تحت عنوان كاسكيت الدرك... كلاس في عيد قوى الأمن: نحن نندَهُ نطلبُ وهي تستجيب
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
كتب وزير الشباب والرياضة في حكومة تصريف الأعمال الدكتور جورج كلاس على صفحته في وسائل التواصل الإجتماعي تحت عنوان "قبّعـة الجندرمة (كاسكيت الدرك)، لمناسبة عيد قوى الامن الداخلي: "كان أبي، حضنه الله، دركياً وارف الجبين نقّي الكفّ، عشير البسمة، مشاعي القلب، عنيداً في المناقبيات، حريصاً على هندسة هندامه وتخيّر الفاظه ومعنى كلامه، فهو "ابن حكومة"، وصورة الدولة بين الناس.
أضاف: "حفظت الوصية وعّقتها في عنقي قلادة. شغلني بوالدي، وانا أتدرّب السير في معارج الحياة، وانفطم عمّا يُبهِجُ الولد ، العلاقة التي كانت بينه وبين قبّعته، والذي بعد ان تقاعد من السلك، حملها معه الى البيت من المخفر، ذخيرة، يتبرّك منها ويباركنا بها، ويدمع لأيام عزّها، مستذكراً ما كانت تعنيه من مجد، وطمأنينة سلامية للناس. ما أثار فضولي، احترامه الشديد للقبعة التي استودعها رأسه لثلاثين سنة من الخدمة الفعلية، تنقَّل في خلالها بين طرابلس وبيروت وحمّانا، التي أحبّها، حبّه لبلدته البقاعية رأس بعلبك، فسكنّا فيها ستاً وعشرين سنة، كانت لنا، حمّانا، (جنّة لبنان) ساحة الطفولة ومربع الصبا ومدخلنا الى الشباب ومدرسة الرجولة، لشدة ما تعلّقنا بأرضها وأهلها، فكنّا منهم ولهم، وكانوا منّا ولنا، الى حدّ الحلول، ولا نزال، والفضل، لأهل حمّانا الطيّبين، الذين لكثرة ما استلطفوا أبي أدخلوه قلوبهم، ونادوه تحبّباً بـ(جوز عمّتي)، حتى غدت تلك المناداة الناعمة لقباً لازمه، الى ان غاب. ولعلّ (جوز عمّتي)، هو الوحيد من رجال الدرك، الذي خدم في فصيلة واحدة على مدى سبع عشرة سنة متواصلة، بسماحٍ من القادة وتعلّق من وجهاء حمانا وأهلها بشخصه، لأنه أفندي البلدة، بل ابنها الأصيل، الذي ما بخل عليها بعصارة القلب ولا بعرق الجبين ولا بالدمّ، يوم تطلب الوفاء لأهلها قربانة دم".
وتابع كلاس: "شغلني بأبي، أيُّ إعتناء كان يصرفه بالحرص على قبعته، حبّة البركة، فكان متى رفعها عن رأسه حضنها كما الجوهرة، ووضعها أرفع مكان في البيت، خوفا على معنى القبعة وكرامة الأرزة وما تحتها من ذخائر. وكم لافتٌ ولذيذ ان تدفعني حشرية الولدنة الى اللعب بالقبعة، في بَرْقة طَيْش وتخلٍّ، فأختلسها للحظة، متمثلاً الأفندي الكبير، بهناءات وظيفته، مزهواً بأنني ابن دركي، وكأن الدنيا لي، فيردعني أبي، وكأنني صانع الكبائر، أو متجاسر على كرامة البذّة العسكرية، أو مخلّ بأمن ذكرياته الكاكية، فينبهني بعبسة رضى وبنبرة جادّة، ان الكاسكيت شرف العسكري وعنوان هيبته، فلا مزاح معها ولا لهو بها، هي للمهات فقط، كنت مطيعاً لأبي، اتهيّب كرامة الدرك، وفعلت كما كان يفعل، قبَّلت قبّعته برجفة وَجَل، ورفعت اليه "ذخائره"، كأغلى من اغلى التقدمات. خفضت رأسي وأقفلت عينيَّ على زعلة، قلت عفواً، وأقسمت الاّ أدخل قدس أقداسه إلاّ وأنا مستحقّ لعزٍّ ما فوقه عزّ... هو ان أكون ابن دركي وابن (جوز عمتي) بالذات".
وقال: "لفتتني في سلوكيات أبي، المناقبية المدنية التي عاشها وربّانا عليها، من خلال تصرفاته، المرافقة لإستعمالات قبّعة الدرك. فها هو يحتضنها، كأغلى الأشياء على قلبه، ويحترمها، وكأنه في حضرة القائد، وها هو يرفعها احتراماً، اذا ما مرّ أمام كنيسة أو جامع، وهاكه يرفعها وقاراً اذا ما مرّت جنازة، أو يحملها بيده اذا ما سلّم على كبير مقام، أو حامل سنين من العمر، يفعل ذلك باحترام، وكأن شرف العسكري في سلوكيات قبّعته".
وأردف: "مرّة، قرّرت ان اقف على معنى مواظبة ابي على تقبيل قلب قبّعته مغمضاً عينيه، وكأنه أمام ايقونة! صمّمت على إكتشاف سرّ مهنة الخشوع للقبعة، التي ما دخلنا كنيسة أو مزاراً، الاّ ومشحها بماء جرن التبرّك وحنى رأسه، في رتبة سجود، وصلّى بصمت. جمعت ضعفي وسألته متهيّباً الموقف خوف المزاح، وكان الجواب دمعة باردة، سرعان ما لمعت في عَينه قبل ان تبلعها غصّة، لأن الدركي لا يبكي. حضنني وأخبر: "يوم تطوّعت في سلك الجندرمة، قدَّمتْ لي جدتك (صورة مكرّسة لسيدة رأس بعلبك) وطلبَتْ مني ان اتبرّك من ايقونتها العجائبية، لأنها ستحفظني وتبارك ايامي. ففعلت برضىً عظيم وكنت كلما مُنحت إجازة، زرت أهلي وحججت الى كنيسة سيدة الراس، حفظاً لوصيّة امّي، التي يوم انتقلت الى رحمة الربّ، كانت راكعة للصلاة في زاوية الدار، وفي يدها صورة لأبنائها الثلاثة: كبيرنا يوسف في الجيش، وصغيرنا أنطون في الكلية البطريركية في القدس، وأنا، بعهدة الدرك. وأوجع الوجع الاّ تموت أمّك على زندك يا بني، والأوجع ان تتيتم، كلنا في اليتم طفل، يومها يا ولدي، قرّرت أن أضع صورة أمّي الى جانب صورة "سيدة الراس" في ايقونسطاس قبعتي، وكم جميل يا بني أن تكلّل رأسك ببركة العذراء وتحمي نفسك بطيف أمّك، وليس من مكان أعظم من كاسكيت الجندرمة استضيف فيها ايقونة العذراء وصورة أمّي، أخبرني، ترحّم، وتنهّد إيماناً ووفاءً لمَنْ أبّد ذكراها في قبّعته – المزار وارتاحت على خدي دمعة لأنني اكتشفت سرّ طفولة أبي، وتربيتنا على الخير".
وتابع: "تنهيدة أبي، ردّتني الى خواطر وتساؤلات، عن مواظبته على احتفالية التمجيد التي كان يؤديها للعَلم والقبّعة، وفريضة الخشوع للذخائر التي تسلّح بها في أدّق الملّمات. ويوم، تقاعد من الحياة، في تقاعده الثاني، لملمنا متروكاته. ضوّعنا سبحته وشحيمة الصلاة وذكريات الخدمة ومحفوظات الجندرمة، لمّعنا الأوسمة وكلّلنا بها قبّعة الأفندية، التي لا نزال نرفع بها رأسنا اعتزازاّ ووفاء والتي كلّما اشتقنا لمجالسة أبي، من وراء الغيم، قبّلناها كذخيرة قماشية لشفيعنا في السماء، الغائب عنّا، والهارع إلينا، غبَّ الطلب، برمشة عين".
وختم كلاس: "قُبعَةُ أبي "كاسكيت الجندرمة" ترشح كرامةً وحباً وحناناً وبركات، ولا تتأخر علينا بالعطاء . كاسكيت الدرك، سريعةُ الندهة، نحن نندَهُ نطلبُ وهي تستجيب، وما تهادنتْ لَحظَةً عن تلبية النداء".
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة
ما من مدينة أكثر أهمية إذا أردنا قراءة سمات النهوض والتطور من العاصمة السورية دمشق، فقد بقيت تستقطب على الدوام اهتمام الآخر، وعندما يتطلع المرء إليها فإنه يتطلع في الحقيقة إلى أصول الدنيا.
ويُجمع المؤرخون على أن الحياة دبت في دمشق وتواصلت دون انقطاع منذ الألف الثاني قبل الميلاد وازدهرت وتطورت، وأصبحت ملتقى القوافل التجارية الآتية من الجزيرة العربية وأفريقيا الشرقية والأناضول وآسيا الوسطى ومفترق الطرق القادمة من الهند والصين ومحطة رئيسية على طريق الحرير القديم.
وأسهم تعاقب الحضارات على أرضها في تنامي المظاهر الاجتماعية وتعدد دور العبادة وتطور نموذج السلطة الحاكمة، وعبّرت جميعها عن وجود شكل مبكر لحياة مدنية ذات بعد إنساني وصبغة روحانية اشتهرت بها المنطقة.
ومثلما سمحت قدراتها على لعب أدوار متقدمة كمدينة مركز وعاصمة قومية باتت في فترات مختلفة مسرحا لتجاذبات أممية على جانب من الأهمية جعلتها تخضع لامتحانات صعبة في الحرب والسلام دفعت أثمانها غاليا، لكنها نجحت في تجاوز تحدياتها مع مرور الوقت.
ومع ذلك، لم تكن دمشق بمنأى عن لعبة الموت على مر العصور، فقد تعمدت بالدم منذ آماد بعيدة، كما تعرضت للخراب والدمار مرات عديدة، واختفت ورودها وأزهارها، وتعفر ربيعها بسنابك خيول ملوك بيزنطة وقواد الحملات الصليبية ومصفحات ومدافع الجيوش الفرنسية، وأخيرا بدبابات البعث وطائرات وصواريخ عائلة الأسد التي حكمت سوريا منذ عام 1970 حتى سقوطها في ديسمبر/كانون الأول 2024.
إعلان مدينة مليئة بالمسرات والمتعارتبطت دمشق طبيعيا بنهر بردى الذي ينبع من سهول الزبداني على بعد 50 كيلومترا من المركز، وقد ألهبت مياهه التي تسقي ما يصطف على ضفتيه من بساتين مشاعر الكثير من أدباء الغرب ومستشرقيه ممن زاروها.
وطوقتها بساتين وهضاب طبيعية، وأضافت إليها الحدائق وأفرع النهر مشهدا خلابا، مما دفع المؤرخ الطبري إلى أن يعتبرها أحد الأماكن الأربعة في العالم المليئة بالمسرات والمتع، في حين نظر إليها الفرنسي بيير ديلفيل هيلبير كمعجزة، ومعجزتها في الغوطة، هذه الواحة الواسعة والملاذ الظليل.
روح الشرقدخلت المسيحية دمشق في زمن بولس الرسول، وبحسب سفر أعمال الرسل دُعي المؤمنون بالمسيح، مسيحيون لأول مرة في أنطاكيا عاصمة البلاد آنذاك، وأقام في مدنها عدد من الرسل الـ70 الذين عينهم يسوع بحسب إنجيل لوقا، وكان من أبرزهم حنانيا الذي غدا أسقف دمشق.
وفي أواخر العقد الرابع من القرن السادس الميلادي وصلها الإسلام على يد أبي عبيدة بن الجراح، وعيّن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان واليا عليها، وعقب وفاته حل مكانه معاوية، وخلال فترة وجيزة انفردت دمشق بقيادة الدولة الإسلامية، وأصبحت عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت حدودها من جنوب الصين إلى إسبانيا والجنوب الفرنسي.
وسوف يمنحك تجاور المساجد والكنائس في الحواري القديمة وتمازج أصوات الأذان الشجية من شرفات المآذن مع أصوات أجراس النواقيس بإيقاعاتها المؤثرة انطباعا قويا عن عاصمة بقيت وفية لتقاليدها رغم تطورها المدني والحداثي.
فقد حافظت الشام على التآخي وأصول العيش المشترك بين أديان ومذاهب احتضنت بعضها البعض ضمن نسيج متماسك، خيط من أصول واحدة.
وتماهت العلاقة بين المسيحية والإسلام داخل أحياء وحارات متعددة، لم تكن تفرق في يوم من الأيام بين دين وآخر، ليس فقط على مستوى الجوار، بل على مستوى السلطة والحياة السياسية الوطنية في البلاد.
إعلانوفي هذا الصدد، تروي الصحفية الفرنسية أليس بوللو في يومياتها كيف حاول الفرنسيون إحداث شرخ بين السكان المسلمين وجيرانهم المسيحيين أثناء ثورة عام 1925 عبر بث الإشاعات لإحداث صدع داخل الجبهة المدنية الدمشقية، قائلة "وعلى الفور تلقى غبطة بطريرك الروم الأرثوذكس كتابا من قيادة الثورة يطمئنه بعدم صحة الإشاعات، ويتعهد له على لسان سلطان باشا الأطرش قائد الثورة بأن لا خوف ولا خطر على المسيحيين من الثورة الوطنية، فهي لا تقصد إيذاءهم أو ترمي إلى إساءة معاملتهم بأي حال".
ومن الواضح أن العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان حي باب توما- القصاع أكبر الأحياء المسيحية في دمشق بجيرانهم المسلمين -على سبيل المثال- تتجاوز حدود الجيرة في كثير من الأحيان، لتبدو أقرب إلى علاقة روحية تجسد مفهوم العائلة بمنطق القيم الأخلاقية والعرف والتقاليد.
فقد كانت المسيحية والإسلام وجهين لعقيدة لم ينظر الدمشقيون إليها إلا من خلال مصدر إلهي واحد حض أتباع كل ديانة على الرحمة والتآخي ورهافة القلب.
وزاد الإسلام حين جعل الاعتقاد بالأنبياء ونبوتهم جانبا مكملا للإيمان وشرطا من شروط صحته، وخص عيسى وأمه مريم بمكانة يدرك المسيحيون أنهم لم يألفوا ما يماثلها في أي معتقدات أخرى.
وبقيت المدينة متمسكة بتراثها الديني والإنساني، وحافظت على الروحانية التي تتمتع بها رغم الحروب والمآسي، إذ صنعت من أوجاعها صورة مشرقة لطالما هزت مشاعر الذين لا يعرفونها عن قرب، كما ترجمت بتسامحها روح الشرق، تلك الروح التي كثيرا ما عبرت عن ارتباطها بقوة عليا وانجذابها العاطفي نحو الخير والجمال والمعرفة.
المدينة المقدسةتقلدت دمشق قلادة العروبة في وقت مبكر، وحين كان ينظر إليها كعاصمة حكمت جنوب المتوسط تحت راية الخلافة ومنبع تفاعل الفكر والعلم ومدينة مقدسة تضم تربتها آثار عشرات الرسل والأنبياء مكث فيها المسيح مع أمه، ودخلها القديس يوحنا المعمدان، وغدت المكان الذي وصلته كلمة الله قبل أي مكان آخر، وكان ينظر إليها بمثابة مركز إشعاع قومي شهدت أرضها أولى خفقات العروبة وتجلياتها.
إعلانوعلى هذه الخلفية تواصل استهدافها، وبقيت محط أطماع الشرق والغرب، وقطعة الجبن التي يسيل لها اللعاب كلما داعبت نوازع الشر توجهات المال والسياسة.
لقد حاول الصليبيون احتلالها بعد أن استولوا على القدس لكنهم فشلوا، واستطاع عماد الدين زنكي أن يؤسس في تلك المرحلة مع ابنه نور الدين لزمن استعادت العاصمة السورية فيه مجدها وتألقت ونهضت علومها وإبداعاتها.
ثم تابع الأيوبيون ما أنجزته الأسرة الزنكية، وبرز نجم صلاح الدين الأيوبي باعتباره قائدا ومحاربا من طراز رفيع حكم بلاد الشام ومصر وحرر القدس، وتمكن من بعده الظاهر بيبرس القائد المملوكي من تحرير أنطاكيا وطرابلس وعكا، مسدلا بذلك الستارة على ما عرف بالعصر الصليبي، عصر التوحش والدماء.
دمشق تنافس إسطنبولحافظت دمشق على تألقها كمركز ولايات ثلاث خلال فترة الحكم العثماني لبلاد الشام بعد أن دخلها السلطان سليم في 27 سبتمبر/أيلول 1516 عقب انتصاره على سلطان المماليك قانصوه الغوري في معركة مرج دابق شمالي حلب.
وتؤكد الوثائق العربية والعثمانية ارتباط شمال جبال طوروس بجنوبها بعلاقات طيبة بعد أن أصبحت إسطنبول مقرا لخلافة الإسلام، وكان من الواجب على المسلمين أن يرتبطوا بسلطة أمير المؤمنين أو الخليفة دون تردد أو انتظار.
وخلال فترة قصيرة نافست شام شريف إسطنبول عاصمة الخلافة، وبقيت المدينة الأكثر إثارة في مخيلة رواد المعرفة وباحثي التاريخ ونشطاء الفكر والسياسة.
وكان إذا ما أريد حقا التعمق بهذه الروح ومتابعة خفقاتها -وفق الكاتب الفرنسي بيير لامازيير- فإنه يجب أن تكون وجهة المرء هي دمشق لأنها قلب سوريا ودماغها.
كيف غيرت عائلة الأسد وجه دمشق؟توسعت المدينة خارج حدودها القديمة في مطلع القرن الـ20، وشهدت الأطراف الملاصقة لسورها أحياء حديثة وشوارع ممهدة وأسواقا جديدة كالحميدية ومدحت باشا وناظم باشا وعمارات ذات مسحة غربية أخذت في الظهور على امتداد الطريق الواصل بين ساحة المرجة وحي الصالحية، حيث ينتشر مركزها التجاري.
إعلانوبخلاف العواصم العربية الأخرى مثل بغداد والقاهرة لم تكن العاصمة السورية التي دخلت سجل التراث العالمي في عام 1987 مدينة مترامية الأطراف، بل احتفظت على الدوام بطابع المدينة التقليدية التي ترتبط مع محيطها بعلاقة تكاملية دون اعتماد كلي أو تراجع في مسارها، فبقيت ودودة مع محيطها تربط بينهما علاقات دافئة ومشاعر متبادلة تزداد لحمة في أوقات الشدة.
وخلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2011 ضد حكم عائلة الأسد كان محيط دمشق أكبر رافعة للثورة، لكنه دفع ثمنا باهظا على غرار ما تعرضت له المدن الناشطة على يد القوات الحكومية من عمليات قتل وتدمير ممنهجة.
لم تتصالح دمشق مع البعث منذ انقلابه في عام 1963، وأعلنت في عام 1965 عصيانا مدنيا داخل الجامع الأموي بدعوة من الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان حينئذ يقود صراعا مع الملاحدة حتى العظم، فقابلته سلطة البعث بكل قسوة، ودفعت المدرعات العسكرية لتقتحم حرم الجامع وترتكب مذبحة وتعتقل عشرات المدنيين.
تواصلت المذابح طوال عهد عائلة الأسد، لكنها ازدادت ضراوة أثناء حكم الأسد الابن، إذ لم ينجُ منها حتى الأطفال الذين خرجوا يهتفون للحرية بشكل عفوي وسلمي في الشوارع والساحات.
وفي مفارقة مؤلمة، يروي الشيخ علي الطنطاوي أنه شاهد أطفالا يتظاهرون ضد الاحتلال الفرنسي لدمشق "يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء فر من مدرسته وحقيبته لا تزال معلقة بعنقه، وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة أناشيد وطنية".
ويتابع "وقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، لقد رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب ثم انفتح برجها وخرج منه شاب فرنسي يبتسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدم لهم قطعة من الشوكولاتة ثم يعود إلى مخبئه".
إعلانفي القروسطية -التي تبوأت صدارة المشهد في ظل حكم آل الأسد- لا مكان للرحمة، فقد دعم العنصر الوراثي للعائلة الحاكمة سلوكا جرميا خطيرا، لم يكن من الوارد بحسب مقاييس الحكم الرشيد أن ينتج رئيسا عصريا يعمل لمستقبل بلاده.
فتغير تاليا وجه دمشق التاريخي والجمالي، وأمعنت معاول السلطة بتحالفها مع الزبائنية في عمليات الهدم لتغيب الديمقراطية والحريات السياسية خلف قضبان السجون والمعتقلات، وتفقد المدينة معظم معالمها الطبيعية والتاريخية، إذ لم يعد بإمكان المرء الذي يقف على جبل قاسيون أن يرى على امتداد النظر غير كتل إسمنتية رمادية اللون ابتلعت مساحاتها الخضراء الواسعة، وطقوس شعوبية تقتص من تاريخها العربي المضيء على نحو مبرمج وصريح.