ألا إنَّ سلعة الله غالية
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
راشد بن حميد الراشدي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنَّ سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنَّة".
نعم.. إنَّ سلعة الله غالية وقد اشترتها غزة برجالها ونسائها وأطفالها وأرضها وجوها وبحرها فيما آلت إليه أحوال الدهر وأخلاق العباد في هذا العصر الأسود الفعال فلا طائل من صراخ أطفال أو استغاثة عجائز من شبح موت قادم ومن سحق بشر، منذ 9 أشهر بلا حراك.
اليوم أبشركم جميعًا بأنَّ أهل غزة اشتروا الآخرة وباعوا الدنيا الفانية بأهلها الفاسدين وأُناسها الظالمين، فلقد أسكتت كلمة الحق وبقيت أبواق الباطل تنعق في فضاء الخيانة والطغيان على شعبٍ أعزل يموت كل يوم مئات من أهله بلا جريرة ولا قصاص في مذابح جماعية وإبادات ممنهجة ودعم صهيوني من بقاع العالم ومن أقوى دوله الراعية للإرهاب بشتى صوره.
فتكٌ بالصغار قبل الكبار من أجل نزعات انتقامية لتنفيذ تطهير عرقي في بلد يطالب بحريته واستعادة حقوقه وتحرير أرضه، بينما تقف جيوش الباطل تمد الظالم بكل شيء في عالم الإجرام بدلًا من منعه مع كذب مُصطنع وتمثيليات واهية مكشوفة وصمت مطبق خيَّم على الحملان حتى لا تأكلها الذئاب المفترسة وقد انغرست حتى أذنيها في وحل المكر والكذب والخيانة فهم لا عهد لهم ولا أمان سوى افتراس ضحاياهم والفتك بهم.
سلعة الله غالية وسلعته الجنة وقد اشتراها أهل غزة بجهادهم لعدو محتل غاشم فهم أسود في كل شبر من غزة قلبوا موازين كثيرة في عالمنا المتغير المتحجر فمع مشاركة دول العالم القذرة في حرب غزة واجتماع أنذالها لدحر غزة إلّا أن طلائع الإيمان وطلائع التوكل على الله أفشلت كل مخططاتهم المجنونة وبقيت صامدة إلى اليوم تضرب المُثل لعالم باع ضميره وخلقه من أجل حفنة من عبدة الطاغوت وأعداء الإنسانية.
أبطال غزة الأحرار ليس أمامهم سوى طريقين جلهُما فخر للمؤمن إما النصر وإما الشهادة وذلك مبتغى كل لبيب عاقل وسوف يجازيهم الله خير الجزاء.
ما حدث ويحدث في غزة من استهتار أزكم النفوس الصمت عليه وفاحت ريحه النتنة في بقاع الأرض هو دليل على سقوط الإنسانية وسقوط أخلاق البشر في مستنقع فساد الدين والخلق والمبادئ فلا أخزى من صور القتل والتدمير التي تقام على غزة وأهلها وأمام مرأى عالم جبان صمت عن وقف العدو المحتل عن مجازره وأفعاله ولن يسلم أحد من دماء شهداء غزة ولكن الله يمهل ولا يهمل، ألا إن نصر الله قريب.
اليوم نقول جميعًا وللعالم أجمع أنقذوا ما تبقى من ماء وجوهكم الكدمة المغبرة بتراب شهداء غزة وأوقفوا هذه الحرب الهمجية غير المتكافئة بعدتكم وعتادكم وبكلمة الحق في وجه ظالم وبالإرادة الدولية أوقفوها فلقد بلغ السيل الزبى وفاحت روائح الخبث النتنة في أرجاء الأرض واكتمل فناء أمة لم تسعَ سوى لنيل شرفها وحقوق وطنها المغتصب.
باع العالم غزة وبقيت فئة قليلة اشترت سلعة الله الغالية بأثمان باهظة ونالت رضا ربها الذي سينصرها وينصفها في القريب العاجل بإذن الله فمن باع نفسه لله لن يخزيه الله.
يقول تعالى: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"، ويقول " يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ".
اللهم انصر الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين.. اللهم انصر إخواننا في غزة وفلسطين ونجهم من كيد أعداء الدين، واجعل الدائرة على عدوهم ومن سانده يا رب العالمين.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العبر والاعتبار
تتأمل العالم من حولك في اللحظة التي قد يبدو فيها أن القانون للضعفاء فحسب، وأن الأقوياء لا يسري عليهم القانون، أن المبادئ العليا والأخلاق إنما هي ستار براق، وعبارات تقال للاستهلاك الإعلامي فحسب، وأن المصلحة هي التي توجه التصرفات، وأن المال هو مرتكز القوة والنفوذ والتأثير، وكل ما عداه عليه الخضوع والانصياع؛ في اللحظة التي تضرب فيها الولايات المتحدة الأمريكية الأمثلة الحية على تأثير المال والأعمال حتى على المؤسسات القانونية والاجتماعية، وترفع هدفًا أسمى وأعلى هو ضبط الأموال وجني مزيد من الأموال، وشيئًا فشيئًا يتجرد الجشع من قناعه، خاصة إذا أدرك المرء ليس فحسب الاحتكارات الأمريكية في مجال التقنية والتكنولوجيا، والزراعة والمحاصيل، بل والمصارف، حيث في غالبية العالم لا تجري عملية مالية دون أن يكون للشركات الأمريكية نصيب منها، مع ذلك ها هي أمريكا نفسها تستشعر خطر السقوط، وكل ما يفعله الرئيس الأمريكي الحالي بتصرفاته هو إعلان ذلك الخوف الأمريكي على العالم بأسره، في سعيه الأخرق لإثبات أحقية أمريكا في جمع الإتاوات، والجزية إذا استعرنا لغة الفقه الإسلامي.
مع ذلك فإن وقفة العالم مع المظلومين في القضية الفلسطينية، خاصة تلك الوقفات التي لم تنبع من دافع ديني أو عرقي، الوقفات الحرة التي لم تملها الانتماءات القومية، والمصالح الذاتية، تقول عكس ما سبق، إن هناك من يؤمن بالنضال من أجل عالم أكثر عدالة ومساواة، عالم يسوده القانون الذي ينصف الضعيف من القوي، ويقف في وجه القوي الذي يريد سحق الضعيف لتحقيق مصالحه، كل ذلك يقول إن هناك أملا، لكنه أمل يتعزز بالوقفة البشرية الحرة وتجلي الضمير الإنساني الصادق مع نفسه وذاته، حتى وإن كانت مراكز القوى السلطوية متأثرة بثقافتها العدائية القديمة، تلك الثقافة العنصرية التي لا تبحث عن العدالة بل تقوم على التمييز ومحاباة الذات ومصالحها.
نقول العنصرية لأن ما يبدو على السطح قصة مصالح وتكديس الثروات وألعاب الحرب من أجل المنفعة الاقتصادية قصيرة النظر، قد لا يكون، بنظرنا، غير تجليات عنصرية، العنصرية المتسيدة التي ما زالت تقاوم دحرها؛ وأن تلك القضية الحساسة في نظرة الإنسان للإنسان، ما زالت قارة في الأنفس حتى وإن نفتها الألسن، وأن العالم ليس منشقًا في الواقع إلا من جهة تلك العنصرية نفسها، وأن العنصرية والتمييز ما زالا معشعشَيْن في الرؤوس، وما اللاعبون الرئيسيون على مسرح الأحداث العالمية اليوم غير بقايا داعمي تلك العنصرية نفسها، أينما ولّينا وجوهنا، وحين نرى دولة مثل جنوب أفريقيا تقف في وجه ذلك التيار، فتلك علامة، لأن جنوب أفريقيا دولة كافحت لتتحرر من عنصريتها، فهي تتعرف بسهولة على أعدائها القدماء، وهم نفس الحزب الذي حاول الوقوف في وجه تحررها في الماضي القريب.
لنا أن نتأمل بكثير من التمعن أن أعظم ثورتين سلميتين في عالمنا المعاصر، الهندية والجنوب أفريقية، قادهما محاميان، هما غاندي ونلسون مانديلا، لأن في ذلك ما يُقرأ عن روح العالم المعاصر وقواه، وأين يكمن مفصل الأزمة المعاصرة إن لم يكن في القانون؟ بين روح القانون وبين استغلال القانون، وذلك ما يعرّي ويجرّد كل النظام العنصري والاستعماري من أقنعته، وبصياغة أخرى ذلك ما يجعل الظلم يتميز من العدل بشكل حاد صريح، وذلك بالتحديد ما يجعل روح الإنسانية تتجلى.
كتب نلسون مانديلا بمذكراته، في معرض وصفه لأقسى وأعنف مديري سجن جزيرة روبين الذي قضى فيه معظم سنوات حياته، جملة كاشفة «إن في أعماق كل إنسان، حتى أكثر الناس وحشية وقسوة، قدرًا من الإنسانية»، ويبدو أن ذلك القدر من الإنسانية الذي يحمله كل إنسان هو الذي يبعث الأمل، ذلك القدر الضئيل الصغير كاف ليجعل الأمل حيًّا يرزق، مهما بدا الظلام والظلم كثيفًا وشاملًا، ومهما بلغ الفساد من التعاظم والسفور والاستفزاز، فهناك دومًا في الأعماق لحظة عدالة وحقيقة يؤمن بها كل إنسان، وهي اللحظة التي تجذبنا وتؤثر فينا جميعًا، أيًّا كان موقعنا من أي قضية.
إن الحق شيء يدعيه حتى أكثر الناس إيغالًا في الباطل، وذلك في حد ذاته دليل على أن الحق والعدالة والرحمة هما بوصلة الإنسانية ومنهجها الروحي، لذلك فإن مرجع الحقيقة يحكمنا ويؤثر على أفعالنا، وعلى ذلك فإن كل الدعاوى السطحية، وكل الخلافات الظاهرة إنما تنبئ عن مدى ضياعنا وظلام الأعماق التي نغوص فيها، عن المجاهيل الإنسانية داخلنا، والتي لم نتمكن حتى اليوم من كشفها للخروج منها، وهي نفسها المجاهيل التي تعيق معرفتنا للإنسان داخلنا وهي التي تدفعنا للحروب، والتقاتل، وهي دومًا كما جرت العادة تقع في الماضي، فنحن نستعيد الماضي كي نحارب في الحاضر، إنها القوة التي تبقينا في الخلف وتوهمنا أننا نتجه للأمام، وما ذلك إلا لأننا لم نعرف بعد كيف نتحرر من قيودنا، ولا أين اتجاه الزمن.
لقد مرت علينا خاصة في القرن العشرين، من أوله لآخره، كثير من الدروس البليغة في حياة الشعوب، كثير من العبر وديوان المبتدأ والخبر إذا استعرنا ابن خلدون، ليس فقط في ميدان تحرر الشعوب والبلدان من الاستعمار وما حل بها بعد ذلك، بل كذلك عن المدى الحالم الذي انفتح في القرن العشرين، حين هبت نسائم الحرية، وكيف أن ذلك المسار جرى إفشاله وإفساده من داخل وخارج الحركات نفسها، لكن مع ذلك تحققت للإنسانية تجارب يمكنها النظر والتأمل فيها بجدية والتعلم منها.
لا تكفي هذه العجالة لتأمل تجربة هائلة، لكن نوردها هنا للمغزى العام، فمع نهاية القرن العشرين سقط الاتحاد السوفييتي بالشكل الذي كان معروفًا عليه، ولكن لم يعن ذلك سقوط روسيا التي ما زالت فاعلًا دوليًّا مهمًّا، ولكنها كما يبدو لنا اليوم انجرت للعبة محاربة المعسكر الغربي، ولكن الاتحاد السوفييتي نفسه كتجربة، سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، كان يحمل تجربة تاريخية فريدة، من جهة أنه كان قائمًا على حلم بالمستقبل، وكان قائمًا على تنظير ماركسي، وتطبيق وتنظير لينيني، وهي تجربة تاريخية فريدة من نتاج الأفكار البشرية المعاصرة، التي كانت باحثة عن العدالة والحق وكشف الظلم، واستمر كتجربة اتحادية ما يقارب المائة عام، وفي نهاية القرن العشرين كان لدى الروس من وضوح الرؤية والشجاعة ما جعلهم يتوقفون عن المضي قدمًا في مشروعهم الاشتراكي اللينيني، ومهما كان الأمر أو الخيارات المطروحة حينها، وصواب القرار من خطأه، فإن لنا أن ننظر في تلك اللحظة نفسها لنرى مدى وضوح الرؤية وعدم الرغبة في المكابرة على الخطأ الملموس، وذلك الصدق السوفييتي أمام النفس، بظننا دليل قوة وحساسية عالية ونتاج تحضّر، وهو الذي نبه باقي مجموعة الدول الاشتراكية إلى تصحيح أحوالها الاقتصادية، وهو الذي أنتج لنا الصين بالشكل الذي نعرف اليوم والذي تخشاه الولايات المتحدة كل الخشية.
العالم مليء بالعبر لكن المعتبر قليل، أو بطيء الاستيعاب، أو أنه لا يعتبر إلا بعد وقوع الكارثة.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني