الغرب وسوق «التَصهْيُن» الثقافي
تاريخ النشر: 8th, June 2024 GMT
لو لم يكن لـ «طوفان الأقصى» من حسنة سوى أنه كشف الوجه القبيح للانحياز الغربي السافر لإسرائيل، وزيف ونفاق التشدقات بحرية التعبير وحقوق الإنسان، لكفاه. آخر سلسلة هذه الانحيازات جاء من باريس؛ «عاصمة النور»، حين قررتْ بشكل مفاجئ إلغاء استضافة مقررة منذ سنتين للشعر الفلسطيني في مهرجان «سوق الشعر».
تتلخص الحكاية في أن الشاعر المغربي الفرانكفوني عبداللطيف اللعبي؛ الذي هو ممثّل الشعراء الفلسطينيين في فرنسا، باعتباره أول من ترجم الشعر الفلسطيني إلى الفرنسية في مختارات وكتب، بدءا من عام 1970م، تلقى رسالة رسمية في الثلاثين من مايو الماضي (2024م) موقعة من رئيس مهرجان «سوق الشعر» في فرنسا إيف بودييه ومديره العام فنسان جيمانو بونس، يعلمانه فيها بإلغاء قرار استضافة الشعر الفلسطيني في المهرجان السنة المقبلة، بعد نحو ثلاث سنوات من إبلاغهم إياه (في رسالة رسمية مؤرخة في 20 يوليو 2022م،) باختيار الشعر الفلسطيني ضيف شرف لدورة عام 2025م، وأنهم سيعتمدون المختارات الشعرية التي أنجزها وترجمها إلى الفرنسية، وصدرت ذلك العام (2022م) في سلسلة بوان» المهمة لدى دار سوي.
نستطيع إضافة هذه الحادثة إلى إلغاءات أخرى كثيرة لكل ما هو فلسطيني أو له علاقة بفلسطين منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر الماضي، فعلى سبيل الأمثلة لا الحصر، تابعنا جميعًا بعد أيام من «الطوفان» حادثة إلغاء حفل منح جائزة «ليبراتور» للروائية الفلسطينية عدنية شبلي في معرض فرانكفورت للكتاب، وذلك «لجعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في المعرض» كما جاء في بيان الإلغاء، هكذا بكل صفاقة! وفي الشهر نفسه ألغت جامعة بوتسدام الألمانية كلمة للمخرجة الفلسطينية إميلي جاسر، هي جزء من ورشة عمل كان مفترضًا أن تشارك فيها هناك. وفي العاشر من ديسمبر الماضي لم يكتفِ موقع Novinky.cz التشيكي بحذف حوار كان قد أجراه مع الفنانة الفلسطينية يارا أبو عطايا بعد ساعتين فقط من نشره، بل زاد على ذلك أنْ طَرَدَ المحررة التي أجرت المقابلة معها! وبعدها بشهر (أي في يناير 2024م) ألغت جامعة إنديانا الأمريكية معرضًا فنيًّا للفنانة الفلسطينية سامية حلبي كان مقررًا منذ ثلاث سنوات، وكان سبب الإلغاء منشوراتها في إنستجرام المتضامنة مع فلسطين! وهذا ليس مجرد استنتاج، بل هو ما أكده مدير الجامعة لسامية حلبي حين سألته عن سبب الإلغاء!
لم يكن التضييق حكرًا على الفلسطينيين فقط، فقد كان موجّهًا ضد كل من يُبدي أي تعاطف مع القضية الفلسطينية من ذوي الضمائر الحية، سواء كانوا من الغرب أو من الشرق. فبعد أقل من عشرين يوما على طوفان الأقصى، طُرد رئيس تحرير مجلة «آرت فوروم» الأمريكية ديفيد فيلاسكو من منصبه لنشره رسالة تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة وتحرير فلسطين، وهي رسالة كتبتها منظمة «فنّانون من أجل فلسطين» ووقعها نحو ثمانية آلاف من الفنانين المشهورين وأمناء المعارض وأعضاء من الوسط الفنّي الغربي. وفي نوفمبر الماضي، ألغت صالة عرض ليسون في لندن معرضًا مدرجًا في أجندة فعالياتها للفنان الصيني آي ويوي، بعد تغريدة له انتقد فيها الدعم الأمريكي لإسرائيل.
وفي ألمانيا ألغى متحف سارلاند في نوفمبر الماضي معرضًا فرديًّا للفنانة (اليهودية) الجنوب أفريقية كانديس بريتز كان مبرمجا في عام 2024م، بعدما نشرت تدوينة على حسابها في «إنستجرام» قالت فيها إنه «ينبغي دعم النضال الفلسطيني من أجل الحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية، بما في ذلك التحرر من عقود من القمع». وفي ألمانيا أيضًا أُجبِرتْ مؤسسة «عيون» الثقافية، ومقرها برلين، على الإغلاق بعد سحب تمويلها عقابًا لها على استضافتها فعالية لمنظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام»، وهي منظمة يقودها يهود، تتعاطف مع القضية الفلسطينية وتنتقد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
يُلخّص كل هذه الأسباب الواهية وغير المقنعة لهذه الإلغاءات والتضييقات على كل ما هو فلسطيني عبارة قالها عبداللطيف اللعبي في رسالته الغاضبة لمهرجان «سوق الشعر» ردًّا على رسالته المُبلغة بإلغاء المشاركة الفلسطينية في المهرجان: «أعتقد أن الأسباب التي قدمتموها لتبرير مثل هذا التغيير في الرأي، هي أسباب متحيزة سياسيًّا، وغير محتملة من الناحية الأخلاقية».
وفي الحقيقة يمكن تسمية هذا المهرجان بصورته المنحازة هذه: «سوق التصهين» لا «سوق الشعر». وذات يوم ليس ببعيد، حين يوثِّق مؤرِّخٌ نزيه ما جرى بعد السابع من أكتوبر من انحيازٍ مطلق لإسرائيل، وصمت فاضح على جرائمها، وقمع ممنهج للصوت الفلسطيني وكل من يتعاطف معه، سيُنكِّس هذا الغرب المنافق رأسه خجلًا إذْ يرى صورته القبيحة في المرآة، هذا طبعًا إن تبقى في وجهه شيء من الخجل.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
إبداع|«متى يرحل الماضي».. قصة قصيرة للكاتبة السعودية دارين المساعد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يقلب المارة تراب الأرض بين أقدامهم في الشارع القديم. محاصرون ضمن الحارة الشعبية، حيث تجاري تعابيرهم رتابة الأيام. يسعى بين أيديهم طفل في السابعة، بملامح المتوسل وخطوات التائه.
اخترقت الحشود وخطوتُ فوق كل بائع افترش الأرض وصولا له. كان انتهاك حقوق الطفل يؤلمني «لقد أنقذت الكثير، لكنهم يتزايدون»، هكذا كنت أردد وكل دائرة حول نفسي تعيدني طفلاً. أفتش عنه، وأغرق في شعور التوسل للملاحظة. صوتي يختنق وسط الزحام وجدال البيع والشراء، لا أحد يراني.
فجأة لمسني من يدي، ثم شدّ كمّي يرجو شراء بضاعته. نزلت إلى مستوى عينيه وبلغته بخطورتها وبقدرتي على المساعدة. فهم أنني أرغب بشرائها فتهلل وجهه. لكنني، بعد إيماءة رفض حازم، عرّفته بنفسي، وقصصت قصتي من طفل مشرّد الى شرطي في مكافحة المخدرات.
تفحص وجهي بعينيه البنية، ثم تحسس ذقني بيده الملوثة. قربته، وبجملة وعود، زرعت الأمان في نفسه. شعرت بالانتماء لرائحة الضياع التي تفوح منه. احتضنته وملئت صدري من قوته وصبره.
كان هادئاً مطيعاً، طلبت عنوانه وأجاب برفع بضاعته مرة أخرى يريد بيعها. شعرت بالسوء من إصراره هذا ونهرته. وضع يده في صدره، ومن جيبٍ جانبي مرقوع، أعطاني قطعة نقود خشبية مصنوعة يدويا، عرفتها لمّا أخرجت مثلها من جيبي.
إنها ذاكرتي! تجترّ كل ما يؤلمني، وتمثله حياَ أمامي. فهمت أن الماضي لا يغادرنا بالنسيان، ويرحل للأبد بالتقبل والتشافي.