
مات ذاك الضوء في عينيه ماتْ
لا البطولاتُ تنجِّيه، ولا ذلُّ الصلاةْ
(...)
آه كم أُحرقتُ في الطين المُحمى
آه كم متُّ مع الطين المواتْ».
هكذا نقرأ في قصيدته الأولى «البحار والدرويش» من ديوانه الأول «نهر الرماد» المنشور عام 1957، الذي كتبه بين لبنان وسنواته الثلاث في إنجلترا، بينما كان يعِد أطروحته للدكتوراة في جامعة كامبردج.
لكننا قبل انتحار خليل حاوي، في ذلك التوقيت وبتلك الطريقة، كنا نظن بأن الشعراء لا ينتحرون في العادة إلا لأسباب عاطفية شخصية فقط؛ فسيرُهم حافلة بالانتحارات المدفوعة إما بنِكل الحب في إحدى قصصه الفاشلة، أو في ضباب أزمة روحية وجودية تُلبِّد معالم الحياة في عيونهم بشقاء الشك وانعدام اليقين، أو نتيجة لمضاعفات الكآبة المزمنة التي لا تفسير لها، أو ربما كان انتحارهم حدثا «فنيا» خالصا بعد محاولات بائسة في كتابة القصيدة المنشودة، مع ندرة هذه الفئة من الشعراء التي تؤمن بالشعر إلى هذا الحد الذي يستحق المفاضلة بين الموت والحياة فيفضي إلى الانتحار تحررا من العجز الشعري وكأن الشعراء الذين يموتون من أجل الشعر قد ماتوا حقا!
غير أن انتحار الشاعر هذه المرة كان فعلا سياسيا صارخا، حين فجّرت تلك الطلقة رأسه على وقع أنباء الانهيار الميداني أمام أرتال الغزاة. فالشاعر المرهف الغاضب، ابن الحزب السوري القومي الاجتماعي وتلميذ أنطون سعادة، ما كان ليحتمل بعد خمسة عشر عاما من «النكسة» شعورا مضاعفا بالهزيمة في حياته القصيرة، دون أن يخلو هذا الانتحار السياسي بالضرورة من احتمال آخر لأي من الدوافع الشخصية المذكورة.
الجدير بالانتباه في مسيرة حاوي، شخصا ونصا، يتعلق بالنظر إلى آثار الهزيمة العسكرية والسياسية كفواعل للكتابة الشعرية لدى جيل أو جيلين على الأقل من الشعراء العرب في القرن الماضي؛ فهزائمُنا الكبرى والمتلاحقة لم تتكفل بإعادة رسم خرائط «الشرق الجديد» بعد كل حرب فحسب؛ وإنما بكتابة شعرنا أيضا، شعرنا العربي المحقّب والمكتوب بين ارتدادات الحروب وسقوط العواصم. صحيح أن هزائمنا التي نضحت من مسام شِعر تلك المرحلة مثَّلت ضرورة تاريخية للانقلاب على الثوابت والثورة على التقاليد، لكنها ساهمت في المرحلة نفسها بخلق حداثة مشوهة، مرتبكة، ذات نزعة سياسية تطغى على نزعتها الفنية. فقصيدة حاوي، مثلا، التي بشَّرت حركة الشعر الحر بشاعر يواكب السيّاب ما لبثت حتى رست في القالب الشكلي المعتمد لحداثة الخمسينيات دون أن تطرق مسالك في حداثة الرؤية والمضمون أكثر من بعث الأساطير السورية؛ إلى الحد الذي يجعل الناقد السوري صبحي حديدي في مقالته «خليل حاوي وانكسار الحداثة» يرجِّح كلاسيكية بدوي الجبل على قصيدة حاوي الحديثة إيقاعيا؛ إذ تبدو قصيدة الأول أكثر جرأة «في التقاط حسّ الحديث» على حد تعبير الناقد.
يبقى أن القصيدة الأسطورية قد أغرت شاعرها بنهاية أسطورية مماثلة، ربما حين عجزت القصيدة نفسها عن قول أكثر مما قالت. ولكن ليس أي شاعر من يموت بتلك الطريقة، ليس أي شاعر من يذهب للحتف بكامل إرادته حينما تفشل أدواته في ردع آلة الحرب المتقدمة: «الشاعر افتضحتْ قصيدته تماما» كما رثاه محمود درويش، ولذلك مات انتحر خليل حاوي لأنه لم يكن مستعدا ليعيش في بيروت التي سيسهر الضباط الإسرائيليون في ملاهيها الليلية ويأكلون في مطاعمها أمام الناس ببزاتهم العسكرية، ولأنه لم يكن مستعدا ليشهد اليوم الذي قالوا فيه إن لبنان قد دخل في الزمن الإسرائيلي منذ صورة شارون المهينة في قصر «بعبدا» رافعا قدمه على الطاولة، قبل أن تطرده وزمرتَه إلى ما وراء الحدود ثلةٌ قليلة من الرجال المؤمنين بعد أعوام ثقيلة على الكرامة منذ ذلك العام، عام 1982.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني