الدكتور حماد أدم حماد ينجو بأعجوبة من دانات الجنوب وتصيبه دانة قاتلة بامدرمان
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
الدكتور حماد أدم حماد ينجو بأعجوبة من دانات الجنوب وتصيبه دانة قاتلة بامدرمان
ياسر عرمان
⭕️١٩٩٥ في بداية ذلك العام والصيف قائظ والسماء الاستوائية صائمة عن مطرها المباح، هبطت بنا الطائرة المروحية في شرق الاستوائية بجنوب السودان في منطقة (موية سخن) التي تضم ينابيع مياه كبريتة سخنة لا يهتم بها أحد، كانت الطائرة تقل الزعيم جون قرنق وكنا بصحبته شخصي والقائد جيمس هوث ماي الذي أصبح لاحقاً رئيساً لهيئة اركان الجيش الشعبي لدولة جنوب السودان ووزير العمل الحالي، وكوال مجاك الذي لازم قرنق كظله وفي حراسته الشخصية وإذا ما رأيت كوال فان قرنق سيكون في مكان ما غير بعيداً منه.
كان حماد صادقاً بأن قرنق سيواجه مأزقاً صعباً في المعسكر وبعد وقت وجيز دعا قرنق الضباط لمحاضرة وغفلت الطائرة التي حملتنا إلى المعسكر راجعة إلى قاعدتها وبدأ اللقاء خالياً من الحماس وأخذ قرنق في تحليل وضع الحركة والجيش الشعبي والهزائم التي تعرضت لها في حملات الجهاد وصيف العبور وسيوفه وفقدانها ما يقارب (١٦) مدينة حرّرتها بالدماء والدموع، والحصار الذي تتعرض له وتراجعها في كثير من المناطق إلى الحدود الدولية والإنقسام والنزيف الداخلي الذي تعاني منه ثم حلل الوضع في عموم السودان واستعداء النظام الحاكم لأغلبية السودانيين وخطر النظام على الاقليم وامتداد ذلك للمجتمع الدولي، وأكد ان الحركة سوف تكون في رفقة ممتازة عن قريب وانه قد التقى بقوى المعارضة السودانية وبالقادة الإقليميين وان مؤتمر للمعارضة سوف يعقد بالعاصمة الإرترية اسمرا وارتفعت درجات التفاعل معه رويداً رويداً بأعلى من ارتفاع حرارة الجو ثم انطلقت الأهازيج الثورية والهتافات بحياة قرنق والثورة من حناجر الضباط، وبلغت قمتها حينما أعلن انه لن يغادر المعسكر إلا بعد وصول المواد الغذائية والدواء والملابس العسكرية وانه سوف يقوم بإعلان … لقد كان قرنق مايسترو عظيم وفي صباح اليوم التالي أعلن عن …
⭕️١٩٨١-١٩٨٢ في أمبدة أمدرمان وعن طريق الصديق العزيز حسن نابليون الموجود الآن بأستراليا تعرفت على حماد أدم حماد المعلم والنقابي والشيوعي وقد كان ملء السمع والبصر في مجاله وفي فترة كان المسؤول السياسي لفرع أمبدة وتمكن مع زملائه من خلق نفوذ واسع للفرع في أوساط الشباب والنساء على أيام جعفر نميري والتقيت العديد من رواد هذه المجالات، كان نابليون يكن تقديراً لحماد وطلب مني زيارته في منزله وحسن نابليون من أهم أصدقائه في الحياة العابرة والتي سنتركها خلفنا، ففي سنوات الجامعة تعرفت عليه عبر صديقنا خالد محي الدين وقد كان مسؤلاً في مكتب الثانويات في ولاية الخرطوم التابع للحزب الشيوعي وعرفني بالكثير من طلاب الثانويات والذين انتقل بعضهم إلى الجامعات وكانوا يكنون له احتراماً كبيراً ومنهم الراحل حسن خضر سعيد وآخرين وربما من الأوفق عدم ذكر أسمائهم لتعقيدات أوضاعنا الراهنة، حماد أدم من الجزيرة أبا التي كانت حبلى بالثوريين وكان انساناً ساخراً أحفظ له العديد من القصص الموجعة والملهمة معاً ولولا ضيق المساحة لتطرقت لكثير منها ولكننا على عجل كأن الريح تحتنا وتحسدنا النعامة على (الجري والطيران) الذي كانت تطمح فيه.
ذات مرة قال لنا حماد وكنا مع حسن أحمد الحسن (نابليون): يا زملا (الميدان) الجديدة صدرت ولا شنو؟ لاقيت عدد من الزملا بتكلموا نفس اللغة وبنشروا نفس الأخبار كانهم وكالة نوفوستي! وهي أحدى وكالات الاتحاد السوفيتي ولاتزال الآن في روسيا الاتحادية.
⭕️١٩٩٠ اقترحت على قيادة الحركة دعوة الأستاذ والمبدع الكبير محمد وردي لمعسكرات اللاجئين في جنوب السودان وبشجاعته المعهودة استجاب للدعوة ولعب القائد الراحل مارتن مانييل دوراً رئيساً في تلك الزيارة، انطلقنا من اديس ابابا وفي مدينة قمبيلا في اقصى غرب إثيوبيا التقينا بالقائد سلفاكير الرجل الثالث في الحركة حينها وتحركنا لمعسكر (اتنغ) للاجئين وربما هو اكبر معسكر للاجئين في جنوب السودان، استقبلنا قائد المعسكر تعبان دينق نائب رئيس دولة جنوب السودان الحالي ووسط الجموع رأيت حماد ادم حماد (المابغباني) ومعه الطيب عبدالله فارس في مفاجأة سارة وكليهما أصدقاء قدامى والطيب عبدالله فارس انسان عجيب وهو من ابناء الجزيرة أباً ولا يزال في الوقت الراهن في جبال النوبة ولم يبدل تبديلا وهو من جذب زكريا محمد أحمد للعمل السياسي كما حكى لي زكريا حتى أصبح شيخاً ومجذوباً من المجاذيب. ولما كان كليهما مستجدين قلت لهما: (بعدين في عشا للأستاذ محمد وردي، ولن يسمح لكم كمستجدين بالدخول انتظروني قدام الباب من بدري وندخل مع بعض) وهذا ما حدث وجلس حماد والطيب في الطاولة المجاورة خلف الأستاذ وردي، وحماد المستجد لا يتورع عن السخرية وفي بدايات العشاء وكان الجو ساخناً من نسمات تلسع العرق الممزوج بالأملاح
تسآل الأستاذ وردي: يا جماعة ما عندكم تلج؟
فأجابه حماد: يا أستاذ وردي تلج في معسكر لاجئين؟!
سأله وردي : منو انت يا أخوي؟
فأجاب: حماد أدم
فسأله مرة أخرى: من وين؟
فأجاب من امبدة والآن في ايتنغ
سأله الجابك هنا شنو؟
فأجاب يا أستاذ كلنا في الهوا سوا فضحك الجميع، وذكرت لوردي من هو حماد ادم والطيب عبدالله فنهض من كرسيه وعناقهم بحرارة.
في صباح اليوم التالي أعلن قرنق عن ترقيات جديدة للضباط فوصلت المعنويات إلى عنان السماء واتت الشاحنات تحمل الطعام والأدوية والذخيرة والملابس العسكرية وقام قرنق بتسليمها لقائد المنطقة واعطاه التعليمات ومن ضمن الضباط الذين تم ترقيتهم جمعة بابو (ابو حديد) الذي شارك في معركة بور في ١٦ مايو ١٩٨٣ معلنين انطلاقة الجيش الشعبي وبعد ترقيته إلى قائد مناوب جاء مع كل زوجاته واولاده وكبرى زوجاته تحمل (صفارة) وهو يحمل قرن تور ويردودون الاغاني ويصدرون أصوات موسيقية ويدرون حول منزل قرنق وقام قرنق بتحيتهم كعادته وقد ادخلوا ابتسامة وضحكة على وجه ذلك المناضل المنتمي والثوري والمفكر الملتزم بوحدة السودان، والذي غُيب بعد يوم الساحة الخضراء يوم الفقراء والمهمشين والمثقفين يوم التحام الريف بالمدينة وقد وصل قرنق إلى مرافئ قاعدة اجتماعية جديدة كانت السبب في تغييبه.
بعد ساعات جاءت المروحية وخرج المعسكر بكامله لوداع قرنق الآلاف من النساء والأطفال والرجال خلفه لقد كان قرنق التاريخ يصنعه رجال ونساء خلف بندقية وفكرة، وجاء حماد آدم لجانبي وقال لي ساخراً : (عمك الساحر والأطفال وضع يده على الاشجار اليابسة فأخضرت وادخل الابتسامة في قرية ميتة!) وعدنا إلى كمبالا وفي اليوم التالي أقلتنا طائرة أخرى إلى مدينة اسمرا عاصمة دولة ارتريا وقمنا بإنشاء مكتب يطل على الجبهة الشرقية! وكما وعد قرنق فعل وبدأت أزمنة جديدة وتركنا ٦ سنوات عجاف خلفنا، لقد كان قرنق بحق زعيمنا وقائدنا وأخانا الكبير ولازال يشدني الحنين في رحابه، نحن الذين أتيناه من جغرافيا بعيدة في مشوار انساني نظل نعتز به.
⭕️١٩٩٢ زارني حماد ادم بالقرب من كاجو كاجي في غرب الاستوائية على ضفة النهر أمضى معي اياماً ممتعة مليئة بالسخرية وتحاورنا في تجارب الماضي وإيجابيات وسلبيات تجربتنا في الحركة الشعبية، تحدثنا حول كل شئ ولازلت اذكر ان حماد اخبرني انه حينما تولى المسؤولية السياسية في فرع امبدة وصعد إلى قسم مدينة امدرمان كان يعتقد انه من الأجدر ان يكون مسؤولها السياسي ويصعد لمديرية الخرطوم ولكن ذلك لم يحدث وتسأل عن السبب هل هو تكتل ابناء المدينة ضد الريف أم العنصرية، لازال سؤاله معلق في هواء أسئلةً ذات صلة بما يدور في مجتمعنا اليوم وبعد سنوات التقينا مرة أخرى في مدينة الخرطوم وفي كوستي والجزيرة أباً بعد اتفاقية السلام بعد دورة كاملة من الحياة المعقدة وما شاء الله فعل.
يطلق الجيش الشعبي على كل من يقدم خدمات طبية لقب (دكتور)، حكى لي حماد انه كان مسؤولاً عن العيادة العلاجية في منطقة (نيربنغ) بجنوب السودان، فجاء وفد من منظمة طبية أمريكية فسأل الجنود هل لديكم طبيب؟ فأجابوا بالإيجاب وذهبوا للقرية للبحث عن حماد وحينما أتى وقابل الأطباء سألوه هل انت طبيب؟ فأجاب بالإيجاب وأردف احدهم تخرجت من اي جامعة؟ فقال لهم من جامعة (نيربينغ) فسأله أحدهم هل هي بألمانيا؟ فأجاب حماد بسخريته المعهودة نعم هي في ألمانيا، وعرف حماد في سنوات الجنوب بالدكتور حماد ادم.
⭕️٢٠٠٥ وقعت اتفاقية نيفاشا للسلام، أختفى حماد في ريف جنوب السودان وانقطعت الاتصالات معه وكنت واحد من مجموعة ظل يكلفها القائد سلفاكير في لجان اختيار الوزراء ضمت دينق ألور وكوستي مانبيبي وآخرين احياناً، ولما كنت مسؤولاً عن القطاع الشمالي حينها رشحت حماد آدم وزيراً بولاية النيل الأبيض ومر أكثر من شهرين ولم نجد للوزير خبراً رغم الإعلان عن اسمه في الإذاعة والتلفزيون وهو في ريف الجنوب لا يقيم وزناً للإذاعة والتلفزيون أو تعيينه وزيراً وقمت بزيارة والده وأسرته في الجزيرة أباً وقد اصابهم القلق على حياته وبفضل القائد بيور أجانق (بيور أسود) الذي كان في قيادة الجيش وبذل مجهود مقدراً للوصول اليه عن طريق وحدات الجيش وبيور اسود كبير في انسانيته التي ظللتنا في سنوات الحرب ومحبتي لبيور أسود لا تنقطع وسوف أحملها إلى ضفة العالم الاخر وهو لا يزال فاتحاً زراعيه لكل رفاقه القدامى دون منْ أو أذى. جاء حماد متأخراً عن الوزارة وتولى رئاسة الحركة الشعبية بالنيل الأبيض وبعدها تفرقت بنا السبل.
⭕️٢٤ مايو ٢٠٢٤ صحوت على خبر هذه الدانة اللعينة في مدينة امبدة-امدرمان التي أخذت طريقها إلى حماد ادم حماد وابن اخته أحد قادة لجان المقاومة بامبدة ظافر حامد ابو قرجه ، رواغ حماد كل الدانات في جنوب السودان ورفض ان يحدد موعداً معها وهو من ذهب للجنوب طوعاً واختيارا ونجا من جميع الدانات بأعجوبة حتى صادفته واحدة مجانية في حرب ١٥ أبريل اللعينة، العزاء الحار لأسرته وأصدقائه وعارفي فضله وقدر ابن اخته ظافر ابو قرجه في أمدرمان والجزيرة أباً وكل السودان.
الوسومآثار حرب السودان الحركة الشعبية حماد ادم حماد ياسر عرمانالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحركة الشعبية حماد ادم حماد ياسر عرمان
إقرأ أيضاً:
خطاب السلطة السودانية: الكذبة التي يصدقها النظام وحقائق الصراع في سنجة
خطاب السلطة السودانية: الكذبة التي يصدقها النظام وحقائق الصراع في سنجة
عمار نجم الدين
تصريحات وزير الإعلام السوداني لقناة الجزيرة اليوم خالد الإعيسر تعكس بوضوح استراتيجية النظام في الخرطوم التي تعتمد على تكرار الكذبة حتى تصير حقيقةً في نظر مُطلقيها. عندما يصف الوزير الدعم السريع بـ”الخطأ التاريخي” ويزعم تمثيل السودانيين، فإنه يغفل حقائق دامغة عن طبيعة الصراع وأدوار الأطراف المختلفة فيه.
في خضم هذه الدعاية، يُظهر الواقع أن الانسحاب الأخير لقوات الدعم السريع من سنجة، تمامًا كما حدث في انسحاب الجيش في مدني وجبل أولياء وانسحاب الدعم السريع من أمدرمان، ليس إلا فصلًا جديدًا من فصول التفاوض بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. هذه الانسحابات لم تكن وليدة “انتصار عسكري” كما يدّعي النظام، بل هي نتيجة مباشرة لمفاوضات سرية أُجريت بوساطات إقليمية، خاصة من دول مثل مصر وإثيوبيا وتشاد، وأسفرت عن اتفاق لتبادل السيطرة على مواقع استراتيجية وضمانات بعدم استهداف القوات المنسحبة.
ما حدث في سنجة هو نتيجة لتفاهمات وُقعت في أواخر أكتوبر 2024 في أديس أبابا تحت ضغط إقليمي ودولي. الاتفاق، الذي حضرته أطراف إقليمية بارزة، مثل ممثل رئيس جنوب السودان ووزير خارجية تشاد، شمل التزامات متبادلة، من بينها انسحاب الدعم السريع من مواقع محددة مثل سنجة ومدني، مقابل:
ضمانات بعدم استهداف القوات المنسحبة أثناء تحركها من المواقع المتفق عليها. تبادل السيطرة على مناطق استراتيجية، حيث التزم الجيش السوداني بانسحاب تدريجي من مناطق مثل الفاشر، مع الإبقاء على وحدات رمزية لحماية المدنيين. التزام بوقف الهجمات لفترة محددة في المناطق المتفق عليها لتسهيل التحركات الميدانية وإعادة توزيع القوات.انسحاب الجيش السوداني من الفاشر سوف يكون تدريجيًا، يُظهر أن الطرفين يعيدان ترتيب أوراقهما ميدانيًا وفق التفاهمات السرية، لا على أساس أي انتصارات عسكرية كما يدّعي النظام.
النظام في الخرطوم، كعادته، يسعى إلى تصوير هذه التطورات الميدانية كإنجازات عسكرية، معتمدًا على خطاب تضليلي يخفي حقيقة أن ما يحدث هو نتيجة لاتفاقات سياسية تخدم مصالح الطرفين أكثر مما تحقق أي مكاسب للشعب السوداني.
ادعاء الوزير بأن النظام يمثل السودانيين، في مقابل القوى المدنية التي “تتحدث من الخارج”، هو محاولة أخرى لإقصاء الأصوات الحقيقية التي تمثل السودان المتنوع. هذه المركزية السياسية، التي لطالما كرست التهميش ضد الأغلبية العظمى من السودانيين، تعيد إنتاج نفسها اليوم بخطاب مكرر يفتقر لأي مصداقية.
الحديث عن السلام وفق “شروط المركز” هو استمرار لنهج الإقصاء، حيث يرفض النظام الاعتراف بالمظالم التاريخية، ويمضي في فرض حلول تخدم مصالحه السياسية دون النظر إلى جذور الأزمة. السلام الحقيقي لا يتحقق بشروط مفروضة من الأعلى، بل بإعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة تضمن العدالة والمساواة.
خطاب النظام حول “الانتصارات العسكرية” و”مواجهة المؤامرات الدولية” ليس سوى وسيلة لتبرير القمع الداخلي وتحريف الحقائق. الحقيقة الواضحة هي أن الانسحاب من سنجة وستتبعها الفاشر وغيرها من المناطق تم نتيجة مفاوضات سياسية بوساطة إقليمية، وليس نتيجة “نصر عسكري” كما يزعم النظام. هذه الممارسات تفضح زيف الرواية الرسمية وتؤكد أن الأزمة الراهنة ليست صراعًا بين دولة ومليشيا، بل هي امتداد لصراع مركزي يهدف إلى تكريس الهيمنة والإقصاء.
إذا كان النظام السوداني يسعى حقًا لإنهاء الحرب وبناء السلام، فعليه أولًا التوقف عن الكذب والاعتراف بمسؤولياته في خلق هذه الأزمة. السودان اليوم أمام مفترق طرق حاسم، والاختيار بين الحقيقة أو الكذبة سيحدد مصير البلاد لسنوات قادمة.
الوسومالفاشر حرب السودان سنجة