تحرير الأسرى.. أثر محدود وصفعة انسحاب غانتس المفاجئة
تاريخ النشر: 10th, June 2024 GMT
في اليوم الـ 247 للعدوان على قطاع غزّة، أعلنت حكومة الاحتلال عن تحرير أربعة أسرى كانوا لدى المقاومة الفلسطينية في عملية ذهب ضحيتها مئات الشهداء والجرحى في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة في واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبها الاحتلال في عدوانه الحالي.
المجزرةفقد أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن ارتقاء 274 شهيدًا، وإصابة 698 شخصًا، بعضهم في حالة حرجة جراء المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في مخيم النصيرات خلال عملية تحرير بعض أسراها الذين كانوا بيد كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس.
العملية هي الأولى من نوعها، إذ فشل الاحتلال في كل محاولاته السابقة لإنقاذ أسراه من يد المقاومة الفلسطينية على مدى أكثر من ثمانية أشهر من العدوان المتواصل، والذي لم يعرف حدودًا أو قيودًا فيما يتعلق بالأدوات المستخدمة والجرائم المرتكبة.
فرحة لم تدم طويلًا، فبعد يوم واحد من الاحتفال والابتهاج المبالغ فيه بتحرير الأسرى الأربعة، تلقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صفعة قوية بإعلان بيني غانتس، وغادي آيزنكوت الوزيرين في حكومة الحرب استقالتهما من الحكومة.
غانتس وصف قراره بأنه "معقد، ومؤلم، واتخذ بقلب مثقل"، وخاطب عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة قائلًا: "أخفقنا في الامتحان، ولم نتمكن من إعادة أبنائكم".
لخصت عبارات غانتس نتيجة 9 أشهر من الحرب على غزة، والتي كانت محصلتُها حتى الآن فشلًا تامًا وذريعًا في تحقيق أهداف الحرب، وعلى رأسها إعادة الأسرى والمحتجزين.
بدوره، يحاول نتنياهو جاهدًا التغطية على هذا الفشل عبر تضخيم أثر استعادة الأسرى الأربعة وتسويقه على أنه انتصار كبير، لترد عليه المقاومة بفشل آخر يسجل في رصيده، وهو إعلان كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- عن مقتل 3 من الأسرى المحتجزين في قطاع غزة خلال عملية جيش الاحتلال التي نفذها في قلب مخيم النصيرات وسط القطاع، أحدهم يحمل الجنسية الأميركية.
الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" كان قد تحدى الاحتلال أكثر من مرة أن يستطيع "الحصول على أسراه أحياء" إلا من خلال اتفاق لوقف إطلاق النار يتخلله تبادل للأسرى.
وباستثناء إعلان الاحتلال في فبراير/ شباط الماضي عن تحريره أسيرين اتضح لاحقًا أنهما كانا محتجزين لدى مدنيين وليس المقاومة الفلسطينية، فقد فشل جيش الاحتلال فعلًا في استنقاذ أي أسير حي من يد المقاومة، وخصوصًا القسام. وقد زاد ذلك من مستوى الضغوط الداخلية والخارجية على نتنياهو وحكومته بعد أن تأكد مرارًا تهافت ادعائه بأن الضغط العسكري المتواصل هو القادر على تخليص الأسرى، وتاليًا وقف الحرب.
في العملية الأخيرة، وفي سبيل تحرير أربعة أسرى إثر هجوم لم تتضح كافة تفاصيله بعد، قتلت قوات الاحتلال وأصابت ما يربو على ألف شخص في مخيم النصيرات في وضح النهار، فيما بدا فعلًا مقصودًا منها على ما قال شهود عيان أكدوا أن قوات الاحتلال بادرت بإطلاق النار بشكل مباشر وعشوائي وقاتل، فضلًا عن القصف الجوي غير المسبوق في إطار الأحزمة النارية التي استخدمتها لتشتيت جهود المقاومة ودفع الناس بعيدًا عن مكان العمليّة.
وكان من أكثر النقاط المثيرة للجدل بخصوص العملية مدى المشاركة الأميركية فيها. إذ رغم تأكيد القيادة الأميركية الوسطى (سنتكوم) أن الرصيف البحري "لم يستخدم في عملية الجيش الإسرائيلي لاستعادة المحتجزين في غزة" وأن الأخير استخدم المنطقة الواقعة إلى الجنوب من الرصيف، فإن الإعلام العبري نقل عن مصادر حكومية أن القوات الأميركية شاركت في عملية استعادة الأسرى.
كما أوردت وسائل الإعلام الأميركية معلومات إضافية، حيث نقلت "سي إن إن" عن مسؤول أن "قوات أميركية شاركت" في الهجوم الذي أدّى لتحرير الأسرى، و"نيويورك تايمز" عن مسؤول أميركي أن فريقًا من المسؤولين عن استعادة الرهائن الأميركيين "ساعد الجيش الإسرائيلي من خلال توفير المعلومات الاستخبارية والدعم اللوجيستي"، فضلًا عن الترحيب الأميركي الرسمي بالعملية في تجاهل تام للمجزرة المرتكبة في حق المدنيين.
أثر محدوداستقالة غانتس وآيزنكوت شكلت ضربة لنتنياهو أفقدته ذلك الأثر المحدود الذي حصل عليه بعد تحرير الأسرى، مع توقع ازدياد زخم الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي والدعوة إلى انتخابات في أسرع وقت.
ورغم ما تمثله هذه الاستقالة من ضربة، فيمكن القول إن نتنياهو سيسعى لتثبيت حكومته بغض النظر عن استقالة غانتس وآيزنكوت، وسيحاول التأكيد أن استعادة الأسرى من خلال الضغط العسكري الدامي حصرًا ممكنة، وأن العملية المذكورة ليست إلا باكورة عمليات إضافية قادمة.
وعليه، قد يكون من المنطقي توقع مماطلة نتنياهو وتعنته أكثر في مفاوضات وقف إطلاق النار وإصراره على استمرار العدوان من باب الجدوى والفاعلية وتراجع الضغوط عليه من الداخل "الإسرائيلي" والولايات المتحدة الأميركية على حد سواء، لا سيما بعد ردود الفعل الغربية الأولية على العملية، وفي مقدمتها التصريحات الأميركية والألمانية التي رحبت بتحرير الأسرى متجاهلة تمامًا ذكر (فضلًا عن نقد) المذبحة التي نفذتها قوات الاحتلال في المدنيين، والتي حمّلت حماس وحدها مسؤولية عدم التوصل للاتفاق.
يفسّر كل ذلك احتفاء نتنياهو ومعسكره بالعملية والمبالغة الواضحة في تقييم دلالاتها وآثارها على الحرب في المدى البعيد. لكننا نرى أن أثر العملية على مسار الحرب عمومًا وعلى مآلات ملف التفاوض محدودة ومؤقتة وسياقية إلى حد بعيد.
فمن جهة، لا يمكن تقييم العملية بشكل منبتٍّ عن توقيتها، إذ أتت "أول عملية تحرير ناجحة" بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحرب، وبعد محاولات عديدة باء بعضها بالفشل ومقتل الأسرى، بل وتخلل ذلك قدرة المقاومة على إضافة أسرى جدد لقائمتها كما حصل في عملية جباليا مثلًا.
كما أنه لا يمكن تقييم العملية بدون ذكر المخاطرة الكبيرة التي اكتنفتها والثمن الذي دفع فيها مقابل محاولة تحرير الأسرى. ولسنا نتحدث فقط عن العدد الكبير من الشهداء الفلسطينيين الذين لا يبدو مهمًا في نظر الاحتلال، بل ربما كان مقصودًا لذاته، بل عن الخسائر في القوة التي نفذت العملية والأسرى الذين حرروا، وغيرهم. ففيما يتعلق بالقوات، أعلن جيش الاحتلال عن مقتل ضابط كبير وجرح عدد من الجنود خلال تنفيذ العملية، وفيما يخص الثانية ذكر تصريح لـ "أبي عبيدة" أن جيش الاحتلال "خلال تحريره بعض أسراه تسبب بمقتل بعضهم"، وهما فاتورتان مفتوحتان على الزيادة في قابل الأيام، وحين تعرف تفاصيل إضافية.
الأهم، أن عملية من هذا النوع لا تتكرر كل يوم بالنظر لما تحتاجه من متابعة ومعلومات وفرص سانحة وتخطيط وتنفيذ مع المخاطرة الكبيرة، فضلًا عن أن فرص نجاحها ليست مرتفعة أصلًا في ظل الأوضاع القائمة في القطاع. وإذا ما تخطينا كل ذلك وافترضنا أنها عملية قابلة للتكرار بنفس الوتيرة سنكون أمام إطار زمني يمتد على سنوات لإخراج كل الأسرى من قبضة المقاومة الفلسطينية، التي من البديهي أنها ستدرس ما حصل، وتستخلص دروسه وتتخذ الإجراءات المطلوبة لكيلا يتكرر.
ردات فعللذلك، ورغم نجاحها في الإطار الفني العملياتي، تبقى العملية استثناء لا يتكرر بسهولة وسرعة، ولذلك فإن تأثيرها على المقاومة من جهة، وعلى مسار الحرب وملف التفاوض من جهة أخرى، يبقى محدودًا جدًا وأقرب للتأثير الظرفي المؤقت، وهو أمر تدركه حكومة الاحتلال نفسها، وهي في غمرة النشوة ومحاولات التوظيف السياسي للعمليّة.
وإذا ما كانت هذه قناعات حكومة الاحتلال نفسها فإن تقييم الأطراف الأخرى ومواقفها أكثر وضوحًا باتجاه محدودية العملية في مسار الحرب، والأهم في إطار المساعي لتحرير باقي الأسرى الذين يعدّون بالعشرات. ولا بد من الإشارة إلى أن ردات الفعل الناقدة للمبالغة في تقييم العملية ظهرت للعلن أسرع بكثير مما توقعنا حتى.
فعلى عكس ما قد يتوقع كثيرون، لم تبدِ المظاهرة الدورية لعائلات الأسرى – في يوم تنفيذ العملية – تأييدًا للحكومة أو تفويضًا لها، وإنما ركزت على فكرة " تحرير البقية بصفقة". كما أن تصريحات الشخصيات السياسية والعسكرية كانت أكثر وضوحًا ومباشرة.
فمقابل تصريح وزير الخارجية "الإسرائيلي" يسرائيل كاتس بأن "الضغط العسكري وحده واستمراره سيقودان لتحقيق صفقة لإعادة المحتجزين"، نقل الإعلام العبري تصريحات بالاتجاه المعاكس تمامًا. فقال رئيس مجلس الأمن القومي "الإسرائيلي" السابق غيورا إيلاند: إن العملية "مهمة للمعنويات الوطنية" إلا أنها "لن تغير الوضع العام" داعيًا لصفقة تشمل وقف الحرب. كما قلل رئيس حزب العمل يائير غولان من نتائجها داعيًا "للتحقق من الواقع بعد النشوة" ومذكّرًا بأنه "ما زال هناك 120 مختطفًا ومختطفة.. بينما الجيش يتعثر في غزة وتتآكل إنجازاته العسكرية".
كما نقلت صحيفة "معاريف" عن الرئيس السابق لشعبة العمليات في جيش الاحتلال يسرائيل زيف قوله: إن "الصفقة وحدها هي التي يمكنها إعادة المحتجزين"، ووصف زعيم المعارضة يائير لبيد – بعد العملية – حكومة نتنياهو بالفاشلة، داعيًا غانتس للانسحاب منها، إذ "ليس لديها أهداف سياسية معروفة لا في غزة ولا في لبنان".
وفي الخلاصة، فإنّ تداعيات العملية ليست كبيرة على مسار الحرب أو التفاوض، وقد بدأت سريعًا ردات الفعل "الإسرائيلية" الداعية لعدم المبالغة في تقييمها والاعتماد على أمثالها مستقبلًا في تحرير باقي الأسرى.
فلسطينيًا وعربيًا، ينبغي التركيز على المجزرة المرتكبة بحقّ المدنيين وضرورة مطالبة جميع الأطراف العربية والإقليمية والدولية للاضطلاع بمسؤولياتها ووقف العدوان ومحاسبة الاحتلال، لمنع تكرارها، وعدم الاستسلام للبروباغندا "الإسرائيلية" التي تحاول تصوير الأمر على أنه نقطة تحوّل وفشل كبير للمقاومة، على عكس الواقع الماثل أمام الجميع.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المقاومة الفلسطینیة مخیم النصیرات قوات الاحتلال تحریر الأسرى جیش الاحتلال الاحتلال فی مسار الحرب فی عملیة فضل ا عن فی غزة
إقرأ أيضاً:
أطروحة انتصار المقاومة الفلسطينية..عودة لعبة صراع المفاهيم
مع دخول وقف إطلاق المار حيز التنفيذ، عبرت قوى المقاومة الفلسطينية عن انتصارها وإفشالها لخطط العدو وأهدافه في الحرب على غزة، واطلقت كتابات وتعبيرات كثيرة في الوطن العربي، تنتقد بحدة ما أسمته بأطروحة "وهم الانتصار" مقدمة بين يديها جملة من الحجج التي تحاول من خلالها إثبات مسار الهزيمة العربية، وتكرر لحظة نكبة 1948 و نكسة 1967، وأن الإسلام السياسي، الذي تمثله حماس في غزة، وكل من يدعم أطروحتها في الوطن العربي، لا يفعلون أكثر مما قام به القوميون(جمال عبد الناصر) والبعثيون (صدام حسين) في اللعب بالمشاعر، ودغدغة العواطف، والادعاء بالقدرة على محو إسرائيل من الخارطة، والتبشير بزوالها الوشيك، وأن الحقيقة التي لا تخطئها العين، هم أنهم جميعا حاولوا أن يغطوا على حقيقة الدمار والخراب الذي حل بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بخلق وهم "النصر".
والحقيقة، أن قصد هذه الورقة التي تمزج بين الفكر والتحليل، ليس الدخول في نقاش مع هذا الرأي ومستنداته، وإنما التوقف على الطريقة التي يحاول بها الاحتلال الصهيوني وداعموه، ومن يحملون أطروحته، إعادة لعبة الصراع الفكري، وخلط المفاهيم التي استعملها الاستعمار مع حركات التحرر الوطني، من أجل تبرير هيمنته على مقدرات الشعب، وتشويه صورة المقاومة، وتبخيس جهدها، ومحاولة التأثير على تماسك الجبهة الداخلية، وخلق جيوب مقاومة للمقاومة.
لقد كتب الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي عددا من الكتابات في كشف لعبة التضليل التي مارسها الاستعمار الفرنسي، وكتب كتابا مستقلا في الموضوع أسماه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة"، ووقف كثيرا عن عدد من المفاهيم التي يستعملها الاستعمار، لخلق حالة فكرية وشعورية داعمة له، ومناهضة للمقاومة الشعبية أو محبطة لها، وكتب الزعيم علال الفاسي عدد من المقالات والرسائل ينبه فيها إلى مخاطر المفاهيم التي كان الاستعمار يسهر على توليدها وبثها في الفضاء التداولي، بما في ذلك ركوب مطالب سياسية للمقاومة، ومحاولة تفخيخها من الداخل، بصياغات لغوية تحتمل مضمونا نكوصيا يناقض أهداف حركات التحرر الوطني.
في الواقع، تتعدد المقاربات لتقييم أثر هذه الحرب، ومن خرج منها منتصرا ومن خرج منها مهزوما، لكن، بالاعتبار الاستراتيجي والسياسي، ثمة عدد من المؤشرات التي يمكن البناء عليها، لبناء رؤية تقييمية واضحة لا تجيب فقط عمن كسب ومن خسر، ولكن تجيب من باب أولى عن تأثيرات الحرب على مستقبل القضية الفلسطينية، ومواقع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في موازين القوى التي ستصنعها صفقة إنهاء الحرب.في هذا المقال، نحاول أن نناقش أطروحة النصر، ولعبة الصراع الفكري، من زاويتين اثنتين، زاوية التحليل السياسي والاستراتيجي، وزاوية التحليل السيميائي الرمزي، على أن نختمه بكشف خلفيات لعبة الصراع الفكري التي تديرها نخب التطبيع في الوطن العربي.
أطروحة النصر.. في نقد المقاربات الثلاث
في يوم الأربعاء منتصف شهر يناير الجاري، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، بدأ تنفيذه الأحد 26 يناير، ليفتح بذلك النقاش على مصراعيه حول جدل النصر والهزيمة بعد حرب هي الأعنف في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
في الواقع، تتعدد المقاربات لتقييم أثر هذه الحرب، ومن خرج منها منتصرا ومن خرج منها مهزوما، لكن، بالاعتبار الاستراتيجي والسياسي، ثمة عدد من المؤشرات التي يمكن البناء عليها، لبناء رؤية تقييمية واضحة لا تجيب فقط عمن كسب ومن خسر، ولكن تجيب من باب أولى عن تأثيرات الحرب على مستقبل القضية الفلسطينية، ومواقع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في موازين القوى التي ستصنعها صفقة إنهاء الحرب.
ثمة ثلاث مقاربات للتقييم ملأت المكان، ويفضل هذا المقال تجنبها. تقول الأولى، إن حماس انتصرت لأنها لم تنهزم، وإسرائيل انهزمت لأنها لم تنتصر. وتقول الثانية، إن مؤشر انتصار حماس، هو ما يقوله الإعلام العبري نفسه. وتقول الثالثة: في الحروب غير المتناظرة، ينتصر الضعيف بإفشاله لخطط العدو، ويفشل المتفوق عسكريا حين يعجز عن تحقيق أهدافه المعلنة.
المقاربة الأولى، لا تقدم النقاش إلى الأمام، وتقرأ على أنها مجرد لعب بألفاظ، غرضه منع إجراء تحليل سياسي وعسكري واستراتيجي للحرب ونتائجها.
المقاربة الثانية، هي الأخرى، لا تساعد في إحراز تقييم موضوعي، فالإعلام العبري الذي يتم الاستناد إليه في الغالب، يعكس حساسيات مختلفة، إما يمينية متطرفة، تبكي واقع الصفقة لأنها كانت تتمنى احتلال غزة وتهجير الفلسطينيين، وإما حساسيات يسارية كانت منطلقها في الأصل هو سحب الشرعية عن حكومة نتنياهو من لحظة السابع من أكتوبر.
في الواقع، قد تكون تقييم هذه الحساسيات جزءا مكملا من مؤشرات التقييم الموضوعي، لكن لا يمكن أن ينبى التقييم الموضوعي على أساسه، لأن خلفيته هي أهداف أخرى، ربما كانت في سقفها أعلى من سقف القيادية السياسية الإسرائيلية نفسها.
عطب المقاربة الثالثة، أنها تسقط من الاعتبار، أن قاعدة عدم التكافؤ في الحروب المتناظرة، ومعيار الانتصار فيها بمنع العدو من تحقيق أهدافه، إنما ترتبط باستراتيجية الدفاع، بينما تتداخل الأبعاد الهجومية والدفاعية في عملية "طوفان الأقصى". ففي الوقت الذي تعتبر فيه حماس أن هذه العملية هي استراتيجية دفاعية استباقية لمنع سيناريو أسوأ أعد له الكيان الصهيوني، يقرأها المراقب الخارجي، بأنها إيذان عن تحول من استراتيجية الدفاع إلى الهجوم، بتطلع إلى تغيير المعادلة في المنطقة، وتغيير موازين القوى بشكل كامل لفائدة قوى المقاومة. ولذلك، ينطرح هذه المقاربة جانبا ما دام التأويل لا يقدم قراءة واحدة لـعملية "طوفان الأقصى" وهل يندرج ضمن استراتيجية الهجوم أن استراتيجية الدفاع؟
أطروحة النصر من زاوية التقييم الاستراتيجي والسياسي
ينبغي الإشارة هنا، أن أطروحة النصر لا تتبناها فقط حماس، وإنما يتبناها الطرف الآخر، أو على الأقل الطرف الداعم للاحتلال، فقد أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن في كلمته بخصوص هذا الاتفاق إلى بعض عناصر التحليل الاستراتيجي، وذكر مؤشرات الانتصار الإسرائيلي في إضعاف حزب الله، واضطراره لقبول اتفاق لوقف الحرب بما يناقض موقفه الأول الذي ربط فيه مقاومة حزب الله للاحتلال الإسرائيلي بعدوانه على غزة. الرئيس الأمريكي، ذكر أيضا هزيمة إيران في سوريا، وانقطاع الحبل السري عن حزب الله، بعد إسقاط النظام السوري.
إسرائيل لم تجر تقييما موضوعيا استراتيجيا لخارطة مكاسبها الاستراتيجية من وراء صفقة إيقاف وقف الحرب مع حماس، لكن ثمة عدد مهم من المسؤولين السياسيين، كان ينتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويطالبه بوقف الحرب قبل أن تضيع المكتسبات التي حققتها إسرائيل في المنطقة، أي ما ذكره الرئيس الأمريكي من تراجع قوة حزب الله، وانتشاء بأن اتفاق وقف الحرب على لبنان كان مشروطا بنزع سلاح حزب الله، واحتكار الدولة اللبنانية وحدها لحمل السلاح، ثم سقوط نظام الأسد، بما يعني انقطاع تدفق الأسلحة إلى حزب الله، وحصول اختراق مهم في محور المقاومة بما يضمن نقاطا مهمة لمنظومة الأمن الإسرائيلي في المنطقة.
حسابات الاحتلال الإسرائيلي الاستراتيجية، حسب القيادة السياسية الإسرائيلية، حصول نجاح استراتيجي غير مسبوق في تقويض بنية حزب الله السياسية والتنظيمية وقدراته العسكرية وموقعه السياسي والعسكري في لبنان، وتوجيه ضربة استراتيجية كبيرة لإيران وحاورها في المنطقة وبالأخص لبنان وسوريا.
في الواقع التحول في سوريا وإن كان يرمز لهزيمة المحور الإيراني، فهو في حقيقة الأمر مجرد كسب تكتيكي، فتراجع التهديد الإيراني لإسرائيل عبر لبنان وسوريا، لا يعني، أن حدود إسرائيل أضحت آمنة بعد إسقاط نظام بشار الأسد، فإسرائيل نفسها لا ترى في هذا التحول سوى استبدال تهديد شيعي ترعاه إيران، بتهديد آخر سني ترعاه تركيا، ولذلك سارعت إلى شن غارات على المقدرات العسكرية لسوريا واحتلال أجزاء مهمة من أراضيها.
في مقابل هذا الكسب الاستراتيجي غير المقطوع به، ثمة خسارة استراتيجية كبيرة بالنسبة لإسرائيل، فهذه الحرب أوقفت أو جمدت بشكل كبير مسارا من التطبيع بدا مع اتفاقات ابراهام، وخلقت أجواء كثيفة من الشك في نوايا الاحتلال الإسرائيلي، ليس فقط بالنسبة للدول العربية التي كانت مبرمجة في استكمال حلقات التطبيع، وإنما أيضا بالنسبة للدول المنخرطة مبكرا في التطبيع، فمصر والأردن، لن تحذفا من ذاكرتها حول حرب غزة، وجود نزوع استراتيجي عميق لدى قادة الاحتلال مختلف نخب الاحتلال الإسرائيلي بأن حل معضلة غزة والضفة تكمن في تهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن.
والخسارة الاستراتيجية الكبرى بالنسبة إلى إسرائيل، هي العزلة الدولية التي فرضتها عليها الحرب، إذ لم يحدث في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي أن أصدرت الجنائية الدولية حكما يأمر باعتقال بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت)، ولم يحدث أن عاش الاحتلال الإسرائيلية عزلة دولية مثيلة.
خسارة الفلسطينيين الاستراتيجية كبيرة بلا شك، فقد تحولت غزة إلى ركام كبير، وخسرت المقاومة قيادات سياسية وعسكرية من الوزن الثقيل، وتكسر محور الإسناد في جنوب لبنان، وفقد الشعب الفلسطيني قوة ديمغرافية كبيرة بغزة، بسبب استشهاد حوالي 50 ألف فلسطيني، أغلبهم من النساء والأطفال، بما يعني التأثير على نسبة الخصوبة، التي تعتبر إسرائيل ارتفاعها في قطاع غزة قنبلة نووية في مستقبل صراعها مع الفلسطينيين.
في الواقع التحول في سوريا وإن كان يرمز لهزيمة المحور الإيراني، فهو في حقيقة الأمر مجرد كسب تكتيكي، فتراجع التهديد الإيراني لإسرائيل عبر لبنان وسوريا، لا يعني، أن حدود إسرائيل أضحت آمنة بعد إسقاط نظام بشار الأسد، فإسرائيل نفسها لا ترى في هذا التحول سوى استبدال تهديد شيعي ترعاه إيران، بتهديد آخر سني ترعاه تركيا، ولذلك سارعت إلى شن غارات على المقدرات العسكرية لسوريا واحتلال أجزاء مهمة من أراضيها.في الواقع، وعلى الرغم من إشادة حماس بمحاور الإسناد في بيانها الذي أصدرته عقب الإعلان عن الاتفاق وفي كلمة الناطق الرسمي باسم كتائب عزي الدين القسام أبو عبيدة، إلا أنها لم تكن متضررة من إسقاط بشار الأسد، فرؤيتها الاستراتيجية كانت دائما قريبة من المحور التركي السني، ومتشككة من الدعم الإيراني وتوظيفها للقضية الفلسطينية.
يؤكد ذلك إصدار حماس لبيان عقب إسقاط نظام بشار الأسد تبارك للشعب السوري الشقيق نجاحه في تحقيق تطلعاته نحو الحرية والعدالة، راجية أن تواصل دمشق دورها التاريخي والمحوري في دعم مقاومة الشعب الفلسطيني.
في التقدير يمكن أن نعتد بوجود خسارة تكتيكية لحماس، تتعلق بفشل استراتيجيتها من التحول من استراتيجية الدفاع إلى استراتيجية الهجوم، فـ"طوفان الأقصى" الذي ينبئ عن هذا التحول، لم يتحول إلى منعطف استراتيجي حاسم يغير وجه منطقة الشرق الأوسط برمتها لفائدة القضية الفلسطينية، فلا يزال الوضع على ما هو عليه، إلا ما كان من تحول في سوريا، لم تكن قيادة "طوفان الأقصى" تتصوره أو تتوقعه، وإنما حصل بإيعاز من تركيا التي يمكن اعتبارها المستفيد الأكبر استراتيجيا وسياسيا.
في المستوى السياسي والعسكري، كان الفشل الكلي في جانب الاحتلال الإسرائيلي، لأنه بحسب قياداته ووسائل إعلامه، لم ينجح في تحقيق أهدافه المعلنة، أي تقويض قدرات حماس العسكرية، ولم يستطع أن يفرض واقعا لما بعد حرب غزة، بدون حماس، فوزير الخارجية الأمريكي أنتونيو بلينكن، وهو يعلق على الإعلان عن الاتفاق، صرح بشكل واضح بأنه يستحيل هزم حماس عسكريا، وإنها عوضت كل مقاتليها، وجددت قدراتها العسكرية، وقال إن الأيام الأخيرة التي سبقت الإعلان عن الاتفاق، كانت قاسية على إسرائيل في شمال غزة.
مضمون الاتفاق يؤكد فشل الاحتلال الإسرائيلي في فرض أهدافه، إذ يلزمه الاتفاق بالانسحاب من كل غزة، بما في ذلك محوري نتساريم وفيلادلفيا، ومنطقة الشمال التي كان يخطط لاحتلالها وتهجير أبنائها منها، وتظهر مستحقات المرحلة الأولى -من الاتفاق-التي ستستمر لمدة 42 يوما، أن إسرائيل ملزمة بإطلاق سراح نحو ألفي أسير فلسطيني، و250 من المحكومين بالسجن المؤبد، ونحو ألف من المعتقلين بعد 7 أكتوبر 2023، في انتظار ما يمكن أن يؤول إليه التفاوض في المرحلتين الثانية والثالثة.
خسارة حماس، كانت محدودة في الاتفاق، فقد قبلت فكرة الانسحاب التدريجي بعد أن كانت تشترط الانسحاب الكلي والفوري، ثم قبلت فكرة صفقة من ثلاث مراحل، لا يوجد تفصيل دقيق إلا في الأولى، وقبلت أن يبقى الاحتلال على شريط حدود غزة بحوالي 700 متر، بعد أن كان الاحتلال يخطط لإنشاء منطقة عازلة فيها.
لكن مع ذلك، فالفارق بين وضعها قبل طوفان الأقصى ووضعها بعده، كبير، وعلى الرغم من الشعبية التي حازتها بفضل صمودها البطولي في صد العدوان، فإن تحديات ما بعد وقف الحرب ستكون كبيرة، فاستعادة قوتها الأمنية وجهازها السياسي، وقدرتها على تدبير القطاع ستكون مكلفة، خلافا لما كان عليه الأمر قبل السابع من أكتوبر على الرغم مما تضمنه الاتفاق من التزامات إنسانية مهمة، تتعلق بالمساعدات الإنسانية، أو إعادة تأهيل المستشفيات، وإدخال مستلزمات الدفاع المدني والوقود وإيواء اللاجئين.
نجحت حماس في إثبات صورة المقاومة البطولية الصامدة التي لم ترفع أبدا الراية البيضاء أمام همجية الجيش الإسرائيلي، ومنعت الاحتلال من تحقيق أهدافه في القضاء عليها وتهجير الشعب الفلسطيني، وخسرت القادة، وجزءا من السلاح الديمغرافي، وخرابا كبيرا في غزة يصعب تجاوزه إلا في عقد أو أكثر من الزمنلقد حرصت حماس لحظة البدء في تنفيذ تبادل الأسرى، أن تظهر قوتها العسكرية، وقدراتها الأمنية، وجاهزيتها الإدارية والتدبيرية، في رسالة، تثبت بها أن تغييبها عن المشهد السياسي في غزة، مجرد وهم، لا يمكن أن يتحقق، وأن 15 شهرا من الحرب، بقصد تحقيق هدف "غزة من غير حماس" كانت في الواقع مجرد حلم استفاق الاحتلال الإسرائيلي على حقيقة استحالة تطبيقه بسبب قوة حماس أولا، ثم لعدم وجدود بديل عنها يستطيع إزاحتها أو يحظى بشعبيتها وتلتف الحاضنة الشعبية حوله ثانيا.
في المحصلة، نجحت حماس في إثبات صورة المقاومة البطولية الصامدة التي لم ترفع أبدا الراية البيضاء أمام همجية الجيش الإسرائيلي، ومنعت الاحتلال من تحقيق أهدافه في القضاء عليها وتهجير الشعب الفلسطيني، وخسرت القادة، وجزءا من السلاح الديمغرافي، وخرابا كبيرا في غزة يصعب تجاوزه إلا في عقد أو أكثر من الزمن، وفي المقابل، خسرت إسرائيل سمعتها، وفشلت في أن تنهي التهديد الأمني الذي تشكله حماس، وخسرت رأسمال الثقة الذي كانت واشنطن تؤمل دائما في استثماره لتحقيق هدف الاندماج الإقليمي لإسرائيل، ولذلك، يمكن القول بأن الإدارة الجديدة في البيت الأبيض تدرك، أن أمامها مهام كثيرة، لاستئناف رؤيتها السابقة القائمة على تحقيق هذا الهدف، وأنه إذا كانت البداية، هي إنهاء الحرب في غزة، فإن شرط استعادة فعالية هذه الرؤية، يستلزم التضحية بالقيادة الإسرائيلية (بنيامين نتنياهو) ومسح الأضرار التي تسببت فيها، في أمل استعادة المبادرة في منطقة الشرق الأوسط، وعدم ترك فراغ ما بعد تراجع النفوذ الإيراني، ومنع سيناريو استبدال المحور الشيعي، بالمحور السني.
أطروحة الانتصار.. الأبعاد السيميائية والرمزية
لا نحتاج إلى كثير من الحجج لنثبت دور الحرب على غزة في تكريس حقيقة الإفلاس القيمي للمشروع الصهيوني، فقد تكرس واقع عدم أخلاقية الجيش الإسرائيلي، وتورطه في جرائم حرب، وجرائم الإبادة، والتطهير العرقي، وأصدرت الجنائية الدولية حكما تأمر فيه باعتقال القيادة السياسية للاحتلال الإسرائيلي (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) والقيادة العسكرية (وزير الدفاع يوآف غالانت)، وخاض العالم كله مظاهرات منددة بانتهاك الاحتلال الإسرائيلي لكل القيم الإنسانية، وبتجميعه وتعطيشه للشعب الفلسطيني، وسياسته الإبادية ضد المدنيين خاصة من الأطفال والنساء، واستهداف المؤسسات الخدمية الصحية والاستشفائية، واستهدافه لمؤسسات التعليم، ودور العبادة، وضربه للبنيات المدنية، ولمولدات الكهرباء، والبنيات الطاقية، وللمياه، وهو ما يعتبر مؤشرات مطردة على إرادة محو الوجود الفلسطيني بالكامل.
ثمة أربعة أبعاد سيميائية ورمزية لانتصار المقاومة أخلاقيا برزت طيلة الأشهر الخمسة عشر للحرب: يتعلق البعد الأول، بأخلاقية الحرب، والثانية بأخلاق العهد والاتفاق، والثاني، بأخلاقية الأسر، والثالث، بأخلاقية وجمالية الوفاء بالعهود والالتزامات وتنفيذ الاتفاقات.
في البعد الأول، قدمت حماس وقوى المقاومة الفلسطينية درسا أخلاقيا وقيميا يصعب نسيانه، فقد كانت كل العمليات التي خاضتها تستهدف الجيش الإسرائيلي، ولم تضع في بنك أهدافها مواجهة المدنيين الإسرائيليين، بخلاف الاحتلال الإسرائيلي، فقد وجه أطنانا من المتفجرات فوق رؤوس المدنيين، وكان كلما تم ضرب وحداته وبنياته العسكرية، يصب انتقامه على الأطفال والنساء من المدنيين.
في البعد الثاني، باشرت حماس مسارا من المفاوضات مع الاحتلال الصهيوني، وأعلنت بشكل واضح محدداتها في التفاوض، وبقيت متمسكة بها، وأبدت في لحظات كثيرة مرونة كبيرة، خاصة في مبادرة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لكن، ثبت في كل المحطات أن النقض كان يأتي من الجانب الإسرائيلي، إما بإدخال شروط جديدة لم تكن موضوع اتفاق سابق، أو باللعب بالوقت، واللعب بالوسطاء، من أجل تخفيف الضغط الدولي على جرائم الاحتلال، حتى إن الوسيط القطري، أعلن بكل وضوح عن غضبه من السلوك الإسرائيلي، الذي يمارس الابتزاز ليمنع الوسيط من القيام بأدواره.
وقد أثبت المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي هو الذي كان المسؤول الأول عن إفشال كل المحطات السابقة للتفاوض، وأنه كان يستثمر المفاوضات للعب بالوقت لإطالة مدة الحرب، وتلافي المساءلة القانونية.
يتمثل البعد الرابع في أخلاقية الأسر، وكيف عملت حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية على حماية الأسرى والمحتجزين، وتأمين حياتهم، وتوفير الغذاء والدواء لرعايتهم حتى والشعب الفلسطيني في غزة في بعض المناطق لاسيما في الشمال كان يموت جوعا وعطشا، دون أن نغفل عددا من التحذيرات التي كانت تصدرها فصائل المقاومة الفلسطينية للجيش الصهيوني من مخاطر قتله للأسرى والمحتجزين بتهوره وهمجيته.
وقد أظهرت روايات المحتجزين الذين أطلق سراحهم في الصفقة الأولى، ثم في الدفعة الأولى من صفقة وقف الحرب، أن الأمر لم يكن يتوقف على هذه المستويات من الرعاية، بل تعداها إلى التعليم، فصرحت المحتجزات الثلاث اللواتي تم الإفراج عنهن يوم السبت الماضي، أنهم تعلمن اللغة العربية خلال مدة الحجز، وصرحت أم إحدى المحتجزات أنها لم تكن تتوقع أن تخرج المحتجزات بالمستوى الصحي الذي كن عليه بفضل الرعاية الصحية والغذائية التي وفرت لهن طيلة مدة الاحتجاز والأسر.
في الصفقة الأولى هذه الصفقة أيضا، توجهت حكاية المحتجزين المفرج عنهم أيضا إلى المواكبة النفسية التي تلقوها طيلة أيام الاحتجاز، والجو الإنساني الذي كان يؤطر علاقات بعضهم ببعض، وصور التأنيس والطمأنة ورفع الخوف عنهم، ومستوى الإحسان اذي تقلوه ممن يفترض أنهم أعداؤهم.
أما البعد الثالث، والمتعلق بأخلاق الوفاء بالعهود والاتفاقات وجمالية الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، فقد تكرر المشهد يوم السبت الماضي، بعد أن بصمت حماس عن تفوقها الأخلاقي في الصفقة الأولى، واضافت إليها ابعادا جمالية أخرى. فقد أثبتت المقاومة تفوقها الأخلاقي من خلال الالتزام الحرفي بمقتضيات الهدنة الأولى، بما في ذلك زمن التسليم ومكانه، مع أن هذه الاعتبارات، قد تكون لها كلفة أمنية، بحكم أن الاحتلال بإسناد أمريكي كان يوفر كل إمكانات التجسس لمعرفة الجهة التي سيخرج منها المحتجزون، ومن ثمة معرفة مكانهم وتيسير الطرق للاحتلال الذي ضل الطريق طيلة خمسين يوما دون أن يعرف مكان المحتجزين. فقد أثبتت المقاومة، إلى جانب تفوقها الأخلاقي الذي تمثل في الالتزام بمقتضيات الهدنة، بما في ذلك التي تترتب عنها كلفة أمنية، سيطرتها على الموقف عسكريا، وأنها لا تزال تمتلك القدرات لإدارة الموقف والتحكم فيه.
وتكرر في صفقة وقف الحرب الشكل الأخلاقي الراقي الذي تم به تسليم المحتجزين، والذي دفع العديد من وسائل الإعلام الغربية والعربية وحتى الإسرائيلية نفسها إلى التوقف عند المفارقة الأخلاقية بين وحشية الجنود الإسرائيليين في التعامل مع الأسيرات الفلسطينيات (السحل وجر الشعر والإهانة والبذاءة في السب والشتم)، والشكل الأخلاقي الراقي الذي تعاملت به المقاومة عند تسليمها للمحتجزين للصليب الأحمر.
تاريخ تجارب المقاومة، لم يكن يذكر خراب العمران، واستشهاد القادة والزعماء، واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء، وصعوبة العيش في العراء، إلا باعتبار ذلك كله جرائم للاحتلال وبصمة عار في جبينه، وكانت في المقابل تعد ذلك تضحيات جسيمة بين يدي غاية عليا هي الدفاع عن الأرض الوطن، وتعتبر فشل العدو في تحقيق أهدافه انتصارا كبيرا لصاحب الحق في الأرض.لحظة التسليم، والإصرار على التوثيق الإداري المحمل بالمعاني الجمالية، والحرص على الهدية الرمزية، والتأمين الصارم لحياة المحتجزين، كل يندرج ضمن الأبعاد السيميائية والرمزية المثبتة لأطروحة الانتصار.
ومع أن هذه المؤشرات الموضوعية والسيميائية تقدم حججا قوية لتثبيت أطروحة الانتصار، إلا أن مواجهة أطروحات نخب التطبيع، يتطلب حججا أخرى أكثر فاعلية ونسفا. حجج تنتمي إلى التاريخ، تاريخ الشعوب في مقاومة الاحتلال، وتجارب حركات التحرر الوطني، ليس فقط في مواجهة الهمجية العسكرية للاستعمار، وإنما أيضا في مواجهة صراعه الفكري في البلاد المستعمرة، والمفاهيم المضللة التي كان ينتجها في مواجهة المقاومة وحركات التحرر الوطني، فالمعركة التي قد تبدو في فلسطين وغزة على وجه التحديد صراع وجود، تحسم بالقوة، تبدو في الساحات العربية والإسلامية، معركة مفاهيم وصراع قيم تقع على ساحة التاريخ العريضة، تتولاها نخب التطبيع بدلا عن الاحتلال الصهيوني.
تاريخ تجارب المقاومة، لم يكن يذكر خراب العمران، واستشهاد القادة والزعماء، واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء، وصعوبة العيش في العراء، إلا باعتبار ذلك كله جرائم للاحتلال وبصمة عار في جبينه، وكانت في المقابل تعد ذلك تضحيات جسيمة بين يدي غاية عليا هي الدفاع عن الأرض الوطن، وتعتبر فشل العدو في تحقيق أهدافه انتصارا كبيرا لصاحب الحق في الأرض.
كما كانت حركات المقاومة تتبع بشكل دقيق لعبة الصراع الفكري، وترسخ في الذهن وجود معادلة غير متكافئة بين الجلاد والضحية، أو بين الظالم المحتل، وصاحب الحق، وبين المغتصب والمقاوم الذي يمتلك شرعية الدفاع عن أرضه ووطنه. وتتعرض بالنقد والنقض للمفاهيم التي يحاول الاحتلال تكريسها ويتولى الدفاع عنها وكلاء يخدمون أجندته، حتى يسووا بين الضحية والجلاد، ويمنعوا المقاوم من حقه في المقاومة، ويمنعوا حتى المتعاطف معه من الاحتفاء بنصر المقاوم، ويجعلون كلفة المقاومة، ذريعة لتبرير إسقاط الحق في مواجهة العدوان.