(رحلة عبدالخالق إلى أمريكا وبوسطن وهارفارد وغيرها من مدن أمريكا فى هذا الفصل الدراسى، كانت فى عمق قرارها مجبولة بإنسانيات وذاتيات وعلائق رسمت فى ما بيننا القرار الذى انتهى به هذا النص).
بهذه الكلمات الدالة تعبر الدكتورة ريما الصبان عن إحساسها بتجربة زوجها الأكاديمى الإماراتى المعروف الدكتور عبدالخالق عبدالله، والتى دونها فى كتاب صدر قبل أيام بعنوان (رحلتى إلى هارفارد.
الحق أن هذا الكتاب الجميل يندرج تحت باب (أدب الرحلات)، هذا الأدب الذى حرمتنا التطورات التكنولوجية المتسارعة المذهلة من التمتع به والاستزادة من فنونه وجمالياته. أما الدكتور عبدالخالق فكتب فى تقديمه لرحلته الهارفاردية كما يسميها أن: (تجربة التدريس والبحث فى هارفارد ليست كأى تجربة أكاديمية عادية يمكن أن تمر مرور الكرام على أى أكاديمى وأستاذ جامعى، ولم تكن الإقامة الممتدة فى مدينة بوسطن التى تفتخر بأنها عاصمة التعليم الجامعى فى أمريكا، وتسوق نفسها على أنها عاصمة الاختراعات والابتكارات فى العالم، إقامة عابرة، خاصة إن كانت الإقامة خلال فصل الخريف، أجمل فصول السنة فى ربوع شمال أمريكا).
أجل... تلقى الدكتور عبدالخالق فى عام 1922 دعوة من جامعة هارفارد متمثلة فى منحة تقديرية وتشريفية هى منحة كبير الزملاء Senior Fellow، وبالفعل استجاب الرجل للدعوة وغادر دبى إلى أمريكا مدججًا بالعلم والخيال والهمة والرغبة فى البحث والاكتشاف.
اللافت أن الدكتور عبدالخالق كانت له صبوات مع جامعة هارفارد فى الأيام الخوالى، وبالتحديد قبل 45 عامًا، حيث كتب: (كانت تلك زيارة طالب مجتهد حديث العهد بالقراءة والكتابة)، أما الآن، فقد عاد (إلى جمعة هارفارد أستاذًا جامعيًا وأكاديميًا إماراتيًا معززا مكرمًا).
الكتاب مكون من 390 صفحة من القطع المتوسط وصادر عن دار كًتّاب للنشر بدبى، وهو ينقسم إلى مقدمة وتمهيد وأربعة فصول. المقدمة كتبتها الأكاديمية الدكتورة ريما الصبان رفيقة رحلة الدكتور عبدالخالق فى العلم والحياة، وقد كتبتها بشغف الأستاذة وإيمان الزوجة وقناعة الصديقة، فجاءت قطعة من النثر الجميل المحتشد بالآراء والأفكار والخيالات والآمال المشروعة.
أما الفصول الأربعة، فقد انقسم كل واحد منها إلى مجموعة من الفقرات الصغيرة المزدانة بعنوان محدد، الأمر الذى جعل قراءة الكتاب يسيرة شائقة، تغرى بالمواصلة.
المدهش أن الدكتور عبدالخالق يقر بأن (كتاب رفاعة الطهطاوى هو النموذج الذى يقتدى به كتاب الرحلة الهارفاردية)، على الرغم من أن كتاب الطهطاوى المعنون باسم (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز)، قد نشر قبل نحو مائتى عام، ما يعنى أن كتاب الطهطاوى الذى صدر فى القرن التاسع عشر مازال قادرًا على إلهام مبدعى القرن الحادى والعشرين.
فى ختام الكتاب يعلن المؤلف بحسم: (أن الحلم الأمريكى مازال حيًا يرزق ويراود الملايين من البشر)، ويضيف: (من الغباء الاستهانة بقدرة أمريكا على البقاء كالدولة الأولى فى العالم).
هذا كتاب بالغ الإمتاع يثير العقل ويمتع الوجدان، وقد صاغه الدكتور عبدالخالق بلغة عذبة مشرقة لا ثرثرة فيها ولا اضطراب.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ناصر عراق الأدب أدب الرحلات الكتاب الجميل التطورات التكنولوجية الدکتور عبدالخالق
إقرأ أيضاً:
هل ترتفع الفطرة لتكون مسلكا للكشف عن مقاصد الشريعة؟ قراءة في كتاب
الكتاب: الفطرة وعلاقتها بأصول التشريع الإسلامي دراسة تأصيلية تطبيقيةالكاتبة: د. نجية عابد
الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي
الطبعة الأولى: 2024
ثمة مشكلة بحثية يطرحها مصطلح الفطرة تتعلق ابتداء بوصف حالها وطبيعتها، ثم علاقتها بالتشريع، فقد درج القرآن على التعليق على أحكامه وحدوده بأنها من فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما درج مفكرو الإسلام على الحديث عن شريعة الإسلام بكونها تستجيب للفطرة المركوزة داخل النفس الإنسانية، وتنسجم مع نواميس الكون (سيد قطب)، فذهب الطاهر ابن عاشور في كتابه "أصول النظام الاجتماعي" إلى أن المقصود بالفطرة الهيئة الأصلية التي خلق عليها الإنسان قبل أن يتلبس بالتعاليم الباطلة والعوائد السيئة، وفسر قوله تعالى:" فطرة الله التي فطر الناس عليها" في تفسيره "التحرير والتنوير" بقوله: "أن الله خلق الناس قابلين لأحكام هذا الدين، وجعل تعاليمه مناسبة لخلقتهم غير مجافية لها، غير نائين عنه ولا منكرين له مثل إثبات الوحدانية، لله لأن التوحيد هو الذي يساوق العقل والنظر الصحيح حتى لو ترك الإنسان وتفكيره ولم يلقَّن اعتقاداً ضالاً لاهتدى إلى التوحيد بفطرته".
لا يختلف تفسير الطاهر ابن عاشور لمفهوم الفطرة في شيء عما ذكره المفسر الأندلسي ابن عطية في المحرر الوجيز، حين قال بأن الفطرة هي: "الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي مُعِدَّة ومُهَيِّئَة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه" لكن الإشكال الذي يثار في الدراسات الفلسفية أو حتى في الدراسات الأصولية الحديثة التي تحاول اليوم من خلال مطابقة شريعة الله لفطرة الله في خلق الإنسان، أن تمايز بين الاجتهاد الراشد والاجتهاد الذي يتجافى مع مقاصد الشريعة، وتجعل من الفطرة ومقوماتها معيارا للحكم والتقييم.
انطلقت الباحثة من فرضيات صعبة الاختبار، خاصة لما افترضت أن الفطرة تجمع بين كونها دليلا من أدلة الأحكام الشرعية، ومقصدا شرعيا، ومسلكا للكشف عن المقاصد، إذ يقود إثبات هذه الفرضية إعادة تأسيس علم الأصول والمقاصد أو على الأقل تجديد مباحث الحكم الشرعي وأدلة الأصول، ومقاصد الشريعة وطرق الكشف عنها.فإذا كان من الملائم وصف الشريعة بكونها منسجمة مع الفطرة الإنسانية، كما أخبر الله بذلك، فإن هناك صعوبة بحثية وعلمية كبيرة في تسديد الاجتهاد البشري الذي ينطلق من أصول التشريع، بمعيار الفطرة، لأن شرط المعايير المسددة، أن تكون واضحة ومنضبطة ومطردة وقطعية، وهو ما يطرح السؤال حول مفهوم الفطرة الإنسانية، وكيف يمكن أن نحكم على هذا السلوك أو الانفعال أو التقييم بأنه يصدر من داعي الفطرة أو مما يصادمها.
تحاول الباحثة د. نجية عابد أن تقارب هذا الإشكال، ومعه إشكالات أخرى مرتبطة بالفطرة والتشريع الإسلامي، في كتابها:" الفطرة وعلاقتها بأصول التشريع الإسلامي دراسة تأصيلية" الذي أصدره المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وتضع في مقدمتها جملة أهداف سعت إلى تحقيقها من خلال هذا الجهد البحثي، وبالأخص هدف التنظير لمفهوم الفطرة وتأصليه، وبيان موقعه في البناء التشريعي، وكيفية ارتباطه بأصول التشريع الإسلامي، ومدى حضوره في منظومة المقاصد الشرعية، وانعكاسه على الاجتهاد الفقهي الفروعي، إذ بسطت في بحثها جملة إشكالات بحثية تدور في مجملها حول موضعة الفطرة ضمن البناء الأصولي والتشريعي، وفهم دور الفطرة في العملية الاجتهادية، والأثر التي يترتب عن علاقة الفطرة بأصول التشريع الإسلامي.
وقد انطلقت الباحثة من فرضيات صعبة الاختبار، خاصة لما افترضت أن الفطرة تجمع بين كونها دليلا من أدلة الأحكام الشرعية، ومقصدا شرعيا، ومسلكا للكشف عن المقاصد، إذ يقود إثبات هذه الفرضية إعادة تأسيس علم الأصول والمقاصد أو على الأقل تجديد مباحث الحكم الشرعي وأدلة الأصول، ومقاصد الشريعة وطرق الكشف عنها.
ومع أن هذه صاحب هذه المراجعة يحتفظ بنقد عميق لهذه الأطروحة ولمنجيتها ومخرجاتها، إلا أن الجهد المعرفي النوعي الذي قامت به الباحثة، يستدعي ابتداء التعريف به، وتقديمه للقارئ بشكل مستوعب، يمكن من توفير أرضية معرفية، تساعد في مرحلة لاحقة على الانتقال من جهد التعريف إلى التفاعل النقدي مع خلاصات البحث.
في تأصيل مفهوم الفطرة
قسمت المؤلفة بحثها إلى بابين اثنين، وجعلت لكل باب ثلاثة فصول، فخصصت الأول، لتأصيل مفهوم الفطرة وعلاقتها بالحكم الشرعي ومصادره، وتناولت في الثاني علاقة الفطرة بمقاصد الشريعة والاجتهاد وتطبيقات على أثر الفطرة في التشريع الإسلامي، وضمنت خاتمة البحث أهم الخلاصات التي انتهت إليها.
في الفصل المفاهيمي المرتبط بتتبع مفهوم الفطرة في المعجم واللغوي والمفهوم الدلالي عند أهل الاصطلاح، بذلت الباحثة مجهودا كبيرا لإيجاد الرابط بين الدالة اللغوية (الخلق، الإيجاد، الإبداع، الخلقة، القابلية، التهيؤ لمعرفة الحق) وبين المفهوم الدلالي الذي اختاره أهل الاصطلاح، فاختارت أن تحفر في تاريخية المفهوم، وكيف انتقل من الإجماع إلى الاختلاف، وكيف تباينت آراء العلماء حول مفهوم الفطرة تباينا عظيما، فذكرت آراء علماء الإسلام المتقدمين، ثم آراء علماء الإسلام المعاصرين، مركزة بشكل كبير على العلامة الطاهر ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير"، وفي كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، ووجدت تقاربا كبيرا فيما بينها، إذ تميل معظمها إلى تعريف الفطرة بكونها هيئة أو نظام داخل الإنسان، يجعله قابلا لأحكام الإسلام، قادرا على التمييز بين الحق والباطل. ثم عرجت بعد ذلك إلى مفهوم الفطرة في بعض الحقول المعرفية (في الفلسفة وعلم النفس والقانون فضلا عن كتب التعريفات والمعاجم والموسوعات)، فخلصت من ذلك إلى أن أصح ما قيل فيها مجتمعة أن الفطرة عند علماء المسلمين قديما وحديثا وعند الفلاسفة وفي المعاجم والموسوعات وكتب التعريفات هي الهيئة الأولى والاستعداد والقابلية للتمييز بين الحق والباطل، وهكذا اختارت الباحثة تبعا لهذا الحفريات المفاهيمية، تعريفا إجرائيا اعتبرت فيه أن الفطرة هي "النظام التكويني الداخلي في كل إنسان الذي يجعله فابلا للحق وما يقتضيه وقادرا على التمييز".
انتقلت الباحثة إلى التأصيل المفاهيمي، للفطرة من خلال القرآن والسنة، فانطلقت أولا من بحث لفظة الفطرة واشتقاقاتها ومرادفاتها (الصبغة، العهد، التقويم) في القرآن الكريم، واستقرأت آراء المفسرين في مفهوم الفطرة، وخلصت إلى نفس المعنى الدلالي الذي اختارته في الدلالة الاصطلاحية، ثم عرجت بعد ذلك لتتبع لفظة المفهوم، بنفس المنهجية في السنة النبوية، فاستقصت الأحاديث الذي ذكرت الفطرة بلفظها أو اشتقاقاتها أو مرادفاتها، فاستقرأت معنى الفطرة في كل حديث على حدة، ليتحصل لها من مجموع هذه الأحاديث دلالة الفطرة على معنى الدين، والإسلام والقابلية للإسلام، الهيئة الأصلية قبل الانحراف، الخلقة، العهد، الجبلة والقابلية.
هذا، وقد أدرجت الباحثة في سياق بحث مفهوم الفطرة في السنة، علاقة الفطرة بجملة من المصطلحات القريبة إليها (الخلقة، والجبلة، والضمير، والعقل، والوازع وغيرها)، وحاولت أن تقف عند الفروق الدقيقة بين هذه الثنائيات، وأنها في المجمل تمثل جوانب من الفطرة ولا تمثلها في كليتها، وحاولت أيضا أن تقف على خصائص الفطرة (الربانية، الشمول والعموم، الثبات، الاطراد، السننية).
ويمكن القول، بأن الفصل الثاني من الباب الأول، هو بداية البحث، أو بالأحرى بداية اختبار الفرضيات التي انطلقت منها الباحثة، إذ كان مدار هذا الفصل هو إثبات العلاقة بين الفطرة والحكم الشرعي. فبعد بيان مفهوم الحكم الشرعي وأقسامه (التكليفي والوضعي)، انتقلت المؤلفة إلى تثبيت فرضيتها بكون الفطرة هي مدار الأحكام الشرعية، من خلال إثبات عدم التضاد بين الأمر التشريعي (الحكم الشرعي) والأمر التكويني (الفطرة)، فاختارت في مسلك الاستدلال على هذه الفرضية أن تجعل أقسام الحكم التكليفي مرتبطة بمدى موافقة الفطرة ومخالفة المأمور أو المنهي عنه ورُتَب ذلك، فما كان واجبا كانت الفطرة مستجيبة له بحتم وإلزام، وما كان حراما كانت الفطرة رافضة له بحتم وإلزام، وهكذا تتفاوت الرتب بحسب درجة الأمر بين الوجوب والندب، ودرجة النهي بين التحريم والكراهة، وبحسب التخيير، فرتبت الباحثة على ذلك نتيجة استقرأتها من نظرة ابن عاشور للعلاقة بين الفطرة والحكم الشرعي، وهي تنوع رتب الحكم الشرعي بين الأمر والنهي والتخيير بحسب علاقته بالفطرة، ودرجة الحفاظ على سلامتها أو الإخلال بها وهدمها.
وعلى المنوال نفسه، تعاملت الباحثة في موضوع علاقة الفطرة بالحكم الوضعي، بكل أقسامه (السبب، الشرط، المانع، الرخصة، العزيمة، الصحة، الفساد، البطلان)، فاعتبرت أن للفطرة علاقة متينة بتقسيمات الحكم الوضعي، وإن اختلفت صور ذلك من قسم إلى آخر.
وهكذا انتهت الباحثة في الباب الأول، إلى أن الأحكام الشرعية توافق الفطرة وتلازمها، وأن التكليف يدور على مقتضيات الفطرة، فلا تكليف بما يطيقه التكوين الداخلي للإنسان، والعزائم تكون في الأحوال العامة، والرخص تكون في الأحوال الطارئة، وأن الفطرة ترتبط بجميع أركان الحكم الشرعي (الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم فيه، والمحكوم عليه).
علاقة الفطرة بمصادر التشريع الإسلامي
حاولت الباحثة في الفصل الثالث من الباب الأول، أن تتبع علاقة الفطرة بمصدري التشريع القرآن والسنة (المصادر الأصلية)، ثم في مصادر التشريع المتفق حولها، ومصادر التشريع المختلف حولها. فذكرت جملة من الحجج على وجه ارتباط الفطرة بالتشريع القرآني (موافقة التشريع القرآني للفطرة، التدرج في الأحكام) وذكرت جملة من النماذج التشريعية في القرآن التي تؤكد على هذا التوافق (تشريع الزواج بمقاصده، المحمرات من النساء، حفظ الأبناء ورعاية الآباء، إباحة التعدد للرجال، حب المال والملكية، المواريث)، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الاستدلال على علاقة التشريع في السنة بالفطرة، ومدى توافقه معها، فاكتفت في هذه الفقرة بذكر الأحاديث الدالة على وجود قوة فطرية في الإنسان، والأحاديث التي تراعي فيها السنة النبوية مقتضيات الفطرة الإنسانية.
أما في مبحث الإجماع، فمع اعتراف الباحثة بعدم وضوح العلاقة المباشرة بينه وبين الفطرة، إلا أنها فضلت أن تؤصل لهذه العلاقة من خلال مقدمة الإجماع (الشورى)، وأن الفطرة مستند الإجماع، وعلاقة الفطرة بالأحكام المجتمع عليها، وحاولت أن تقوي تأصيلها بذكر نماذج من مراعاة الفطرة في الإجماع (الإجماع على عدم التكليف بما لا يطاق، الإجماع على أنه لا يصح التكليف بالمستحيل، الإجماع على أن من شرط التكليف العقل والبلوغ، الإجماع على استحالة الجمع بين الحظر والوجوب في فعل واحد من جهة واحدة...).
أما في علاقة الفطرة بالقياس، فاختارت الباحثة أن تؤصل لهذه العلاقة من خلال اعتبار القياس آلية فطرية مركوزة في الفطرة الإنسانية، وأيضا من خلال إثبات علاقة الفطرة بالتعليل، ومن خلال دعوات بعض مفكري الإسلام المعاصرين إلى إعمال ما يسمى بالقياس الواسع، أو ما يسمونه بالقياس الفطري (نموذج حسن الترابي) أي القياس العملي، غير الخاضع للأطر النظرية التي فرعها الأصوليون خاصة شرائط العلة ومسالكها مما لا يتيسر معها إنتاج نظر فقهي عملي متجدد.
وفي علاقة الفطرة بالأدلة المختلف فيها، حاولت الباحثة أن تؤصل للعلاقة بين الفطرة والمصلحة المرسلة من خلال بحث تعريف المصلحة وأقسامها وشروطها، فحسب الباحثة، فإن جلب المصالح مركوزة في الفطرة الإنسانية كما هو دفعها، وأن الله فطر الخلق على معرفة أفضل المصالح ليحصلها الخلق، وعلى معرفة أعظم المفاسد ليتركوها، وأن الإنسان فطر على معرفة هذه المصالح والمفاسد.
ولم تجد الباحثة عناء كبيرا في تأصيل العلاقة بين الفطرة والعرف، بحكم أن مفهوم العرف يتحدد بما يتلقاه الناس بالقبول مما تقبله الفطرة والعقل بالقبول، وأنه تبعا لذلك أمرت الشريعة بالتزام العرف، وأناطت تغير الأحكام بتغيره.
وقد التقطت الباحثة من تعريف الشوكاني للاستحسان ما جعلته مستندا لتأصيل علاقة الفطرة بهذا الأصل المختلف حوله، إذ العدول من القياس الجلي إلى القياس الجلي، حسب الإمام الشوكاني، يتم بمقتضى فطرة المجتهد وانقداح الدليل في ذهنه.
لم تجد الباحثة عناء كبيرا في تأصيل العلاقة بين الفطرة والعرف، بحكم أن مفهوم العرف يتحدد بما يتلقاه الناس بالقبول مما تقبله الفطرة والعقل بالقبول، وأنه تبعا لذلك أمرت الشريعة بالتزام العرف، وأناطت تغير الأحكام بتغيره.كما أصلت الباحثة لعلاقة الفطرة بأصل الاستصحاب، معتبرة إياه طريقا فطريا بديهيا في الاستدلال، ذلك أن الحكم باستمرار الحال السابقة ما لم يثبت ما يستدعي تغييره هو الحكم الذي تحكم به الفطرة، ولذلك، اقتضت أحكام الفطرة أن الأشياء على براءتها الأصلية (الإباحة) حتى يأتي حكم ينقلها من هذا الوضع لوضع آخر.
علاقة الفطرة بالمقاصد والاجتهاد الفقهي
تناولت الباحثة في الباب الثاني من كتابها علاقة الفطرة بمقاصد الشريعة والاجتهاد وتطبيقاتها، فتتبع بشكل دقيق مواقع الفطرة في نظرية المقاصد عند الشاطبي، وسلكت نفس المسلك الذي اتخذته في بحثها لعلاقة الفطرة بالحكم الشرعي، فأجرت علاقة الفطرة بالمقاصد بحسب تعريفها، وأقسامها (الضرورية والحاجية والتحسينية)، واعتبرت أن إقامة المقاصد أو ان خرامها، مرتبط أصلا بالحفاظ على الفطرة أو الإخلال بها، ثم حاولت أن تظهر علاقة الفطرة بمسالك الكشف عن المقاصد، وذلك في سياق تأريخي (بحثت هذه العلاقة في مسالك العلماء الذين تحدثوا عن المقاصد ومسالك الكشف عنها) فبدأت بعلماء المقاصد المتقدمين (الجويني، العز بن عبد السلام، ابن تيمية، ابن القيم، الشاطبي) ثم علماء المقاصد المعاصرين (الطاهر ابن عاشور، علال الفاسي، عبد السلام الرافعي، جمال الدين عطية).
وعلى الرغم من أن عددا من هؤلاء العلماء، سواء المتقدمين أو المعاصرين أشاروا بوجه ما إلى العلاقة بين الفطرة والمقاصد، وعلى الرغم من تفرد الطاهر ابن عاشور في التأصيل لمفهوم الفطرة وبيان علاقة المقاصد بها، فإن القليل منهم من ذهب إلى اعتبار الفطرة مسلكا مستقلا من مسالك الكشف عن المقاصد (جمال الدين عطية، نعمان جغيم، محمد نجاة الله صديقي) مما رجح لديها أن الإسهامات السابقة ساهمت في تحقيق قدر من النضج والتراكم الذي سمح بالحديث عن استقلال الفطرة باعتبارها مسلكا من مسالك الكشف عن المقاصد، فحاولت بذلك أن تقوي الموقف بالاستناد إلى المنهج الذي اعتمد في معلمة القواعد الشرعية، والذي استنتجت منه اعتبار الفطرة مسلكا في مسالك الكشف عن المقاصد.
في إثبات العلاقة بين الفطرة والاجتهاد، كان مدار حجة الباحثة على ما ذكره ابن القيم الجوزية من وجوب الانتباه إلى أصل الفطرة في الاجتهاد، خاصة عند التعارض والتجريح، وضرورة استحضار هذا الأصل في فقه المجتهدين.وقد اتسم الباب الثاني بشدة الحجاج على دوران الفطرة بين المقصد الشرعي، وبين اعتبارها مسلكا من مسالك الكشف عن المقاصد، فاختارت الباحثة أن في خلاصتها أن تجعل من الفطرة الاثنين، إضافة إلى اعتبارها دليلا من أدلة الأحكام الشرعية، فاستندت في الغالب إلى تأصيلات الطاهر ابن عاشور، وحاولت أن تتبع نظرية المقاصد بتقاسيمها المختلفة، وتموضع الفطرة في كل قسم على حدة، وتؤصل لعلاقتها به (تقسيم المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية) وتقسيم الضروريات الخمس إلى (حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل)، وتقسيم الحفاظ إلى (وجودي وعدمي) وتقسيم المقاصد إلى عامة وخاصة وجزئية، وتقسيم المقاصد إلى حقيقة ووهمية، وعلاقة الفطرة بمقاصد الشارع، ومقاصد المكلف، لتخلص من ذلك كله إلى انبناء المقاصد على أصل الفطرة، إذ استعانت في إثبات هذه الخلاصة على جهود الطاهر ابن عاشور في مقصدية اليسر والسماحة والحرية والعدل والمساواة، وانطلقت منها لتؤكد بأن هذه المقاصد كلها تتأسس على أصل الفطرة.
وفي إثبات العلاقة بين الفطرة والاجتهاد، كان مدار حجة الباحثة على ما ذكره ابن القيم الجوزية من وجوب الانتباه إلى أصل الفطرة في الاجتهاد، خاصة عند التعارض والتجريح، وضرورة استحضار هذا الأصل في فقه المجتهدين. كما بذلت الباحثة جهدا في إثبات العلاقة بين القواعد الفقهية العامة والخاصة وبين أصل الفطرة، فذكرت جملة من القواعد الفقهية العامة التي تظهر علاقة الفطرة بها (الأمور بمقاصدها، المشقة تجلب التيسير، الضرر يزال، اليقين لا يزول بالشك، العادة محكمة)، ثم عرجت على ذكر بعض القواعد الفقهية الخاصة مثل(الوازع الطبعي مغن عن الإيجاب الشرعي،) وكذا القواعد المقاصدية محاولة التأصيل لعلاقتها بالفطرة، مشيرة في ذلك إلى القواعد المقاصدية التالية (الشريعة مبنية على الفطرة، مقاصد الشريعة ومصالحها تعرف بالفطرة، الفطرة مسلك للموازنة بين المصالح والمفاسد).
هذا وقد ختمت بحثها بفصل ثالث، ضمنته تطبيقات على أثر الفطرة في التشريع الإسلامي، فعرجت على أحكام العبادات، فذكرت آثار الفطرة على أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والصيام، ثم انتقلت إلى آثار الفطرة على احكام الأسرة والمعاملات المالية، وعلى أحكام الجنايات (القصاص، الحدود)، ثم آثارها على أحكام النوازل المعاصرة.
خاتمة:
وهكذا انتهت الباحثة في خاتمة كتابها إلى خلاصة مركزية أكدت فيها فرضياتها الرئيسة، من أن الفطرة هي دليل لإدراك الأحكام الشرعية، وضابط مهم من ضوابط المصلحة، ومقصد عام وخاص من مقاصد الشريعة ومسلك من مسالك الكشف عن المقاصد، ومبدأ أساسي لتحديد القيمة المقاصدية، وشرعية أي مقصد من المقاصد، وأنها وسيلة من وسائل الترجيح عند التعارض بعد استنفاذ المرجحات، وأنها حجر الزاوية في العملية الاجتهادية فهما واستنباطا وتنزيلا.