الحل.. دولة يمنية قوية
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
د. عبدالله باحجاج
هناك مثل مشهور ومُتداول جدًا، يقول "إذا كان المُتكلِّم مجنون.. فالمُستمع عاقل" ترك لنا الأجداد ميراثاً من الحِكم والعِبر لفهم ما يجري من حول الفرد والجماعة- أي من حولنا- من أحداث للحكم عليها منذ الوهلة الأولى؛ فالاحتكام للعقل دائمًا ما يُرشد المرء للحكم الأولي أو على الأقل يجعل كلام المتحدث في موازين العقلانية للمُستمع.
هذا ما ينطبق على ما يُتداول عن مزاعم ضرب سلطات بلادنا لسبعة يمنيين المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن يبدو أنَّ الجنون يُلازم المتكلم في حالات كثيرة، فمن شاهد فيديو الضرب المزعوم الذي لا يُنسب لهوية أي فاعل، وما أعقبه من فيديوهين أحدهما لشاب يرتدي لباسًا عسكريًا، والآخر لمجموعة مُسلحين من سبعة أشخاص تقريبًا يتطاولون على بلادنا ببذاءات ومزاعم تفتقر لأبسط بديهيات الصدقية والمصداقية.
وكل من ركَّز في مضامين هذه المقاطع المصوّرة، سيكتشف هذا الافتقار فورًا، وسيحكم بوجود خلفيات سياسية وراءها، فأحاديثهم كلها مُتوترة ومُرتبكة ومُنفعلة.. ويكفي بها من استدلالات على وجود الخلفيات.. ورغم ذلك انتشرت، وهذا شيء طبيعي في ظل ثورة التكنولوجيا وعالم الذباب الإلكتروني، خاصة إذا ما كانت وراءها دوافع سياسية، وأي مستمع عاقل سيطرح بعد استماعه للمزاعم التساؤلين التاليين:
1- لماذا تُقدِم مؤسسة عسكرية عُمانية مُحترفة وقوية ومشهود لها بضبط حدودها المترامية الأطراف من كل الجهات رغم تعقيداتها الجغرافية والجيوسياسية على ضرب سبعة من الأشقاء اليمنيين، وهي بإمكانها أن تُحاكمهم أو تُرحلهم من حيث أتوا؟
2- لماذا تلجأ للضرب الآن؟ وتاريخها ناصع البياض في المُعاملات الإنسانية والقانونية لحالات التسلل والعبور تكاد تكون يومية ليس من قبل الأشقاء اليمنيين فحسب وإنما من دول مجاورة لها.
هذان تساؤلان ينبغي أن يخرجا من خاصية الاستماع العقلاني لتلكم المزاعم، أعرف بلادي حق المعرفة، فهي دولة مُسالمة، وتوظف قوتها الناعمة والخشنة لديمومة سلمها واستقرارها الداخلي، ومساعدة الأشقاء والأصدقاء على استتاب أمنهم واستقرارهم، لا تترك وراءها ما يضرب مسيرها الآمن مع الفرد أو الجماعة أو الدول، لكن يبدو أن هذا المسير يستهدف الآن إما بسبب أطماع فردية أو جماعات.. أو استرزاق أو بسبب موقفها الحيادي من قضايا الحروب الإقليمية والتكتلات.. كل ما أعلمه عن بلادي في تعاملاتها الجيوسياسية خاصة، وأنا من أبنائها القاطنين على حدودها الجنوبية المجاورة لليمن الشقيق، أنها تقف مع ديموغرافيتها أكثر من سياسييها، لن نُعدد صفحاتها البيضاء- حكومة وشعبًا- فهذا من واجبات الجار على جاره، والشقيق لشقيقه ليس مِنّة ولا إكرامية، وإشارتي إليها الآن تأتي في سياقات حديثي صبيحة هذا اليوم مع شقيق يمني يتعالج على حساب جمعية الأيادي البيضاء التي أُنشئت من قبل المجتمع في 1/11/2017 لإيواء ولعلاج المرضى الذين يأتون من اليمن الشقيق بسبب الحرب التي تدخل الآن عامها العاشر على التوالي. وقبل أسبوع أجريت عمليات زراعة أعضاء صناعية لولديه في مستشفى خولة، قالها لي حرفيًا لا يُمكن أن تفعلها (أي الفيديوهات المزعومة) دولة كسلطنة عُمان، وكررها ثلاث مرات "مستحيل مستحيل مستحيل".. ثم تساءل قائلًا، ولماذا تفعلها مسقط أصلًا؟ ومع من؟ أجاب سبعة يمنيين!!
أعلم عن بلادي أنها من أجل توقيع اتفاقية الحدود مع اليمن الشقيق في أكتوبر عام 1992 لم تتمسك بأراضٍ أو تُصِر عليها رغم حقوقها التاريخية والسيادية، ففلسفتها في ذلك أنَّه من أجل السلام والاستقرار بين الدول وشعوبها لابُد من تقديم التضحيات، والأرض سواء كانت عُمانية أو يمنية، فهي لن تخرج عن مساقات التعاون المشترك، وستحتوي الديموغرافيا العُمانية اليمينة المشتركة، ومن يكون هكذا فكره بمثل هذه التضحيات الكبيرة من أجل أن تعيش شعوب الشقيقة في أمن واستقرار، هل يلجأ إلى استعمال العنف ضد مواطنين؟
كل ما يُمكن قوله عن المزاعم أنها أحدث تقليعات المساس ببلدنا، أنها بدعة جديدة، ولن تكون الأخيرة، لكن ماهيتها تُشير إلى انتقال المساس إلى أعماق لم يُوفقوا فيها، فهي تقليعة لن يقبلها العقل، وكل عقل محايد سليم مرَّت عليه هذه المزاعم، سيتساءل لماذا أصلًا تلجأ مؤسسة عسكرية ضخمة لمثل هذه الأساليب؟ نُكرر على يقين أن مزاعم الضرب لن تكون آخر التقليعات ما دامت بلادي تتمسك بحيادها "نهجًا وتطبيقًا" ولن تخرج عن مساره؛ لأنه قد أصبح يعكس الشخصية العُمانية في تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وما يُقلق الغير في الحياد العُماني هو أنه حياد متفاعل وليس جامد، وهنا القلق الذي ينبغي أن يعلمه كل مُواطن.
الحياد المُتفاعل والذي تُطلق عليه الأدبيات الإعلامية العُمانية بـ"الإيجابي"، يأخذ بمعيار الملاءمة بين الدخول في التحالفات والتكتلات التي تخدم استقرار الكل، وبين الوقوف بعيدًا عنها دون مُعاداتها، وهذا ما تجلّى في رفضها الدخول في التحالف العسكري ضد اليمن، لكنها مع كل جهود إحلال السلام وعودة الاستقرار. ومثال آخر نُقدِّمُه ألا وهو رفضها مبادرة إسطنبول لحلف الناتو عام 2004، رغم أنها تشارك في بعض أنشطته كمراقب دون أن تلتزم أو تُلزَم بأجندات؛ فهي فيها تُمثِّل صوت العقل والحكمة، وهذه نموذجية للتطبيق المتفاعل، فحيادها لا يعزلها إقليميًا ولا عالميًا؛ بل يجعلها قوة دينامية يُحقق بها التوازن والاستقرار الذي تعم فوائده الكل.
ربما علينا أن نوجه خطابنا الآن إلى الأشقاء في الخليج العربي، ونقول لهم آن الأوان للانسحاب من اليمن، آن الأوان لأن يكون في اليمن دولة قوية تبسُط سيادتها الإدارية والأمنية والعسكرية على كامل ترابها.. آن للأشقاء في اليمن أن تكون لهم دولة تصنع التنمية في ظل استقرار مستدام، واستقرار اليمن هو من ديمومة وشمولية استقرار كل دول المنطقة؛ بل يظهر اليمن الآن من كبرى بوابات المستقبل الجديد للخليج في ظل سباق إقليمي وعالمي على إقامة نظام عالمي مُتعدد الأقطاب، وما تمَّ إنفاقه في اليمن على الحرب كفيلٌ بإعادة تنمية الدول الست مع اليمن، وما سيتم إنفاقه على تحقيق الأطماع الإقليمية في اليمن حريٌ به أن يُنفق على الأجندات الخليجية الجديدة التي تتضمنها رؤاها التنموية طويلة الأجل في كل دولة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الحل السعودي !
ترجمة: أحمد شافعي
على مدار العقد الماضي، وبخاصة منذ توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية في عام 2020، تفترض إسرائيل أن جيشها ومخابراتها وقوتها التكنولوجية قادرة على «استمالة» الحلفاء من دول الخليج العربي. وفي الشهور الأقرب، بات مسؤولون إسرائيليون يحسبون أن من شأن التصعيد أن يحول التوازن الإقليمي ليصب في صالحهم، وأن حربا أوسع بين إسرائيل وإيران ووكلائها قد ترغم دولا عربية، وبخاصة المملكة العربية السعودية، على الانضمام أخيرا وكليا إلى الإسرائيليين.
وذهبت أفكار القادة الإسرائيليين إلى أنه إذا ما أحاطت حرب بالشرق الأوسط فإن استجابات إيران ووكلائها لاستفزازات إسرائيل سوف تنال من التصالح الهش أصلا بين دول الخليج وإيران فلا تترك لها ـ وللمملكة العربية السعودية بصفة خاصة ـ من سبيل إلا الاعتماد على ضمانات أمنية من حليفة إسرائيل الأساسية أي الولايات المتحدة. وظن مسؤولون إسرائيليون أن معارضة القادة العرب للعمليات الإسرائيلية في غزة وأن جهودهم الدبلوماسية لدعم الفلسطينيين لم تكن في حقيقتها شاغلهم الأساسي وإنما مصالحهم الشخصية. ومن ثم فمن شأن تصعيد إسرائيل أن يؤكد أن إيران هي التهديد الأساسي لجيرانها العرب، فلا يترك ذلك لدول الخليج من خيار إلا التحالف بشكل أوثق مع إسرائيل. ولقد أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حسبته هذه علنا في خطبته بالأمم المتحدة في سبتمبر مشيرا إلى دول الخليج بوصفها «شركاء السلام العرب» لإسرائيل ووصف المملكة العربية السعودية بالحليف مع إسرائيل لمواجهة «مخططات إيران الشريرة».
لكن ثبت أن افتراضات إسرائيل خاطئة. فواقع الأمر أن حرب إسرائيل في غزة وفي المنطقة الأوسع تقرب المملكة العربية السعودية وإيران من إحداهما الأخرى. صحيح أن بعض العمليات الإسرائيلية قد استهدفت بعض أعداء المملكة العربية السعودية من أمثال الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، لكن احتمال وقوع حرب كاملة النطاق في الشرق الأوسط وسيطرة إسرائيل على المنطقة قد وضع المملكة العربية السعودية في وضع هجومي. فقد سبقت الرياض إلى تجديد التزامها بقضية الدولة الفلسطينية وسعت إلى أن تكون خياراتها الاستراتيجية مفتوحة، فانخرطت مع الولايات المتحدة من ناحية ومع إيران والصين من ناحية أخرى. ولا شك في أن تصعيد إسرائيل ضد إيران ووكلائها سوف يضغط على طهران فتكثف ـ خشية العزلة ـ محادثاتها الأمنية مع الرياض وربما تعرض على دول خليجية أخرى ضمانات أمنية أجرأ. وهذه الضمانات بالنسبة للمملكة العربية السعودية أهم من أي معلومات مخابراتية قد تعرضها إسرائيل في مواجهة هجمات إيرانية.
بالنسبة لواشنطن، قد يبدو التقارب السعودي مع إيران خبرا سيئا. ففي نهاية المطاف، قضى مسؤولون أمريكيون عدة سنين وهم يدفعون إسرائيل والمملكة العربية السعودية إلى تطبيع العلاقات. لكن يجدر بالولايات المتحدة أن ترحب بتحول الرياض. فلو أن بوسع المملكة العربية السعودية أن تقيم علاقات ناجحة مع كل من إيران وإسرائيل، فبوسعها أن تلعب دورا جديدا نافعا في تهدئة توترات الشرق الأوسط. وبوسعها أن تعمل وسيطا بين الأطراف المتنافسة بما قد ينهي المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الراهنة. فقد غيرت أحداث السنة الماضية الخطوط الحمراء القديمة، ومعايير الردع، وقواعد الاشتباك التقليدية بين الخصوم وباتت الرياض في وضع قوي فريد لاستقبال نظام إقليمي أفضل.
هوية خاطئة
قد تكون لاستعراض إسرائيل قوتها العسكرية أخيرا أهداف أساسية ثلاثة هي: إضعاف إيران ووكلائها، وإظهار قيمة التحالف مع إسرائيل لبلاد مجاورة أخرى، ودفع المملكة العربية السعودية على تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بإبراز اعتماد الرياض أمنيا على واشنطن. وكان مسؤولون إسرائيليون يرجون أن يضغط الأمن الإقليمي على المملكة العربية السعودية فتزداد اعتمادا على الضمانات الأمنية الأمريكية، وهي الضمانات التي تعد اعتبارا من الآن مشروطة بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل في نهاية المطاف. وقد بدا أن أحداث الربيع الماضي تدعم هذه الحسبة، ففيما أطلقت إيران الصواريخ والمسيرات على إسرائيل، تعاونت الأردن ودول خليجية أخرى مع الولايات المتحدة في اعتراضها، بما أعطى الانطباع بأن تعاونا عسكريا منسقا بين إسرائيل ودول خليجية قد بات أخيرا قريب المنال. وفي ذلك الوقت، بدا أن التصعيد ضد إيران قد أثمر نتائج لصالح إسرائيل. وبتوسيع الحرب إلى ما يتجاوز غزة، استفزت إسرائيل إيران إلى الرد المباشر، فدفع ذلك دولا خليجية إلى طلب مزيد من الحماية في ظل مظلة أمنية أمريكية.
برغم أن المملكة العربية السعودية تبذل جهودا منذ سنين لاستعادة علاقاتها بإيران، فمن ذلك اتفاقية مارس 2023 بوساطة الصين، ظل المسؤولون الإسرائيليون متشككين في جدية هذه الإشارات. إذ إن إيران في نهاية المطاف تدعم فاعلين غير دوليين يهددون المصالح السعودية. كما دأبت إيران على انتقاد المملكة العربية السعودية وغيرها من بلاد الخليج لعدم دعمها لقضية الدولة الفلسطينية. ومن المفارقات أن المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين كثيرا ما كانوا يشتركون في الانتقادات الإيرانية، مشككين في التزام المملكة العربية السعودية بالدولة الفلسطينية ومفترضين بصفة خاصة أن جيل القادة الخليجيين الأصغر سنا لا يتعاطفون كثيرا مع المعاناة الفلسطينية. وعلى مدار حرب العام الماضي، ربما تكون مجموعة منتقاة من أفعال دول الخليج قد لعبت دورا في هذا الافتراض. فقد بدا لكثيرين أن مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة، باحتفاظهما بعلاقاتهما الدبلوماسية مع إسرائيل، قد أظهرتا بالفعل أنهما تعليان أولوية الأمن الإقليمي على الدولة الفلسطينية، وبدا أيضا أن المملكة العربية السعودية بتفاوضها على معاهدة دفاعية مع الولايات المتحدة لم تغلق الباب دون التطبيع مع إسرائيل، بما يثبت الافتراض نفسه أيضا.
غير أن قراءة إسرائيل للمملكة العربية السعودية بصفة خاصة أساءت فهم استراتيجية البلد الكلية. فسعي المملكة إلى مصالحها الوطنية ودعمها لدولة فلسطينية مستقلة لم يتعارضا قط. إذ كان كلاهما جزءا من استراتيجية مجزأة بدأت باتفاقية دفاع أمريكية سعودية، يليها نقاش لدولة فلسطينية بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية. وبرغم أن أولوية المملكة العربية السعودية ظلت تتمثل في تجنيب أراضيها الصراع، يعتقد القادة السعوديون أن عليهم أن يقودوا المنطقة ويدعموا دولة فلسطينية لضمان أمنهم الوطني. كما أن مناصرة قضية الدولة الفلسطينية يوفر للرياض فرصة توحيد بلاد أخرى في مجلس التعاون الخليجي في الحيلولة بين إيران وإسرائيل. وتساعد المملكة أيضا في تجديد دورها بوصفها قوة إقليمية وعالمية.
تريد المملكة العربية السعودية أن تصبح عامل استقرار أساسيا في الشرق الأوسط. ولتحقيق هذه الغاية، تركت إسرائيل خياراتها السياسية مفتوحة على مدار العام الماضي. وواصلت الانخراط مع مسؤولين أمريكيين في التطبيع مع إسرائيل في مقابل معاهدة دفاع أمريكية سعودية، لكنها عملت على الربط بين التطبيع وبين دولة فلسطينية واستمرت في الحديث مع إيران. وقد آتي هذا النهج متعدد الأغراض ثماره. ففي أغسطس، أقنعت الرياض واشنطن برفع حظرها المستمر منذ ثلاث سنوات على بيع الأسلحة الهجومية للمملكة مستغلة احتمال التطبيع مع إسرائيل. لكن الرياض استطاعت من خلال مواصلة الانخراط مع طهران أن تضمن المرور الآمن للسفن السعودية في البحر الأحمر وحماية منشآت النفط السعودية من هجمات الجماعات التابعة لإيران.
وقد اتبعت دول خليجية أخرى استراتيجية مماثلة، فحيَّدت المخاطرات الأمنية واستغلت الفرص التي أتاحها الصراع الإقليمي لدعم مراكزها. إذ فعلت قطر ذلك بالوساطة بين حماس وإسرائيل. واستمرت سلطنة عمان في وساطاتها مع الحوثيين. واستعملت الإمارات العربية المتحدة المقعد التبادلي الذي ظفرت به في عام 2022 في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لدفع قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة لدواع إنسانية واستغلت روابطها بإسرائيل في توفير مساعدات إنسانية للمنطقة وفي التفاوض على خطة لليوم التالي.
دولة فاعلة
لكن فيما توسع الصراع في المنطقة، خاطرت سياسة المملكة العربية السعودية بأن تؤدي إلى نتائج عكسية، فغيرت المملكة مسارها. ذلك أن عمليات إسرائيل المتكاثفة في غزة وهجماتها على لبنان، إلى جانب التراشقات الحديثة بين إيران وإسرائيل في سبتمبر وأكتوبر، قد أظهرت جميعا أن الولايات المتحدة غير قادرة على كبح إسرائيل أو عازمة على ذلك. كما كشفت هذه التصعيدات نطاق عزم إسرائيل على استعمال القوة العسكرية المحضة لتأكيد تفوقها في المنطقة ولكشف نقاط الضعف الأمنية السعودية بما يضيق نطاق خيارات الرياض الإستراتيجية.
وهكذا بدأت المملكة العربية السعودية، منذ سبتمبر، في الانتقال من دبلوماسية الكواليس الهادئة إلى انتقاد إسرائيل ودعم الدولة الفلسطينية على نحو أكثر علنية وقوة. ويظهر القادة السعوديون أنهم غير عازمين على حصر أنفسهم في تحالف مغلق مع الولايات المتحدة، ومع إسرائيل بالتبعية، بما يمنعهم من إبرام تحالفات أخرى. ففي خطبة أساسية في سبتمبر أمام مجلس الشورى، وهو الهيئة التداولية التي تقدم المشورة للعاهل السعودي، قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان علنًا: إن التطبيع مع إسرائيل سوف يكون مشروطا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وفي مقالة بفايننشال تايمز في مطلع أكتوبر أكد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان هذه الرسالة.
سعى القادة السعوديون إلى إظهار قدرتهم على تنظيم حلفاء للفلسطينيين باستضافة القمة العربية الإسلامية الاستثنائية المشتركة بشأن العدوان على الشعب الفلسطيني في نوفمبر من عام 2023 فجمعت ممثلين لأكثر من خمسين بلدا ودعت إلى إقامة دولة فلسطينية. ووسعوا جهودهم إلى ما وراء الشرق الأوسط فأطلقوا في سبتمبر التحالف العالمي من أجل تنفيذ حل الدولتين ومن المنتظر أن يجتمع التحالف مرة أخرى في بروكسل في أواخر نوفمبر. والحق أن المملكة العربية السعودية على مدار الشهور الماضية قد أقامت مجموعة ائتلافات وتحالفات متعددة الأطراف مع بلاد أخرى للدفع إلى إقامة دولة فلسطينية.
دفعت قضية الدولة الفلسطينية أيضا إلى مستوى غير مسبوق من التنسيق بين دول الخليج (ومنها المملكة العربية السعودية) وإيران. ففي الثالث من أكتوبر، رحبت الدوحة بالرئيس الإيراني المنتخب حديثا في قمة حوار التعاون الآسيوي، حيث عزز زعماء مجلس التعاون الخليجي تضامنهم مع الفلسطينيين وأدانوا العدوان الإسرائيلي. وفي اليوم نفسه استضاف مجلس التعاون الخليجي اجتماعًا وزاريًا مشتركًا غير رسمي نادرا بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وهو الأول منذ أكثر من سبعة عشر عاما، أكد فيه الأعضاء عدم رغبة دول الخليج في السماح باستخدام أراضيها ومجالها الجوي لشن هجمات ضد إيران. بل إن نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإماراتي أعلن أخيرا أن الإمارات العربية المتحدة «غير مستعدة لدعم» التخطيط لليوم التالي في قطاع غزة «دون إقامة دولة فلسطينية».
قبول الهدية
تعوِّل إسرائيل على الأمل في أن تقلب تصعيداتها توازن القوى الإقليمي. وتراهن على أن الولايات المتحدة سوف تنجذب في النهاية إلى هذه الديناميكية، بما يؤدي إلى إضعاف إيران وتحقيق مستقبل مستقر في الشرق الأوسط يرتكز على التحالفات بين إسرائيل ودول الخليج. ولعل هذه الرؤية كانت الأساس للاتفاقيات الإبراهيمية، ولكنها غير قادرة بعد خمس سنوات على قيادة المنطقة بعد تغيرها تغيرات عميقة. فإسرائيل الآن أكثر استعدادا مما كانت عليه آنذاك لاستعمال العنف تعزيزا لردعها. والمملكة العربية السعودية أقل اعتمادا على الولايات المتحدة منفردة بعد تنويع علاقاتها من خلال تعزيز روابطها بالصين وتكثيف المحادثات الأمنية مع إيران. ولم يعد بالإمكان التغاضي عن قضية الدولة الفلسطينية. ولا يمكن تحقيق الدولة الفلسطينية من خلال صفقة بين إسرائيل ودول الخليج فحسب، فقد باتت قضية عالمية تقودها المملكة العربية السعودية وتدعمها فيها مجموعة واسعة من البلاد، منها إيران.
وبرغم أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب قد يحاول السعي إلى تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل على غرار الاتفاقات الإبراهيمية، ينبغي أن ترد المملكة العربية السعودية على ذلك بالترويج فورا لحل الدولتين، قبل التطبيع. وقد يخيب هذا آمال ترامب، ولكن ينبغي أن ترحب الولايات المتحدة بمثل هذا الجهد السعودي بوصفه وسيلة لإنهاء الصراع المحيط حاليا بالمنطقة. والواقع أن هذا النوع الجديد من التوازن الذي بدأت المملكة العربية السعودية ودول الخليج في السعي إلى تحقيقه يجعلها في وضع متزايد الأفضلية لخفض التوترات الإقليمية. فقد وضعت نفسها في موقف مقبول لدى جميع الجهات الفاعلة الإقليمية، وهو موقف لا تنعم به إيران أو إسرائيل.
ولكي تحافظ الرياض على استراتيجيتها، فسوف يتعين عليها انتزاع ضمانات أمنية من طهران، من قبيل معاهدة لعدم الاعتداء المتبادل. ثم إنها قد تستخدم هذه الضمانات لدفع إسرائيل إلى الاعتراف بأن استراتيجيتها التصعيدية تأتي بنتائج عكسية إذ تعزز العلاقات بين دول الخليج وإيران وتقلص احتمالات التطبيع مع المملكة العربية السعودية. وقد تساعد جهود الرياض لتنسيق موقف متماسك لمجلس التعاون الخليجي بشأن الدولة الفلسطينية في تهدئة التوترات الإقليمية من خلال الضغط على الولايات المتحدة وأوروبا وقوى من قبيل الصين وروسيا لدعم نهجها لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط. وقد يؤدي هذا النوع من الدعم واسع النطاق في نهاية المطاف إلى إطار للتعايش بين إسرائيل وإيران مع دول الخليج بوصفها وسطاء ــ وهو نموذج يتطلب من إسرائيل وقف هجماتها الاستفزازية ومن إيران كبح جماح ردود أفعالها الانتقامية.
وفوق كل هذا، يجب على واشنطن أن تدرك أن قوة المملكة العربية السعودية تخدم الجميع. فهي قادرة على إضعاف قوة إيران. كما يمكنها أن تدفع إسرائيل إلى إبرام السلام مع الفلسطينيين. وبهذا، تحظى السعودية بموقع فريد يسمح لها بالمساعدة في وقف القتال الذي أحدث دمارا هائلا في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.