أربعين قدماً ذهبية…
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
أربعين قدماً ذهبية…
مهدي رابح
في الواحد والعشرين من أكتوبر من العام 1967م توجه ما يقارب المئة ألف مواطن ومواطنة نحو مباني وزارة الدفاع في العاصمة الامريكية واشنطن دي.سي, في مسيرة سلمية للاحتجاج علي الحرب المروعة الدائرة حينها في فيتنام والتي ارتكب خلالها الجيش الأمريكي انتهاكات مروعة وبالمقابل سقط فيها ما يقارب السبعة وخمسين الف جندي امريكي.
تظل ثورة ديسمبر المجيدة هي أعمق واكبر ثورات التغيير السلمي التي سجلت عبر تاريخ السودان الحديث منذ استقلاله إن لم يكن تاريخ افريقيا ولأسباب عديدة, على رأسها مدى سلميتها مقابل عنف وإجرام نظام الحكم الديكتاتوري القائم وقدرته على تخطي كل الخطوط الأخلاقية المتخيلة الحمراء, وثانيها مدى اتساعها الجغرافي الذي تجاوز المراكز المدينية, الخرطوم تحديدا لتُشعل شرارتها الأولى منذ السادس من ديسمبر 2018م في مايرنو ثم نيالا, الدمازين, عطبرة وغيرها قبل أن تمتد الي وسط الخرطوم في الخامس والعشرين من نفس الشهر. كما أن الدور المركزي الذي لعبته المرأة السودانية في هذه الثورة والشجاعة والإقدام الذي أثبتته عبر مئات المواقف خلال المواجهات السلمية مع قوات النظام القاتلة رغم تواتر سقوط الشهيدات والشهداء وتعرض الاف العز٘ل للاغتيال والتعذيب والاعتقال التعسفي جعل منها حدثا فريدا بحق عنوانه الرئيس “سعي شعب مقهور وعظيم الى السلام والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية”.
من أكثر العبارات التي أطلقت خلال ثورة ديسمبر تميزا هي “طالعين عشانك يا بليد” والتي خاطب بها بعض المتظاهرين السلميين عسس النظام المتأهب للقتل والمحصن قانونيا ضد أي محاسبة والمدرب علي فنون قتل المدنيين والإفلات من العقاب, من على بعد يقدر بحوالي الأربعين قدما. ورغم ما قد يبدو علي العبارة من حدة فهي وبكل تأكيد تحمل في جوهرها عين رسالة الانسة جان روز بل تفوقها نبلا وبلاغة في التعبير عن ذلك التناقض الحاد ما بين النبل والوضاعة. فهنا, في شوارع مدينة كان اسمها الخرطوم, كان المدني الأعزل يواجه بالرصاص الحي الذي من المرجح ان يحصد روحه بين غمضة عين وانتباهتها بينما وفي المقابل كانت الانسة روز تواجه جيشا مهنيا محترفا, ورغم ما ارتكبه من فظاعات في فيتنام وغيرها من بقاع العالم, فهي تعلم يقينا انه لن يُقدم علي قتلها في وطنها, ما مكنها من تجاوز مسافة الاقدام المعدودة لتزين البندقية بتلك الزهرة. ما مكنها من قطع تلك المسافة في المقام الأول أيضا هو وعيها التام بانها تعيش في رحاب دولة طبيعية بمعايير منظومة القيم المعاصرة, دولة تتبنى مبادئ المواطنة المتساوية وحرية التعبير والحقوق المدنية وحق الشعب في حكم نفسه عبر الاليات الانتخابية والفصل بين السلطات الثلاث والتي يخضع فيها الجميع بغض النظر عن نفوذهم لسيادة حكم القانون والأهم من ذلك التي يخضع فيها الجيش الأقوى والاحدث في العالم خضوعا تاما للسلطة السياسية المدنية ويعمل فيها القطاع الأمني لتوفير سلعة الامن لكل المواطنين بدلا عن قتلهم وقمعهم حماية لنخبة اللصوص المتنفذة التي تسيطر على مقاليد الحكم بالقوة, حماية أولئك الذين اشارت اليهم احدي هتافات الثورة البليغة بوضوح:”سليمة, سلمية, ضد الحرامية”.
اذا لمَ لمْ تخلد عشرات شعارات الثورة والصور التي التقطت لمئات المواقف البطولية في الذاكرة الجمعية؟, وهل يتسنى يوما ما لآنسة سودانية يافعة قطع مسافة “الأربعين قدما الذهبية”؟. وهل ما زال هناك بصيص امل ان نعيش وابنائنا وبناتنا يوما في رحاب دولة طبيعية اسمها السودان؟. دولة دفع فيها الأبرياء اليوم الثمن الأعلى لحرب المجرمين منذ ال 15من ابريل 2023م, قتلا لما يفوق ال 150,000 حسب بعض التقديرات واغتصابا واصابة بالجراح لمئات الآلاف وما يفوق ال 10 مليون لاجئ ونازح و 2 مليون يواجهون المجاعة واجيال قادمة ضاع مستقبلها بفقدانها الفرصة في التعليم ومجتمعا ممزقا ومجي٘شا ومصابا بالذهان حاملا للسلاح تحت الالوية القديمة الحمقاء للقبيلة والعرق وبنى تحتية مدمرة بصورة شبه كلية.
حين بادر عناصر النظام السابق “الحرامية” في إطلاق شرارة الحرب كانوا يعلمون تمام العلم أنها متى ما انفجرت فإنها ستتحكم في زمام ديناميتها الخاصة بها وحدها وتوجهها أينما وجد الموت والدمار ثغرة ينفذ بها, وان تحديد نتائجها كما حسمها عسكريا تتخطي قدرة أي طرف من أطرافها.
لكننا تحفظ لهم حقهم الأدبي كاملا في النجاح في تحقيق هدفها الأساسي , بطمسها لشعارات الثورة والصور الذهنية التي وثقت لأنبل لحظاتها واستبدلتها بصور فظاعات الحرب التي تخطت خيال أسوأ المتشائمين.
نجحوا في إحلال سردية الحق والعدل والمحبة التي رسختها الثورة بخطاب التفاهة والكراهية , والكنداكات بأخوات نسيبة وام قرون ورموز الثورة وقادتها بعملاء السفارات وشعارات “حرية سلام وعدالة” ب “بل بس” و ” جغم بس ” ووجوه الثورة النسوية النبيلة بالغانيات واقلام الحق بالغانيات, وصوت جرس المدرسة بأزيز الرصاص ودوي المدافع وفحيح الطائرات.
الاهم من كل ذلك كله هو تحقيقهم لهدف تقويض المجتمع المدني الساعي للتغيير المدني الديمقراطي, فدفعت بأغلبه مرغما إلى الانزواء والصمت او النزوح الي الشتات وحرمته من اهم ادواته المتمثلة في القدرة علي الاحتجاج السلمي في الشارع, رغم اثمانه الدائمة الباهظة, ودفعت بشريحة مقدرة منه الي التوهان في رمال صحراء التضليل الإعلامي والاستغراق في الذات والتماهي مع الشجون الصغيرة والمرارات الشخصية ليصبح مبلغ همها ليس استهداف المجرمين الحقيقيين بل مهاجمة رفقاء الدرب من المدنيين الاخرين المنادين بوقف الحرب واستعادة مسار الانتقال والشروع في عمليات البناء وإعادة الإعمار.
بعد مرور بضعة أيام علي نجاح المؤتمر التأسيسي ل”تقدم” والذي وضع اللبنات الاولي لجبهة مدنية ديموقراطية واسعة مناهضة للحرب يبقى السؤال العالق هو :ثم ماذا؟ , وما العمل حتي تتمكن يوما تلك الانسة السودانية اليافعة من قطع مسافة الاف الأميال إيابا الي منزل ذويها من النزوح ثم تلك الأربعين قدما الذهبية باطمئنان؟ كيف يمكننا ان نستعيد تلك البلاد التي نحبها بجنون والتي تخصنا؟ كيف يمكن ان نصل الي عتبة إعادة بناء السودان على أسس جديدة ليصبح فعلا لا قولا وطنا يسع الجميع؟.
والإجابة الاولي المحتملة والتي كان يمكن استدراكها قبل وقوع الكارثة يمكن ان نستمدها اليوم مجددا من تجربة ال 420 يوما السابقة منذ اشتعال الحرب, والتي تبني فيها المدنيون الساعين لوقفها عين الأدوات التي اثبتت فشلها في العمليات السياسية السابقة, والتي أضحت بالضرورة أقل فاعلية اليوم بفقدان اهم أدواتهم السلمية, أي الشارع.
فجدوي بناء جبهة مدنية من اجل التواصل مع الجنرالات والتواصل معهم كوسيلة وحيدة لدفع طرفي الحرب الي عملية سياسية لوقف الحرب واستعادة مسار الانتقال أصبح أشبه بالحرث في البحر. والسبب الحقيقي هو ان المدنيين الديموقراطيين ومنذ تاريخ سقوط راس النظام السابق في ال 11 ابريل 2019م لم يتمكنوا من مواجهة حقيقة انهم يتعاملون مع منظومات إجرامية فاسدة حتي النخاع وغير قابلة للإصلاح بأي حال من الأحوال وبأي مناورات سياسية ناعمة, منظومات مسلحة يتم استغلالها من قبل قلة من اللصوص والقتلة لحسم الصراع السياسي والانفراد بالحكم وإطلاق أيديهم لنهب البلاد والحفاظ علي قدرتهم الإفلات من العقاب علي الجرائم المروعة التي ارتكبها كل من برهان وحميدتي وعصبتيهما منذ حرب دارفور وجبال النوبة مرورا بقتل المتظاهرين ابان الثورة ومجزرة القيادة ثم شراكتهما في الانقلاب علي الدستور في أكتوبر 2021م وما اعقبته من حمامات دم تسيل مدرارا حتي اليوم.
ان اهم الخطوات العاجلة اليوم والتي يجب علي “تقدم” او أي كيان مدني اخر ساعي لوقف الحرب القيام بها هي اجتراح اليات العمل علي محاصرة المجرمين, مشعلي الحرب ومن يقودونها والمروجين والمبررين لها , قانونيا لمواجهة عواقب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها قواتهما امام منظومات العدالة الدولية, اقتصاديا بقطع مصادر تمويل هذه الحرب المتمثلة في استغلال الموارد الطبيعية وتهريبها او تبادل التنازل عن سيادة الدولة علي أراضيها مقابل السلاح ومطاردة تجار الحرب الفاسدين وكشفهم للراي العام وحظر السلاح وعزلهم دبلوماسيا وفوق ذلك عزلهم سياسيا وشعبيا عبر تعرية الحرب من شرعية أوراق التوت الزائفة ومبرراتها البلهلء الكاذبة ك “حرب الكرامة او القضاء علي دولة 1956 الظالمة”.
فالعمل السلمي له انياب واظافر ايضا ولن يجدي اي فعل نفعا مع هؤلاء المجرمين الا باستخدامها يشكلها الكلي الاقصي, اليوم وليس غدا, فالاقتصار علي القوة الناعمة فقط علي شاكلة ترديد عبارة “سنعبر وسننتصر” دون تلك الانياب والاظافر ستبقي محض ذبذبات صوتية باهتة وفاقدة لكل منطق ومعنى.
حاصروا المجرمين ,,,,
الوسومثورة ديسمبر المجيدة جان روز كاسميرالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: ثورة ديسمبر المجيدة
إقرأ أيضاً:
شاهد بالفيديو.. الكابتن التاريخي لنادي الزمالك يتغزل في المنتخب السوداني بعد تأهله للنهائيات: (السودان التي كتب فيها شوقي وتغنت لها الست أم كلثوم في القلب دائماً وسعادتنا كبيرة بتأهله)
سجل أحد نجم الزمالك المصري السابق وكابتنه التاريخي إشادة كبيرة بالمنتخب السوداني, لكرة القدم عقب تأهله لنهائيات أمم أفريقيا 2025 المقامة بالمغرب.
وبحسب رصد ومتابعة محرر موقع النيلين, فقد خصص لاعب الزمالك السابق جزء من حلقة برنامجه “ستاد المحور” المذاع على فضائية المحور, المصرية, للحديث عن تأهل صقور الجديان.
وأكد الكابتن خالد الغندور, في حديثه أن مصر, والسودان, بلد واحدة وستظل واحدة, ويكفي كلمات الشاعر أحمد شوقي, في قصيدته الشهيرة التي تغنت بها الست أم كلثوم وقال فيها (مصر الرياض وسودانها, عيون الرياض وخلجانها).
وعبر الغندور, بحسب ما شاهد محرر موقع النيلين, عن سعادته الكبيرة بتأهل السودان, مؤكداً أن سعادتهم بتأهل السودان, توازي سعادتهم بتأهل مصر.
محمد عثمان _ الخرطوم
النيلين
إنضم لقناة النيلين على واتساب