سالم بن نجيم البادي
تأشيرة إقامة مُستثمر، صارت ذريعة لدخول البعض إلى البلاد تحت مُسمى مُستثمر، رغم أنَّهم لا علاقة لهم ولا دراية بالاستثمار؛ بل ولا مال لديهم للاستثمار! وقد حضروا دون نيّة فعلية للاستثمار، وبعضهم جاء فقط للبحث عن عمل، ومنهم من التحق بأقربائه هنا بهدف الهروب من الظروف القاهرة في بلده، وصار عالة على معارفه الذين يعملون هنا، وربما صار عبئًا على البلد، وفي أقل تقدير أنه لا فائدة ترجى من وجوده، وفئة أخرى مارسوا أعمالا مختلفة وتنقلوا بين مهن كثيرة.
لا أعلم إن كان البيع في بقالة صغيرة في قرية بعيدة وداخل حارة شعبية كل سكانها من أهل البلد يُعد من قبيل الاستثمار، فقد كنتُ عائدا ذات مرة من مسقط في وقت متأخر من الليل وكانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل وشدَّ انتباهي أنَّ البقالة في تلك الحارة لا تزال مفتوحة على غير العادة، وتوجهت إليها ووجدت شابًا عربيًا، وقد أخبرني أنَّ البقالة له وأنه مستثمر هو وابن عمه. وكنت مررت على مُستثمر آخر من نفس جنسية هذا الشاب يمتلك كذلك دكانًا على الشارع العام.
وفي مدينة أخرى شاهدت كافتيريا صغيرة بالكاد تتسع لطاولة واحدة وبها ثلاثة أشخاص من جنسية عربية أخرى يعملون في هذه الكافتيريا، وقد أخبروني أنهم قدموا بغرض الاستثمار. كانت الكافتريا متواضعة ولوحتها باهتة وموقعها غير مناسب.
ومررت على عائلة عربية مكونة من الزوج والزوجة وطفلة صغيرة يمشون في إحدى الولايات التي تتميز بدرجات حرارة عالية في هذه الأيام مع ندرة سيارات الأجرة، أشفقت عليهم وأوصلتهم إلى المكان الذي يقصدونه. وفي الطريق أخبرني الرجل أنه جاء بتأشيرة مستثمر، لكنه ومنذ مدة طويلة وهو يبحث عن فرصة استثمار، وشكا لي من سوء الحال ومن عجزه حتى عن دفع إيجار البيت الذي يسكنون فيه.
والتقيت بحالات أخرى يبحثون عن عمل أو فرص استثمارية. ولقد صارت تأشيرة الاستثمار هذه محل تندر ومصدرًا للنكات والتعليقات الساخرة من أفراد المجتمع وحكايات وقصص تروى في المجالس.
ذكر أحدهم أنه وجد عاملة المنزل التي كانت تعمل في بيته في أحد المولات، وقد أخبرته أنها أصبحت مستثمرة، هي وبعض زميلاتها العاملات في البيوت. وقال آخر إنَّ العامل الذي كان يعمل في مزرعته أصبح مُستثمرًا هو وثلة من أصدقائه عمال المزارع. وذكر أحد الرجال أن العامل الذي كان يمر على البيوت لتنظيف السيارات أصبح مستثمرًا في فترة وجيزة!!
لذلك نسأل: ما ضوابط وشروط منح تأشيرة المستثمر؟ وهل تُمنح لكل من هبَّ ودبَّ، وكأن الهدف الوحيد من دخول المستثمرين هو ذلك المبلغ الذي يدفعونه لخزينة الدولة ثم يُترَكون بعد وصولهم إلى البلد دون متابعة، ولقد سألت أحد الذين دخلوا بتأشيرة الاستثمار عن المشروع الذي سوف يستثمر أمواله فيه سكت قليلاً ثم قال "ربك كريم والله يدبرها".
إن منح تأشيرة مستثمر للأجانب ومع التساهل في تطبيق شروط منحها قد يجلب مشكلات كثيرة وإن على المدى البعيد فقد يتحول بعضهم إلى متسول أو مجرم لا قدَّر الله، وقد يزاحم أبناء البلد في الوظائف والأعمال والاستثمار في الأعمال الصغيرة.
لذلك ينبغي إعادة النظر في منح تأشيرة المستثمر وفي تطبيق شروط صارمة تضمن أن من جاء بغرض الاستثمار سوف يستثمر أمواله ليُساعد في انتعاش الاقتصاد الوطني وخلق وظائف لأبناء الوطن، وأن يكون لديه رأس مال كبير، ودراسة جدوى لمشروع قد خطط له من قبل حسب حاجة البلد، لا أن يأتي المستثمر وهو صفر اليدين وبلا أهداف ولا رؤية واضحة. ثم وبعد أن يدخل البلد يصير تائهًا أو أن يعمل في أعمال لا تُسمّى استثمارًا.
ومن هنا وجب على الجهات المختصة الموازنة بين الأموال التي يدفعها المستثمر مقابل منحه تأشيرة مستثمر لخزينة الدولة، وبين الأضرار المترتبة على دخول الناس إلى البلد بذريعة الاستثمار. فقد يكون الضرر أكبر من ذلك المبلغ الزهيد.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ما الذي تفتقده صحافتنا اليوم؟
د. يوسف الشامسي **
لربما يُوحي طرح السؤال بهذه الصيغة أني بصدد تقييم مُفصَّل للموضوع بناءً على تصوُّر معياري حول الصحافة ودورها، وبالتالي يمكن تحديد المفقود بالتعرّض للموجود؛ لكن الاستماع لأصوات الصحفيين والمختصّين بالشأن الإعلامي اليوم قد يجعلني أعيد التساؤل السالف ذكره بتساؤل لا يخلو من مفارقة ساخرة بلسان ذوي الشأن أنفسهم: ما الذي لم تعُد تفتقده صحافتنا اليوم؟!
أزعمُ أنَّ النقاش في هذا السياق لا يستدعي بحثًا وتحليلا معمقًا؛ بل مجرد الاستماع لذوي الاختصاص من جهة ووجود إرادة حقيقية من قبل الجهات المسؤولة من الجهة الأخرى كفيل بإعادة إنعاش هذا القطاع ليتبوأ دوره المؤمل في العلاقة بين المجتمع والسياسة، وسأكتفي باختزال الإجابة في مفقودَيْن اثنيْن جديرَيْنِ بدفع صحافتنا المحلية لمسارها المنشود، وأجزم أن أغلب المهتمين بهذا الحقل يجمعون على هذين المطلبين: مزيدًا من الحماية القانونية والتمكين، ومزيدًا من الدعم المادي والتحفيز.
تُعد الصحافة أداة حيوية لتعزيز الحوكمة، والتماسك الاجتماعي، والمشاركة العامة، وتمكين الفئات الأقل حظًا في المجتمع، ولئن كانت مهمة الصحافة وجوهرها "نقل الحقيقة"، فإن ذلك لن يتأتى إلّا عبر بوابة الحرية، في مناخٍ ضامن لأمن الصحفي وأحقيّته في الوصول للمعلومة الصحيحة والتحقق منها، لذلك وقبل كل شيء، صحافتنا بحاجة إلى قوانين تدعم الشفافية والتمكين لاستقصاء المعلومات ومراقبة الجهات المُرتبطة بمصالح المواطنين. وغياب قانون حق الحصول على المعلومات هو حكم على الصحافة بالبقاء تحت وصاية الجهات الرسمية وغير الرسمية لتزويدها بالمعلومة، وبالتالي تضعف جودة التغطية الإعلامية وتغيب التنافسية بين المؤسسات الصحفية، ناهيك عن المخاطر القانونية التي قد تورِّط الصحفي جراء نشره معلومة ما دون إذن من الجهات الرسمية نتيجة لغياب قانون ينظّم له ذلك الحق. ورغم إقرار قانون الإعلام الصادر قبل أشهر- والذي ما يزال يثير تساؤلات المختصين- بهذا الحق في مادته الثالثة، إلّا أنه يظل قاصرًا عن منح الصلاحيات الكاملة للصحفي لينطلق بحرية في ميدانه. ولعلَّه من الجدير أن أشير هنا لجهود مجلس الشورى وطرحه لمقترح مشروع قانون حق الحصول على المعلومات قبل قرابة عقد من الزمن؛ ولكن لا أدري إذا ما سقط المقترح خلال دورته التشريعية آنذاك، أو أنه ما يزال يراوح مكانه في أروقة المجلس.
ولسنا بحاجة للوقوف كثيرًا حول أهمية هذا القانون؛ إذ يكفي أنه يعمل بمبدأ تعزيز الثقة وحُسن الظن في القائم على الرسالة الإعلامية، عكس تلك القوانين التي تحدّه بالعقوبات وتُكرِّس مبدأ سوء الظن في الصحفي، فيقبع يستظهر النصوص القانونية خوفًا من الوقوع في شيء من المحظورات، ويتجنب- من ثمّ- تغطية القضايا التي قد تشغل الرأي العام هروبًا من كل ما قد يأتيه بتبعات ومساءلة.
اليوم.. ثلاثة أرباع دول العالم تبنَّت قانون الحصول على المعلومات، 50% من هذه الدول أقرّت القانون فقط خلال العشر سنوات الماضية، لذلك لا ينبغي أن نتأخر كثيرًا عن الركب، خصوصًا وأن مثل هذه القوانين ذات تأثير مباشر على الأداء في مختلف المؤشرات الدولية. فليس بغريب أن نجد أغلب دول المنطقة العربية اليوم- وللأسف- مُصنَّفة في مراتب مُتدنية في مؤشرات حرية التعبير والصحافة العالمية، كتقرير "مراسلون بلا حدود"، و"بيت الحرية"، وغيرها. هنالك بالطبع من يُشكِّك في نزاهة هذه المؤشرات ويعيب مثل هذه التقارير الدولية بحُجة أنها ذات نزعة غربية تُحابي دول "المركز" في تقييمها وتُهمِّش "الهامش"، وهذا جزئيًا لا يُمكن إنكاره؛ كما لا يصحّ قبوله بالمُطلق؛ فبعض المؤسسات إذا ما تقدمت في أحد المؤشرات الدولية أذاعت بذلك في كل محفل، وإن تراجعت في التصنيفات انتقدتْ التقارير ورمتها بالتحيز وما شاءت من التّهم!
وللإنصاف، علينا أن نتساءل: هل صحافتنا اليوم أفضل حالًا مما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة عقود؟ هل فعلًا نستحق ترتيبًا أفضل؟ وهل توجد مؤشرات وطنية أو إقليمية لنعتمدها فيما يخص حرية الصحافة في بلداننا؟ هل تقدّمنا فيها؟ وهل يعتدّ بها لدى المكتب الوطني للتنافسية؟ هذه التساؤلات ضرورية قبل انتقاد التقارير "الغربية" خاصة بعدما أضحت هذه المؤشرات الدولية شريطًا متريًا بخارطة مستقبل عمان لقياس مدى تقدمنا في مستهدفات رؤية "عُمان 2040".
وتفتقد المؤسسات الصحفية اليوم للدعم المادي، وهذا ما ليس يخفى على المهتمين، فضلًا عن العاملين بهذا القطاع، فأغلب المؤسسات الصحفية قائمة على الدعم الحكومي والإعلانات، واليوم وفق تعبير رئيس جمعية الصحفيين العُمانية، فإن أغلب الصحف الخاصة "تحتضر"، وبالتالي سيفقد المجال العام منابر ضرورية وُضِعَت لتُسهم في تحريك المناخ الثقافي والسياسي وذلك بخلق تعدُّدية في الآراء عند معالجة قضايا الشأن العام.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنَّ الكثير من العاملين في هذا القطاع يشكون ضعف المُحفِّزات المادية للبقاء فيه، ناهيك عن غياب النظرة التكاملية بين المُخرجات وسوق العمل. وعلى المعنيين بسياسات هذا القطاع دراسة هذه القضية بشفافية والتساؤل: ما تأثير غياب الدعم المادي المُستدام على جودة المحتوى الصحفي واستقلاليته؟ وإلى أي مدى يعكس سوق العمل احتياجاته الفعلية في عدد الخريجين الجدد من كليات الإعلام والصحافة بالسلطنة؟ وما السياسات التي يُمكن أن تُعتمد للحد من الفجوة بين المخرجات الإعلامية وسوق العمل؟ أيضًا كيف يمكن مُعالجة الفجوة بين الجنسين في فرص العمل داخل المؤسسات الصحفية؟ وأخيرًا هل هناك تجارب ناجحة في دول أخرى يمكن الاستفادة منها لدعم المؤسسات الصحفية الخاصة؟
هذه التحديات لربما باتت مصيرية وستتطلب إصلاحات جذرية إن تأخرنا في مُعالجتها؛ فبدون بيئة قانونية داعمة، وتمكين اقتصادي يحفظ للمؤسسات الصحفية استقلالها واستدامتها، سيظل هذا القطاع يُعاني من التراجع والقيود.
إنَّ تعزيز حرية الوصول إلى المعلومات، وزيادة التحفيز والدعم للمؤسسات الصحفية الخاصة، أصبحا من الضرورات لضمان دور الصحافة في تحقيق أهداف التنمية وتعزيز الحوكمة. فهل سنشهد تحركًا جادًا لإعادة إنعاش هذا القطاع وتمكينه، أم ستظل هذه المطالب مجرد أصوات في مهب الريح؟
** أكاديمي بقسم الاتصال الجماهيري- جامعة التقنية والعلوم التطبيقية في نزوى