الحل.. دولة يمنية قوية
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
د. عبدالله باحجاج
هناك مثل مشهور ومُتداول جدًا، يقول "إذا كان المُتكلِّم مجنون.. فالمُستمع عاقل" ترك لنا الأجداد ميراثاً من الحِكم والعِبر لفهم ما يجري من حول الفرد والجماعة- أي من حولنا- من أحداث للحكم عليها منذ الوهلة الأولى؛ فالاحتكام للعقل دائمًا ما يُرشد المرء للحكم الأولي أو على الأقل يجعل كلام المتحدث في موازين العقلانية للمُستمع.
هذا ما ينطبق على ما يُتداول عن مزاعم ضرب سلطات بلادنا لسبعة يمنيين المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي، لكن يبدو أنَّ الجنون يُلازم المتكلم في حالات كثيرة، فمن شاهد فيديو الضرب المزعوم الذي لا يُنسب لهوية أي فاعل، وما أعقبه من فيديوهين أحدهما لشاب يرتدي لباسًا عسكريًا، والآخر لمجموعة مُسلحين من سبعة أشخاص تقريبًا يتطاولون على بلادنا ببذاءات ومزاعم تفتقر لأبسط بديهيات الصدقية والمصداقية.
وكل من ركَّز في مضامين هذه المقاطع المصوّرة، سيكتشف هذا الافتقار فورًا، وسيحكم بوجود خلفيات سياسية وراءها، فأحاديثهم كلها مُتوترة ومُرتبكة ومُنفعلة.. ويكفي بها من استدلالات على وجود الخلفيات.. ورغم ذلك انتشرت، وهذا شيء طبيعي في ظل ثورة التكنولوجيا وعالم الذباب الإلكتروني، خاصة إذا ما كانت وراءها دوافع سياسية، وأي مستمع عاقل سيطرح بعد استماعه للمزاعم التساؤلين التاليين:
1- لماذا تُقدِم مؤسسة عسكرية عُمانية مُحترفة وقوية ومشهود لها بضبط حدودها المترامية الأطراف من كل الجهات رغم تعقيداتها الجغرافية والجيوسياسية على ضرب سبعة من الأشقاء اليمنيين، وهي بإمكانها أن تُحاكمهم أو تُرحلهم من حيث أتوا؟
2- لماذا تلجأ للضرب الآن؟ وتاريخها ناصع البياض في المُعاملات الإنسانية والقانونية لحالات التسلل والعبور تكاد تكون يومية ليس من قبل الأشقاء اليمنيين فحسب وإنما من دول مجاورة لها.
هذان تساؤلان ينبغي أن يخرجا من خاصية الاستماع العقلاني لتلكم المزاعم، أعرف بلادي حق المعرفة، فهي دولة مُسالمة، وتوظف قوتها الناعمة والخشنة لديمومة سلمها واستقرارها الداخلي، ومساعدة الأشقاء والأصدقاء على استتاب أمنهم واستقرارهم، لا تترك وراءها ما يضرب مسيرها الآمن مع الفرد أو الجماعة أو الدول، لكن يبدو أن هذا المسير يستهدف الآن إما بسبب أطماع فردية أو جماعات.. أو استرزاق أو بسبب موقفها الحيادي من قضايا الحروب الإقليمية والتكتلات.. كل ما أعلمه عن بلادي في تعاملاتها الجيوسياسية خاصة، وأنا من أبنائها القاطنين على حدودها الجنوبية المجاورة لليمن الشقيق، أنها تقف مع ديموغرافيتها أكثر من سياسييها، لن نُعدد صفحاتها البيضاء- حكومة وشعبًا- فهذا من واجبات الجار على جاره، والشقيق لشقيقه ليس مِنّة ولا إكرامية، وإشارتي إليها الآن تأتي في سياقات حديثي صبيحة هذا اليوم مع شقيق يمني يتعالج على حساب جمعية الأيادي البيضاء التي أُنشئت من قبل المجتمع في 1/11/2017 لإيواء ولعلاج المرضى الذين يأتون من اليمن الشقيق بسبب الحرب التي تدخل الآن عامها العاشر على التوالي. وقبل أسبوع أجريت عمليات زراعة أعضاء صناعية لولديه في مستشفى خولة، قالها لي حرفيًا لا يُمكن أن تفعلها (أي الفيديوهات المزعومة) دولة كسلطنة عُمان، وكررها ثلاث مرات "مستحيل مستحيل مستحيل".. ثم تساءل قائلًا، ولماذا تفعلها مسقط أصلًا؟ ومع من؟ أجاب سبعة يمنيين!!
أعلم عن بلادي أنها من أجل توقيع اتفاقية الحدود مع اليمن الشقيق في أكتوبر عام 1992 لم تتمسك بأراضٍ أو تُصِر عليها رغم حقوقها التاريخية والسيادية، ففلسفتها في ذلك أنَّه من أجل السلام والاستقرار بين الدول وشعوبها لابُد من تقديم التضحيات، والأرض سواء كانت عُمانية أو يمنية، فهي لن تخرج عن مساقات التعاون المشترك، وستحتوي الديموغرافيا العُمانية اليمينة المشتركة، ومن يكون هكذا فكره بمثل هذه التضحيات الكبيرة من أجل أن تعيش شعوب الشقيقة في أمن واستقرار، هل يلجأ إلى استعمال العنف ضد مواطنين؟
كل ما يُمكن قوله عن المزاعم أنها أحدث تقليعات المساس ببلدنا، أنها بدعة جديدة، ولن تكون الأخيرة، لكن ماهيتها تُشير إلى انتقال المساس إلى أعماق لم يُوفقوا فيها، فهي تقليعة لن يقبلها العقل، وكل عقل محايد سليم مرَّت عليه هذه المزاعم، سيتساءل لماذا أصلًا تلجأ مؤسسة عسكرية ضخمة لمثل هذه الأساليب؟ نُكرر على يقين أن مزاعم الضرب لن تكون آخر التقليعات ما دامت بلادي تتمسك بحيادها "نهجًا وتطبيقًا" ولن تخرج عن مساره؛ لأنه قد أصبح يعكس الشخصية العُمانية في تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وما يُقلق الغير في الحياد العُماني هو أنه حياد متفاعل وليس جامد، وهنا القلق الذي ينبغي أن يعلمه كل مُواطن.
الحياد المُتفاعل والذي تُطلق عليه الأدبيات الإعلامية العُمانية بـ"الإيجابي"، يأخذ بمعيار الملاءمة بين الدخول في التحالفات والتكتلات التي تخدم استقرار الكل، وبين الوقوف بعيدًا عنها دون مُعاداتها، وهذا ما تجلّى في رفضها الدخول في التحالف العسكري ضد اليمن، لكنها مع كل جهود إحلال السلام وعودة الاستقرار. ومثال آخر نُقدِّمُه ألا وهو رفضها مبادرة إسطنبول لحلف الناتو عام 2004، رغم أنها تشارك في بعض أنشطته كمراقب دون أن تلتزم أو تُلزَم بأجندات؛ فهي فيها تُمثِّل صوت العقل والحكمة، وهذه نموذجية للتطبيق المتفاعل، فحيادها لا يعزلها إقليميًا ولا عالميًا؛ بل يجعلها قوة دينامية يُحقق بها التوازن والاستقرار الذي تعم فوائده الكل.
ربما علينا أن نوجه خطابنا الآن إلى الأشقاء في الخليج العربي، ونقول لهم آن الأوان للانسحاب من اليمن، آن الأوان لأن يكون في اليمن دولة قوية تبسُط سيادتها الإدارية والأمنية والعسكرية على كامل ترابها.. آن للأشقاء في اليمن أن تكون لهم دولة تصنع التنمية في ظل استقرار مستدام، واستقرار اليمن هو من ديمومة وشمولية استقرار كل دول المنطقة؛ بل يظهر اليمن الآن من كبرى بوابات المستقبل الجديد للخليج في ظل سباق إقليمي وعالمي على إقامة نظام عالمي مُتعدد الأقطاب، وما تمَّ إنفاقه في اليمن على الحرب كفيلٌ بإعادة تنمية الدول الست مع اليمن، وما سيتم إنفاقه على تحقيق الأطماع الإقليمية في اليمن حريٌ به أن يُنفق على الأجندات الخليجية الجديدة التي تتضمنها رؤاها التنموية طويلة الأجل في كل دولة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الهوية العُمانية في الميادين الدبلوماسية
د. إسماعيل بن صالح الأغبري
لكل دولة من الدول هويتها الدبلوماسية التي تميزها عن غيرها، تحدد آليات علاقاتها مع دول العالم وترسم خطواتها الدبلوماسية في كيفية معالجة الحوادث المستجدة، ولسلطنة عُمان هويتها في ميادين مختلفة ومنها الميدان الدبلوماسي، فالتخفيف من الاحتقانات التي قد تقع بين الدول أو بين أطراف الدولة الواحدة معلم من معالم الهوية العُمانية، ولذا فإنَّ دبلوماسيتها ذات بصمات إيجابية في حلحلة بؤر النزاع بين هذه الأطراف كما وإن هذه الهوية تتجلى في عدم تأجيج الفتن والنزاعات وذلك عن طريق إقامة علاقات طبيعية مع الدول خالية من المناكفات، بعيدة عن المزايدات، ثم استثمار علاقاتها الإيجابية للقيام بدور تصالحي بين الدول المتباينة في الرؤى ووجهات النظر متى ما تراضت الأطراف التحاكم إليها أو الاحتكام إلى دبلوماسيتها المشهود لها بالحكمة والحنكة.
دبلوماسية سلطنة عُمان لا تفرض نفسها على بقية الدول المتباينة ولكن إن طلب منها الفرقاء تسهيلا أو تذليلا لعقبات أو تصفية لأجواء أو استضافة لحوارات داخل الأرض العُمانية أو خارجها في حرمها الدبلوماسي فإنها تقوم بذلك خدمة للسلم الإقليمي والدولي معًا.
إيمان الدبلوماسية العُمانية بأنَّ أي اضطراب في علاقات الدول الإقليمية والعالمية سيؤثر سلباً على الاستقرار السياسي العالمي تماماً كاهتزاز طرف الحبل فإنَّ ذلك ينذر باهتزاز أول الحبل ووسطه وآخره.
الدبلوماسية العُمانية تنحاز لرجل إطفاء الحرائق المشتعلة أو الموشكة على الاشتعال، وتتجنب الاصطفاف مع أي فريق يصعد من خطاباته أو يعكر صفو الاستقرار السياسي والدبلوماسي بين الدول.
ولهذه الهوية العُمانية في الميدان الدبلوماسي نماذج كثيرة، ولا أدل على ذلك من المفاوضات الجارية حاليا بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية، فالبلدان ارتضيا مسقط عاصمة سلطنة عُمان موئلا ومكانا جامعاً لهما للقاء غير مباشر حسب المعلن عنه، ثم إن الطرفين يثقان بالدبلوماسية العُمانية لخبرتهما بها خاصة فيما يتعلق بالاتفاق النووي الموقع بين الطرفين عام 2015م.
مكان التفاوض بين البلدين مسقط، وهي تؤمن بضرورة تذليل العقبات وبذل ما أمكن من تسهيلات لأن المنطقة منطقة الخليج، شريان الذهب الأسود إلى قارات العالم، وشرارة واحدة ولو بالخطأ تعني تطاير ألسنة اللهب إلى كافة الدول، وتأخر تصدير قطرة منه يعني مساسا بالاقتصاد العالمي، وتعطل كثير من المصانع الإقليمية والدولية.
مسقط تدرك أن الطرفين ليسا نكرة بين دول العالم، فأمريكا تمثل القطب العالمي الأوحد حتى الساعة، ولديها من المقدرات والقدرات في مختلف المجالات ما يجعلها قادرة على إحداث ألم شديد سياسي وعسكري واقتصادي وسط هذا العالم المترامي الأطراف.
وبالنسبة لإيران فهي أيضاً قوة لا يستهان بها عسكريا على أقل تقدير، قادرة على وضع بصماتها المؤثرة على الدول القريبة والبعيدة معاً لامتدادها الجغرافي ولها تأثيرها الثقافي على عدد من دول العالم الإسلامي أما عن قدراتها العسكرية خاصة الصاروخية فهي في تنامٍ مستمر.
أما بالنسبة للدولتين المتفاوضتين فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية وفي عهد الجمهوريين تحديداً لا ترغب في ميلاد قوة خارجة عن ضبط إيقاعهم، ويتصورون إمكانية وقوع ذلك من إيران إن لم يصلوا معها إلى اتفاق خاصة وأنهم يعتقدون أن إيران ذات أيدولوجية ككوريا الشمالية مع اختلاف مرجعية الأيدولوجيتين، فالمجاهرة بعداء إسرائيل وعدم الاعتراف بها دولة قائمة بناء على منطلقات شرعية مع بقاء إيران الدولة الوحيدة المتمكنة حالياً من تهديد إسرائيل عسكرياً يعزز إصرار الأمريكيين على الضغط على إيران.
الطرفان: إيران وأمريكا لا يريد أي منهما أن يظهر وكأنَّ خصمه كسر إرادته مراعاة لمنطلقات كل منهما، فالجمهوريون حصدوا الأصوات بناءً على ما رفعوه من شعارات منها: أمريكا أولا، وكذلك إعادة الهيبة لأمريكا أو لنقل ترسيخ الهيمنة الأمريكية كقوة عظمى في هذا العالم.
والإيرانيون لهم نظام حكم ذو نزعة استقلالية، يتكئون في ذلك على مواريثهم الحضارية وعلى الأيدلوجية الإسلامية الحاكمة، ومن الصعب عليهم الظهور بمظهر المغلوب على أمره أو التنازل عن مبادئ قامت عليها الجمهورية الإسلامية في إيران، وعلى ذلك فإنَّ الطرفين لا بد لكل منهما التزحزح عن بعض ما يرفعه لتحقيق اختراق لازم، يسفر عن نتائج إيجابية مرتقبة من العالم.
وختاماً فإنَّ الدبلوماسية العُمانية بساط أخضر واسع، يمكنها احتواء الأطراف المختلفة، وكذلك فإن الإرادة العُمانية الجادة في سبيل إطفاء فتيل الأزمات تعين على التقريب بين وجهات النظر.
قلما دخلت الدبلوماسية العُمانية في معترك الوساطات إلا وأسفر ذلك عن توصل الأطراف إلى حل جامع لهذه الأطراف، وإن لم تصل الأطراف إلى المرجو من التفاوض فلا أقل من تهدئة بينهما.
إذا تنفس الصبح في مسقط، وانبلج فجر المفاوضات، وأشرقت شمس التقاء الأطراف، وبزغ النجم المرتقب فإنَّ ذلك حصاد الدبلوماسية العُمانية المشهود لها، وبذلك تكون سلطنة عُمان قد أسدت خدمة جليلة للخليج من حيث استقراره وإمكانية تصدير نفطه، وتكون كذلك أسدت للعالم خدمة جليلة من حيث تجنيب العالم ويلات الصدام المسلح أو الحروب الاقتصادية. الدول تنتظر بفارغ الصبر صبح مسقط بشرط أن يتخلى كل طرف من المتفاوضين عن بعض ما يُؤمن به ليلتقيا في نقاط مشتركة، ليس أحد منهما أُريق ماء وجهه.
رابط مختصر