الممارسات الاجتماعية في بعدها الثقافي
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
لا يكاد ينفك المفهومان (الاجتماعي/ الثقافي) عن بعضهما في كل تقاطعات السلوكيات والممارسات الاجتماعية، فكلاهما مرتبط بالآخر جملة وتفصيلا، وحجبا وتفسيرا، وعملا ونتيجة، بخلاف الأبعاد الأخرى: الاقتصادية، السياسية، الدينية وإن كان لهذه الأبعاد شيء من العلاقات، ولكنها لن تكون مباشرة ضمن الكينونة المتفاعلة لمختلف الممارسات كما هو الحال في البعدين: الاجتماعي والثقافي، فبقدر اجتماعية الإنسان – كما هي الفطرة – تكون ثقافته، وهي محصلة السلوكيات والممارسات والمفاهيم الاجتماعية، ومجموعة العلاقات الحاكمة بينهما، والضابط لهذه الممارسات القائمة، لكل مجموعة بشرية، أينما كان معيشتها، وموقعها وأهمية هذا الموقع، ومستويات هذه المعيشة، وأشكال وأنواع هذه التفاعلات القائمة بينهما، وقد يرى البعض أن الفعل الثقافي هو الأول، وقد يرى آخر، أن الفعل الاجتماعي هو الأول – وأنا واحد من يتفق مع الرأي الأخير – ذلك أن الثقافة كمفهوم وكممارسة هي نتيجة لما يكون عليه واقع الممارسات الاجتماعية ، كما أنه يشكل الواجهة أو «الديكور» بالمصطلح الحديث، ولو ضربنا لذلك مثلا بالكرم، وهو أحد الممارسات الاجتماعية المهمة خاصة في المجتمعات التقليدية وذلك لأن لها نظامها وقوانينها، واستحقاقاتها، وتفاصيلها الدقيقة، فخطوات هذا الكرم – التي تؤسسها العلاقات الاجتماعية - تعكس ممارسات ثقافية لدى الشعوب، فهناك من لا يقبل بغير أن يقدم لضيفه الوجبات الدسمة على اختلاف أنواعها وأصنافها، وهناك من يكتفي بـ «بشرب الشاي» ومعنى هذا لا يمكن أن تعاتب الأول على أنه مسرف أو مبالغ في إكرام ضيفه فهذه ثقافته التي تربى عليها، ولا تستطيع أيضا أن تعاتب الثاني على أنه بخيل، وذات الحكم ينطبق عليه في استلهامه لثقافة من كان قبله، وعند كلا الجانبين هناك تعزيز وتقدير للعلاقات القائمة بين الطرفين (الضيف/ المضيف) وهذا التقدير عند من يفهمه لا يقف عند نوع وكثر ودسامة الوجبة المقدمة، وإنما ما يتم تقديمه يظل مقبولا ومستساغا ومقدرا، لأن كلا الطرفين استوعب التسلسل الثقافي عمّن كان قبلهما وفق تراتبية معينة يصدرها الأكبر سنا للأصغر، وبالتالي فلا يمكن للأول أن يتنازل عنها، ولا يمكن للآخر أن يزيد عليها إلا في حالات استثنائية تقدر بظرفيتها الزمنية، وحتى عند الأول قد لا يكتفي بتقديم ذبيحة واحدة، أو صنف واحد من الوجبات، وقد يعاتب نفسه على أن قصر في حق مضيفه، وهناك صورة «بانورامية» لكل الحفاوة المقدمة للضيف تشتمل على أنواع الأواني، وأنواع الوجبات، ونوع المجلس وضخامته وتأثيثه، وهناك كما يعلم الجميع عند البعض مجالس مخصصة لعلية القوم، وأخرى للأدنى، فكونك فردا عاديا لست ضيفا، أو لا تمثل مستوى اجتماعيا أو إداريا، أو وجاهيا، أو ذا قيمة اعتبارية، فتوقع أن يقدم لك أدنى ما يمكن أن يقدم، حتى ولو اختصك مضيفك بشيء من عبارات الترحيب أو الود الظاهر، بخلاف الآخر، الذي قد ترش الأرضية الخارجية بالماء خوف تطاير الغبار عند وصول الضيف.
وهذه كلها ليست جديدة على الثقافة الاجتماعية، فهي معروفة ومعايشة، وتمارس بحالة طبيعية ومعتادة، وكما ينطبق على الكرم، ينطبق أيضا على المواسم السنوية في حياة الأفراد، كالأعياد، ومواسم القيظ عندنا هنا في عمان، وعند الأمم الأخرى التي تخصص أياما لقطاف الزيتون، أو أي شجر منتج يحتفى به سنويا، لأنه يمثل رافدا اقتصاديا مهما في حياة الناس، وكذلك مناسبات الأعراس، ومناسبات «تطهير» الأطفال الذكور في المجتمع المسلم، ففي كل هذه المناسبات مع أن كلها مناسبات اجتماعية ما عدا عيدي الفطر والأضحى وفيهما أيضا تتداخل العلاقات الاجتماعية وممارساتها حيث تزيد من تعاضد وتكاتف أبناء المجتمع الواحد، حيث تتوارى الذاتية هنا، وتبتعد عن الاشتغال العام، فتزداد الُلحم الاجتماعية، وتتقوى، وقد تنشأ علاقات جديدة تزيد من الترابط والتعاون، وهو ما يعكس المضمون الحقيقي لمفهوم الاجتماعية، وتأتي الثقافة لتغلف كل هذه التفاعلات بغلاف جميل براق يعكس هوية هؤلاء المتفاعلين، وأمزجتهم، وأذواقهم، ومدى الرفاه المادي عند البعض، من حيث إعطاء المظاهر ما يدل على ذلك، وبالتالي فمن خلال هذه المناسبات تستطيع أن تحدد أي شعب هذا الذي يحيي هذه المناسبة أو تلك، حيث يتضح ذلك من خلال التنوع الثقافي الذي تظهر عليه الفعالية المقامة، والذي يبدو في مجموعة من الصور الفنية ذات الطابع الاحتفالي التي تتخلل المناسبة.
ولتقريب المشهد أكثر، نرى في المهرجانات الدولية عند إحياء الأيام العالمية أو الدولية لمناسبة ما، حيث تختلط فيها العلاقات الاجتماعية مع الممارسات الثقافية، وفي ذلك تتباين الشعوب في تنفيذ الفعالية، مع أن عنوانها عالمي أو دولي سواء من حيث أنواع الملبوسات، أو أنواع الأطعمة، أو أنواع الأقنعة، أو أنواع الفنون الشعبية، أو أنواع الرسوم على الوجه، أو أنواع المجسمات «الكرنفالية» الحاوية لأنواع الفنون التي تتميز بها كل دولة على حدة، كما تتمايز هذه المهرجانات في توقيتاتها، الصيفية أو الشتوية، وفي مددها الزمنية ليوم أو أكثر، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، فهي من حيث اجتماعيتها تحتوي على عدد كبير من الناس، وهناك من يسافر ويقطع المسافات الألفية من الكيلومترات، وفي كل ذلك بواعثها اجتماعية الإنسان، التي لم تستطع أقسى الحروب وأشدها فظاعة من إسقاطها من اهتمامات الأفراد كل على حدة، وفي كل ذلك أيضا بواعثها ثقافية من حيث مجموعة التفاصيل الدقيقة التي تتلون بها، ولا يمكن البديل عنها لتنفيذها، وهي الفاعلة في حياة الناس من حيث التأثير والتأثر، حيث تتم الاستفادة الكبيرة من ذلك، من خلال تطبيق الكثير من التجارب الدولية، وتنفيذها في مواقع جغرافية أخرى، قد تبعد هي الأخرى آلاف الكيلومترات عن منبعها الأصل.
تبدو صورة الفعل الاجتماعي أكثر وضوحا في الحالة الميكانيكية لتفاعلات الأفراد، في الانتقال من هنا إلى هناك، في الاختيار هذا عن ذاك، في التبديل هذا بذاك، أي أن الفعل الميكانيكي يبدو أكثر وضوحا، وأكثر استيعابا، فتعليم الطفل بالترحيب بالضيف، أو باحترام الجار، أو بالمشاركة في ميادين المناسبات التي تقام في الحي، كل ذلك يستدعي أن يكون الطفل قد استوعب من سلوك الأكبر سنا هذه الممارسات المادية المباشرة، فتأتي المرحلة الثقافية بعد ذلك، من حيث أن هذا الترحيب يحتاج إلى لطف في العبارة، وإلى تعليم مفردات متزنة خاصة بالترحيب، وإلى مقابلته بثوب نظيف، وبابتسامة صادقة غير متكلف بها، وفي احترام الجار المعاملة الحسنة، وعدم إيذائه بالكملة الجارحة، والفعل السيئ، وإشعاره بأنه مرحب به، ومحترم، وآمن لا يخاف ما تحتويه الصدور، مع إهدائه الكثير من الود والتعاون، ومؤازرته في الصغيرة والكبيرة، وبعد إحساسه بأنه وحيد في الحي، ولو كان غريبا عن بيئة المجتمع، وفي ميادين احتفالات أبناء الحي بالمناسبات السعيدة، تظهر البهجة والسرور، وبالملابس اللائقة المعبرة عن بهجة النفس، ومسرة القلب، وبالكثير من الزينة غير المبالغ في إبدائها، من غير إيذاء لمشاعر الآخرين، وفي مواقف الحزن والترح، تتضاءل كل هذه الصور الاحتفالية، ويكون الاعتدال في السلوك، وحتى في ارتداء الملابس المعبرة عن الهدوء والاتزان، والسمت الاجتماعي، ففي كل هذه الصور تسود الثقافة كنتاج للحالة الموجودة، وهي حالة يصفها البعض بـ «المتخيلة» أي يتم استحضارها لما هو عليه الواقع الآني المتشكل في تلك اللحظة، حيث تستدعي تلك اللحظات مجموعة من الـ «إسعافات» الثقافية التي من شأنها أن تحافظ على كثير مما يجب أن يكون دون أن تثير أية زوبعة تفسدها.
ما يجب أن ينظر إليه في هذه المناقشة أن الفعل الاجتماعي قد يكون فعلا متكررا في تجربة الممارسات الاجتماعية ، أما ما يذهب إليه المعنى في الفعل الثقافي أنه فعل تراكمي بنائي متجدد، وبقدر ما يؤصل البنيوية السلوكية بما فيها من التاريخ، والقناعات، وعمليات التأثير والتأثر، إلا أنه يزيد عليها ملامح حيوية معبرة عن العصر، وعن تطلعات الأفراد، وقدرتهم على الابتكار والتميز، فالثقافة فضاء يمتزج فيه السلوك بالقناعة والتوظيف، وبما يؤصل الهوية في الوقت نفسه.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الممارسات الاجتماعیة أو أنواع أن الفعل لا یمکن من حیث کل هذه على أن
إقرأ أيضاً:
من لعبة إلى جسر حضاري.. كيف أصبحت "لابوبو" رمزا للتقارب الثقافي؟
د. خليل لوه لين - بروفيسور صيني
في الأيام الأخيرة، شاهدت مرارا على منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المحلية والدولية مقطع فيديو طريفا لخريجة من جامعة تشينغهوا الصينية العريقة، ظهرت فيه وهي تصطحب دميتها المحبوبة "لابوبو" إلى منصة حفل التخرج، وطلبت من نائب رئيس الجامعة مشاركتها لحظة تقليدية عبر تحريك شرابة قبعة الدمية. هذا المشهد اللطيف حصد ملايين المشاهدات، وتناقلته وسائل إعلام دولية، من بينها وسائل إعلام عربية معروفة ومشهورة، ومرة أخرى وجدت "لابوبو" نفسها في دائرة الضوء العالمية، مما يعكس مدى حب الجماهير حول العالم، بما في ذلك الجمهور العربي، لهذه الدمية الفريدة والتي خطفت الأضواء وباتت جسرًا من المحبة يربط العالم بالصين.
إن الانتشار الواسع الذي حققته "لابوبو" ليس وليد المصادفة، بل يعكس قابلية الثقافة الصينية للتفاعل مع ثقافات العالم من خلال رموز تلهم مشاعر مشتركة، وتعبر عن قيم مثل البراءة والمرح والشجاعة واللطف والصداقة. فالتصميم الفريد والمزج بين الجماليات الآسيوية وتعبيرات الفن الشعبي العالمي جعل من "لابوبو" لغة بصرية يفهمها الجميع.
يكشف نجاح "لابوبو" عن حقيقة أعمق: هناك تعطش عالمي لقيم ثقافية تتجاوز الانغلاق، وتحتفي بالاختلاف والتنوع، وتبحث عن لحظات بهجة في عالم معقد. وهنا تتجلى أهمية مبادرة الحضارة العالمية التي أطلقتها الصين، والتي تدعو إلى تعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات على قاعدة الاحترام المتبادل والمستقبل المشترك. من خلال هذه المبادرة، تدعو الصين إلى احترام تنوع الحضارات والدفاع عن القيم المشتركة للإنسانية، وأهمية توارث وابتكار الحضارات، وتعزيز التبادلات والتعاون الثقافي والإنساني الدولي بشكل مشترك. توجه مبادرة الحضارة العالمية نداء صادقا للعالم لتعزيز التبادلات والحوار بين الحضارات، وتعزيز تقدم الحضارة الإنسانية من خلال الشمول والتعلم المتبادل، الأمر الذي يضفي قوة محركة معنوية لبناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية.
ولا يقف الأمر عند "لابوبو" وحدها، فمنتجات ثقافية صينية أخرى بدأت تجد صدى واسعا في العالم، مثل اللعبة "الأسطورة السوداء.. وو كونغ"، المستوحاة من أساطير الصين القديمة ورواية كلاسيكية عظيمة في الأدب الصيني، وفيلم الرسوم المتحركة "نه تشا" الذي يعيد تقديم الملاحم الصينية بلغة فنية حديثة. كذلك، أصبحت ظواهر مثل "China Travel" و"China Shopping" تجذب ملايين الزوار الأجانب، بمن فيهم مواطنون من الدول العربية، لاستكشاف الصين عن قرب، من معالمها الحضرية إلى ثقافتها الشعبية، مما يعكس حضورا ثقافيا متزايدا يتجاوز الصور النمطية. من خلال زيارة الصين، تتاح للزوار فرصة أفضل لفهم ملامح الثقافة الصينية بشكل أعمق، مما يسهم في تعزيز التبادل الحضاري والتفاهم الثقافي بين الشعوب.
من خلال هذه الظواهر، يتضح أن العالم لم يعد يبحث فقط عن القوة، بل عن المعنى والدفء الإنساني. ولعل الصين اليوم تقدم نموذجا ثقافيا متجددا، يقوم على الإبداع واحترام الاختلاف والتبادلات الصادقة بين الحضارات، وليس التصادم بينها. "لابوبو"، هذه الدمية الطفولية، لا تحمل خطابا سياسيا، لكنها تجسد من خلال طرافتها وبساطتها روح التواصل والتبادل الإنساني العابر للثقافات. ومن هذا المنطلق، تنسجم فكرتها مع فكرة مبادرة "الحضارة العالمية"، التي تدعو جميع البلدان إلى احترام تنوع الحضارات في العالم، مما يسهم في تعزيز التفاهم والتعلم المتبادل بين الشعوب والمجتمعات المختلفة.
في زمن يكثر فيه الحديث عن صدام الحضارات، تبرز "لابوبو" وأمثالها من المنتجات الثقافية الصينية أن أبسط أشكال الإبداع يمكن أن تكون مدخلا لحوار عميق بين الشعوب. فدمية أو فيلم أو تجربة سفر قد تفتح نوافذ لفهم الآخر، وتكسر الحواجز النفسية والثقافية. إن هذه المنتجات، بما تحمله من قيم جمالية وإنسانية، لم تعد مجرد سلع استهلاكية، بل أصبحت وسائط فعالة للتقارب والتبادل الحضاري، تعكس روح الانفتاح والتعدد الذي تدعو إليه مبادرة الحضارة العالمية. فالثقافة الصينية، عبر هذه الوسائط الإبداعية، لا تكتفي بتقديم نفسها للعالم، بل تسهم أيضا في بناء جسور من التفاهم والثقة، وتؤكد أن طريق الحوار يبدأ من الاعتراف بالآخر واحترام تنوعه. وهكذا، تتحول المنتجات الثقافية إلى قوة ناعمة حقيقية، تثري المشهد الحضاري العالمي، وتجسد بشكل عملي رؤية الصين لمستقبل يقوم على التعددية والتعايش والانفتاح، لا على الهيمنة والصراع.