محمد كريشان: حرب غزة كانت كاشفة و«الغرب» المثالي انهار تحت بناياتها
تاريخ النشر: 8th, June 2024 GMT
في لحظة تشعر أنك أمام اختبار حقيقي، هو مواجهة النجوم اللامعة في سماء المضمار الصحفي الشاق.. صحفيون خاضوا غمار محاورة قادة وشخصيات فذة، تركت بصماتها الواضحة على مسار الأحداث العالمية.
هنا، يأتي الاختبار الحقيقي للصمود أمام من هو أعلى خبرة في هذا الميدان المتميز، عندما تجد نفسك وجهًا لوجه مع محمد كريشان، الصحفي البارز الذي جاب العالم وحاور كبار الشخصيات، فإنك لن تكون أمام مجرد مقابلة إعلامية عادية، بل ستكون محادثة بين إنسانين يشتركان في رسالة سامية هي الصحافة والإعلام، فتواضعه وإيمانه الراسخ بأن الإعلام رسالة مقدسة جعله ينظر إلى كل لقاء على أنه حديث مع زميل نبيل يشاطره تقديس المهنة التي يحملانها معًا.
عندما تستعد لمقابلة محمد كريشان، فإن استعدادك الدقيق لكل جوانب الموضوع لن يكون لمجرد تدريب نفسك على مواجهة نجم ساطع في سماء الإعلام، بل لتهيئة نفسك لحوار راقٍ مع صحفي أصيل يؤمن بقدسية رسالته، هذا الإيمان هو سر تجاوزك لأي شعور بالقلق أو التوتر، لتقابل هذا العملاق الذي أصبح مذيعًا بارزًا في قناة الجزيرة، وانطلق شغوفًا بالصحافة وعاش حياته من أجلها، فهي حبه الأول والأساس الذي يرى فيه الإبداع الحقيقي.
نبدأ من الراهن في أعقاب أحداث طوفان الأقصى وليس الحديث بالطبع عنه كحدث سياسي، إنما حول حدث عرى واقع الحريات الإعلامية في أغلب البلدان الغربية التي تغنت طويلًا بشعارات الديمقراطية، فكيف تنظر إلى هذا الجانب تحديدًا من تلك الأحداث التي فضحت التناقض بين الأقوال والأفعال؟ بل تعدى الأمر إلى أن بعض القنوات الغربية منعت صحفييها حتى من قول الرأي في أي وسيلة تواصل.. فكيف يتسق هذا الأمر مع محطات تدعي أنها تنقل الرأي والرأي الآخر.. وتفرضه «أمرًا» على موظفيها حتى على وسائل التواصل؟
في الحقيقة هناك قول يتكرر باستمرار في وسائل التواصل، ـ طالما أنك ذكرتها ـ على لسان كثيرين، وهي أن حرب غزة كانت كاشفة لأشياء عديدة، من بينها، وربما من أهمها، وأن هناك نموذجًا - إن صح التعبير - كان الكثيرون يشيرون إليه باستمرار على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الإعلامي، وهو هذا «الغرب» ما يسمى بالغرب عالم الحريات، وعالم حقوق الإنسان، عالم القانون، وعالم الشرعية الدولية، لكن هذا كله انهار وسقط تحت بنايات غزة.
ومن أكبر المفاجآت غير السارة تتعلق بالإعلام تحديدًا، صحيح أن ذلك لم يكن مفاجئًا لأول مرة، فنحن عانينا ذلك في الحرب على الإرهاب، في حرب العراق، في حرب لبنان، ولكن لأن هذه الحرب استمرت لفترة طويلة، فهي كشفت عن عورات رهيبة في الإعلام الدولي.. كالإعلام الأمريكي، والألماني صحافة وإذاعة وتلفزيونًا، إلا من رحم ربك، من ظل من الصحفيين الأجانب، متمسكًا بأخلاقيات المهنة وبالتوازن وبالحرص على الإنصاف وهم قلة قليلة جدًا، حيث انخرط الجميع في الدعاية الإسرائيلية، وفي الدفاع عن كل ما تفعله إسرائيل، بغض النظر عن أي وجه، فمثلًا الإعلام الألماني يستضيف ثلاثة أو أربعة أو خمسة محللين كلهم من مؤيدي إسرائيل، وكذلك يفعل الإعلام الفرنسي، وإذا صادف أن استضافوا أحد المدافعين أو المتعاطفين بشكل أو بآخر مع الفلسطينيين، تراه مقموعًا، وتراه يعامل بإهانة، ويعامل بكثير من العدوانية، مما جعلنا نتساءل في النهاية هل هذا هو الغرب الذي قدّم نفسه لسنوات على أنه نموذج؟ وعلينا نحن في الإعلام العربي المتخلف بين قوسين أن نقتدي به، أنا الآن لم أعد مستعدًا لسماع أي صحفي غربي يحاضر علينا في الإعلام، بالعكس أنا أعتبر إنه قناة مثل قناة الجزيرة، ليس لأني أنا أنتمي إليها فنحن كنا حريصين على إبداء المأساة الإنسانية ببعدها الخاص بالأطفال، وبالنساء، وبالشيوخ، وبهدم البيوت، لكن ذلك لم يمنعنا، رغم أن ذلك فيه بعض الحساسية وبعض الاستياء لم يمنعنا من أن نورد الرواية الإسرائيلية وأن ننقل المؤتمرات الصحفية للمسؤولين الإسرائيليين، كنت أحرص من هؤلاء الذين كانوا يدرسوننا على احترام أخلاقيات المهنة، ومعايير المهنة.
أي إعلامي في أي محطة صحفية يمكنه التعاطي مع الأحداث بالاقتراب من المثالية أو بمعنى أكثر دقة أقصى درجات المهنية وهذا ما يمكن أن يطمح به أي شخص إعلامي.. إلى أي مدى نستطيع تحقيق ذلك في عملنا اليومي المتواصل؟
الصحفي ليس معصومًا وليس نبيًا، لكنه في عمله يُنظر إليه دائمًا على أنه الرجل القادر على إنصاف الناس، وعلى رواية معاناتهم، وعلى رواية ما يجري كما هو دون تزييف ودون افتراء، ودون محاولة للي ذراع الحقائق، فأعتقد أن المعركة لا تكسب بسهولة.. صحيح أننا ما زلنا على المستوى الحرفي في البلاد العربية متخلفين على مستوى صناعة الإعلام، سواء في الصحافة المكتوبة أو الإذاعة أو التلفزيون، وللأسف كثير من هذه المجالات مطبوعة بثقافة موالاة السلطة وأحيانًا ليس حتى موالاة بها عقل، وبها فكر، لا، هي موالاة عاطفية، وأحيانا بتعسف، فأعتقد أنه معركة الإعلام العربي تكسب تدريجيا.. الأهم أن نكسب ثقة الإعلام المحلي فكل دولة من دولنا العربية معركة المصداقية بالأساس تكون مع جمهورها سواء كان إذاعة محلية أو صحيفة وطنية أو تلفزيونًا رسميًا أو خاصًا في أي بلد إذا كنت حريصًا على تقديم بضاعة جيدة للناس، فالناس تحترمك، وهذا كله يجب أن يمر بامتحانات، سواء داخلية أو عالمية أو أحداثا كبيرة مثل أحداث غزة، فبالتالي هذه ثقة تبنى تدريجيًا وليست سهلة.
قُلتَ في حوار قريب «إذا تركنا عواطفنا تتحكم فينا سنبكي مرارًا وتكرارًا» لكن الواقع أننا بأي شكل من الأشكال لا نستطيع تقييد عواطفنا تجاه القضايا والأحداث.. فهل من الممكن فعليًا أن نتجاوز هذه العواطف ونقدم محتوى إعلاميًا محايدًا تمامًا؟ وبشكل أكثر دقة ما الآليات العملية التي يمكن للإعلاميين اتباعها للحفاظ على التوازن المنشود بين الموضوعية والاحترافية من جهة، والتعبير الصادق عن المشاعر البشرية من جهة أخرى؟
صحيح، أنا قُلتُ هذا الكلام، أنا أحيانًا أشبه في ظروف معينة خاصة في ظروف الحروب كالتي نعانيها الآن مع غزة... نحن وكل الصحفيين نتعذب من الداخل، وخاصة الذين يبدون على الشاشات، ينقلون معاناة لحظية لمجزرة، لقتل أطفال، لأشلاء،.. فلذات أكباد الناس منهم مراسلونا مثل وائل الدحدوح، وغيره من زملائنا في غزة، أنا أشبّه هذا بالطبيب الذي يعمل في قسم الطوارئ.. الطبيب في قسم الطوارئ هو إنسان، وبعض الأطباء في غزة بكوا أطباء من مختلف الدول، والأجانب أيضا فعندما نتحدث عن الغرب الذي صدمنا، يجب أن لا نهمل الأصوات الحرة في الغرب... الشباب الذين خرجوا في مظاهرات.. الذين تطوعوا وذهبوا إلى مستشفيات غزة من الأجانب، من النرويج ومن غيرها، فنحن أشبه بمن يعمل في قسم طوارئ، فالطبيب في قسم الطوارئ لا يجب أن يترك العاطفة هي التي تتحرك عوضًا أن يسعف الناس، ونحن الصحفيين خاصة على مستوى التلفزيون، علينا أن ننقل هذه الصورة المؤلمة والموجعة، ولا نقول دون أن نبدي عواطف، ولكن دون أن نترك الحبل على الغارب بالنسبة للتعبير عن العواطف، وأحيانا تشعر بأنك تريد أن تبكي ولكن عليك أن تتماسك حتى تقدم هذه الخدمة الإخبارية للرأي العام.
في سياق الحديث عن الأصوات الحرة في الغرب نحن نعلم أن الرأي العام الغربي تشكّل لديه في السنوات الأخيرة فهم وإدراك متزايد لجوهر القضية الفلسطينية وتعقيداتها التاريخية، لكن السؤال الأهم هو: إلى أي مدى ساهمت الأحداث التي شهدناها في السابع من أكتوبر الماضي في تغيير هذا السياق وصياغة رؤية جديدة لدى الشباب الغربي تجاه هذا الصراع العميق الجذور؟
ما يجري في الغرب استثنائي بكل المعايير، عندما تجد حفل التخرج في جامعة هارفرد الأمريكية، وهي من أعرق الجامعات في العالم، ولا يدخلها إلا صفوة القوم، ويتخرج منها صفوة القوم، وقادة المستقبل في أمريكا، وفي غيرها، تجد حفلة تخرج يرفع الكل فيها العلم الفلسطيني، والكل يرفع شعارات التي تندد بحرب الإبادة في غزة، وعندما تجد شبابًا أمريكيًا وشابات في مقتبل العمر يبكين بحرارة على هؤلاء الأطفال في غزة، هذا يعيد الإيمان بأن الإنسانية ما زالت بخير، والمفارقة أين؟: لدينا طبقة سياسية غربية، معادية في مجملها (رغم الاستثناءات في النرويج وفي إيرلندا وفي إسبانيا وفي أي الدول التي كانت منصفة).. لكن لدينا مفارقة بين طبقة سياسية ما زالت معادية، وبين جيل جديد خرج إلى الشوارع، فمثلًا في ألمانيا، منعت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين ففرضوه، وفي فرنسا، منعت المظاهرات وكانت تشتتهم بالقوة، ففرضوها أيضا، خرجت مظاهرات ضخمة في لندن وفي باريس وفي برلين، ولا ننسى أن هؤلاء الشباب هم الذين سيتولون الحكم في المستقبل، فبعد خمس أو عشر سنوات، هؤلاء الذين قد يغيّرون المعادلة الانتخابية بإبراز طبقة سياسية جديدة، لأن القادة الحاليين أفرزتهم صناديق الاقتراع لأناس من الكهول ومن العجائز، وهذا الجيل الجديد سيفرز قيادات جديدة، لن نجد بايدن، ولن نجد ترامب في أمريكا بعد سنوات، ولن نجد ماكرون أو المستشار الألماني في هذا المنصب، سنجد نوعية أخرى من الناس، لذا علينا أن نكون متفائلين بهذا الجيل الجديد.
البعض يتهم القنوات الإخبارية بأنها تتغذى في محتواها بما يحدث من مشاكل في العالم ويتعاظم مع تعاظم المشكلة، مع إيماننا بالدور الإنساني والمهني لهذه القنوات لكن كيف تقيّم هذا الاتهام وواقعه من عدمه؟
هو هذا صحيح وهذا ليس عيبًا؟ يعني كأن تقول للطبيب إنه يقتات على مرض الناس، وكأن تقول المهندس يقتات على بناء البيوت، فهذا الأمر طبيعي فإذا كانت الحياة جامدة ولا شيء فيها، والصحفي لا ينقل شيئًا وينقل زقزقة العصافير وخرير المياه، ولم يواكب ولم ينقل هذه المآسي فهو مقصّر، أنت لا تستطيع أن تلومه عندما ينقل هذه المآسي فتقول إنه يقتات عليها، وإذا لم ينقلها تقول أنت مقصر ومتجاهل.. فالأخبار هي الأخبار الكارثية منها وهي التي تثير الانتباه وجزء من المآسي هذه هو إعلام الحروب والمآسي والزلازل والفيضانات، إذن علينا أن ننقل هذه المآسي ولا نركن لهذه الأحكام التي فيها الكثير من محاولة الإساءة، أكثر منها تعبير عن حقيقة المشهد، فسيارة الإسعاف التي تعمل على نقل الجرحى لا نستطيع أن نقول لقائدها إنه يقتات على نقل الجرحى، طبعا هذا دوره، والإعلام هذا دوره.
أشرت إلى أن كتابك «.. وإليكم التفاصيل» لا يحوي الكثير من الاعترافات الشخصية أو المغامرات العاطفية،هل ترى أن التركيز على الجانب المهني كان مناسبًا وما الظروف أساسًا التي دفعتك في نهاية المطاف لكتابة سيرتك الذاتية بعد سنوات من التأجيل؟
أنا أولًا وهذا قُلته حتى في مقدمة الكتاب لا أعتبر الكتاب سيرة ذاتية، أعتبره جولة بين محطات في مسيرتي، سواء محطات في تونس أو في لندن، أو في الدوحة أو فلسطين أو العراق أو بعض المقابلات والأشياء التي مررت بها، هناك جوانب تتعلق بي شخصية حميمية في علاقتي بالوالد بالوالدة (رحمة الله عليهما)، في علاقتي بزوجتي وأبنائي، أنا أعتقد أن هذه ليست مهمة للناس.. هي تلبي فضولًا لدى الناس التي تبحث عن التفاصيل الخاصة للفرد لكن أنا أعتقد أن هذا ليس مهمًا.. فالمهم محمد كريشان الصحفي وما أوردته أردته أن يكون ملهمًا، فعندما تحدثت عن معاناتي البطالة لسنوات، وعن معاناتي عندما تزوجت وكنت عاطلًا عن العمل، وعندما كنت طالبًا عملت في بدالة بصحيفة حكومية، وهنا تعمدت تسليط الضوء على جوانب شخصية قد تكون ملهمة للناس، أقول لهم إنه بإمكانك أن تصل وتتعب وتصبح في يوم من الأيام نجمًا تلفزيونيًا أو صحفيًا مشهورًا، لكن الجوانب الشخصية هي شخصية لم أشأ أن أشرك الناس فيها وهي جزء من مياهي الإقليمية الخاصة التي لا أريد للفضول أن يصل إليها.
وحول الشق الآخر من السؤال فالكتاب فكرة تراودني منذ فترة علمًا أنه ليس الكتاب الأول، فأنا أصدرت كتابين قبله كتاب في 86 يعني وأنا عمري 27 سنة في تونس حول منظمة التحرير الفلسطينية، وكان ذلك بسبب وجود القيادة الفلسطينية آنذاك في تونس، كتاب فيه مجموعة مقالات عن الإعلام والكتاب، هذا الذي ربما يعود الفضل فيه إلى فترة كورونا التي جعلتني أبقى في البيت وأكتب، علمًا أني كنت مستعدًا لهذا الكتاب حيث كان لدي صندوق كلما كان لدي قصاصة، أو لدي مقال، أقول إنه قد أحتاجه يومًا ما، إذا كتبت أرميه في ذلك الصندوق فلما قررت الكتابة رجعت للقصاصات وشرعت في ترتيبها.
تطرقتَ في كتابك إلى تجاربك مع شخصيات بارزة مثل القذافي والمنصف المرزوقي والباجي قايد السبسي قبل وصولهم إلى السلطة، هل لديك قصص أو ملاحظات مثيرة للاهتمام حول تعاملك معهم في تلك المرحلة؟
أغلب الرؤساء والشخصيات الكبرى التي قابلتها اقتصرت المناسبة على المقابلة أو الدردشة الخفيفة قبل المقابلة أو الدردشة بعدها، فمثلًا مع علي عبدالله صالح (رحمة الله عليه) كان في رمضان حيث فطرنا معًا وصلينا معًا، وقلة من كانت لي سابق معرفة بهم من قبل، ثم أصبحوا رؤساء مثل المنصف المرزوقي أو الباجي قايد السبسي فهما عرفتهما في جريدة الرأي التي عملت بها كان الاثنان من وجوهها البارزة، فبالتالي عندما وصلا إلى الرئاسة كان فيه ود سابق ومعرفة سابقة، وعلاقتي إلى الآن ممتازة مع المنصف المرزوقي، وكل ما يأتي إلى الدوحة إلا ونلتقي ونتبادل الرسائل والتهاني، وهذا يسعدني لأنه في النهاية الرئيس لن يبقى رئيسًا طول حياته، وهذا طبعًا إذا كان حريصًا على الديمقراطية، أما إذا كان مستبدًا فهذه مسألة أخرى، لكن الحمد لله علاقات الود والاحترام تبقى، وهذا أهم شيء.
اهتمامكَ بالقضية الفلسطينية بدأ منذ الصغر من خلال متابعتك للأحداث مع والدك... ثم تطور الأمر في مسارك المهني لتغطي العديد من الأحداث المهمة منها اجتياح بيروت ومجزرة حمام الشط. ما أبرز الذكريات والانطباعات التي خلّفتها هذه التجارب عليك؟
كنت محظوظًا أني أنا تخرجت في الجامعة صحفيًا في عام 1981م وفي سنة 1982م جاءت القيادة الفلسطينية إلى تونس وأصبح مقر منظمة التحرير الفلسطينية الرسمي في تونس عندما خرجت من معركة بيروت سنة 1982م وكانت آنذاك تونس مقرًا لجامعة الدول العربية منذ 1979، حين انتقلت جامعة الدول العربية إلى مقرها المؤقت في تونس بسبب معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية.. إذ وجدت نفسي أتخرج في الجامعة وتونس عاصمة للحدث العربي للحدث الفلسطيني وزراء الداخلية يجتمعون هناك، وزراء الإعلام، وزراء الخارجية، وزراء الدفاع، الكثير من المجالس الوزارية والمؤتمرات والمنظمة العربية للتربية والثقافة مقرها في تونس، إذن وجدت نفسي في عاصمة تعج بالأحداث، وما بقي لي من الذكريات الآن - وأنا فخور به - أنني تعرّفت على قمم حقيقة سياسية، فعندما تقول الآن بكل افتخار أنا جالست الزعيم ياسر عرفات، وأجريت معه حوارات وجلست مع صلاح خلف أبو إياد، جلست مع خليل الوزير أبو جهاد، جلست مع أبو مازن عندما كان عضو اللجنة التنفيذية ولم يصل بعد إلى الرئاسة، مع ثلة من الصداقات الفلسطينية التي ما زالت إلى الآن، وعندما أزور فلسطين وآخر مرة زرت فيها كانت 2014، وذهبت في تغطيات عديدة للجزيرة، حجم علاقاتي، هناك، في فلسطين كبيرة جدًا وتعود لأيام تونس، حتى أن الفلسطينيين الذين جاءوا من تونس كانوا يسمونهم التوانسة، والحمد لله هذه بقيت ذكرى طيبة مع هؤلاء.
في علاقتك الوثيقة مع القيادة الفلسطينية آنذاك، بما في ذلك الرئيس ياسر عرفات، هل يمكنك مشاركة بعض القصص والمواقف اللافتة من تعاملك معهم؟ كيف كنت تنظر إلى شخصية عرفات من وجهة نظرك كصحفي رافقه عن كثب؟
ياسر عرفات بلا شك زعيم استثنائي وكأي زعيم استثنائي، البعض يشيد به أيما إشادة، والبعض ينتقده انتقادًا مريرًا وأعتقد أن أغلب الزعامات السياسية كانت دائمًا تتأرجح بين المعجب وبين المنتقد، فياسر عرفات شخصية استطاعت أن تقود العمل الفلسطيني في وقت كانت القضية الفلسطينية تقريبًا ستتلاشى فهو ورفاقه في حركة فتح استطاعوا أن يعيدوا الموضوع الفلسطيني إلى الأجندة الدولية باجتماعاتهم ونضالهم وعملياتهم العسكرية والفدائية، واستطاع أن يجمع الساحة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حتى عندما حدثت انقسامات داخل منظمة التحرير في 1983.. وفوق ذلك لديه سعة الصدر التي تستطيع لاحقًا أن تعيد الخصوم إلى العائلة نفسها التي هي منظمة التحرير، كانت عنده كاريزما غير عادية، وكانت عنده قدرة - وأنا هذا الذي لفت انتباهي بشكل خاص - قدرة على تحمل الأذية، كان صبورًا لأن الأذية تأتيه من رفاقه، من الساحة الفلسطينية، تأتيه من الزعامات العربية.
الكل يقّبلونه ويعانقونه، ولكن الله أعلم ما الذي يجري خلف ذلك، ثم أنه زعيم التقى عليه الجميع، الإسرائيليون والأمريكيون والأوروبيون، أنظر الآن إلى موجة التعاطف الموجودة مع الفلسطينيين، هذا نتيجة تراكم نضالي من ياسر عرفات إلى ما بعد ياسر عرفات، إلى حركات المقاومة الفلسطينية الآن في غزة، هو من الذين رسّخوا الموضوع الفلسطيني على الأجندة الدولية حتى وحين اختار النهج السلمي، لم يترك كل أوراقه في هذه السلة، أراد أن يزاوج بين خيار المقاومة وخيار التسوية، لكن في النهاية قتل لأنه جاء في سياق لم يكن هناك إمكانية لهذا اللاعب المزدوج والذي عاد الآن، ربما هذا اللاعب المزدوج لا يمكن لأي حركة تحرر وطني أن تقتلع حقوقها إذا لم تزاوج بين المقاومة وبين السياسة.
كيف تطورت علاقتك مع محمد حسنين هيكل من محاولة لقائه كصحفي شاب إلى إجراء العديد من المقابلات التلفزيونية معه لاحقًا؟ وما الذي جعلكما تتقاربان إلى هذا الحد؟ وما التحديات في التعامل مع شخصية قوية كهيكل خلال المقابلات التي يتمناها الصحفي وقد لا يصل إليها؟
الحقيقة أن «هيكل» (الله يرحمه) أيضا من الشخصيات السجالية الجدلية، فهناك من هو مفتون به، وهناك من لا يطيق سماع اسمه، وهناك من يعتبره مرجعًا ونقطة مضيئة في تاريخ الصحافة العربية، وهناك من يعتبره غير ذلك على الإطلاق، وأنا ما أقوله أن «هيكل» وهنا لا بد أن نكون منصفين في الوصف سواء أحببته أم لم تحبه، سواء أعجبت به أم لم تعجب به، هناك حقيقة لا تستطيع أن تنكرها وهي أنه صحفي من الطراز الأول في الكتابة، هو إنسان ظل حتى في السنوات الأخيرة من عمره، أو حتى الأشهر الأخيرة من عمره صاحب فكر وقّاد، وصاحب قدرة على التقاط الأخبار والاتصال بالناس، كان ملكًا في جمع الأخبار والحفاظ على العلاقات، عندما ألتقي بهيكل أشعر بأنه رئيس تحرير لصحيفة ستصدر غدًا.. يتصل بهذا ويسأل عن خبر هذا، ويلتقي بهذا، ويحكي مع هذا ويستفسر عن هذه القصة، هو ظل صحفيًا أو «جورنالجيًا» كما يقول هو إلى آخر أيامه، وهذا نموذج جميل استطاع أن يؤسس لشبكة علاقات رهيبة مع القادة والزعماء في المعارضة، في السلطة، مع أمراء الخليج، مع رؤساء أجانب، مع رؤساء عرب.. في الحقيقة، هو نموذج ملهم.
فعندما تلتقي بشخص مثل هيكل، وأنت كنت تحلم أن تلتقي به وأنت صحفي شاب حاول عمره 24 سنة قادم من تونس من جريدة متواضعة ويريد مقابلة هيكل ففعلًا تم تجاهلي، وهذه قلتها له وكان يضحك أن أعود إليه وأنا مذيع ونجري حوارات، وكان لا يكتفي باللقاء معي في كل مرة إلا ويعزمني في بيته، نتغدى مع بعض، فهيكل كان يتناول وجبة واحدة في النهار، فهو ينهض مبكرًا، يفطر والساعة الثانية يتغدى وانتهى إلى إفطار اليوم الموالي، فكان الجميل أنه كل مرة تقريبًا إلا نتغدى معًا قبل إجراء المقابلة، أو بعدها.
كان «هيكل» جميلًا في الاستعداد للمقابلات، فهو يطلب فقط المحاور حتى يراجع، كان يستعد للمقابلات وكأنه تلميذ سيمتحن، فمثلًا تقول له سوف تكون مقابلتنا للحديث عن العراق وإيران وفلسطين، كان يراجع آخر الأشياء في العراق وآخر الأشياء في إيران وآخر الأشياء ويأتي بأرقام ويأتي بمقابلات ويأتي بكتب يضعها على الطاولة، فهو يراجع كل ذلك بطريقة فارقة، هذه نوعية ملهمة في وقت كان بإمكانه أن يأتي للمقابلة، وهو جاهز لكنه يستعد كما ينبغي احترامًا لتاريخه واحترامًا للمشاهد أيضًا.
.. وربما أيضًا أتيح لهيكل ما لم يتح لغيره؟
نعم.. هو أيضا يقول بنفسه إن الحياة كانت كريمة معه، هو كان يعيش في ظروف مرفهة، مرتاح.. لديه إمكانيات أن يوظّف سكرتيرًا وباحثًا ولديه مكتبة ولديه من ينظّم أرشيفه، هذا أيضًا له دور بالتأكيد، لكن الرجل ألمعي بكل الأحوال.
أخيرًا.. كيف تقيّم أهمية أن توثيق التجارب الشخصية والمهنية، خاصة في سياق تجارب الإعلاميين العرب الآخرين الذين كتبوا عن تجاربهم.. وما نصيحتك في شأن توثيق التجربة أو السيرة المهنية للإعلاميين؟
.. دعني أتحدث ارتباطًا بمحمد حسنين هيكل تحديدًا.. فهيكل كان لا ينام كل ليلة، قبل أن يدون تفاصيل يومه، فما بالك عندما يلتقي برؤساء دول أو شخصيات مهمة فهو يكتب باستمرار وهذه ليست عملية سهلة، ولكن عندما يريد أن يعود ليكتب عن عُمان مثلًا، سيجد لقاءاته مع الوزراء حديثه مع الناس، ذهابه إلى أي موقع في عُمان، بمعنى أنه يجد المادة كلها متوفرة.
أحيانًا مقصر وألوم نفسي إنه في بعض اللقاءات وبعض المقابلات وبعض الدردشات لم أدوّن، فعندما تعود بالذاكرة قد تستحضر أشياء وأشياء لا تستحضرها.
وفي تجربتي مع قناة الجزيرة تقديري أن الكثير من المسائل دوّنتها وساعدتني عندما أردت الكتابة وأشرت إلى بدايات الجزيرة، لكن أعتقد أنه الصحفي الذي يهمل التوثيق والإصرار على التوثيق الدائم، عندما يريد أن يكتب قصة أو كتاب قد لا يجد الفرصة الممكنة، ونحن للأسف نفتقر كثيرًا للصحفيين الذين يؤلفون كتبًا عن تجاربهم، والحمد لله يعني ولو أنه البعض الآن يطالبني بكتاب آخر وكذا، أنا لا أريد أن أصدر كتبًا لمجرد النشر.. الآن أنا أقدم برنامج «غزة ماذا بعد؟» وفي كل يوم أضع الحلقة في ملف بالتاريخ مع كل القصاصات من الصحافة العِبرية وكذا، وهذه فكرة خطرت في بالي أنني ربما أعود لكل هذه الملفات المهمة خلال الحرب، ويخرج كتاب آخر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: منظمة التحریر محمد کریشان یاسر عرفات الکثیر من فی تونس فی قسم فی غزة صحفی ا
إقرأ أيضاً:
مبتدأ وخبر
#مبتدأ_وخبر
د. #هاشم_غرايبه
المبتدأ: عندما توفي أبوصابر تاركا زوجة ثكلى وأيتاما صغارا، ضاقت الدنيا بأم صابر خوفا على ابنائها العنت، خاصة وأن العائلة ظلت تعيش على الكفاف، حيث يتدبرون أمور معيشتهم بصعوبة من ناتج ارضهم، والتي وإن كانت مديدة فسيحة، أن الانتاج كان شحيحا، بسبب ضعف إدارة أبي صابر وتكاسله.
لذا فقد رحبت الأرملة الحزينة بأول طالب ليدها وكان المختار أبو فيصل، والذي ما أراد الزواج بها لجمالها أو حسبها، بل طمعا في الأراضي الكثيرة التي ورثتها عن زوجها.
لم تكتشف المسكينة حقيقة الزوج إلا بعد فوات الأوان، فقد كان مدمنا على القمار زيادة على أنه مدخن شره، ورغم أنه وعدها بداية أنه سيخلصها وأولادها من معيشة الفقر، وهي صبرت عليه طويلا ولم تستعجلهلإنجاز وعده، إلا أن ظروفهم كانت تزداد سوءا يوما بعد يوم.
وكانت حسرتها تزداد وخيبة أملها تتضاعف كلما وجدته يبيع قطعة من الأرض ليسدد ديونه المتفاقمة، وفي كل مرة كانت ترضخ لطلبه بيع قطعة جديدة، وحجته التحرر من قبضة الدائنين، لكي يتفرغ لإطعام أولادها وكسوتهم،
لكن مرت السنون والأولاد كانوا يزدادون هزالا وعريا، عندها يئست وأدركت أنها لوبقيت أرملة لكان الحال أفضل، فطلبت الطلاق، لكن هيهات، لأن المختار رفض مدعيا أنه متمسك بها حبا لها، لكنها تعلم الحقيقة المرة، وهي أنه لن يفرج عنها الا بعد أن يستنزف كل ما عندها.
الخبر: بعد إسقاطه الدولة العثمانية التي كانت تحكم الأمة الإسلامية، لم يحتل الغرب أراضيها عسكريا، كما كان يفعل سابقا في حروبه، لأنه يعلم طبيعة هذه الأمة الصعبة المراس، فسوف يكلفه ذلك كثيرا، وفضل أن يحكمها بالوكالة، أي أن يولي عليها حكاما متعاونين معه، يؤمنون له مصالحه بلا كلف، بل ينال خدماتهم وإخلاصهم مقابل بقائهم على كرسي الحكم، واختار من بينها فلسطين، كونها تقع في قلب ديار الأمة، فما جلا عنها إلا بعد أن أمّن تشكيل كيان لقيط جمع فيه شذاذ الآفاق وأوهمهم أنه وطن جامع لهم، فيما هو في حقيقته لا يعدو كونه كلب حراسة القطيع، يراقب ويرصد التزام الأنظمة العربية بما فرضه عليها من تبعية، وإدامة إضعافها وتفرقها درءا لأية محاولة وحدة تستعيد فيها قوتها.
لكي تتقبل الشعوب ذلك ويستتب الأمن للحاكمين، كان من الضروري تأميلهم بالرخاء والتقدم، لذلك شنت حملة ثقافية متعددة العناصر، لإقناع الشعوب بأن يأملوا الخير العميم من منهاج الحكم الجديد (العلماني) النقيض (للإسلامي) الذي جربوه طوال القرون السابقة، وحققوا فيه السيادة والتفوق الحضاري، رغم أن تطبيق الحكام له كان متفاوتا من خلال الحقب الماضية، بين من طبقه بنسبة 100 % في أوله، ومن طبق نصفه أو ربعه أو عُشره، ورغم ذلك وحتى في أدنى الحدود، فرغم انحسار حالة التفوق، إلا أن الحكم الإسلامي كان في أسوأ حالاته محققا للعزة والكرامة، لكونه حمى أراضي الأمة ومياهها من الطامعين.
الحملة الثقافية كانت مستهدفة منهج الأمة (الدين)، كونه الممانع الأعظم لانهزامها، وللصد عنه أسبغوا على نقيضه (العلمانية) القدسية والتبجيل، وسوقوه تزويرا على أنه الوصفة السحرية للتقدم، فيما كان السبب الحقيقي المخفي للصعود الأوروبي هو الاستيلاء على خيرات الشعوب الفقيرة خلال المرحلة الامبريالية الاحتكارية التي رافقت الثورة الصناعية.
وفيما كانت الأنظمة تقوم بما أوكل لها، ومتيقظة صارمة في ممانعة العودة الى الحكم الإسلامي من جديد، كانت خطة الغرب مستهدفة المتعلمين في تبشيريات الغرب، الذين تشربوا ثقافته، فكافأهم بأن اطلق عليهم مسمى المثقفين التنويريين، مقابل تسمية متبعي منهج الله بالظلاميين، فكون هؤلاء طابورا آخر للغرب، عملوا من جانب كمخوفين للأقليات غير المسلمة من قيام الدولة الاسلامية، ومبشرين بأن العلمانية هي ما يحقق مساواة المواطنين، ومن جانب آخر أسسوا أحزابا سياسية قائمة على مبادئ علمانية رافضة لاتباع منهج الله، فبات نشاطها معززا لمهام الأنظمة، وهذا تفسير لماذا حظرت الأنظمة تشكيل الحزب ان كان اسلاميا، كما يفسر تأييد الأحزاب اليسارية للأنظمة القمعية، رغم علمها بفسادها وفشلها.
هكذا ضاعت الأمة طوال القرن الماضي كالأيتام في موائد اللئام، فزوج الأم لن يكون كالأب الحقيقي، وعندما يكون طمعه في ما لدى الأم، لن يطلقها بالحسنى الا بعد استنزافه لكل مقدراتها.