بعد مرور 8 عقود على إنزال "النورماندي"، تخيم قصص الحرب فوق ضريح "لاكامب"، حيث يرقد الآلاف من جنود "الفيرماخت" على أرض فرنسية، لكنها لا تزال عاجزة عن رسم الحد الفاصل بين الذاكرة والحنين الأيديولوجي.

وعلى مساحة 7 هكتارات ببلدة لاكامب بني الضريح الرمزي الذي دشن في شهر سبتمبر/أيلول عام 1961 بهدف تخليد ذكرى سقوط 21 ألفا و300 جندي من الجيش الألماني خلال معارك إنزال النورماندي في صيف 1944، بالإضافة إلى 2100 عنصر من الجناح العسكري  للحزب النازي (فافن إس إس) دفنوا في نفس المقبرة.

وتنتشر في البلدة لوحات الطرقات باللغتين الفرنسية والألمانية للدلالة على الانفتاح الثقافي والتسامح بين الدولتين الجارتين بعد عقود طويلة من العداء والحروب، ومع ذلك يثير إحياء ذكرى القتلى من الجنود الألمان نقاشا عاما بشأن الإرث النازي في المدينة.

المقبرة العسكرية الألمانية في لا كامب بالقرب من شاطئ أوماها شمال غرب فرنسا (الفرنسية) ذكرى أم إحياء السياسة؟

تقع المقبرة العسكرية في مدينة "كالفادوس" بإقليم النورماندي، وللمفارقة فإن عدد من يرقدون تحتها أعلى بكثير من عدد السكان الأحياء في البلدة والذي يتجاوز 500 نسمة.

وتعد مقبرة "لا كامب" الأكبر من بين 6 مقابر ألمانية في إقليم النورماندي، تخضع لإدارة لجنة مقابر الحرب الألمانية، وتستقطب سنويا حوالي نصف مليون زائر وفق إحصاءات فرنسية، مما يعكس أهميتها وجاذبيتها لمستكشفي أسرار مرحلة حاسمة من الحرب العالمية الثانية.

وبالعودة إلى 8 عقود خلت وتحديدا في السادس من يونيو/حزيران 1944، كان إنزال الحلفاء في نورماندي بمثابة بداية تحرير فرنسا وأوروبا من الاحتلال النازي.

وشكل الهجوم الذي نفذته القوات الأميركية والبريطانية والكندية بداية المرحلة الأولى لعلمية "أوفرلورد" بشمال غرب أوروبا، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الجنود المتدفقين على سواحل النورماندي قادمين من 15 دولة.

وتطرح صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية سؤالا أكثر وضوحا بشأن هذا النقاش بمناسبة الذكرى الـ80 للإنزال في 2024، وهو كيف يمكن إحياء ذكرى الجنود القتلى الألمان من دون أن يمثل ذلك احتفاء بالنازية ذاتها؟

استسلام القوات الألمانية في سان لامبرت سور دايف 21 أغسطس/آب 1944 (مواقع التواصل) "الفيرماخت" و"الفافن إس إس"

أطلق اسم "فيرماخت على القوات المسلحة الألمانية بين عامي 1935- 1945، واعتبرت حينها القوة العسكرية الأعلى تسليحا والأولى في العالم، والتي مكنت ألمانيا من الاستحواذ على مساحات شاسعة من أوروبا واحتلال عدة دول عبر الحرب الخاطفة.

يتكون الجيش من 3 أركان ، البر والبحر والجو، وتم ضم قوة رابعة تشمل الجناح العسكري لوحدات النخبة النازية (إس إس) ويطلق عليها "فافن إس إس"، وقد وصل عددها في ذروة الحرب العالمية الثانية إلى 38 فرقة، تكونت أساسا من منتسبي الحزب النازي والمتطوعين في ألمانيا والمناطق المحتلة لاحقا.

وتحيط بمقبرة "لاكامب" اليوم تحفظات بشأن وجود رفات عناصر الجناح العسكري للحزب النازي جنبا إلى جنب مع عناصر الفيرماخت، قياسا إلى الدور الذي لعبته كل وحدة عسكرية في مراحل توسع الحكم النازي، حيث ينظر إلى "الفافن إس إس" كوحدة مرهوبة الجانب ارتبط تاريخها بعدة فظائع في الجبهات.

ويقول المؤرخ المتخصص في شؤون الجيش الألماني في حقبة الرايخ الثالث، جون لوك ليلو، لصحيفة ليبراسيون إن "هذا التمييز لا يعني أن الجيش الألماني بالصورة البريئة التي يريد الجنرالات تقديمه بها إبان المعركة، ومن خلال التركيز على سمعة الفافن إس إس نعلم أنهم متورطون في جرائم هتلر بما في ذلك المحرقة.. نحن هنا في ظل ديكتاتورية عام 1944، لقد تم آنذاك إعدام الجنود الشبان الذين رفضوا حمل السلاح".

قوات الفيرماخت اعتبرت عام 1940 القوة العسكرية الأعلى تسليحا في العالم (مواقع التواصل)

ورغم تدشينها في ستينيات القرن الماضي، فإن غيرهارد شرودر يعد أول مستشار ألماني يشارك في الفعاليات المرتبطة بذكرى النورماندي عام 2004. وفي الغالب لا يفضل المسؤولون الألمان زيارة المقبرة حتى لا يتم تأويلها كتكريم لعناصر "الفافن إس إس"، وبدل ذلك فضل المستشار شرودر زيارة المقبرة البريطانية رانفيل التي يرقد بها أيضا جنود من "الفيرماخت".

ووفق تقرير "ليبراسيون"، دفن في المقبرة كبار ضباط "الفافن إس إس" الذين تورطوا بشكل مباشر في الدعاية النازية مثل مكاييل فيتمان، أو في مذابح ضد المدنيين والمقاومين مثل أدولف ديكمان الذي يعد مسؤولا عن قتل 643 شخصا في مذبحة العاشر من يونيو/حزيران 1944 ببلدة "أورادور سور غلان" الفرنسية، وهي تحتفظ حتى اليوم ببقايا الجيش الألماني.

وبحسب الأستاذة المتخصصة في التاريخ والحضارة الألمانية يلان ميارد ديلاكروا فإن ما يحيط بالمقبرة من أحداث تاريخية يجعل هذه الذاكرة "معقدة"، مشيرة إلى أن "بعض الأفعال لا يمكن نسبتها إلى الجنود الذين يفقدون في بعض الأحيان السيطرة ولكنها تنسب إلى الأيديولوجيا العنصرية والمدمرة".

وعلى الجانب الآخر، تقول العضو بجمعية "فولكس بوند" الألمانية التي تنشط في مجال حفظ كرامة القتلى من الجنود الألمان وتعزيز المصالحة التاريخية "إنه يحق لكل ضحية في الحرب أن يكون له ضريح بغض النظر عن الأفعال التي ارتكبها حتى لو كانت سيئة"، ويستند هذا الرأي ضمنيا إلى اتفاقيات جنيف الأربع التي تفرض الاحترام المطلق لجثث الموتى في النزاعات المسلحة.

قتلى الحرب في القانون الدولي الإنساني

يقضي القانون الدولي الإنساني بوجوب التعامل مع رفات من ماتوا في أثناء النزاعات المسلحة بطريقة ملائمة وصون كرامتهم، وأيضا بوجوب البحث عن الموتى وجمع جثثهم وإجلائها من أجل المساعدة في ضمان عدم وجود أشخاص في عداد المفقودين.

وتضم فروع أخرى من القانون الدولي، كالقانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الدولي لمواجهة الكوارث، أحكاما ترمي إلى ضمان التعامل الملائم مع الموتى، وتحتوي كذلك على أحكام توجب الكشف عن مصير المفقودين واستجلاء أماكن وجودهم.

كما يُلزم القانون احترام جثث الموتى وحمايتها أثناء النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، على النحو المنصوص عليه في أحكام خاصة من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977 والقانون الدولي الإنساني العرفي.

ومن القواعد الأساسية في معاملة الموتى بتلك الاتفاقيات، أنه يتعين على أطراف النزاع المسلح اتخاذ جميع التدابير الممكنة لمنع سلب جثث الموتى، كما تحظر القواعد المعاملة المهينة للجثث وتشويهها.

وتقع على عاتق أطراف النزاع المسلح الدولي التزامات إضافية في ما يتعلق بالمتوفين من أفراد القوات المسلحة، فيتعين عليها إجراء فحص طبي دقيق للجثة قبل دفنها أو حرقها، بقصد التأكد من حالة الوفاة، والتحقق من هوية المتوفى.

ويجب على الدول تسهيل وصول أسر الموتى وممثلي الدوائر الرسمية لتسجيل المقابر إلى مدافن الموتى. وتفرض القوانين وضع علامات على أماكن القبور واحترامها وصيانتها.

وعلى أطراف النزاع التحقق من أن المقابر تحترم وتصان وتميز بكيفية مناسبة، ويشمل هذا مقابر أسرى الحرب والمعتقلين المتوفين، والأشخاص الذين توفوا في ظروف ذات صلة بالاحتلال.

الزي العسكري يثير حساسية الماضي

لكن خلف الالتزامات الحقوقية والأخلاقية التي تفرضها الاتفاقيات والقوانين بشأن ضحايا الحرب، لا يزال الصراع القديم يلقي بظلاله على مقبرة "لاكامب" والفعاليات المرافقة لذكرى إنزال النورماندي.

وعلى سبيل المثال، تثير العروض التي يجسدها هواة التاريخ لمعارك النورماندي حساسية بالغة في المدينة، بسبب الارتداء العلني لزي الجيش النازي بشعار الصليب المعقوف.

وفي حادثة تعود إلى عام 2007، ألغت السلطات في آخر لحظة عروضا خاصة بـ"أيام التراث" في موقع التحصينات الدفاعية الألمانية على ساحل المانش، لإعادة تجسيد معارك بين قوات ألمانية وقوات من التحالف بعد إنزال النورماندي، بدعوى ارتباط الجهة المنظمة لجمعية "ريح أوروبا" بعناصر من النازيين الجدد والترتيب لارتداء الزي العسكري للجنود النازيين، وبعد الإلغاء تم حل الجمعية.

وفي سياق أوروبي جديد يتسم بصعود لليمين المتطرف بما في ذلك أنصار حزب "البديل" المتطرف في ألمانيا، ينظر المعارضون لتلك العروض كدعاية مبطنة للنازية الجديدة وحنين غير معلن إلى الرايخ الثالث.

وهو ما دفع السلطات المحلية في "كالفادوس" إلى التحذير في احتفالات 2024 من خلال مذكرة لها، من ارتداء زي "الفيرماخت" حتى لا يتم توجيه الاحتفالات والعروض التمثيلية المجسدة بعيدا عن أهدافها التاريخية والمعرفية.

ويعاقب القانون الفرنسي بغرامة مالية تقدر بـ"1500 يورو" كل من يحمل شعارا أو يرتدي زيا يعود إلى عناصر محسوبة على منظمة مصنفة إجرامية، باستثناء الأفلام أو العروض أو المعارض التاريخية.

وتعلق "ليبراسيون" على ذلك بقولها إنه على الرغم من محاكمة عدد من كبار الضباط  بالجيش الألماني المشاركين في الحرب العالمية الثانية في محاكمات نورمبورغ، فإن "الفيرماخت" لا يصنف تقنيا كـ"مجموعة إجرامية" على عكس "الفافن إس إس".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات إنزال النورماندی القانون الدولی الجیش الألمانی

إقرأ أيضاً:

مصر تعيش أجواء الهزيمة.. فما الحرب التي خاضتها؟

"أنا عايز أقول لكم: اللي انتو بتشوفوه دِ الوقتي (من غير تفسير كتير وتوضيح كتير) تقريبا زي الظروف اللي كنا بنعيشها بعد هزيمة 67 في مصر"!

هذا ما قاله الجنرال المنقلب ياسر جلال، قبل أيام (بعد عشر سنوات، من الإنجاز، والرخاء، والازدهار، حسب أبواقه ولجانه) أمام حشد جماهيري سيق "قسرا" إلى ملعب المدينة الأولمبية، الكائن في قلعة "ألَموت" الجديدة، أو العاصمة الإدارية الجديدة؛ للاحتفال بذكرى نصر أكتوبر 1973، برعاية كيان يحمل اسما "رجعيا ظلاميا غامضا" ألا وهو "اتحاد القبائل العربية"، يترأسه شخص آت من المجهول، غارق في الفساد، يُدعى إبراهيم العرجاني!

ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذا الاحتفال تأخر عن موعده (الطبيعي) نحو ثلاثة أسابيع! وفي ظني (وليس كل الظن إثم) أن الاحتفال تم تأخيره عمدا؛ مراعاة لمشاعر "أولاد العم"، أو بعبارة أدق "أولاد الخال"! فذكرى "نصر أكتوبر" المصري يسبق (بيوم واحد) ذكرى "طوفان الأقصى" الفلسطيني التي باتت "ذكرى أليمة" لهزيمة استراتيجية حلت بالكيان الصهيوني، على أيدي المقاومة الفلسطينية، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لن يتعافى من آثارها..

كان هذا السؤال يتردد على منصات التواصل الاجتماعي كافة، بصيغ مختلفة: عن أجواء أي هزيمة يتحدث ياسر جلال ومصر لم تخض حربا، منذ بضع وخمسين عاما؟!
في اليوم التالي لكلمة ياسر جلال التي لم تستغرق سوى سبع دقائق، وهو المولع بالكلام، كان هذا السؤال يتردد على منصات التواصل الاجتماعي كافة، بصيغ مختلفة: عن أجواء أي هزيمة يتحدث ياسر جلال ومصر لم تخض حربا، منذ بضع وخمسين عاما؟!

السؤال يبدو وجيها ومنطقيا جدا، غير أنه مع التأمل وإمعان النظر، يجد المتأمل أن ياسر جلال كان "صادقا" على غير عادته، لكنه لم يكن "شفافا" كعادته، وقد بدا ذلك واضحا في قوله: "من غير تفسير كتير وتوضيح كتير".. فمن غير الممكن أن يفسر أكثر، ويوضح أكثر، لكن اللبيبَ بالإشارةِ يفهمُ!

فهل كان ينتظر المصريون من ياسر جلال أن يقول لهم بوضوح: أنا كنت في حرب معكم (يا مصريين) على مدى عشر سنوات، وأنا الذي انتصرت فيها، أما أنتم فتعيشون (اليوم) أجواء هذه الهزيمة؟! بالطبع كلا..

خمسة قواسم مشتركة بين الهزيمتين!

حتى تزول الدهشة عنك (عزيزي القارئ) إليك خمسة قواسم مشتركة تجمع بين هزيمة يونيو 1967 التي هُزم فيها الجيش المصري أمام العدو الصهيوني، وهزيمة يوليو 2013 التي هُزم فيها الشعب المصري أمام سلطة الانقلاب، بعد عدوان دام عشر سنوات، ولا يزال مستمرا..

القاسم الأول: الجيش والشعب لم يحاربا في هاتين الحربين.. الحربان كانتا "عدوانا" من طرف على طرف، ولم تكن مواجهة بين طرفين!

ففي يونيو 1967، شن الكيان الصهيوني عدوانا واسعا على مصر وسوريا.. أما الجيش المصري، فتفرق في صحراء سيناء بين أسير بيد العدو، وشهيد في مقبرة جماعية، وهائم على وجهه، ومنسحب بلغ منه الإعياء مبلغه.. وأما صواريخ "الظافر" و"القاهر" التي تصدَّرت أخبارها الصحف الرئيسة حينئذ، فلم نر لها أثرا؛ ذلك لأنها لم تكن موجودة أصلا، إلا في بروباجندا عبد الناصر التي كان يدير منصاتها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل!

وفي يوليو 2013، شن السيسي عدوانا منظما (ولا يزال مستمرا) على عدة جبهات: جبهة الحريات العامة (حرية التعبير، حرية السفر والانتقال، حرية التملك)، جبهة مؤسسات المجتمع المدني (النقابات، الأحزاب، الجمعيات الأهلية، اتحادات الطلبة)، جبهة الاقتصاد الوطني (بيع الأصول، وإغراق مصر في الديون)، جبهة السيادة المصرية (التنازل عن تيران وصنافير للسعودية، توقيع معاهدة 2015 مع إثيوبيا التي حرمت مصر من حصتها في مياه النيل، بيع رأس الحكمة ورأس بناس لدولة الإمارات.. إلخ)، جبهة الحقوق الأساسية للمواطن المصري (لا أمن، لا تعليم، لا علاج، لا وظائف، لا دخل مادي يفي بأقل القليل من متطلبات الحياة)، وجبهات أخرى.

القاسم الثاني: معاداة المنفرد بالسلطة (في كلا النظامين) للدين والأزهر؛ فعبد الناصر سلب الأزهر استقلاله، ولم يعرف الشارع المصري تخلي المرأة عن اللباس المحتشم إلا في عهد عبد الناصر.. أما في عهد ياسر جلال فقد شهدت مصر انتشاراً واسعا لشتى أنواع الانحرافات، بتشجيع من الإعلام الذي تستحوذ عليه السلطة، كما شهدت تدخلا شخصيا منه (أكثر من مرة) في الأمور الدينية، وهو الذي لا يحسن قراءة آية واحدة من كتاب الله، وقد تصدى له شيخ الأزهر في قضايا كثيرة.

القاسم الثالث: نشأة المستحوذ على السلطة في كلا النظامين، ونظرته للكيان الصهيوني؛ فكلاهما (عبد الناصر وياسر جلال) نشأ في حارة اليهود، وكلاهما تثور حول أصولهما شبهات كثيرة، وكلاهما لا يرى العدو الصهيوني عدوا.. وكلاهما خطط للهزيمة (هزيمة الجيش والشعب)؛ ليتربعا على عرش مصر دون منازع!

فمن الأمور التي بات مقطوعا بها، أن عبد الناصر قام بكل ما من شأنه أن يشجع الكيان الصهيوني ويحرضه على شن عدوان يونيو 67، على مصر، رغم علمه ويقينه بأن الجيش المصري غير مستعد لرد العدوان، ناهيك عن إحراز نصر؛ نكاية في قائد الجيش عبد الحكيم عامر الذي قرر عبد الناصر تصفيته معنويا بالهزيمة؛ ليسهل عليه التخلص منه شخصيا بالنحر، ومن ثم الانفراد بالسلطة!

ومن الأمور التي بات مقطوعا بها أيضا، أن ياسر جلال لم يدع شخصا يشكل له تهديدا "محتملا" إلا وألقى به في غياهب السجن، دون سند من القانون!

القاسم الرابع: وجود الآلاف من الإخوان المسلمين، ومن المغضوب عليهم من قِبَل النظام، في السجون، بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية!

القاسم الخامس: تأميم النظامين (الناصري والسيساوي) للمنصات الإعلامية كافة؛ ليكون صوت السلطة هو الصوت الوحيد المسموع! وإذا كانت عملية التأميم قد أثمرت، في عهد عبد الناصر، فإنها لم تثمر إلا قليلا، في عهد ياسر جلال؛ لأسباب باتت معروفة بالضرورة..

عدا هذه القواسم الخمسة المشتركة بين الهزيمتين (1967 و2013) فإن كل شيء مختلف!

ففي الهزيمة الأولى (1967).. كان الجنيه المصري يساوى 3 دولارات (الدولار كان يساوي 33 قرشا، أي ثلث الجنيه).. كانت الطبقة المتوسطة هي الأكثر عددا، وكان لدى كثير من أسر هذه الطبقة "خادمة".. كان راتب الموظف يكفيه، بل ويدخر منه.. كان المصريون يحصلون بواسطة بطاقات التموين على السلع الأساسية مدعمة.. كان تلاميذ المدارس يحصلون على وجبة غداء صحية مجانا.. كانت تُصرف للفلاحين أحذية بلاستيكية وأقمشة مجانا، أو بأسعار زهيدة أحيانا، من خلال الجمعيات التعاونية.. كانت المياه العمومية التي تصل إلى البيوت صالحة للشرب.. وأخيرا وليس آخرا، كان المصريون ينادون بالحرب؛ لمحو عار هذه الهزيمة النكراء.. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل هذه المظاهر، وهذه الإجراءات، لم تكن لحنكة عبد الناصر، أو لحسن إدارة وتخطيط منه، ولكن لأن مركز مصر المالي القوي (الذي ورثه من العهد الملكي البائد) كان يسمح بذلك، وبما هو أكثر من ذلك..

أما في الهزيمة الثانية (2013) التي أعلن ياسر جلال عن حلولها بالشعب المصري، قبل أيام، والتي يعيش أجواءها اليوم، فإن الجنيه المصري يساوي سِنتين اثنين (الدولار يساوي 50 جنيها).. الطبقة المتوسطة في طريقها للانقراض، والطبقة المعدمة هي الأكثر عددا، وكثير من نساء الطبقة (التي كانت متوسطة) يعملن "خادمات" في بيوت "الإيجيبتيين" أصحاب المداخيل المليونية؛ لتوفير الحد الأدنى من متطلبات أسرهن المعيشية.. راتب الموظف لم يعد يغطي نفقات أسرته لمدة أسبوع واحد.. تم حرمان ملايين الأسر من بطاقات التموين.. تم رفع الدعم عن كل السلع.. تم فرض ضريبة (إتاوة) على كل إجراء روتيني تقوم به المصالح الحكومية، لا غنى للمواطن عنه.. لم يعد هناك شيء مجاني، أو بأسعار زهيدة؛ فكل شيء يباع، حتى أرجل الدجاج وأحشاؤها.. لم تعد المياه العمومية صالحة للشرب، ولا حتى لغسل الأواني.. بات المصريون يعيشون أجواء الهزيمة، حقيقة لا مجازا، تلك الهزيمة التي يسوّقها إعلام السلطة على أنها إنجاز وطني عظيم قام به القائد المظفر ياسر جلال!

تحرير، أم تحريك، أم استسلام؟
كيف سيتعامل الشعب مع هزيمة يوليو 2013 التي ألحقتها به سلطة الانقلاب التي هي الجيش الذي يعتبر نفسه في حالة "سلام دافئ" مع "إسرائيل"، رغم كل ما ترتكبه من مجاز
بعد عدوان يونيو 67، كان المصريون (جيشا وشعبا) يتحرقون شوقا للثأر، ومحو العار الذي ألحقه عبد الناصر بمصر والمصريين، وكان على عبد الناصر أن يستجيب مرغما، لا راضيا ولا مقتنعا، فأعلن حرب الاستنزاف، ثم خلفه السادات الذي كان يريد تثبيت شرعيته التي لم يعترف بها حواريو عبد الناصر (مراكز القوى).. غير أن السادات كان يفكر تحت السقف الأمريكي.. "حرب تحريك، لا حرب تحرير"، وكان له ما أراد، وكان لأمريكا ما أرادت؛ عبَر الجيش المصري قناة السويس، وأحدث ثغرات في "جدار بارليف"، وأصبح له موطئ قدم على الجانب الشرقي للقناة، بعمق كيلومترات معدودة.. انسحبت "إسرائيل" من سيناء شكليا، وبقي نفوذها عليها عمليا، حتى اليوم.. أما السادات، فكان بوسعه أن يتكلم عن إحراز "نصر"، يعقبه "سلام"؛ ليكون "بطل الحرب والسلام"!

هكذا تعامل الشعب المصري، والجيش، والسلطة، مع هزيمة يونيو 1976، فكيف سيتعامل الشعب مع هزيمة يوليو 2013 التي ألحقتها به سلطة الانقلاب التي هي الجيش الذي يعتبر نفسه في حالة "سلام دافئ" مع "إسرائيل"، رغم كل ما ترتكبه من مجازر، وتمارسه من عربدة، في الإقليم؟!

تحرير، أم تحريك، أم استسلام؟

x.com/AAAzizMisr
aaaziz.com

مقالات مشابهة

  • النقد الدولي: ندعم الإصلاحات العراقية التي تبعد سوق النفط عن الأزمات
  • إقرار برنامج إحياء ذكرى سنوية الشهيد بوزارة الخدمة المدنية والوحدات التابعة لها
  • المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "Africa-1" في رأس غارب لتعزيز الربط الدولي
  • إحياء ذكرى الشهداء في مغرب عنس بفعالية خطابية
  • "المجاهدين": إقالة غالانت لن تمحو العار والهزيمة التي تلاحقه
  • في ذكرى التعويم الأولى|رسائل مهمة من مديرة صندوق النقد الدولي.. وتوقعات بتراجع معدل التضخم إلى 16%
  • مدير «العربي للدراسات»: لا يمكن حسم مستقبل الأزمة الأوكرانية مع قدوم رئيس جديد
  • الثلاثاء الأميركي الكبير.. هل يمكن الرهان عليه لطيّ صفحة الحرب؟!
  • مصر تعيش أجواء الهزيمة.. فما الحرب التي خاضتها؟
  • لماذا يستمر الجيش الإسرائيلي في تخفيض أعداد قتلى حماس؟