محمد بن حمد البادي
mohd.albadi1@moe.om
كتاب "الغوص على اللؤلؤ" للباحث سعيد بن عبدالله الفارسي الذي يعد أحد المهتمين بالتراث غير المادي في السلطنة، كتاب قيّم يحملنا في رحلة شيّقة إلى احدى محطات التراث العماني غير المادي، نتعرف فيها عن قرب على حرفة الغوص لاستخراج اللؤلؤ من أعماق البحار، حيث قسم الباحث الكتاب إلى فصولٍ أربعة:
الفصل الأول "السمات الجغرافية والطبيعية لمحافظتي شمال وجنوب الباطنة" حيث تناول الباحث في هذا الفصل التقسيم الإداري للمحافظتين ومظاهر أشكال السطح، والغطاء النباتي والنباتات الملحية، والموقع الجغرافي والفلكي للمحافظتين، والمناخ فيهما.
أما الفصل الثاني "مدخل لحرفة الغوص على اللؤلؤ" تناول فيه الباحث عدة نقاط وهي الغوص ومواسمه، أدوار البحارة في حرفة الغوص على اللؤلؤ، أنواع اللؤلؤ، الأمراض وطرق التداوي في حرفة الغوص والمخاطر التي يواجهها الغاصة، السفن المستخدمة في الغوص وأنواعها، أدوات ولباس الغوص على اللؤلؤ.
وفي الفصل الثالث "حرفة الغوص على اللؤلؤ عند أبناء الباطنة" تناول فيه الباحث شواهد وأدلة مشاركة أبناء الباطنة في حرفة الغوص على اللؤلؤ من مدونات الرحالة الأجانب والمراجع والوثائق التاريخية والروايات الشفهية، أشكال الغوص على اللؤلؤ عند أبناء محافظتي الباطنة، طواويش اللؤلؤ من أبناء مجتمع الباطنة الساحلي.
وفي الفصل الرابع "المأثورات الشعبية لحرفة الغوص على اللؤلؤ في مجتمع الباطنة الساحلي" تناول فيه الباحث عادات العمل في حرفة الغوص على اللؤلؤ، قصص وأحداث مؤثرة يرويها الرواة والاخباريون من أبناء الباطنة، الأمثال الشعبية المرتبطة بحرفة الغوص على اللؤلؤ، نهمات الغوص على اللؤلؤ في مجتمع الباطنة الساحلي وغيرها.
لم يكن اهتمام الأستاذ سعيد بالتراث البحري غير المادي ـ ومنها حرفة الغوص على اللؤلؤ ـ وليد الصدفة، فقد كان منذ نعومة أظافره شغوفًا بهذا المجال، حيث ترعرع في بيئة بحرية، فهو ينحدر من أسرة بحرية بامتياز، فأجداده نواخذة بحر لهم مكانتهم وشهرتهم في المنطقة.
أما والده فهو "الراوي عبدالله بن مبارك الفارسي" الفائز بجائزة الشارقة الدولية للتراث الثقافي عام 2023 للفئة العربية كأول عماني يفوز بهذه الجائزة بعد أن شارك فيها بتزكية من وزارة الثقافة والرياضة والشباب بالسلطنة، حيث كان علامة فارقة بين أقرانه في مجالات الفنون البحرية المغناة، والأشعار والقصص والأساطير المرتبطة بالبيئة البحرية.
إن تلك القصص والروايات والأشعار والأساطير والأغاني البحرية والأمثال الشعبية والمفردات الخاصة بالصيد والغوص والسفر عبر المراكب البحرية باختلاف أنواعها؛ التي كان "العم عبدالله" يحكيها في جلسات السمر لأفراد أسرته ـ ومن بينهم ابنه سعيد ـ وغيرهم، كانت مصدر إلهام في تكوين صورة جميلة عن التراث البحري غير المادي لدى الباحث، وبالتالي تولّد لديه حماس منقطع النظير لتوثيق هذا الإرث البحري بكل تفاصيله ليخرجه بعد ذلك في تحفة فنية جميلة أسماها " الغوص على اللؤلؤ".
ولعل من أبرز الدوافع التي كانت سببا لتأليف هذا الكتاب ـ كما يراه الباحث ـ استشعاره بخطورة الوضع بعد ظهور مشروع طريق الباطنة الساحلي وبدء العمل فيه، حيث أن القائمين على المشروع راعوا بأن يبتعد مسار الطريق عن كل ما يندرج تصنيفه تحت بند التراث المادي (القلاع والحصون والأسوار والأسواق الشعبية والأماكن ذات التنوع البيئي على سبيل المثال) ولكن ما لم يتم مراعاته هو التراث غير المادي.
فكثير من قاطني الساحل؛ بعد أن كانوا كأنهم أسرة واحدة في بيت واحد في بيئة واحدة يعملون كفريق واحد من بزوغ الفجر حتى غروب الشمس؛ أجبرتهم الظروف على ترك بيئتهم البحرية وكل ما يتعلق بها من تراث، انتقلوا من موطنهم تاركين خلفهم مهنة صيد الأسماك وكل ما يتعلق بها من تفاصيل، وتفرقوا في مخططات التعويضات؛ التي يبعد بعضها عن البحر ربما عشرات الكيلومترات، فبعدهم عن البحر، وتباعدهم عن بعض؛ شكل لديهم حنين إلى تلك البيئة الساحرة التي عاشوا فيها أجمل أيام طفولتهم وريعان شبابهم، ورغبة صادقة للعودة إليها، وحسرة في نفوسهم على تراثهم وعاداتهم وتقاليدهم البحرية وهم شاهد عيان على اندثارها وتلاشيها ـ مع مرور الوقت ـ وفقدان المفردات والمصطلحات المتعلقة بالموروث البحري رويدًا رويدًا.
كما إن من العوامل التي دفعت الباحث إلى تأليف كتاب "الغوص على اللؤلؤ" ما لمسه من حماس منقطع النظير عند الرواة والاخباريين الذين قابلهم لغرض جمع المعلومات منهم، فقد كانوا ـ رغم تقدم أغلبهم في العمر ـ يتسابقون لطرح المعلومة وكلهم رغبة وشوق في أن يسمع لهم ويوثق ما لديهم، وهذه الرغبة العارمة نابعة من إدراكهم أن هذا النوع من الإرث عرضة للاندثار بشكل سريع؛ إن لم تتم المحافظة عليه وتوثيقه.
هؤلاء الرواة والإخباريون كنز بشري، ومصادر حية، يجب- وبأسرع وقت ممكن- توثيق ما لديهم من معلومات تتعلق بالتراث غير المادي الذي كان يمارس بشكل يومي في الشريط الساحلي للباطنة (شمالها وجنوبها)، فهذا النوع من التراث غير الملموس سريع الاندثار وعرضة للنسيان، يجب إيلاؤه اهتمامًا خاصًا قبل فوات الأوان.
وهذا نداء خاص جدًا- نختم به المقال- موجه إلى وزارة التراث والسياحة لوضع استراتيجية واضحة من أجل الحفاظ على التراث العماني غير المادي بكل مفرداته وتفاصيله، على أن تتضمن هذه الاستراتيجية خطة قريبة المدى لمسح المناطق والقرى التي يمر بها مشروع طريق الباطنة الساحلي- بأسرع وقت ممكن- لتوثيق كل ما يتعلق بالتراث البحري غير المادي لحفظه من الاندثار والضياع قبل فوات الأوان، أسوةً بما تم مراعاته بالعناية بالآثار المادية في نفس النطاق الجغرافي.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أثر البيئة الاجتماعية للاحتلال على حرب الإبادة على غزة.. إصدار جديد
أصدر "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات" في العاصمة اللبنانية بيروت ورقة علمية بعنوان: "البيئة الاجتماعية الإسرائيلية لحرب الإبادة على قطاع غزة"، وهي من إعداد د. إبراهيم عبد الكريم، الباحث الفلسطيني المتخصص بالشؤون الإسرائيلية وقضية فلسطين.
وتحاول الدراسة تكوين مقاربة توثيقية تحليلية، لمجمل ما يتعلق بخصائص المجتمع الإسرائيلي وتوجهاته وحراكاته الاجتماعية والدينية والدعائية، وسواها، حيث توفّر تلك البيئة العوامل والظروف اللازمة للقدرات الذاتية التي توظَّف في هذه الحرب، بالتكامل مع القدرات التحالفية الخارجية، الأمريكية خصوصاً والغربية بوجه عام.
الورقة ترى أنَّ الحرب التي يشنها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة تندرج في عداد الإفرازات المتتالية للمجتمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وتوقفت الورقة عند مكوّنات تلك البيئة، البشرية والمؤسساتية والتفاعلية، وأنشطتها السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وسواها، باعتبارها المحدّدات الرئيسية لعلاقات القوى في المحيط الإسرائيلي، الذي يُعدّ الدفيئة المناسبة لحرب الإبادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين وموطنهم، تحت إجماع ما يسمى "الدفاع عن النفس".
وتوقّفت الدراسة عند دور التنشئة العنفية للصهاينة في تشكيل هذه البيئة، حيث شكَّلت منطلقات العنف الصهيوني تراكمات جرى فيها تجريد اليهودي من إنسانيته، بعزله عن سائر البشر الأسوياء، ورأى الباحث أنه كان من البديهي نشوء آلية وخطاب كي تستقيم التنشئة العنفية الإسرائيلية مع متطلبات المشروع الصهيوني، حيث اعتمدت تلك الآليّة منهجية محددة تقوم على شيطنة الفلسطينيين، وعلى النفي الصهيوني لوجود هوية وكيانية عربية موحدة للفلسطينيين، وعلى التعاطي معهم كأفراد باستعلاء وتمييز عنصري وضغينة، ووصمهم بأقذع النعوت، حيث حفل الخطاب الصهيوني عنهم بكمّ ضخم من الأضاليل والصور النمطية السلبية، التي انطوت على أكاذيب ودعاوى وتشويهات متعمَّدة للحقائق، لعل من أبرزها: الغـائبون، والمتخـلفـون، والأغيار (الجــوييم)، والأعداء الأزليون لليهود، وغــزاة الأرض، والهـامشيون، والطــامعون.
كما اعتبر الباحث العهد القديم "التناخ" أحد الروافد الرئيسية للتنشئة العنفية الإسرائيلية، إذ يتصدر قائمة المراجع الرئيسية في تنشئة اليهود وإدارة حياتهم، على اختلاف اتجاهاتهم الدينية والتقليدية والإصلاحية، حتى التيارات العلمانية تجد نفسها قسراً في "الدائرة التناخية"، عبر طرق شتى، في المدارس والإعلام والأنشطة الاجتماعية، وسواها. ورأى الباحث أنه لا يمكن القفز فوق ما ورد بشأن موضوعات الإبادة والقتل، إذ تعج الأسفار، اعتباراً من السفر الثاني، بالنصوص التي تتضمن أوامر وأخباراً خاصة بهذا الشأن، وفق دوافع شتى؛ تلبية لدعوات "الرب"، أو سرديات لروايات عن الحروب.
متابعة القتل المنهجي الإسرائيلي في قطاع غزة خصوصاً، وللفلسطينيين عموماً، ينبغي أن ترفد طبقات الذاكرة الفلسطينية بمحفزات إضافية، لمواصلة الصمود والمقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني، وأن تسهم في تزويد العدالة الدولية والرأي العام العالمي بالحقائق التي تُسقط الذرائع الواهية والادّعاءات والافتراءات الإسرائيلية.كما لفتت الدراسة الانتباه إلى فتاوى الحاخامات كإحدى مكونات البيئة الاجتماعية الإسرائيلية الحالية، باعتبارها تحظى بمكانة بارزة في التعبير عن حدّين متلازمين ضمن معادلة الإبادة الجماعية، أحدهما مجيء هذه الفتاوى كنتيجة مصاحبة لمُخرجات التنشئة العنفية في المجتمع الإسرائيلي، والآخر إسهام تلك الفتاوى في تأجيج لهيب العنصرية والفاشية والقتل الموجهة ضد الفلسطينيين.
وأشارت الدراسة أيضاً إلى دور الوسائل الإعلامية والدعائية في الميادين الحكومية والعامة، حيث عملت "منظومة الهسبراه" (الدعاية) الإسرائيلية الرسمية كأداة حربية تضليلية مضادة للرواية الفلسطينية والعربية، لتسويق المزاعم الإسرائيلية.
وأشارت الورقة أيضاً إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والناطقين الرسميين باسم الجيش والحكومة والأجهزة المختلفة والتي شكَّلت مادة دعائية مهمة وخطيرة وذات وقع خاص في الخطاب الدعائي، حيال الداخل والخارج، على نحو قامت فيه هذه التصريحات بدور رديف للعمليات العسكرية العدوانية، حيث اتّصف الخطاب بالتركيز على مفردات وصور موجَّهة للمستوى الغريزي العميق لدى المتلقي، باستخدام مصطلحات مثل: "الحرب على البيت"، "حرب من أجل ضمان وجودنا"، "التهديد الوجودي لإسرائيل"، "حرب اللاخيار"، "حرب لا مفر منها فرضتها حماس". وتضمن هذا الخطاب بهتاناً يهين الفلسطينيين: "قتلة"، "إرهابيين"، "مخربين"، "مجرمين"، "دواعش"، "متوحشين"، "حيوانات بشرية"، "عدو خسيس"،...إلخ.
وخلص الباحث، استناداً لقاعدة تراكمات دور المشروع الصهيوني ومفرزاته الاحتلالية في فلسطين بتوليد الصراع، كحتمية له، بأن الفلسطينيين موجودون وسط ممر إجباري في هذا الصراع. وأشار إلى أنه على الرغم من اختلال ميزان القوى المادي والعسكري لصالح "إسرائيل"، إلا أن الاستسلام الفلسطيني ليس مطروحاً كخيار، لأسباب ذاتية وموضوعية، تاريخية وجارية، وأن ما يمكن أن ينجم عن هذا الاختلال، في ظلّ تواطؤ أطراف عدة، هو نشوء حلّ تلفيقي يلتفّ على صراع الوجود، ويدفع القضية الفلسطينية إلى محطات لا تقل إيلاماً وتعقيداً عما هو قائم حالياً.
وأكدت الورقة على أن متابعة القتل المنهجي الإسرائيلي في قطاع غزة خصوصاً، وللفلسطينيين عموماً، ينبغي أن ترفد طبقات الذاكرة الفلسطينية بمحفزات إضافية، لمواصلة الصمود والمقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني، وأن تسهم في تزويد العدالة الدولية والرأي العام العالمي بالحقائق التي تُسقط الذرائع الواهية والادّعاءات والافتراءات الإسرائيلية.