في حديث أدلى به من أمام البيت الأبيض، يوم (31/5/2024م)، طرح الرئيس الأميركي مبادرة تتضمن «خريطة طريق» لإنهاء الحرب المشتعلة حالياً في قطاع غزة»، تشتمل على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تمتد إلى ستة أسابيع، وتتضمن: وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية من كل المناطق الآهلة في قطاع غزة، وإطلاق سراح عدد من الأسرى لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً النساء والشيوخ والجرحى، وإعادة رفات بعض من قُتل منهم إلى ذويهم، في مقابل الإفراج عن مئات الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، وعودة المدنيين الفلسطينيين إلى منازلهم وأحيائهم في جميع مناطق القطاع، وزيادة كمية المساعدات الإنسانية إلى 660 شاحنة يومياً.


وخلال هذه المرحلة، يُفترض أن تبدأ مفاوضات غير مباشرة بين «إسرائيل» وحماس من أجل الاتفاق على الترتيبات اللازمة للوصول إلى المرحلة الثانية. وإذا تطلّبت هذه المفاوضات فترة أطول من ستة أسابيع، فسوف تلتزم كلّ الأطراف المعنية المحافَظةَ على وقف إطلاق النار طوال الفترة التي تستغرقها المفاوضات، كما تلتزم كل من الولايات المتحدة ومصر وقطر العملَ على ضمان استمرارها إلى حين التوصل إلى اتفاق يشأن كل الترتيبات اللازمة لبدء تنفيذ المرحلة التالية.
المرحلة الثانية: هدفها الرئيس التوصل إلى «وقف دائم للعمليات العسكرية ما أوفت حماس بالتزاماتها». وتتضمّن هذه المرحلة التزاماً بشأن الإفراج عن كل الأسرى الأحياء المتبقّين، بمن فيهم الجنود الرجال، وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع ككل.
المرحلة الثالثة: هدفها إنهاء الصراع وبدء تنفيذ خطة كبرى لإعادة إعمار القطاع. وسيتم خلالها إعادة رفات من تبقى من المحتجزين الذين لقوا حتفهم في الحرب. عند هذه النقطة، حرص بايدن على التأكيد، في خطته، أن «الدول العربية والمجتمع الدولي والقادة الفلسطينيون والإسرائيليون سيقومون بتنفيذ خطة الإعمار بطريقة لا تتيح إعادة تسليح حركة حماس».
كان أكثر ما لفت أنظار المراقبين، وأثار حيرتهم واستغرابهم، في الوقت نفسه، إقدام بايدن على تخصيص فقرات مطولة من حديثه في مخاطبة المستوطنين الإسرائيليين مباشرة، وحثهم على قبول خطة يُفترض أنها تمت بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية، ومحاولة إقناع الرأي العام الإسرائيلي بما ستجنيه «إسرائيل» من وراء موافقتها على هذه الخطة، وتحذير «الشعب الإسرائيلي» من الانسياق وراء بعض المتطرفين، بمن فيهم أعضاء من الحكومة الإسرائيلية نفسها.
فكيف توصف مبادرة كهذه بأنها إسرائيلية، ومع من تشاورت إدارة بايدن قبل أن يُقْدِم بايدن، بنفسه، على إطلاقها. وهل شمل هذا التشاور رئيس الحكومة، أم أنه اقتصر على أعضاء بعينهم في مجلس الحرب الإسرائيلي، ممن يعلم مسبّقاً بأن الأولوية، بالنسبة إليهم، هي الإفراج عن الأسرى.
وقال بايدن في حديثه: «يجب أن يعرف الشعب الإسرائيلي أنه يتقدم بهذا العرض من دون أي مخاطر إضافية على أمنه، لأن إسرائيل نجحت في تدمير البنية الأساسية لحركة حماس على مدى الأشهر الثمانية الأخيرة. وبالتالي، عليه أن يكون على ثقة بأن حماس لم تعد قادرة على شن هجوم مماثل للهجوم الذي قامت به في الـ7 من أكتوبر، وهو الهدف الأسمى الذي سعت له إسرائيل في هذه الحرب ومعها كل الحق».
الأغرب من ذلك أن بايدن أضاف قائلاً: «أعرف أن بعض الأطراف في إسرائيل لن يتفق مع هذه الخطة، وسيدعو إلى مواصلة الحرب إلى أجَل غير مسمّى، كما أعرف أنه سبق لبعض الأطراف، المُشارِكة في الائتلاف الحاكم في «إسرائيل»، أن أفصح عن رغبته في احتلال غزة ومواصلة القتال أعواماً، الأمر الذي يعني أن الأسرى لا يمثلون أولوية بالنسبة إلى هؤلاء.
لذلك، أحث القيادة الإسرائيلية على دعم هذه الصفقة على الرغم من أي ضغوط». وفي عبارات بدت كأنها تستجدي موافقة «الشعب» الإسرائيلي على خريطة الطريق، التي تتضمنها خطته، قال بايدن: «كوني شخصاً معروفاً بالتزامي الأبدي تجاه إسرائيل، وكوني الرئيس الأميركي الوحيد الذي زار «إسرائيل» في وقت الحرب، وكوني الرئيس الذي أرسل القوات الأميركية مؤخراً للدفاع عنها بصورة مباشرة عندما تعرضت للهجوم من جانب إيران، أطلب إلى الجميع أن يتريث، وأن يفكر فيما يمكن أن يحدث إذا ضاعت هذه الفرصة».
ومن أجل تفنيد حجج الجناح المتطرف في «إسرائيل»، ذهب بايدن إلى حد القول إن «الحرب إلى أجَل غير مسمى، سعياً وراء فكرة النصر الكامل، لن تؤدي إلا إلى تعثر «إسرائيل» في رمال غزة، وإلى استنزاف مواردها الاقتصادية والعسكرية والبشرية، وإلى تعزيز عزلتها عن العالم، فضلاً عن أنها لن تعيد الأسرى إلى منازلهم، ولن تحقق الهزيمة الدائمة لحماس، أو الأمن المستدام لإسرائيل. أمّا النهج المتكامل، والذي تمثله هذه الصفقة، فسيؤدي إلى عودة الأسرى إلى منازلهم، وإلى تحقيق مزيد من الأمن لإسرائيل».
ومن أجل حثّ «الشعب» الإسرائيلي على دعم خطته، حرص بايدن على التلويح ببعض الحوافز، حين قال إن «إبرام هذه الصفقة سيمكّن إسرائيل من تحقيق مزيد من التكامل في المنطقة، وخصوصاً من خلال اتفاق تاريخي محتمل لتطبيع العلاقة بالمملكة العربية السعودية، ومن أن تصبح جزءا لا يتجزأ من شبكة أمنية إقليمية لمواجهة التهديد الذي تشكله إيران. لقد حان الوقت لهذه الحرب أن تنتهي، وأن تبدأ مرحلة ما بعد الحرب».
ليس من المفيد أن نتوقف هنا طويلاً للبحث عن الصاحب الحقيقي لهذه المبادرة، وخصوصاً أنها أصبحت الآن مبادرة أميركية خالصة بعد أن تكفّل رئيس الولايات المتحدة تبنيَها وطَرْحَها بنفسه على الرأي العام.
صحيح أن مجرد تبنيها أميركياً يعكس حجم المأزق الذي وصلت إليه إدارة بايدن، وخصوصاً بعد أن بدأت تدرك أن الهوة بين سياستها المنحازة إلى «إسرائيل»، بصورة مطلقة، وبين ما طرأ من تحولات على موقف الرأي العام العالمي الداعم للقضية الفلسطينية، والرافض لسياسة الإبادة الجماعية التي تمارسها أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ «إسرائيل»، بدأت تتسع كثيراً، لكن ذلك لا يجب أن يحول دون محاولة الاستفادة من طرحها في هذا التوقيت بالذات.
فبايدن بدأ يشعر شخصياً بقلق شديد تجاه احتمال خسارته أصوات الناخبين الأميركيين العرب والمسلمين، وربما أصوات الجناحين الليبرالي واليساري في الحزب الديمقراطي أيضاً، ويرغب بالتالي في أن تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في أجواء أكثر هدوءاً، الأمر الذي دفعه إلى تبني سياسة أكثر توازناً، والإقدام على خطوة مهمة، لكنها محفوفة بالمخاطر، في الوقت نفسه.
فالمبادرة تنطوي، ضمناً على الأقل، على اقتناع إدارته بأن «انتصار إسرائيل المطلق على حماس» أصبح وهماً غير قابل للتحقيق، الأمر الذي يفسّر سعيه لإقناع الحكومة والرأي العام الإسرائيليين بأن حركة حماس ضعفت كثيراً، ولم يعد في مقدورها شن هجوم عسكري يماثل ما وقع يوم الـ7 من أكتوبر. وبالتالي، حان الوقت للتفكير جدياً في مرحلة «ما بعد حماس».
في تقديري أن بايدن كان يدرك بوضوح أن طرحه مبادرةً من هذا النوع سيثير تفاعلات حادة داخل «إسرائيل»، من المتوقع أن تتفاقم كثيراً خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وهو ما حدث فعلاً.
لقد صرح جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، بأن خريطة الطريق، التي طرحها الرئيس بايدن، جاءت تعبيراً عن تشاور جرى بين واشنطن و»تل أبيب» على مدى عدة أسابيع، وهو ما أنكره نتنياهو، حين صرح بأن المبادرة لا تعكس إلا جانباً فقط مما تم التوافق عليه بين البلدين، وحين أعاد تأكيد موقفه القائل إن الوقف الدائم لإطلاق النار الآن يعني الاستسلام للعدو والاعتراف بالهزيمة، ثم ما زال يصر على مواصلة الحرب إلى أن يتحقق «النصر المطلق لإسرائيل».
أمّا الجناح المتطرف في الحكومة الإسرائيلية فلم يتردد لحظة واحدة في رفض خطة بايدن صراحة، بل إن بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، ذهب إلى حد التهديد بمغادرة الحكومة على الفور إذا وافقت الحكومة الإسرائيلية رسمياً على خطة بايدن.
ولأن نتنياهو يخشى انفراط عِقد حكومته وانهيارها، ولا يثق كثيراً، في الوقت نفسه، بشبكة أمان يعرضها عليه بعض فصائل المعارضة في حال موافقته على صفقة تُفضي إلى إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، فالأرجح أن يستمر في مناوراته الرامية إلى كسب الوقت من اجل استمرار الحرب.
وفي تقديري أن نتنياهو يشعر بأنه ما زال يتمتع بهامش يتيح له الاستمرار في مناوراته المعروفة تجاه كل الأطراف، وخصوصاً بعد أن قام رئيس مجلس النواب الأميركي بتوجيه دعوة إليه من أجل إلقاء خطاب في جلسة مشتركة للكونغرس، بمجلسيه، قبلها على الفور، ثم يعتقد أن في إمكانه تحدي بايدن، مثلما تحدى أوباما من قبلُ، الأمر الذي قد يدفعه إلى رفض خطة بايدن، صراحة أو ضمناً، ومحاولة إقناع أعضاء الكونغرس، الجمهوريين والديمقراطيين، بالأسباب التي تدعوه إلى رفض هذه الخطوة ومحاولة تصويرها على أنها ستُلحق ضرراً كبيراً بأمن «إسرائيل».
تحتوي مبادرة بايدن على نقاط إيجابية كثيرة، لكنها مليئة بالألغام في الوقت نفسه، وخصوصاً ما يتعلق منها بالربط بين المراحل المتعددة، وبجدية الضمانات المطلوبة من الولايات المتحدة، ومن غيرها للتأكد من أنها ستفضي في نهاية المطاف إلى وقف دائم لإطلاق النار.
فمن الواضح أن الولايات المتحدة تسعى، من خلال هذه المبادرة، لتحقيق أربعة أهداف: تطبيع العلاقة بين السعودية و»إسرائيل»؛ التمهيد لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومرتبطة أمنيا بـ «إسرائيل»؛ إقامة تحالف إقليمي موجَّه ضد إيران، تقوده بنفسها؛ إنشاء ممر اقتصادي يعوّق خطط الصين لتوسيع نفوذها في المنطقة.
وكلها أهداف تسعى لإنقاذ «إسرائيل» من نفسها، واستعادة النفوذ الأميركي في المنطقة. وبالتالي، لا يصبّ أي منها في مصلحة الشعوب العربية والإسلامية. لذا، أعتقد أن من مصلحة فصائل المقاومة عدم إعلان رفضها صراحة هذه المبادرة، مع الحرص، في الوقت نفسه، على عدم التوقيع على أي ورقة لا تتضمن وقفاً نهائياً لإطلاق النار، والتركيز، في الوقت الحاضر، على الصمود في الميدان. فهذا الصمود هو وحده الكفيل بفتح الطريق أمام الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه التي تم التنكر لها طويلاً.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

“فيتو” استمرار جريمة الإبادة الجماعية

يمانيون../
ليست المرة الأولى ولن تكونَ المرةَ الأخيرة التي تستخدم فيها الإدارة الأمريكية الفيتو في مجلس الأمن الدولي؛ للحيلولة دون صدور قرار ملزم يوقف جريمة الإبادة الجماعية المقترَفة منذ أكثر من سنة بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

لكن استخدام الإدارة الأمريكية للفيتو في هذه المرة مختلف تمامًا عن المرات السابقة، التي استخدمت فيها هذه الإدارة المجرمة هذا الإجراء، ففي هذه المرة بلغ انكشافها مداه بعد جولات متعددة قدمت نفسها فيها بأنها وسيط سلام، هدفه المعلن وقف إطلاق النار، وإنهاء ما تصفه بحالة الحرب في قطاع غزة، والهدف المستتر توفير مساحات من الزمن لاستكمال كيانها الوظيفي الإجرامي الصهيوني لفصول جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

وفي هذه المرة بلغت فيها أفعال جريمة الإبادة الجماعية الذروة؛ نظرًا لتعدُّدِ وسائلِ وأساليبِ تنفيذِها بين قتل مباشر بالقنابل والصواريخ الأمريكية، وموت جماعي؛ بسَببِ تدمير مقومات الحياة الإنسانية من مستشفيات لعلاج الجرحى والمرضى وتدمير المدارس المساجد التي يأوي إليها السكان بعد تدمير مساكنهم وانعدام الماء والغذاء والدواء بفعل الحصار المتعمد، وما تعرض له السكان من أذى وألم نفسي وجسدي خطير، وحصرهم في ظروف معيشية غاية في الصعوبة نتيجتها الحتمية الموت الجماعي جوعًا وعطشًا، خُصُوصًا بعد قرار كيان الاحتلال والإجرام الصهيوني الوظيفي بحظر نشاط الوكالة الأممية المتخصصة (الأونروا).

كل ذلك يؤكّـد بما لا يدع مجالًا للشك أن أفعال الإبادة الجماعية المقترفة في قطاع غزة منذ أكثر من سنة هدفٌ وغايةٌ ورغبةٌ للإدارة الأمريكية أكثر منها إسرائيلية، وهذه الرغبة تدحض كُـلّ مزاعم وزيف وخداع وتضليل هذه الإدارة المجرمة حول ما رَوَّجَت له سابقًا من فرص حقيقية متاحة لتحقيق السلام، ووقف إطلاق النار أصبح في متناول اليد، وإنهاء الحرب في قطاع غزة! وغيرها من العبارات الخادعة التي تهدف فقط إلى توفير المزيد من المساحات الزمنية لأفعالها وأفعال كيانها الصهيوني الوظيفي الإجرامية وامتداداتها إلى الضفة الغربية والضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، وعموم الجغرافيا اللبنانية وجزء من الجغرافيا السورية.

رغبةٌ في استمرار أفعال جريمة الإبادة الجماعية:

وعندما تقدمت عشر دول بمشروع قرار لوقف إطلاق النار، بل وقف أفعال جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، تصدت الإدارة الأمريكية، لهذا الموقف الدولي المتأخر جِـدًّا باستخدامها للفيتو ضد مشروع القرار؛ وهو ما يؤكّـد رغبة الإدارة الأمريكية في استمرار أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ولا عبرة مطلقًا بما ردّدته هذه الإدارةُ المجرمةُ بأن تقديمَ مشروع القرار بصيغته التي تم عرضُه بها أمام المجلس، إنما كانَ بهَدفِ إجبار الإدارة الأمريكية لاستخدام الفيتو حسب زعمها، وتذرعت هذه الإدارة المجرمة بعدد من الذرائع منها أن القرار لم يُدِنْ حماس بشكل صريح، وأن القرار لم يتضمن الإفراج عن الرهائن كشرط لوقف إطلاق النار، وتهدف الإدارة الأمريكية المجرمة من تضمين مشروع القرار مثل هذه الذرائع إلى تحميل حماس مسؤولية الدمار والإبادة الجماعية.

وكذلك تحقيق الهدف الذي أعلنه كيان الاحتلال الوظيفي الصهيوني حين بدأ بتنفيذ أول فعل من أفعال الجريمة، والإدارة الأمريكية بهذه الذرائع تهدف إلى تحقيق ما فشلت هي وكيانها المجرم من تحقيقه بوسائلها الإجرامية المتعددة، وَإذَا ما تم الأخذ بذريعة الإفراج عن الرهائن كشرط لوقف إطلاق النار كما تتذرَّعُ الإدارةُ الأمريكية المجرمة، فَــإنَّ أفعالَ الإبادة الجماعية ستتضاعَفُ عشرات أضعاف ما هي عليه في ظل الحالة الراهنة!

ومنطقيًّا ستترتب على وقف إطلاق النار عمليات تبادل للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، لكن الإدارة الأمريكية وكيانها الإجرامي الصهيوني ليسا معنيَّينِ بوقف جريمة الإبادة الجماعية، بل مضاعفة أفعال هذه الجريمة إذَا ما تحقّق لها فعلًا هدفُ الإفراج عن الرهائن، وسيكون ذلك حافزًا ودافِعًا لها لمزيدٍ من أفعال جريمة الإبادة الجماعية والدمار الشامل لبنية وبنيان غزة، وليس مبالغةً القولُ إن الإدارة الأمريكية هي من يرغب في استمرار وتتابع أفعال جريمة الإبادة الجماعية أكثر من رغبة كيانها الوظيفي الصهيوني.

ويمكننا التدليل على ذلك بواقعتين إحداهما سابقة لجريمة غزة والأُخرى معاصرة لها، يثبتان بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الإدارة المجرمة هي صاحبةُ القرار وصاحبةُ الإرادَة الفعلية في استمرار الجرائم الهمجية والوحشية حول العالم، والواقعة الأولى تتعلق بالنظام السعوديّ فقد أدرك محمد بن سلمان بعد عام تقريبًا من العدوان على اليمن حجم ورطة بلاده وما تكبدته من خسائر وما ستتكبده من خسائر في حال استمرت الحرب العدوانية على بلادنا حينها أعلن وزير خارجيته عادل الجبير بتاريخ 15 مارس 2016 (أن الحل في اليمن لا يمكن أن يكون عسكريًّا وأن الحل لن يكون إلا سلميًّا سياسيًّا)، وفي مساء ذات اليوم خرج متحدث البيت الأبيض ليقول بالحرف الواحد وبشكل صارم (أن الحل السلمي في اليمن لا يزال بعيد المنال).

وبالفعل فقد استمرت الحرب العدوانية لأكثر من سبع سنوات عقب تصريح متحدث البيت الأبيض، ولم يكن أمام محمد بن سلمان سوى الإذعان لإرادَة مشغله الأمريكي، الذي وبَّخه على جرأته بالحديث عن الحل السلمي دون إذنٍ مسبقٍ من صاحب الإرادَة الحقيقية في تقرير حالة السلم أَو استمرار حالة الحرب! وعندما تمكّن شعبنا من المساس بالعصب المحرك للإدارة الأمريكية أوعزت هذه الإدارة المجرمة إلى نظامها الوظيفي في الرياض بالذهاب إلى هُدنة تلتها هُدنة تلتها تهدئة مفتوحة، وهي مؤقتة بطبيعة الحال إلى أن ترتب الإدارة الأمريكية أوراقها وتتجاوز المأزِق الذي حصرها فيه أبناءُ الشعب اليمني؛ فهي لم تقرّر إنهاء حالة الحرب العدوانية تمامًا، بل عملت على تبريد مِلف الساحة اليمنية لتتمكّن من إعادة ترتيب صفوف العملاء والخونة من أبناء البلد، لتغلق الصراع على الداخل اليمني، وترفع يد أدواتها الإقليمية من المشاركة المباشرة في الحرب العدوانية ليقتصر دورها على تمويل العملاء والخونة والمرتزِقة؛ لتتجنب بذلك استهداف المنشآت النفطية في السعوديّة والإمارات؛ باعتبَار أن الحرب أصبحت داخلية مغلقة على أبناء الشعب اليمني، وليس هناك من تدخل مباشر من جانب الآخرين!

والواقعة الثانية التي يتأكّـد من خلالها أن الإدارة الأمريكية هي صاحبة الإرادَة في اسمرار القتل والدمار، ذلك الموقف الذي أعلنه منتشيًا رئيس أوكرانيا عقب إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بأنه سينخرط مع ترامب في توجّـهاته الرامية إلى إنهاء الحرب بين بلاده وروسيا! فلم تمهِلْه الإدارةُ الأمريكيةُ التي أعلنت من أعلى مستوى فيها أنها قد سمحت لــ زيلنسكي باستخدام الصواريخ الأمريكية بعيدة المدى لضرب العُمق الروسي.

والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بسماح الإدارة الأمريكية أَو عدم سماحها بل إن الأمر يتعلق أَسَاسًا بتوجيه الإدارة الأمريكية أمرًا صارمًا إلى عميلها الأوكراني بالاستمرار في الحرب، وهذا الأخير حالُه كحال محمد بن سلمان لم يملك سوى الإذعان للأوامر الرئاسية الصادرة عن الإدارة الأمريكية وبدأ بضربِ العُمق الروسي بالصواريخ بعيدة المدى، والواضح أن الرئيس الأوكراني مدرك تمامًا الكلفة الباهظة لاستمرار الحرب مع روسيا؛ ولذلك التقط إشارة ترامب للخروج من ورطة الحرب لكن الإدارة الأمريكية الحالية وبَّخته وأجبرته على الاستمرار في استنزاف بلاده كما فعلت مع محمد بن سلمان تمامًا!

وذات الأمر تكرّر يوم الأربعاء الفائت في مجلس الأمن الدولي حين أجهضت الإدارة الأمريكية مشروع قرار مقدَّمًا من عشر دول ينص على الوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة، لتقول هذه الإدارة بشكل واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض أنها هي صاحبة الإرادَة الحقيقية في استمرار الأفعال الإجرامية في قطاع غزة، وفي كامل النطاق الجغرافي للكرة الأرضية ولا عبرة بمجلس الأمن ولا بغيره من مؤسّسات منظمة الأمم المتحدة، وأنها وكيانها الوظيفي الإجرامي الصهيوغربي لن يتوقفا أبدًا عن الاستمرار في اقتراف أفعال جريمة الإبادة الجماعية التي امتدت إلى الضفة الغربية والضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، بل شملت كافة النطاق الجغرافي للبنان وجزء واسع من جغرافية الجمهورية العربية السورية، والمعطيات تؤكّـد أنها ستمتد في قادم الأيّام إلى الأراضي العراقية، وستستخدم الإدارة الأمريكية وغيرها من القوى الاستعمارية الصهيوغربية كيانها الوظيفي الصهيوني في تنفيذ تمدد الجريمة؛ فهذا الكيان قاعدتها المتقدمة في المنطقة ومشروعها لإخضاع دول المنطقة.

وقد ورد في كلمة السيد القائد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي -يحفظه الله- يوم الخميس الفائت جملة في غاية الأهميّة شخّص بها كيان الاحتلال الصهيوني بأنه (مشروع للقوى الغربية تؤمن به وتحميه، وهو يستهدف الأُمَّــة العربية والإسلامية بشكل عام ولا يقتصر على الأراضي الفلسطينية)، وفعلًا فهذه هي حقيقةُ كيان الاحتلال الوظيفي الصهيوني؛ فالقوى الاستعمارية الغربية عندما قرّرت الإقلاعَ عن أُسلُـوبها الاستعمارية التقليدي القائم على الاحتلال المباشر للبلدان العربية، وإخضاع شعوبها بالقوة المسلحة، لجأت إلى الأُسلُـوبِ الحديثِ غير المباشر، واستبقت لها من أُسلُـوبها الاستعماري القديم قاعدةً متقدمةً في منطقة الشرق الأوسط أسمتها (إسرائيل).
—————————————–
د. عبد الرحمن المختار

مقالات مشابهة

  • “فيتو” استمرار جريمة الإبادة الجماعية
  • لماذا تعجز الأمم المتحدة عن حماية نفسها من إسرائيل؟
  • عام سقوط الردع الأمريكي.. هكذا خلقت العمليات البحرية اليمنية فجوة استراتيجية في أمن “إسرائيل”
  • التليفزيون اللبناني: ارتفاع حصيلة ضحايا الغارة الإسرائيلية على “البسطة” إلى 11 شهيدا و63 مصابا
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • هناك فرق كبير بين السودان وإسرائيل.. السودان زمن الإنقاذ كان “دولة مارقة”
  • بايدن: قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت “أمر شائن”
  • خبير سياسي: إسرائيل تريد اقتطاع جزء من لبنان لتأمين نفسها من الصواريخ
  • مبعوث بايدن يلتقي نتنياهو اليوم لبحث وقف الحرب بين إسرائيل وحزب الله
  • “بلومبرغ”: بايدن يريد شطب 4.65 مليار دولار من ديون أوكرانيا