لجريدة عمان:
2025-04-30@10:35:55 GMT

الغرب وسوق «التَصهْيُن» الثقافي

تاريخ النشر: 8th, June 2024 GMT

لو لم يكن لـ «طوفان الأقصى» من حسنة سوى أنه كشف الوجه القبيح للانحياز الغربي السافر لإسرائيل، وزيف ونفاق التشدقات بحرية التعبير وحقوق الإنسان، لكفاه. آخر سلسلة هذه الانحيازات جاء من باريس؛ «عاصمة النور»، حين قررتْ بشكل مفاجئ إلغاء استضافة مقررة منذ سنتين للشعر الفلسطيني في مهرجان «سوق الشعر».

تتلخص الحكاية في أن الشاعر المغربي الفرانكفوني عبداللطيف اللعبي؛ الذي هو ممثّل الشعراء الفلسطينيين في فرنسا، باعتباره أول من ترجم الشعر الفلسطيني إلى الفرنسية في مختارات وكتب، بدءا من عام 1970م، تلقى رسالة رسمية في الثلاثين من مايو الماضي (2024م) موقعة من رئيس مهرجان «سوق الشعر» في فرنسا إيف بودييه ومديره العام فنسان جيمانو بونس، يعلمانه فيها بإلغاء قرار استضافة الشعر الفلسطيني في المهرجان السنة المقبلة، بعد نحو ثلاث سنوات من إبلاغهم إياه (في رسالة رسمية مؤرخة في 20 يوليو 2022م،) باختيار الشعر الفلسطيني ضيف شرف لدورة عام 2025م، وأنهم سيعتمدون المختارات الشعرية التي أنجزها وترجمها إلى الفرنسية، وصدرت ذلك العام (2022م) في سلسلة بوان» المهمة لدى دار سوي.

ولكن لماذا الإلغاء يا تُرى؟! لأن «الوضع المأساوي الراهن» لم يعد يسمح للمهرجان بمواصلة هذا المشروع، فــ «سوق الشعر سيتحول حينئذ إلى منتدى سياسي لا شعري» على حد تعبير الرسالة الموجّهة للّعبي.

نستطيع إضافة هذه الحادثة إلى إلغاءات أخرى كثيرة لكل ما هو فلسطيني أو له علاقة بفلسطين منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر الماضي، فعلى سبيل الأمثلة لا الحصر، تابعنا جميعًا بعد أيام من «الطوفان» حادثة إلغاء حفل منح جائزة «ليبراتور» للروائية الفلسطينية عدنية شبلي في معرض فرانكفورت للكتاب، وذلك «لجعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في المعرض» كما جاء في بيان الإلغاء، هكذا بكل صفاقة! وفي الشهر نفسه ألغت جامعة بوتسدام الألمانية كلمة للمخرجة الفلسطينية إميلي جاسر، هي جزء من ورشة عمل كان مفترضًا أن تشارك فيها هناك. وفي العاشر من ديسمبر الماضي لم يكتفِ موقع Novinky.cz التشيكي بحذف حوار كان قد أجراه مع الفنانة الفلسطينية يارا أبو عطايا بعد ساعتين فقط من نشره، بل زاد على ذلك أنْ طَرَدَ المحررة التي أجرت المقابلة معها! وبعدها بشهر (أي في يناير 2024م) ألغت جامعة إنديانا الأمريكية معرضًا فنيًّا للفنانة الفلسطينية سامية حلبي كان مقررًا منذ ثلاث سنوات، وكان سبب الإلغاء منشوراتها في إنستجرام المتضامنة مع فلسطين! وهذا ليس مجرد استنتاج، بل هو ما أكده مدير الجامعة لسامية حلبي حين سألته عن سبب الإلغاء!

لم يكن التضييق حكرًا على الفلسطينيين فقط، فقد كان موجّهًا ضد كل من يُبدي أي تعاطف مع القضية الفلسطينية من ذوي الضمائر الحية، سواء كانوا من الغرب أو من الشرق. فبعد أقل من عشرين يوما على طوفان الأقصى، طُرد رئيس تحرير مجلة «آرت فوروم» الأمريكية ديفيد فيلاسكو من منصبه لنشره رسالة تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة وتحرير فلسطين، وهي رسالة كتبتها منظمة «فنّانون من أجل فلسطين» ووقعها نحو ثمانية آلاف من الفنانين المشهورين وأمناء المعارض وأعضاء من الوسط الفنّي الغربي. وفي نوفمبر الماضي، ألغت صالة عرض ليسون في لندن معرضًا مدرجًا في أجندة فعالياتها للفنان الصيني آي ويوي، بعد تغريدة له انتقد فيها الدعم الأمريكي لإسرائيل.

وفي ألمانيا ألغى متحف سارلاند في نوفمبر الماضي معرضًا فرديًّا للفنانة (اليهودية) الجنوب أفريقية كانديس بريتز كان مبرمجا في عام 2024م، بعدما نشرت تدوينة على حسابها في «إنستجرام» قالت فيها إنه «ينبغي دعم النضال الفلسطيني من أجل الحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية، بما في ذلك التحرر من عقود من القمع». وفي ألمانيا أيضًا أُجبِرتْ مؤسسة «عيون» الثقافية، ومقرها برلين، على الإغلاق بعد سحب تمويلها عقابًا لها على استضافتها فعالية لمنظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام»، وهي منظمة يقودها يهود، تتعاطف مع القضية الفلسطينية وتنتقد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

يُلخّص كل هذه الأسباب الواهية وغير المقنعة لهذه الإلغاءات والتضييقات على كل ما هو فلسطيني عبارة قالها عبداللطيف اللعبي في رسالته الغاضبة لمهرجان «سوق الشعر» ردًّا على رسالته المُبلغة بإلغاء المشاركة الفلسطينية في المهرجان: «أعتقد أن الأسباب التي قدمتموها لتبرير مثل هذا التغيير في الرأي، هي أسباب متحيزة سياسيًّا، وغير محتملة من الناحية الأخلاقية».

وفي الحقيقة يمكن تسمية هذا المهرجان بصورته المنحازة هذه: «سوق التصهين» لا «سوق الشعر». وذات يوم ليس ببعيد، حين يوثِّق مؤرِّخٌ نزيه ما جرى بعد السابع من أكتوبر من انحيازٍ مطلق لإسرائيل، وصمت فاضح على جرائمها، وقمع ممنهج للصوت الفلسطيني وكل من يتعاطف معه، سيُنكِّس هذا الغرب المنافق رأسه خجلًا إذْ يرى صورته القبيحة في المرآة، هذا طبعًا إن تبقى في وجهه شيء من الخجل.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

سوريا بين شبح العقوبات وترتيبات إعادة التموضع الإقليمي

في أروقة الأمم المتحدة وعلى مقاعد مجلس الأمن، تتشكل ملامح مرحلة جديدة في الملف السوري، لكنها لا تخلو من التعقيد والغموض. بين مطالب أميركية صارمة بقطع طريق الإرهاب، وإبعاد النفوذ الإيراني، والتخلي عن أي دور للفصائل الفلسطينية، تقف دمشق عند مفترق طرق تاريخي، تحاول من خلاله التخفيف من العقوبات الخانقة وتلميع صورة الدولة الجديدة أمام المجتمع الدولي.

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، بلغة دبلوماسية ناعمة، أعاد التأكيد أن العقوبات لا تطال النظام فحسب، بل تساهم في تفشي اقتصاد الظل وتغذية الشبكات غير الشرعية، بينما تحرم البلاد من فرص التعافي الاقتصادي والعدالة الانتقالية. في المقابل، لم تغفل الإدارة الأميركية عن طرح شروط تبدو، في بعض جوانبها، تعجيزية، مما يوحي بأن واشنطن لا تبحث فقط عن تغيير في السلوك، بل عن تغيير في البنية السياسية العميقة.

في الخلفية، تتسارع تحركات إقليمية غامضة. فقد شهدت دمشق، لأول مرة منذ عقود، زيارات حاخامات من أصول سورية إلى مسقط رأس أجدادهم، وسط ترحيب إعلامي إسرائيلي لافت. بالتوازي، جرت زيارات نادرة لشيوخ دروز إلى الأراضي المحتلة، في خطوات تبدو كمحاولات متقدمة لاختراق الحواجز النفسية بين مكونات الجغرافيا السورية وإسرائيل، استعدادًا لاحتمالات جديدة للتموضع السياسي.

أما على الصعيد الاقتصادي، فتتوالى الأنباء عن جهود تقودها الرياض والدوحة لإنهاء ملف الديون السيادية السورية المتعثرة، مما يمهد الطريق لتحريك ملف إعادة الإعمار الذي ظل حتى الآن رهينة للصراعات الدولية والإقليمية. ومن المتوقع أن تسدد السعودية جزءًا من متأخرات سوريا لدى البنك الدولي، في خطوة قد تفتح الباب أمام تدفق منح وقروض بمئات الملايين لإصلاح قطاعي الكهرباء والبنية التحتية.

وفي كواليس هذه الترتيبات، تجري اتصالات سرية مع الجانب الروسي، الذي بدا أكثر انفتاحًا على تخفيف الحضور العسكري المباشر، مقابل ضمان مصالحه الاقتصادية والأمنية عبر صيغ جديدة للشراكة مع السلطة السورية ومؤسسات دولية، في مشهد يُراد له أن يعيد رسم خريطة النفوذ بطريقة أكثر مرونة وأقل صدامًا مع الغرب.

تبدو سوريا اليوم ساحة اختبار كبيرة: هل تنجح القيادة الجديدة في تجاوز إرث الماضي، والالتفاف على شروط الغرب الثقيلة؟ أم أن شبكة المصالح الإقليمية والدولية ستعيد إنتاج أزمات قديمة بثوب جديد؟

في كل الأحوال، لم يعد المشهد السوري شأنًا داخليًا خالصًا، بل أصبح قطعة شطرنج تتحرك فيها أيادٍ كثيرة في الخفاء، بانتظار اللحظة التي يتم فيها الإعلان عن قواعد اللعبة المقبلة.

مقالات مشابهة

  • كاتب أميركي: روسيا تتفوق على الغرب بالمعركة الإعلامية في أفريقيا
  • سوريا بين شبح العقوبات وترتيبات إعادة التموضع الإقليمي
  • انطلاق تربص انتقائي للاعبي فئة أقل من 17 سنة لمنطقة الغرب
  • لماذا ينمو الشعر تحت الجلد؟ الأسباب والحلول الفعالة
  • الشاعر الفلسطيني سعيد يعقوب.. ناشط لا يهدأ في الشعر المقاوم
  • الإبادة العرقية.. وجه الغرب الخفي في تدمير الحضارات.. قراءة في كتاب
  • الغرب بدأ ينبذ إسرائيل وإسبانيا تُلغي صفقة أسلحة .. ثلاث دولٍ تُطالِب بمنع الكيان المشاركة بمُسابقة الأغنية الأوروبيّة
  • والي الخرطوم يتفقد حارات أمبدة الغربية وأسواق ليبيا وقندهار ومستشفى أمبدة النموذجي
  • وزير الخزانة الأميركي: نُرسي أسس دولار قوي واقتصاد قوي وسوق أسهم قوية
  • «مكتبة محمد بن راشد» تحتفي بالإرث الشعري لـ «الأخطل الصغير»