لعبة الاستخبارات.. جيش أوله تل أبيب وآخره واشنطن
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
ظُهر الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هبطت طائرة الرئيس الأمريكي جو بايدن في مطار بن غوريون ليجد في انتظاره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ. احتضن بايدن صديقه القديم نتنياهو حالما لمست قدماه أرض المطار. وفي وقت لاحق من هذه الزيارة التي استغرقت يومًا واحدًا، وبعد قصف الاحتلال للمستشفى المعمداني مباشرة، قال بايدن في خطاب للإسرائيليين: "لستم وحدكم"!
أمس السبت، تأكد الإسرائيليون والعالم بأسره أن دولة الاحتلال ليست وحدها بالفعل، رُغم أسابيع من الحديث عن التوترات بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وبين بايدن ونتنياهو.
الإسرائيليون ليسوا وحدهم، وهُم يعلمون ذلك تمام العِلم منذ عقود، وإلا ما استطاعوا الاستمرار في معركتهم مع فصائل المقاومة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بل ومن قبلها مع شتى أشكال المقاومة الفلسطينية والتحركات العسكرية العربية منذ زمن الحرب الباردة. تُعَد دولة الاحتلال أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ووفقا للمؤشرات الرسمية الأميركية، بلغت المساعدات الإجمالية المقدّمة من الولايات المتحدة لإسرائيل نحو 158.6 مليار دولار بين عامي 1946-2023. معظم المساعدات الأميركية لإسرائيل تصب في القطاع العسكري، التي بلغ حجمها في الفترة نفسها نحو 114.4 مليار دولار، إضافة إلى نحو 9.9 مليارات دولار للدفاع الصاروخي. أما عقِب عملية طوفان الأقصى، أخذ الدعم منحنى تصاعدي، ففي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وافق مجلس النواب الأميركي على طلب إدارة الرئيس جو بايدن بتخصيص "حزمة مساعدات غير مسبوقة" لإسرائيل بقيمة 14.3 مليار دولار.
لكن الدعم الأميركي لا يتوقف عند هذا الحد، بل يشمل تدخلا مباشرا في مجريات الحرب على الأرض عبر دعم لا يلقى الاهتمام الإعلامي ذاته رغم تأثيره، ذلك أنه أحد أهم ركائز استمرار أي عملية عسكرية إسرائيلية، تمامًا كما أثبتت عملية تحرير الأسرى الإسرائيليين الأربعة بالأمس.
أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لطالما سوَّقت نفسها على أنها بمثابة عين وأذن الاستخبارات الأمريكية في الشرق الأوسط (الأوروبية) ماذا يحدث في الغرف المظلمة؟من المعروف أن التنسيقات تجري في الكواليس بعيدا عن الأضواء في أجواء ترشح بالغموض، مع تغييب متعمد لأي توثيق معلوماتي، لكن الحرب على قطاع غزة أزاحت كثيرًا من الأستار، فنطق رجال الظل، ودُفع بالتعاون إلى أقصى مدى. وصلت مدَيات التنسيق بين الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية لتتجاوز العتبة الاستراتيجية، وتمتد نحو أرض التكتيكات والتفصيلات الميدانية التي عبَّدت الطريق أمام عمليات القصف والاغتيال المستمرة على مدار أكثر من 5 أشهر.
من أبرز مظاهر هذا التعاون كان استخدام ثقل سمعة الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية من أجل تقديم غطاء لأفعال الجيش الإسرائيلي الإجرامية وتبريرها؛ تم ذلك على إثر تقديم تلك الجهات الأميركية معلومات تبيَّن أنها مضللة، في سبيل استباحة مستشفيات القطاع. أشهرها عملية اقتحام مستشفى الشفاء بدعوى "وجود نقطة قيادة ومراقبة للمقاومة الفلسطينية داخل المستشفى"، وفقا لمعلومات استخباراتية أعلنها البنتاجون رسميًا وكشفت إدارة الاستخبارات الأمريكية السرية عنها. وهذا ما أشار إليه "مارك بوليميروبولوس"، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، حيث قال إن "الولايات المتحدة رفعت السرية عن هذه النتائج لأن الهدف الواضح منها هو منح متنفَّس لإسرائيل"، خاصة بعد الغضب العالمي بسبب حصار جيش الاحتلال للمستشفى.
بالطبع ثمة أسس عميقة قديمة سبقت هذا التطور التنسيقي الحالي، فأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لطالما سوَّقت نفسها على أنها بمثابة عين وأذن الاستخبارات الأمريكية في الشرق الأوسط. قبل مجيء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كان التبادل المعلوماتي بين جهازي الاستخبارات الأمريكي والإسرائيلي مقتصرا في الأغلب على الجانب الإستراتيجي لا التكتيكي التفصيلي، وهذا ما أكده مسؤولون أمريكيون لصحيفة "وول ستريت جورنال"، حيث أوضحوا أن وكالات الاستخبارات الأمريكية توقفت عن التجسس على حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية في السنوات التالية لهجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، وأنها وجَّهت مواردها لملاحقة قادة تنظيم القاعدة، ثم تنظيم الدولة الإسلامية لاحقا.
لكن السنوات القليلة الماضية، وخاصة في ظل إدارة ترامب، شهدت تزايدًا في مستوى التنسيق والاتصال بين أجهزة الاستخبارات، وتعمَّقًا في التعاون الأمني الأمريكي الإسرائيلي، لا سيَّما مع توجه اهتمام الإدارة الأمريكية السابقة نحو مواجهة إيران وشبكاتها في المنطقة، وهو ما توِّج بتنسيق عالي المستوى علي صعيد بعض العمليات الأمنية المحدودة بين واشنطن وتل أبيب داخل إيران، والتي لعب فيها التبادل المعلوماتي دورا بارزا. لذلك، عندما وقع الهجوم على غزة كان المسرح مُهيَّئا للدعم والتنسيق بين مؤسستي الاستخبارات في واشنطن وتل أبيب، وبات الجهازان بمثابة جهاز واحد فيما يتعلَّق بمجابهة المقاومة الفلسطينية وحلفائها.
واشنطن تُرقِّي حماس للمستوى الثاني!
تحدَّث "مايك تِرنر"، عضو الحزب الجمهوري ورئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب الأمريكي، في 3 ديسمبر/كانون الأول الماضي عن ملامح المرحلة الجديدة من التعاون الاستخباراتي الأميركي الإسرائيلي في حوار مع برنامج (Face the Nation)، وسرد بعضًا من التفاصيل فيما يتعلق بمشاركة المخابرات الأمريكية في العمليات الإسرائيلية أثناء الحرب الحالية على قطاع غزة، مؤكدا أن "الولايات المتحدة تساعد في تحديد مواقع قيادات حركة حماس"، وأن وكالة الاستخبارات الأمريكية تعمل عن قرب مع دولة الاحتلال لسد بعض الفجوات الواضحة لديهم.
(الجزيرة)في يناير/كانون الثاني الماضي، أكد مسؤولون أمريكيون لصحيفة نيويورك تايمز، أن وكالة الاستخبارات المركزية أنشأت فرقة عمل خاصة جديدة بعد عملية طوفان الأقصى لجمع معلومات عن كبار قادة حماس، ومواقع الرهائن في قطاع غزة، ثم أخذت تقدم تلك المعلومات الاستخباراتية مباشرة لدولة الاحتلال. وقد أوضح المسؤولون للصحيفة أن الولايات المتحدة رفعت من درجة أولوية حركة حماس إلى المستوى الثاني، ورفع مستوى الأولوية معناه توفير تمويل إضافي لجمع المعلومات الاستخباراتية، مع أن حركة المقاومة الفلسطينية لا تشكل أي تهديد مباشر لأمن الولايات المتحدة أو مصالحها المباشرة في الشرق الأوسط.
قبل عملية طوفان الأقصى، كانت حماس أولوية من المستوى الرابع، ما يعني تخصيص موارد أقل لجمع المعلومات الاستخباراتية حولها، ولكن منذ بداية الحرب رُفِعت درجة الأولوية إلى المستوى الثاني. أما المستوى الأول، الذي يستحوذ على أغلب الموارد الاستخباراتية، فهو مُخصص للأعداء المباشرين ممن يُمكن أن يُشكلوا تهديدًا مباشرًا أكبر للولايات المتحدة ومصالحها، مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران.
يعني هذا أن الولايات المتحدة تشارك بكل ما تملك من عتاد ومعلومات استخباراتية لدعم دولة الاحتلال في حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، ويعني أيضًا أن أحداث طوفان الأقصى أجبرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية على التدخل بنفسها، بعد الفشل الاستخباراتي للأجهزة الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بحركة حماس، التي كانت مسؤولية جهاز المخابرات الداخلي الإسرائيلي "الشاباك"، ولذا تسعى أمريكا الآن لتقديم عمليات دعم استخباراتي تكتيكي واسعة لصالح إسرائيل.
فمثلًا، سارع الجيش الأمريكي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول بإضافة المزيد من محللي الاستخبارات في مقر القيادة المركزية الأمريكية لمتابعة الوضع في فلسطين المحتلة، عبر إعادة تكليف المحللين المسؤولين عن متابعة التنظيمات المسلحة، مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، إلى بدء مراقبة التطورات وجمع المعلومات عن الحرب في قطاع غزة، وذلك وفقا لما ذكرته صحيفة "تايم" عن مصادر على دراية بتلك التغييرات، وهي مصادر اشترطت عدم الإفصاح عنها. ووفقا لأحد تلك المصادر، كان المسؤولون في القيادة المركزية، التي تشرف على آلة الحرب الأمريكية في الشرق الأوسط، قد خفَّضوا عدد محللي الاستخبارات المدنية المُكلفين بمراقبة مجريات الصراع بين الاحتلال والمقاومة على مدى السنوات الثلاث الماضية، وأن مَن بقي من المحللين وجَّه تركيزه أكثر على الضفة الغربية، وفهم سياسة حكومة دولة الاحتلال، مقارنة بمتابعة الأوضاع في قطاع غزة.
إسرائيل عاجزة عن خوض معركة المعلومات وحيدة
من أمثلة المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية الأخيرة كانت سلسلة من التقارير التحليلية التي أجرتها وكالة الاستخبارات الأميركية، وحذَّرت إسرائيل من ارتفاع ملحوظ في مصداقية وتأثير حركة المقاومة الإسلامية حماس داخل وخارج الشرق الأوسط على مدار الأشهر الماضية، وتحديدًا منذ عملية طوفان الأقصى، ثم مع بداية العدوان العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة. وقد ذكرت التقارير أن "حماس نجحت في تقديم نفسها بوصفها حركة المقاومة المسلحة الوحيدة التي تقود حربًا على الطاغية المتوحش الذي يقتل الأطفال والنساء"، وربما ما يمكن استنتاجه أن هذه المعلومة مهمة ومؤثرة على السردية الإسرائيلية، وقد تعني خسارة دولة الاحتلال للمعركة المعلوماتية الأهم في الحرب الجارية وفي المستقبل على المدى البعيد.
لكن ماذا يعني أن تكون المساعدات الاستخباراتية الأمريكية المقدمة لإسرائيل في حرب غزة ذات توجه استخباراتي تكتيكي؟ يعني أن الدعم المقدم هو من النوع الذي ينبني عليه أعمالا قتالية، وتُسمَّى تلك الاستخبارات بالتنفيذية أو الفعَّالة (Actionable Intelligence)، وهو مصطلح يشير إلى المعلومات المفيدة والمهمة التي تساهم مباشرة في العمليات العسكرية على الأرض، مثل تحديد أهداف الاغتيالات وأهداف القصف بالضربات الجوية، والمساعدة في البحث عن الرهائن، واستخبارات الإشارات. كل هذا بجانب عمليات الاستطلاع المختلفة، التي تنفذها طائرات أمريكية، لجمع المعلومات ومساعدة أجهزة المخابرات الإسرائيلية. هذا النوع من المعلومات محدد أكثر ويملك تأثيرًا فوريًا عند مقارنته بالمعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية الأوسع التي ترتبط أكثر بصُنَّاع القرار على المدى الطويل.
(الجزيرة)تشمل المعلومات الاستخباراتية التكتيكية معلومات لتحديد أهداف القصف على سبيل المثال، حيث يستخدم جيش الاحتلال أنظمة الذكاء الاصطناعي، مثل نظام "غوسبِل"، لتحديد أهداف القصف داخل قطاع غزة، كما يستخدم المدفعية الثقيلة في عمليات القصف بعيدة المدى. ويحتاج القصف الإسرائيلي إلى معلومات استخباراتية مُسبَقة تشاركها القوات الجوية الأمريكية، بعدما أرسلت ضباطًا متخصصين في هذا النوع الدقيق من الاستخبارات إلى إسرائيل في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وذلك وفقًا لوثيقة خاصة بقانون حرية تداول المعلومات أشار إليها موقع "ذه إنترسِبت" (The Intercept). ويذكر الخبراء إن فريقًا من الضباط بهذا التخصص سيوفر معلومات استخباراتية عبر الأقمار الاصطناعية للاستهداف داخل غزة.
مثال آخر هو عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات ومشاركتها مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية. ففي بدايات شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، نقلًا عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية، أن الجيش الأمريكي كان يحلق بطائرات استطلاع مُسيَّرة فوق قطاع غزة، وأن الهدف كان البحث عن الرهائن المُحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية، وكما أشارت الصحيفة فإنها "خطوة غير مسبوقة، ما يشير إلى انخراط أجهزة المخابرات الأمريكية أكثر مما كان معروفا في السابق".
ألفُ عين في سماء غزة
لا يمكن معرفة تفاصيل الدعم الاستخباراتي التكتيكي الذي تقدمه واشنطن بالكامل، لكن يمكننا البحث ومحاولة استنتاج أنواعه المختلفة ومدى ضخامته في الحرب الحالية على قطاع غزة. وهنا أمدّتنا وكالة "سند" للتحقق والرصد الإخباري بشبكة الجزيرة، بمجموعة من التحليلات والمعطيات الهامة، إذ وبعد تحليل بيانات ملاحية لما يزيد عن 2600 رحلة عسكرية، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى 15 يناير/كانون الثاني الماضي، حصلت عليها وكالة سند من موقع "رادار بوكس" (Radarbox.com)، أظهرت البيانات أن نحو 230 رحلة نقل عسكري توجهت إلى إسرائيل بالإضافة إلى 360 رحلة إلى القواعد العسكرية في قبرص واليونان وإيطاليا بإجمالي يتجاوز 600 رحلة شحن عسكري.
(الجزيرة)أما الدعم الاستخباراتي الجوي فتمثل في رحلات الاستطلاع، التي توفر المعلومات الاستخباراتية لأجهزة المخابرات، وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد أشارت إلى أن جهاز الاستخبارات الأمريكي كثَّف جهوده لجمع المعلومات عن حركة حماس عبر زيادة وتيرة رحلات الاستطلاع بالطائرات المُسيَّرة في سماء القطاع. وقد حلَّلت وكالة سند نحو 1100 رحلة استطلاع، نفذت معظمَها القوات الجوية الإسرائيلية بنحو 800 رحلة، في حين نفذت القوات الملكية البريطانية 150 رحلة، والقوات الجوية الأمريكية نحو 110 رحلة، وهي بالطبع الرحلات التي ظهرت على الرادار، إذ يمكن أن يكون الرقم أكبر لأن هناك رحلات استطلاع كثيفة للقوات الأمريكية لا تظهر على الرادار.
صورة توضح طائرات الاستطلاع الإسرائيلية (سند)صورة توضح طائرات الاستطلاع الأمريكية (سند)
وهذه مجرد أمثلة بسيطة عن المعلومات المتاحة حول تلك الرحلات، لأن تتبُّعها معقّد ويحتاج إلى مجهودات وخطوات مختلفة. سنحاول أن نفهم الكيفية التي تتبعنا خلالها مسار رحلات طائرات الاستطلاع فوق قطاع غزة. الخطوة الأولى في هذه العملية تتضمن تحديد منطقة الاهتمام والفترة الزمنية لرصد تلك رحلات فوقها، مثل اختيار القواعد العسكرية القريبة من قطاع غزة، التي تنطلق منها رحلات الدعم العسكري. فمثلًا يظهر عدد كبير من تلك الرحلات في القواعد العسكرية في قبرص واليونان وإيطاليا، وفي مقدمتها القاعدة البريطانية الأشهر "أكروتيري" (Akrotiri) في جزيرة قبرص، بجانب مطار "خانيا" الدولي بجزيرة كريت اليونانية. وفي الخطوة التالية، يعمل الفريق على جمع البيانات الخاصة بتلك الرحلات الجوية عبر التعاون مع مواقع متخصصة، مثل موقع "رادار بوكس" الذي يوفر قائمة بكل الطائرات التي أقلعت أو هبطت بتلك المنطقة في الفترة الزمنية المحددة.
ثم يفرز الفريق ويُصنِّف تلك البيانات للتأكد من صلتها وارتباطها بالملف الذي نحاول دراسته وفهمه، وفي حالتنا هو التركيز على رحلات الدعم العسكري ورحلات الاستطلاع. وبعد جمع البيانات، يأتي دور أدوات تحليلها، التي تساهم في استخراج رؤى ومعلومات قيمة حول هذه الرحلات. إذ تساعد عملية تحليل البيانات في وصول الفريق لمعلومات تفصيلية مثل عدد الرحلات والجهات المشغلة لها، بجانب أنواع الطائرات، وغيرها من التفاصيل المهمة التي تساعدنا في فهم طبيعة تلك الأنشطة الجوية في سماء قطاع غزة. ثم تأتي الخطوة الأخيرة بالتحليل الجغرافي لمسارات الرحلات باستخدام برامج نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، الذي يساعد في تحديد الأماكن التي مرت بها الطائرات، بالإضافة لتمثيل تلك الرحلات بصريًا على الخرائط، كما يظهر في الصور السابقة.
هل طائرات واشنطن في خدمة الإبادة؟
كما ذكرنا، توفر لنا البيانات معرفة أنواع الطائرات التي تستخدمها القوات الأمريكية في رحلات الاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية، ومنها يظهر اعتماد القوات الأمريكية على عدد من الطائرات بقدرات ومواصفات مختلفة، وأهمها طائرة الدوريات البحرية متعددة المهام "بوينغ بي 8 بوسيدون" (Boeing P-8 Poseidon)، التي تتميز في العمليات المضادة للغواصات، وتستخدم بالأساس في مهام جمع المعلومات الاستخباراتية والاستطلاع والبحث والإنقاذ. وبإمكان الطائرة التحليق على ارتفاع يصل إلى حوالي 12 ألف متر وبسرعة 907 كيلومتر في الساعة، ما يسمح لها بالاستجابة السريعة والتغطية الفعالة أثناء تنفيذ العمليات العسكرية.
يوجد أكثر من 166 طائرة من هذا الطراز في الخدمة، وبعدد ساعات طيران تخطى 560 ألف ساعة عالميًا قدمت الدعم للقوات البحرية لعدة دول. وتأتي طائرة "بوينغ بي-8" بنموذجين مختلفين، وهما النموذج المتخصص "بي-8 آي" التابع للبحرية الهندية، والنموذج "بي-8 بوسيدون" الذي تستخدمه البحرية الأمريكية وسلاح الجو الملكي البريطاني والأسترالي والنرويجي والقوات الجوية الملكية النيوزيلندية. وقد صُمِّمت الطائرة لتعمل في الخدمة على مدار 25 عامًا أو 25 ألف ساعة طيران في البيئات والظروف البحرية القاسية.
(الجزيرة)تستخدم القوات الأمريكية أيضًا طائرة أخرى من شركة بوينغ في عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات الاستخباراتية وهي طائرة "بوينغ آر سي 135" (Boeing RC-135)، وهي ضمن عائلة طائرات الاستطلاع الكبيرة لدى القوات الجوية الأمريكية، إذ يبلغ طولها نحو 41 مترا، ويبلغ طول جناحيها 40 مترا، ويصل ارتفاعها إلى 12.7 مترا. وتعمل الطائرة بأربع محركات، ويمكن أن يصل عدد أفراد طاقمها إلى 27 فردًا، وتصل سرعتها القصوى إلى 933 كيلومتر في الساعة، ويمكنها التحليق على ارتفاع يصل إلى 15 ألف متر.
بدأ استخدام "بوينغ آر سي 135" عام 1964، وتطورت على مدار السنوات التالية لتعزيز قدراتها، وقد أُنتِج منها عدد من النماذج المتخصصة، المجهزة بأنظمة استشعار متطورة لجمع وإرسال المعلومات الاستخباراتية في الوقت الفعلي. على سبيل المثال، يوفر النموذج (RC-135V/W Rivet Joint) استخبارات الإشارات، ويقدم نموذج (RC-135U Combat Sent) جمع المعلومات الاستخباراتية الإلكترونية.
وتستخدم القوات الأمريكية كذلك الطائرة المُسيَّرة "آر كيو 4 غلوبال هوك" (RQ-4 Global Hawk)، وهي من أهم طائرات الاستطلاع لدى الجيش الأمريكي. وقد بدأ تطوير المُسيَّرة عام 2001، مع تطوير نُسَخ أحدث على مدار السنوات التالية، وتتولى شركة "نورثروب غرومَّان" (Northrop Grumman) إنتاجها، ويدير المشروع وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة "داربا" DARPA. ويمكن للمُسيَّرة الطيران بسرعة 574 كيلومتر في الساعة، على ارتفاع 18 ألف متر ولمدة تصل إلى 34 ساعة، وبهذا تغطي مساحات جغرافية واسعة، وهي مزودة بمستشعرات مختلفة للاستطلاع والمراقبة في مختلف الأجواء بما يشمل التغطية المستمرة بالتصوير في الوقت الفعلي، واستخبارات الإشارات، وإمكانية تحديد الأهداف المتحركة.
أما المُسيَّرة الأشهر والأقوى لدى القوات الأمريكية فهي "إم كيو-9 ريبر" (MQ-9 Reaper)، التي تتميز بقدرتها على حمل أسلحة منها صاروخ AGM-114، والقنبلة الموجهة بالليزر GBU-12 Paveway II، وذخائر من طراز GBU-38. وتوصف "ريبر" بأنها من أهم المُسيَّرات في الأسطول الأميركي وإحدى مقومات قوته، ويمكنها الطيران لمسافة 1850 كيلومترا، دون التزود بوقود إضافي، ويمكنها أيضًا تنفيذ مهام متعددة على ارتفاعات متوسطة، وهي مجهزة بنظام رادار ينقل البيانات لعدد من الطائرات أو المواقع الأرضية. كما تستطيع "ريبر" اعتراض الاتصالات الإلكترونية المنبعثة من أجهزة اللاسلكي والهواتف الخلوية، وتلعب دورا محوريا في عمليات الاغتيال والاعتقال. وقد استخدمها الجيش الأميركي في المهام الاستخباراتية وجمع المعلومات، قبل أن يطورها ويستعملها في ضرب الأهداف وقصفها، بعدما بدأ يستخدم طائرة "آر كيو-4 غلوبال هوك" للمراقبة وجمع المعلومات.
الدعم الأمريكي غير المشروط مستمر لإسرائيل، لأن الأصوات الأقوى في الحكومة الأمريكية لا تزال تُصِر على استمرار هذا الدعم (رويترز) دعم غير مشروط، رغم أنف الجميعأثار كل هذا الدعم الأمريكي غير المشروط حفيظة عدد من المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وتصاعدت أصوات تطالب بأن يخضع هذا الدعم للرقابة. وقد أشار "براين فونيكين"، المستشار في البرنامج الأمريكي التابع لمجموعة الأزمات الدولية ICG، إلى أن الدعم الاستخباراتي "قد يثير من المخاوف والقلق أكثر مما قد يفعل الدعم العسكري التقليدي، خاصة المعلومات التكتيكية التي تشاركها المخابرات الأمريكية مع نظيرتها الإسرائيلية، مثل تحديد أهداف القصف وعمليات الاستطلاع المختلفة". ويرى كذلك بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي أن المساعدات العسكرية لا يجب أن تستمر دون شروط، بعدما اقترح أكثر من عشرة أعضاء بالمجلس من الحزب الديمقراطي تعديلاً على مشروع قانون لفرض شروط على المساعدات العسكرية الأمريكية للكيان الصهيوني.
تمتلك الولايات المتحدة الأدوات اللازمة للضغط على إسرائيل بما يتجاوز مجرد التصريحات التي يُدلي بها المسؤولون، ولعل أدوات الضغط تمكنها من إنهاء الحرب في قطاع غزة إذا توفرت الإرادة. فيمكن لواشنطن مثلا فرض رقابة على المساعدات العسكرية، أو التوقف عن الدفاع عن دولة الاحتلال في الأمم المتحدة، أو إيقاف المساعدات الاستخباراتية التي تقدمها أثناء الحرب، حتى أن بعض نواب الكونجرس الديمقراطيين اقترحوا مشروع قانون للحد من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل، لكن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن رفضت بشدة كل هذه التحركات.
ولذا، فإن الدعم الأمريكي غير المشروط مستمر لإسرائيل، لأن الأصوات الأقوى في الحكومة الأمريكية لا تزال تُصِر على استمرار هذا الدعم. لعل إسرائيل لم تصبح بَعْد العبء الذي يُثقِل كاهل الولايات المتحدة كقوة كُبرى إقليميا ودوليا، غير أن وصولها إلى هذه المرحلة يقترب يوما بعد يوم أكثر من أي وقت مضى.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد الاستخبارات الأمریکیة الاستخبارات الأمریکی المقاومة الفلسطینیة معلومات استخباراتیة عملیة طوفان الأقصى أکتوبر تشرین الأول وکالة الاستخبارات أجهزة الاستخبارات عملیات الاستطلاع القوات الأمریکیة طائرات الاستطلاع الولایات المتحدة أجهزة المخابرات فی الشرق الأوسط لجمع المعلومات وجمع المعلومات القوات الجویة الثانی الماضی دولة الاحتلال الأمریکیة فی على قطاع غزة تلک الرحلات أهداف القصف تحدید أهداف فی قطاع غزة على ارتفاع هذا الدعم حرکة حماس على مدار أکثر من الم سی عدد من الذی ی
إقرأ أيضاً:
العقوبات الأمريكية: ما مَكْمَنُ التأثير؟
الواثق كمير
kameir@yahoo.com
تورونتو، 27 يناير 2025
سألني بعض الأصحاب: ما هو تأثير العقوبات الأمريكية في حق القائد العام للجيش السوداني على أوضاع الحرب في البلاد؟ بدوري، "سألت وبحثت وما خليت" حتى أوفر إجابة موضوعية وأقدم قراءة عن ماهية التأثير ودرجته وعلى من يكون هذا التأثير، وكيفية مخاطبة الأمر من قبل الحكومة.
رأيي في هذا المقال المقتضب أنّ هذه العقوبات لن تسهم في تغيير مجرى الحرب أو وقفها، ولا أحسب أن يكون لها، بحسب طبيعتها المالية الشخصية، تأثيراً ملموساً على الأوضاع الاقتصادية. بل فإن مَكْمَنُ تأثيرها سيكون على العلاقات الثنائية بين السودان وأمريكا، في سياق العلاقات مع المجتمع الدولي قاطبة.
إنّ الرك والمحك لوقفِ الحرب مرهون بموازين القوة العسكرية على الأرض بين الجيش والمليشيا. فالحرب بين الجيش السوداني والجيش الشعبي لتحرير السودان لم تتوقف حتى أدرك كل من الطرفين المقولة السودانية (تلت المال ولا كتلته)، عندما وصل الطرفان إلى نقطة توازن القوة هذه بأن ما يحققه السلام أفضل من مواصلة الحرب. وذلك، بالرغم من العقوبات الأمريكية الثقيلة التى توالت على حكم نظام الإنقاذ منذ سنواته الأولى. فبعد إدراج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993, فرضت عليه عقوبات اقتصادية متعددة ومتنوعة في 1997، ولحد تخفيض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين لأدنى درجاته.
وبالرغم من أنّ التجارب أثبتت عدم جدوى العقوبات، بخلاف تأثيرها المعنوي المؤقت، إلاّ أنّها لا تخلوا من آثارٍ سياسية سالبة بالنسبة لأمريكا، خاصة بعد اعتراف وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلنكن، بفشلهم في إيقاف الحرب وإعرابه عن أسفه. فيرى كثيرٌ من السياسيين والمراقبين أنّ خسارة هذه العقوبات بالنسبة لأمريكا أكبر من نفعها، إذ أنها ستطلق يد الحكومة للتحلل من، ولتجاوز المناورات الأمريكية والتركيز على حسم الجيش للمعارك. فبجانب أنها قد تطعن في مصداقية أي وساطة أمريكية، بجانب أنّها ربما تخدم القائد العام للجيش أكثر من توقيع الضرر عليه وتجعلة بطلاً قومياً تلتف حوله قطاعات شعبية واسعة.
العقوبات: هل تضع الجيش والمليشيا الدعم على كفة واحدة؟
إبتداءاً، لم يكن قرار فرض العقوبات الامريكية على القائد العام للجيش مُفاجِئاً، بل كان متوقعاً أن يصدر مباشرة بعد أن طالت العقوبات قائد مليشيا الدعم السريع في 8 يناير الجاري. فغياب العمق الاستراتيجي في سياسة الإدارة الأمريكية لإنهاء الحرب، يجعلها تستخدم العقوبات في شكل مصفوفة تفرض على الجيش ومليشيا الدعم السريع سوياً بالنظر إلى الجانبين على أنهما "طرفان متحاربان". فمنذ أواخر مايو 2023، بعد أقل من ستة أسابيع من اندلاع الحرب، فرضت هذه الإدارة عقوبات اقتصادية عليهما شملت منع التأشيرات وحظر التعامل مع شركاتٍ تابعةٍ لهما، وتبعتها عقوبات على نفس الشاكلة خلال عام 2024. هكذا، فإنّ أى اجراء كانت تصدره الإدارة الأمريكية ضد مليشا الدعم السريع كان يعقبه إجراءٌ مماثلٌ ضد الجيش، ولذلك عندما عاقبت حميدتي أدرك الجميع أن مسك الختام سيكون البرهان.
وبالرغم من أنّ هذه السياسة الأمريكية تُحمل الإدارة الجيش وقوات المليشيا مسؤولية استمرار الحرب، ولكنها لا تضعهما على كفةٍ واحدةٍ أو تساوي بينهما في طبيعة ودرجة الجرائم المرتكبة. ففي اليوم التالي لانهيار مفاوضات جدة، 6 ديسمبر 2023، اتهمّ وزير الخارجية الأمريكي الجيش والدعم السريع بارتكاب جرائم حرب، بينما خصّ المليشيا بتحمّيلها مسؤولية جرائم ضد الإنسانية وممارسة التطهير العرقي.
وفي أولِ اجتماعٍ لوفد الحكومة السودانية مع المبعوث الأمريكي الخاص، توم بيربللو، بجدة في 9 أغسطس 2024، بخصوص الدعوة الأمريكية لمفاوضات جنيف، عبرّ الوفدُ عن هواجسه ومخاوفه من موقف الإدارة الأمريكية حول المستقبل العسكري والسياسي للمليشيا. ومن أهمّ الإنجازات التي عددها رئيس الوفد الحكومي، د. بشير أبو نمو، في تقريره المُفصل عن الإجتماع هو
انتزاع الاعتراف بعدم المساواة بين القوات المسلحة والمليشيا المتمردة من الناحية القانونية والشرعية، من جانب الولايات المتحدة. فعلى حَدِّ قوله أنَّ المبعوث قد أوضح أنَّه "يؤيدنا تماماً في هذا الطرح وأنه يقوم بتصميم هذه العملية حتى لا يتمكن الدعم السريع من تحقيق المزيد من التوسع في عملياته مما قد يشير لانتصاره، وأنهم لا يرغبون في وجود الدعم السريع أو أن يكون له دور سياسي في مستقبل السودان، وأن مستقبل السودان سوف يحدده الشعب السوداني الذي يرفض الدعم السريع تماماً. مبيناً أن أمريكا لا تضع الدعم السريع في نفس المرتبة الأخلاقية والقانونية الشرعية التي تضع فيها القوات المسلحة، وأن مباحثات جنيف المحتملة لن تضفي أي صفة قانونية على قوات الدعم السريع".
ومما يعزز فرضية أنّ الإدارة الأمريكية لا تساوي بين الجيش ومليشيا الدعم السريع هي تحركات وتوجهات وتصريحات المبعوث الأمريكي منذ ذلك الحين، وحتى بعد انتهاء فترة تكليفه الرئاسي:
1. حتى بعد فشل المحادثات الثنائية بين الوفدين الأمريكي والسوداني ورفض الحكومة والجيش المشاركة في مفاوضات جنيف، التي دعت لها أمريكا وعولت عليها في إحداث اختراق في مهمة وساطتها، لم تثن المبعوث من مواصلة التواصل مع الحكومة. وبالفعل بذل مجهوداً مُقدراً في الحصول على التصريح الأمني security clearance الذي يسمح له بالدخول إلى بورتسودان ومقابلة القائد العام للجيش وبصفته كرئيسٍ لمجلسِ السيادة، بل واجتمع مع رئيس مجلس السيادة، ووزير الخارجية، وهذا ما حدث بالفعل في 18 نوفمبر 2024.
2. وفي حديثه مع الفريق البرهان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة (24-28 سبتمبر 2024)، أكدّ له المبعوث الخاص بشكلٍ واضح أنّ الإدارة الأمريكية لا ترى مستقبلاً سياسياً لمليشيا الدعم السريع في الحياة السياسية أو المشهد العسكري في البلاد، وأنهم لا يساوون مطلقاً بين المليشيا والجيش الوطني. وعززّ المبعوث قوله هذا بفعله، إذ ذهب إلى بورتسودان بعد أقل من شهرين من هذا اللقاء واجتمع مع القائد العام للجيش ورئيس محلس السيادة في مكتبه.
3. بينما في نفس الوقت، ولو أنّه قابل وفد التفاوض للمليشيا، إلاّ أنّ المبعوث الخاص لم يحرصُ أبداً على اللقاء كفاحاً مع قائد مليشيا الدعم السريع طوال فترة تكليفة التي كادت أن تُكملّ عاماً كاملاً، رغماً عن أنّ مهمته كوسيط تُملي عليه أن يلتقي بكافة قيادات أطراف الأزمة.
4. التقى المبعوث مع طيفٍ واسعٍ من القيادات السياسية والمجتمعية والأهلية السودانية في بورتسودان وفي عددٍ من عواصم بلدان المنطقة، مؤكداً في كل هذه اللقاءات نفس الموقف من المليشيا في مقارنتها مع القوات المسلحة السودانية.
5. أما في خطابه إلى المجتمعين السياسي والمدني في الداخل الأمريكي، فربما أنّ أقوى تصريحات المبعوث الخاص، كانت قبل بضعة أيام من نهاية تكليفه، في ندوة نظمها المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية (CFR) بواشنطون بمثابةِ وداعٍ له، في 16 يناير المُنصرم. اقتبسُ مما قاله فقد بالحرف مخاطباً الحضور من الفاعلين في الإدارة الأمريكية وقيادات الرأي العام في أمر شرعية مليشيا الدعم السريع "إذا نظرت إلى العام الماضي، فربما كانت قوات الدعم السريع في ذروة شرعيتها *المتصورة*. فلقد هيمنت على ساحة المعركة وبدأت في إنشاء زخم حيث كان هناك بعض التحرك للبدء بالقول، مهلاً، ربما نحتاج إلى الاعتراف بهؤلاء الأشخاص. وقد كان قائدهم يقوم بجولاته، ويتم الترحيب به تقريبًا مثل رئيس دولة في المنطقة. وإذا أعدت النظر بعد مضي عام على ذلك، فقد نقلنا العقوبات إلى العائلة، عبر الإخوة، وصولاً إلى حميدتي، الذي صُنِفّ بارتكاب إبادة جماعية، وبدأنا في ملاحقة بعض شركات المشتريات التابعة له". وختم المبعوث خطابة بقوة بقوله "*وأعتقد أن الشيء الوحيد الذي لا ينبغي أبدًا أن يكون قابلاً للتفاوض في هذا الأمر هو منح أي شرعيةٍ أو شرعيةٍ حاكمة لقوات الدعم السريع*". (انتهى الاقتباس).
لذلك، حينما نأتي للقراءة الموضوعية لمدى ودرجة خطورة العقوبات على القائد العام للجيش مقارنة بالعقوبات التي سبقتها من نفس الإدارة على قائد مليشيا الدعم السريع، نجد أنّ هناك تمييز جوهري وفرق واسع بين الاثنين. ففي معايير ثِقل وجِسامَة الجرائم المرتكبة خلال الحرب، تُعدُ الإبادة الجماعية من أفدح الجرائم الأساسية تليها الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب.
فحيثيات العقوبات المفروضة على القائد العام للجيش تقوم على: استهداف الجيش للمدنيين والبنية الأساسية المدنية، ومنع وصول المساعدات، إضافةٍ إلى رفض المشاركة في المحادثات التي دعت لها الإدارة الأمريكية في أغسطس من العام الماضي. فمثل هذه الانتهاكات تُصنف كجرائمِ حرب وتُعتبر أقلّ جسامةً في ميزان انتهاكات القانون المدني الإنساني gravity scale)). بينما مسوغات العقوبات على قائد مليشيا الدعم السريع فدافعها الأساس هو ما خلُصت إليه الإدارة الأمريكية بأنّ المليشيا والفصائل المتحالفة معها ارتكبوا إبادة جماعية في السودان. بالإضافة إلى أنّ هذه القوات، على لسان وزير الخارجية الأمريكي، قد "استمرت في مهاجمة المدنيين وقتل رجال وصبية على أساس عرقي واستهداف نساء وفتيات من جماعات عرقية بعينها عمدا لاغتصابهن وممارسة أشكال أخرى من العنف الجنسي". بجانب أنّ العقوبات الصادرة من الخزانة الأمريكية على قائد المليشيا تضمّنت عقوبات على سبع شركات تقوم بِتمويل وتزويد قواته بالأسلحة، كما تشمل حظر جميع الممتلكات والمصالح الخاصة بالكيانات المدرجة في القرار، سواء كانت موجودة في الولايات المتحدة أم في حوزة أو تحت سيطرة أشخاص أمريكيين. وربما الأهم أنْ العقوبات فرضت حظراُ على قائد المليشيا وأسرته من السفر إلى أمريكا، بينما لم تضع الإجراءات ضد القائد العام للجيش قيوداً على تحركاته الخارجية.
ولذلك، فإنّ ردود الفعل والتعامل مع أمر العقوبات ينبغي أن لا يقوم على الخطاب *الشعبوي* القائم على التحشيد والشجب والإدانة والتنديد بسبب فرض عقوبات على القائد العام للجيش أُسوة بقائد للمليشيا، فالأمرانِ مختلفانِ نوعاً وكماً. فقد تبنى نظام الإنقاذ، خلال النصف الأول من عُمرِهِ، نهج هذا الخطاب في مقاومته للعقوبات الأمريكية والذي يحمِلُ في طياته المعاداة الإيديولوجية العمياء للغرب، عبرت عنه شعارات تجاوزها وعفى عليها الزمن على شاكلةِ "أمريكا قد دنا عذابها". وتصاحب ردود الفعل المتسرعة هذه دعواتٌ للإنخرط في المحاور الدولية بالقطيعة مع أمريكا، والغرب عموماً، والتوجه شرقاً بالتحالف مع روسيا (ولنُستذكر ما جنى الأسد من تحالفه معها في نهاية المطاف). لا أدري، ما المشكلة في أن يكونّ لنا علاقات مع أمريكا ومع روسيا، على حدٍ سواء، يقوم تعريفها على أساس مصالح السودان القومية، دون أن نقع في أحضان أيٍ من المُعسكرين؟
وللمفارقة، فبعد أن تاكثرت الزعازع على نظام الإنقاذ بعد انفصال الجنوب، شرع النظام في سنواته الأخيرة في الطرق على باب الحوار، والسعي الحثيث نحو استعادة علاقاته مع أمريكا بالتواصل engagement السياسي والطرق الدبلوماسية. فمنذ أواخر عام 2014، ابتدرت حكومة الإنقاذ مسارين للتفاوض مع الإدارة الأمريكية على مواضيع الخلاف (تم تحديد خمس قضايا رئيسة) التي فُرِضت العقوبات الاقتصادية على إثرها، على أن تكون النتيجة النهائية للمسار الأول هي إلغاء هذه العقوبات. وبالفعل فيما يتصل بهذا المسار، أصدر الرئيس أوباما في يناير 2017، وهو على أعتاب مغادرة البيت الأبيض، قراراً بإلغاء الأمر التنفيذي للرئيس كلنتون الذي تأسست عليه العقوبات التجارية والمالية في عام 1997، كما اعتمدت إدارة ترمب رفع العقوبات بقرارٍ تنفيذيٍ جديدٍ في أكتوبر 2017. ومن ثمّ، تم تحديد المسار الثاني للمحادثات أيضاً حول خمس قضايا خلافية شملت: الحريات العامة، الحريات الدينية، العلاقات مع كوريا الشمالية، العمل الإنساني، والقضايا الأمريكية المرفوعة ضد السودان (تفجير سفارتي أمريكا في شرق أفريقيا وقضية المُدمرة كول)، على أن تكون المحصلة النهائية لهذا المسار هي رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. بالرغم من أنّ المحادثات في هذا المسار كانت قد قطعت شوطاً مُقدراً إلاّ أنّها لم تصل إلى نهاياتها المنطقية، إذ تفجّرت ثورة ديسمبر مما دعا إدارة ترمب لتعليقها في فبراير 2019. ومع ذلك، فإنّ ما تم التوصل إليه من تفاهمات حول هذه المواضيع الخمسة مهدّ لحكومة الفترة الانتقالية (تقريباً بنفس الفريق التفاوضي) إسدال الستار على هذه الملفات ورفع السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب في منتصف ديسمبر 2020.
خاتمة
إنّ فرضّ إدارة الرئيس بايدن العقوبات على قائد مليشيا الدعم السريع والقائد العام للجيش قبل أسبوعين فقط من نهاية ولايتها، خاصة تحديد determination انتهاكات المليشيا وتصنيفها كجرائم "*إبادة جماعية*"، هو بمثابة تمرير البطاطس الساخنة إلى إدارة الرئيس ترمب (بمعنى تجنب التعامل بسرعة مع قضية صعبة أو مثيرة للجدل عن طريق تسليمها لشخص آخر). ومن التصريحات المتفرقة لقيادات من الحزب الجمهوري الحاكم، وعلى رأسهم المرشح المُعتمد لمنصب وزير الخارجية، يبدو أنّ إدارة الرئيس ترمب ستتعامل مع هذه البطاطس بتبني نفس موقف ادارة الرئيس بايدن تجاه مليشيا الدعم السريع. فمن الصعب عليه التراجع من هذا الموقف سياسياً وأخلاقياً، خاصة وأن قيادات الحزب الجمهوري في الكونقرس، على رأسهم السيناتور جيم ريتش، قد طالبوا الإدارة منذ عامٍ مضى بوصف فظائع المليشا ب "الإبادة الجماعية".
فعلى خلفية هذا التحليل، أظّنُّ أنّ التعامل مع العقوبات الأمريكية وكيفية احتوائها ينبغّي أن يقومّ على التواصل السياسي political engagement والطرق الدبلوماسية. وذلك، من خلال مواصلة المحادثات لبناء الثقة ومحاولة بناء علاقات ثنائية مستقرة بين السودان والولايات المتحدة، وفي سياق خطابٍ إيجابي ورسائل موجبة بلغة للمجتمع الدولي قاطبة وفق ما تقتضيه مصالح السودان العُليا.
نقطة البداية لهذا التواصل السياسي مع الإدارة الأمريكية الجديدة تبدأ بتعريفِ وتحديدِ القضايا الأساسية والحاسمة لمستقبل العلاقات السودانية الأمريكية، وفي تقديري أنّ الرئيس ترمب سيُعين مبعوثاً خاصاً خلال هذا العام. ولعل بعض أعضاء الفريق السابق لإدارة ترمب من المُلمين بالشأن السوداني قد يكونوا حُضوراً (من أمثال بيتر فام وتيبور ناج)، مما يُسهل الوصول إلى تفاهماتٍ مُشتركةٍ . وهذا بدوره يعني أن تُطوِّر الحكومة تصوراً واضحاً بشأن: 1) وقف وإنهاء الحرب، ودور الإمارات والدول الأخرى التي تعيق ذلك، و2) الانتقال إلى الحكم المدني، بعد عملية سياسية تأسيسية تتسم بالشمول تقود إلى انتخابات حُرة ونزيهة، ضمن أجندة وخارطة طريق المحادثات بين الجانبين.
بجانب ذلك، ففي رأيي أنّ شاغلين رئيسيين سيحكُما توجة الرئيس ترامب ويتحكما في سياسته تجاه السودان، مما يتطلب من الحكومة إعداد العدة والاستعداد لمخاطبتهما بما يصب في مصلحة السودان. أولهما: رغبته الأكيدة في توسيع مظلة التوقيع، والمضي قُدماً في "*الاتفاقيات الإبراهيمية*"، خاصة وأن السودان ودولة الإمارات من الموقعين عليها. وما يُعزز هذه هو الفرضية أنّ "*مشروع 2025*"، أو المخطط التفصيلي، لسياسة إدارة ترمب لم يذكُر السودان في صفحاته التسعمائة إلاّ في سياق "معاهدة اتفاق إبرهيم للسلام". والشاغل الثاني للرئيس ترمب هو الاستثمارات الاقتصادية في أفريقيا عبر الشركات الأمريكية، خاصة في مجال الوقود الأحفوري fossil fuels وهو ما ظلت تحاربه إدارة بايدن في مقابل مصادر الطاقة المُتجددة، الأمر الذي ركز عليه وزير الخارجية القادم في جلسه اعتماده أمام مجلس الشيوخ. وربما شاغلٌ ثالثٌ للرئيس ترمب في اتجاه تعامل الولايات المتحدة مع السودان هو العلاقات مع روسيا والصين في ظلِ الاستقطاب الحادث الآن، خاصة في سياق ما يتردد من سعي روسيا للظفر بقاعدة عسكرية على البحر الأحمر.