إنزال النورماندي.. كيف يمكن إحياء ذكرى قتلى الألمان دون الاحتفاء بالنازية؟
تاريخ النشر: 9th, June 2024 GMT
بعد مرور 8 عقود على إنزال "النورماندي"، تخيم قصص الحرب فوق ضريح "لاكامب"، حيث يرقد الآلاف من جنود "الفيرماخت" على أرض فرنسية، لكنها لا تزال عاجزة عن رسم الحد الفاصل بين الذاكرة والحنين الأيديولوجي.
وعلى مساحة 7 هكتارات ببلدة لاكامب بني الضريح الرمزي الذي دشن في شهر سبتمبر/أيلول عام 1961 بهدف تخليد ذكرى سقوط 21 ألفا و300 جندي من الجيش الألماني خلال معارك إنزال النورماندي في صيف 1944، بالإضافة إلى 2100 عنصر من الجناح العسكري للحزب النازي (فافن إس إس) دفنوا في نفس المقبرة.
وتنتشر في البلدة لوحات الطرقات باللغتين الفرنسية والألمانية للدلالة على الانفتاح الثقافي والتسامح بين الدولتين الجارتين بعد عقود طويلة من العداء والحروب، ومع ذلك يثير إحياء ذكرى القتلى من الجنود الألمان نقاشا عاما بشأن الإرث النازي في المدينة.
المقبرة العسكرية الألمانية في لا كامب بالقرب من شاطئ أوماها شمال غرب فرنسا (الفرنسية) ذكرى أم إحياء السياسة؟تقع المقبرة العسكرية في مدينة "كالفادوس" بإقليم النورماندي، وللمفارقة فإن عدد من يرقدون تحتها أعلى بكثير من عدد السكان الأحياء في البلدة والذي يتجاوز 500 نسمة.
وتعد مقبرة "لا كامب" الأكبر من بين 6 مقابر ألمانية في إقليم النورماندي، تخضع لإدارة لجنة مقابر الحرب الألمانية، وتستقطب سنويا حوالي نصف مليون زائر وفق إحصاءات فرنسية، مما يعكس أهميتها وجاذبيتها لمستكشفي أسرار مرحلة حاسمة من الحرب العالمية الثانية.
وبالعودة إلى 8 عقود خلت وتحديدا في السادس من يونيو/حزيران 1944، كان إنزال الحلفاء في نورماندي بمثابة بداية تحرير فرنسا وأوروبا من الاحتلال النازي.
وشكل الهجوم الذي نفذته القوات الأميركية والبريطانية والكندية بداية المرحلة الأولى لعلمية "أوفرلورد" بشمال غرب أوروبا، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الجنود المتدفقين على سواحل النورماندي قادمين من 15 دولة.
وتطرح صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية سؤالا أكثر وضوحا بشأن هذا النقاش بمناسبة الذكرى الـ80 للإنزال في 2024، وهو كيف يمكن إحياء ذكرى الجنود القتلى الألمان من دون أن يمثل ذلك احتفاء بالنازية ذاتها؟
استسلام القوات الألمانية في سان لامبرت سور دايف 21 أغسطس/آب 1944 (مواقع التواصل) "الفيرماخت" و"الفافن إس إس"أطلق اسم "فيرماخت على القوات المسلحة الألمانية بين عامي 1935- 1945، واعتبرت حينها القوة العسكرية الأعلى تسليحا والأولى في العالم، والتي مكنت ألمانيا من الاستحواذ على مساحات شاسعة من أوروبا واحتلال عدة دول عبر الحرب الخاطفة.
يتكون الجيش من 3 أركان ، البر والبحر والجو، وتم ضم قوة رابعة تشمل الجناح العسكري لوحدات النخبة النازية (إس إس) ويطلق عليها "فافن إس إس"، وقد وصل عددها في ذروة الحرب العالمية الثانية إلى 38 فرقة، تكونت أساسا من منتسبي الحزب النازي والمتطوعين في ألمانيا والمناطق المحتلة لاحقا.
وتحيط بمقبرة "لاكامب" اليوم تحفظات بشأن وجود رفات عناصر الجناح العسكري للحزب النازي جنبا إلى جنب مع عناصر الفيرماخت، قياسا إلى الدور الذي لعبته كل وحدة عسكرية في مراحل توسع الحكم النازي، حيث ينظر إلى "الفافن إس إس" كوحدة مرهوبة الجانب ارتبط تاريخها بعدة فظائع في الجبهات.
ويقول المؤرخ المتخصص في شؤون الجيش الألماني في حقبة الرايخ الثالث، جون لوك ليلو، لصحيفة ليبراسيون إن "هذا التمييز لا يعني أن الجيش الألماني بالصورة البريئة التي يريد الجنرالات تقديمه بها إبان المعركة، ومن خلال التركيز على سمعة الفافن إس إس نعلم أنهم متورطون في جرائم هتلر بما في ذلك المحرقة.. نحن هنا في ظل ديكتاتورية عام 1944، لقد تم آنذاك إعدام الجنود الشبان الذين رفضوا حمل السلاح".
قوات الفيرماخت اعتبرت عام 1940 القوة العسكرية الأعلى تسليحا في العالم (مواقع التواصل)ورغم تدشينها في ستينيات القرن الماضي، فإن غيرهارد شرودر يعد أول مستشار ألماني يشارك في الفعاليات المرتبطة بذكرى النورماندي عام 2004. وفي الغالب لا يفضل المسؤولون الألمان زيارة المقبرة حتى لا يتم تأويلها كتكريم لعناصر "الفافن إس إس"، وبدل ذلك فضل المستشار شرودر زيارة المقبرة البريطانية رانفيل التي يرقد بها أيضا جنود من "الفيرماخت".
ووفق تقرير "ليبراسيون"، دفن في المقبرة كبار ضباط "الفافن إس إس" الذين تورطوا بشكل مباشر في الدعاية النازية مثل مكاييل فيتمان، أو في مذابح ضد المدنيين والمقاومين مثل أدولف ديكمان الذي يعد مسؤولا عن قتل 643 شخصا في مذبحة العاشر من يونيو/حزيران 1944 ببلدة "أورادور سور غلان" الفرنسية، وهي تحتفظ حتى اليوم ببقايا الجيش الألماني.
وبحسب الأستاذة المتخصصة في التاريخ والحضارة الألمانية يلان ميارد ديلاكروا فإن ما يحيط بالمقبرة من أحداث تاريخية يجعل هذه الذاكرة "معقدة"، مشيرة إلى أن "بعض الأفعال لا يمكن نسبتها إلى الجنود الذين يفقدون في بعض الأحيان السيطرة ولكنها تنسب إلى الأيديولوجيا العنصرية والمدمرة".
وعلى الجانب الآخر، تقول العضو بجمعية "فولكس بوند" الألمانية التي تنشط في مجال حفظ كرامة القتلى من الجنود الألمان وتعزيز المصالحة التاريخية "إنه يحق لكل ضحية في الحرب أن يكون له ضريح بغض النظر عن الأفعال التي ارتكبها حتى لو كانت سيئة"، ويستند هذا الرأي ضمنيا إلى اتفاقيات جنيف الأربع التي تفرض الاحترام المطلق لجثث الموتى في النزاعات المسلحة.
قتلى الحرب في القانون الدولي الإنسانييقضي القانون الدولي الإنساني بوجوب التعامل مع رفات من ماتوا في أثناء النزاعات المسلحة بطريقة ملائمة وصون كرامتهم، وأيضا بوجوب البحث عن الموتى وجمع جثثهم وإجلائها من أجل المساعدة في ضمان عدم وجود أشخاص في عداد المفقودين.
وتضم فروع أخرى من القانون الدولي، كالقانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الدولي لمواجهة الكوارث، أحكاما ترمي إلى ضمان التعامل الملائم مع الموتى، وتحتوي كذلك على أحكام توجب الكشف عن مصير المفقودين واستجلاء أماكن وجودهم.
كما يُلزم القانون احترام جثث الموتى وحمايتها أثناء النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، على النحو المنصوص عليه في أحكام خاصة من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977 والقانون الدولي الإنساني العرفي.
ومن القواعد الأساسية في معاملة الموتى بتلك الاتفاقيات، أنه يتعين على أطراف النزاع المسلح اتخاذ جميع التدابير الممكنة لمنع سلب جثث الموتى، كما تحظر القواعد المعاملة المهينة للجثث وتشويهها.
وتقع على عاتق أطراف النزاع المسلح الدولي التزامات إضافية في ما يتعلق بالمتوفين من أفراد القوات المسلحة، فيتعين عليها إجراء فحص طبي دقيق للجثة قبل دفنها أو حرقها، بقصد التأكد من حالة الوفاة، والتحقق من هوية المتوفى.
ويجب على الدول تسهيل وصول أسر الموتى وممثلي الدوائر الرسمية لتسجيل المقابر إلى مدافن الموتى. وتفرض القوانين وضع علامات على أماكن القبور واحترامها وصيانتها.
وعلى أطراف النزاع التحقق من أن المقابر تحترم وتصان وتميز بكيفية مناسبة، ويشمل هذا مقابر أسرى الحرب والمعتقلين المتوفين، والأشخاص الذين توفوا في ظروف ذات صلة بالاحتلال.
الزي العسكري يثير حساسية الماضيلكن خلف الالتزامات الحقوقية والأخلاقية التي تفرضها الاتفاقيات والقوانين بشأن ضحايا الحرب، لا يزال الصراع القديم يلقي بظلاله على مقبرة "لاكامب" والفعاليات المرافقة لذكرى إنزال النورماندي.
وعلى سبيل المثال، تثير العروض التي يجسدها هواة التاريخ لمعارك النورماندي حساسية بالغة في المدينة، بسبب الارتداء العلني لزي الجيش النازي بشعار الصليب المعقوف.
وفي حادثة تعود إلى عام 2007، ألغت السلطات في آخر لحظة عروضا خاصة بـ"أيام التراث" في موقع التحصينات الدفاعية الألمانية على ساحل المانش، لإعادة تجسيد معارك بين قوات ألمانية وقوات من التحالف بعد إنزال النورماندي، بدعوى ارتباط الجهة المنظمة لجمعية "ريح أوروبا" بعناصر من النازيين الجدد والترتيب لارتداء الزي العسكري للجنود النازيين، وبعد الإلغاء تم حل الجمعية.
وفي سياق أوروبي جديد يتسم بصعود لليمين المتطرف بما في ذلك أنصار حزب "البديل" المتطرف في ألمانيا، ينظر المعارضون لتلك العروض كدعاية مبطنة للنازية الجديدة وحنين غير معلن إلى الرايخ الثالث.
وهو ما دفع السلطات المحلية في "كالفادوس" إلى التحذير في احتفالات 2024 من خلال مذكرة لها، من ارتداء زي "الفيرماخت" حتى لا يتم توجيه الاحتفالات والعروض التمثيلية المجسدة بعيدا عن أهدافها التاريخية والمعرفية.
ويعاقب القانون الفرنسي بغرامة مالية تقدر بـ"1500 يورو" كل من يحمل شعارا أو يرتدي زيا يعود إلى عناصر محسوبة على منظمة مصنفة إجرامية، باستثناء الأفلام أو العروض أو المعارض التاريخية.
وتعلق "ليبراسيون" على ذلك بقولها إنه على الرغم من محاكمة عدد من كبار الضباط بالجيش الألماني المشاركين في الحرب العالمية الثانية في محاكمات نورمبورغ، فإن "الفيرماخت" لا يصنف تقنيا كـ"مجموعة إجرامية" على عكس "الفافن إس إس".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات إنزال النورماندی القانون الدولی الجیش الألمانی
إقرأ أيضاً:
الغارديان: ألمانيا مارست قمعا على المؤيدين لفلسطين ولم تتزحزح في دعم حرب غزة
ركز كتاب الروائي وكاتب المقالات الهندي بانكاج ميشرا، الذي سيصدر الأسبوع المقبل بعنوان "العالم بعد غزة" على الموقف الألماني وقراراته المتعلقة بـ"إسرائيل" والنابعة من "الذاكرة الثقافية" المرتبطة بالهولوكوست.
وقال ميشرا في مقال له نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية تضمن مقتطفات من الكتاب: إن "ألمانيا خرجت من الحرب العالمية بعقدة الندم باعتبارها الجلاد لليهود في تلك الحرب، ولكن لا يوجد بلد يضاهيها في الرحلة المعقدة من نقطة الصفر في عام 1945 إلى غزة اليوم، ففي العقود الأخيرة، عمل التضامن مع الدولة اليهودية على صقل صورة ألمانيا الذاتية الفخورة باعتبارها البلد الوحيد الذي يجعل من التذكر العام لماضيه الإجرامي الأساس الحقيقي لهويته الجماعية".
وأضاف أنه "منذ إعادة توحيد ألمانيا بشكل خاص، تم إضفاء الطابع المؤسسي الشامل على ذكرى الهولوكوست وتؤكد المناهج والتقويمات المدرسية على المناسبات السنوية مثل 27 كانون الثاني/ يناير (تحرير السوفييت لأوشفيتز) و8 أيار/ مايو (استسلام النازيين النهائي)".
وتخلد النصب التذكارية والمتاحف في جميع أنحاء البلاد ذكرى ضحايا الجرائم الألمانية.
وأكد أنه "من بين الرموز البارزة لثقافة الذاكرة هذه النصب التذكاري لليهود الذين قتلوا في أوروبا بالقرب من بوابة براندنبرغ في العاصمة برلين، وهو ربما النصب التذكاري الوطني الرئيسي الوحيد الذي يخلد ذكرى ضحايا أمة وليس الأمة نفسها".
وأشار إلى أنه "في عام 2008، زعمت المستشارة الألمانية في حينه، أنغيلا ميركل في خطاب لها أمام الكنيست أن تأمين أمن إسرائيل هو جزء من وجود ألمانيا، وقد استعاد القادة الألمان هذه العبارة مرارا وتكرارا وبتركيز مبالغ فيه بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، فقبل أقل من شهرين من هجوم حماس، نجحت إسرائيل، بمباركة أمريكية في تأمين أكبر صفقة أسلحة لها على الإطلاق مع ألمانيا. وزادت مبيعات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل عشرة أضعاف في عام 2023 وتمت الموافقة على الغالبية العظمى من المبيعات بعد هذا التاريخ وسارع المسؤولون الألمان إلى دعمها، وأصروا على أن تصاريح تصدير الأسلحة إلى إسرائيل ستحظى باهتمام خاص".
وبين أنه "في الوقت الذي بدأت فيه إسرائيل قصف المنازل ومخيمات اللاجئين والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس في غزة، ومع ترويج وزراء الحكومة الإسرائيلية لمخططاتهم عن التطهير العرقي، كرر المستشار الألماني أولاف شولتز العقيدة الوطنية: إسرائيل دولة ملتزمة بحقوق الإنسان والقانون الدولي وتتصرف وفقا لذلك".
وقال إنه "مع تكثيف حملة بنيامين نتنياهو للقتل والتدمير العشوائي، وصل إنغو غيرهارتز، رئيس القوات الجوية الألمانية إلى تل أبيب مشيدا بـ "دقة" الطيارين الإسرائيليين. كما التقطت له وهو بالزي العسكري وهو يتبرع بالدم للجنود الإسرائيليين".
وأضاف أنه "في ألمانيا، أعاد وزير الصحة كارل لاوترباخ نشر مقطع فيديو يزعم فيه محرض يميني متطرف أن النازيين كانوا أكثر نزاهة من حماس".
وزعمت صحيفة "دي فيلت" أن "فلسطين الحرة هي تحية هتلر الجديدة"، ونبهت صحيفة "دي تسايت" القراء الألمان إلى حقيقة شنيعة مفادها أن "غريتا ثونبرغ تتعاطف علانية مع الفلسطينيين".
وعندما تم تصوير وزيرة الثقافة كلوديا روث وهي تصفق للمخرج الإسرائيلي يوفال أبراهام وزميله الفلسطيني باسل عدرا في مهرجان برلين السينمائي ــ لفيلمهما الوثائقي المرشح لجائزة الأوسكار الآن ــ أوضحت أن تصفيقها كان فقط لإبراهام "اليهودي الإسرائيلي".
وأضاف ميشرا أن قادة ألمانيا، رفضوا الحديث لشهور أو دعم دعوات أوروبية، وقف إطلاق النار. فقد ساندت رئيسة المفوضية الأوروبية الألمانية أورسولا فون دير لاين بلا تردد العنف الانتقامي الإسرائيلي، مما أثار استياء العديد من زملائها، كما تجاهلت الدعوات المتكررة لمعاقبة إسرائيل من دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل إسبانيا وأيرلندا.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2024، عندما قصفت إسرائيل المستشفيات ومخيمات الخيام في غزة، وفجرت قرى بأكملها في لبنان، بررت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك هذه الانتهاكات للقانون الدولي، مؤكدة أن المدنيين قد يفقدون وضعهم المحمي في الحرب.
بالإضافة إلى كل هذا، شنت السلطات الألمانية حملة صارمة على المظاهر العامة الداعمة لفلسطين. فقد عاقبت المؤسسات الثقافية الممولة من الدولة الفنانين والمثقفين من أصول غير غربية الذين أظهروا أي تلميح للتعاطف مع الفلسطينيين، فسحبت الجوائز والدعوات. ولجأت السلطات الألمانية الآن إلى معاقبة حتى الكتاب والفنانين والناشطين اليهود. وبعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، انضمت كانديس بريتز وديبورا فيلدمان وماشا جيسن ونانسي فريزر إلى أولئك الذين ألغيت مشاركتهم أو "ألقيت عليهم محاضرات"، على حد تعبير إيال وايزمان، "أبناء وأحفاد الجناة الذين قتلوا عائلاتنا والذين يجرؤون الآن على إخبارنا بأننا معادون للسامية".
وأشار الكاتب إلى الزيارة التي قامت بها الفيلسوفة حنا أردنت إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اعترفت بأنها "تعاني من نوع ما من الغباء الشامل الذي لا يمكن الوثوق به والحكم بشكل صحيح على الأحداث الأكثر بدائية".
وكتبت أن "عددا كبيرا من الألمان، وبخاصة بين الأكثر تعليما، لم يعودوا قادرين على قول الحقيقة حتى لو أرادوا ذلك".
وأضاف ميشرا أن ارندت شعرت بالدهشة من الطريقة التي تخلت فيها المانيا وفي أقل من ستة أعوام عن "البنية الأخلاقية لمجتمع غربي". وفي الوقت نفسه، وكما قال ضابط عسكري أمريكي للمصورة الصحفية مارغريت بورك وايت، فإن العديد من الألمان كانوا يتصرفون "كما لو أن النازيين هم عرق غريب من الإسكيمو نزلوا من القطب الشمالي وغزوا ألمانيا بطريقة أو بأخرى".
وعلقت بورك وايت نفسها: "لم أجد بعد ألمانيا يعترف بأنه نازي". مع أن المانيا لم تتخل في جوهرها عن الطريقة التي عاملت فيها ألمانيا اليهود النازحين الذين ظلوا فابعين في المخميات حتى عام 1952، فعندما هاجمت شرطة الجمارك والهجرة البافارية معسكرا للنازحين، حمل الهجوم كما قالت "مانشستر غارديان" في حينه كل ملامح التصرفات النازية ضد غيتوهات برلين وفرانكفورت في الماضي.
ونقلت الصحيفة عن لجنة المخيم قولهم إن المهاجمين صرخواهتافات مثل "المحرقة لا تزال موجودة". وسجل نوربرت فيري في كتابه الصادر عام 2002 المشاعر الألمانية التي كانت رافضة لمحاكمة النازيين السابقين أو عزلهم من مناصبهم في مرحلة ما بعد الحرب.
ولم تتم محاكمة ما يقدر عددهم مليون شخص كانوا على علاقة بالهولوكوست إلا ما يزيد عن 6,656 شخصا. وفي مقال نشر في آذار/مارس 2024 في مجلة "ديسنت"، كتب المؤرخ هانز كوندناني: "بحلول منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، عادت النخبة في الخدمة المدنية والقضاء والأوساط الأكاديمية إلى حد كبير إلى تلك التي كانت في عهد الرايخ الثالث.
وشعر العديد من الشباب الذين نشأوا في ألمانيا الغربية بأنهم "محاطون بالنازيين"، كما قال أحد الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلة.
وبحلول منتصف الستينيات، بدأوا ينظرون إليهم ليس فقط كاستمرارية شخصية بل وهيكلية: كانت الجمهورية الفيدرالية دولة فاشية، أو على الأقل "ما قبل الفاشية".
وزعم المستشار الألماني كونارد أدينور الذي التقى ديفيد بن غوريون في الأمم المتحدة عام 1960 أن اليهود لم يكون هم ضحايا النازية، بل والألمان أنفسهم الذين ساعدوا اليهود قد ما يستطيعون.
ووافق أدينور في عام 1952 على صفقة تعويضات لدولى إسرائيل بقيمة 3.5 مارك ألماني، ولم تكن الصفقة مقبولة من معظم الألمان الذين لم تعترف سوى نسبة 5 بالمئة بالذنب، فيما قالت نسبة 21 بالمئة أن اليهود يتحملون المسؤولية على ما حدث لهم خلال الرايخ الثالث.
وكان المستشار الألماني يصدر عن رؤية استعمارية، حيث كان رئيسا للجمعية الإستعمارية الألمانية. ومع تزايد وتيرة الحرب الباردة، اعتقد أن "طريق المانيا الطويل للغرب" يمر عبر إسرائيل. وقال بعد تقاعده: "لا ينبغي الاستهانة بقوة اليهود حتى اليوم، وخاصة في أمريكا".
وتحركت ألمانيا الغربية بسرعة على هذا الطريق غربا بعد عام 1960، لتصبح موردا رئيسيا للمعدات العسكرية لإسرائيل بالإضافة إلى كونها الممكن الرئيسي لتحديثها الاقتصادي.
وفي محاولة إعادة تأهيل المانيا لنفسها وبمساعدة من التمويل الأمريكي، لجأت إلى دعم محاكمة ادولف إيخمان وإعدامه عام 1961، وهو ما سجلته حنا أردندت. وأعادت محاكمة أيخمان الفتنازيا الألمانية عن القوة اليهودية، وليس غريبا أن تستقبل الصحافة الألمانية انتصار إسرائيل في حرب 1967 بأنه "الحرب الخاطفة في إسرائيل"، وهي نفس العبارة المرتبطة بهجوم النازية الخاطف على أوروبا. وعبرت صحيفة "دي فيلت" عن أسفها على "الوصمة العارية" التي لحقت بالشعب اليهودي: الاعتقاد بأنهم "لا يملكون أي مشاعر وطنية ولا يستعدون للمعركة قط، ولكنهم حريصون دوما على الاستفادة من جهود الحرب التي يبذلها الآخرون".
وأكد الكاتب أن اليهود كاتوا في الواقع "شعبا صغيرا شجاعا بطلا عبقريا". وعلى أية حال، فإن تشبيه صحيفة "بيلد للقائد العسكري الإسرائيلي موشيه ديان بالمارشال النازي إرفين روميل لم يكن "تناقضا"، فقد كانت مثل هذه المقارنات ضرورية لبعض المستفيدين من المعجزة الاقتصادية الألمانية. لقد أشار الفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتز بعد سنوات عديدة من إعدام آيخمان إلى أن "محاكمته كانت فاشلة تماما، فقد كان آيخمان في واقع الأمر مجرد ترس صغير لا أهمية له في آلة ضخمة.
وذكر "في المقابل دفعوا لنا مليارات الدولارات، وما حدث في الحقيقة هو تبرئة ألمانيا التي لم تجتث النازية بشكل كاف والتي لا تزال معادية للسامية بشكل عميق مقابل المال والأسلحة".
وأوضح "كان التخلص من الذنب بثمن بخس أحد الدوافع، ولكن في أوائل ستينيات القرن العشرين، كان من المناسب للغاية بالنسبة لألمانيا وإسرائيل تصوير خصوم إسرائيل العرب، بمن فيهم ناصر (الذي وصفته صحيفة "ديلي ميل" بأنه "هتلر على النيل")، باعتبارهم تجسيدا حقيقيا للنازية".
وقد قللت محاكمة آيخمان من أهمية استمرار الدعم النازي في ألمانيا في حين بالغت في تضخيم الوجود النازي في الدول العربية.
وفي كتابها الأخير "متعهدوا الذنب"، تصف إسراء أوزيريك الطريقة التي يستخدمها الساسة والمسؤولون والصحافيون الألمان، الآن بعد صعود اليمين المتطرف، لتفعيل الآلية القديمة لتطهير ألمانيا من خلال شيطنة المسلمين. وبفضل تشجيع إيلون ماسك، الذي دعا الألمان للتخلي عن "ذنبهم" بشأن الهولوكوست والابتهاج بثقافتهم الألمانية التي يبلغ عمرها ألف عام، وبفضل الشجاعة التي اكتسبها حزب اليمين المتطرف الذي أسسه عضو سابق في قوات الأمن الخاصة في النمسا، موطن هتلر، أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا ثاني أكثر الأحزاب شعبية في ألمانيا.
وأوضح أن "الألمان البيض من ذوي الأصول المسيحية" يرون أنفسهم "قد حققوا غايتهم في الخلاص وإعادة الديمقراطية"، وفقا لأوزيريك.
ويتم إسقاط "المشكلة الاجتماعية الألمانية العامة المتمثلة في معاداة السامية" على أقلية من المهاجرين الذين جاءوا من الشرق الأوسط ويتم وصمهم بعد ذلك بأنهم "أكثر المعادين للسامية تمردا"، ولهذا فهم يحتاجون إلى "تعليم وتأديب إضافي". وتشير أوزيريك إلى أن التنديد بالأقلية المسلمة في ألمانيا باعتبارها "الناقل الرئيسي لمعاداة السامية" يعني إخفاء حقيقة مفادها أن "ما يقرب من 90% من الجرائم المعادية للسامية يرتكبها الألمان البيض اليمينيون".
وقال ميشرا إن التشوهات السياسية والأخلاقية والعجز الفكري في ألمانيا اليوم أكثر خطورة من أي وقت مضى منذ عام 1945. إن حزب البديل من أجل ألمانيا ليس شذوذا، فهو يستفيد من الانزلاق المتزايد نحو اليمين المتطرف بين السياسيين والصحفيين السائدين. وقد كسر المستشار الألماني القادم المحتمل، فريدريش ميرز، زعيم الديمقراطيين المسيحيين من يمين الوسط، "جدار الحماية" الذي أقامه التيار الرئيس الألماني ضد حزب البديل من أجل ألمانيا، ووعد بالعمل مع السياسيين الذين يعشقون الشعارات والتحية النازية. وفي الوقت نفسه، تحاكم المحاكم الألمانية مجموعة من أقصى اليمين بتهمة التخطيط للإطاحة العنيفة بالحكومة.
ويبدو البلد الذي دمر البنية الأخلاقية للمجتمع الغربي ضعيفا مرة أخرى قبل الأزمات الاقتصادية والانهيارات الاجتماعية للرأسمالية التي أنتجت الفاشية لأول مرة. والأسوأ من ذلك أن الطريق الطويل الذي سلكته ألمانيا غربا يقودها الآن مباشرة إلى دونالد ترامب وإيلون موسك.