لجريدة عمان:
2025-04-06@02:41:37 GMT

الحربُ الملوَّنةُ في «أبوكاليبس»

تاريخ النشر: 8th, June 2024 GMT

لطالما أحببتُ فكرة إعادة التلقي؛ كأن أعيد قراءة كتبٍ قرأتها أو مشاهدة أفلام شاهدتها، خاصة تلك التي اكتشفتُها لأول مرة في فترة ما من طفولتي فصارت جزءًا من معالم أَمسي وعالمه. بمرور الوقت تحولت الإعادة إلى عادة، وأصبحت طريقتي الخاصة التي أختبر من خلالها سعادةَ القراءة الثانية بوعي جديد وفي ظروف مختلفة، وهي عادةٌ غالبا ما يكون الحنين باعثها الأول.

أكتب هذه السطور خارجا من أمسيات الأسبوع الماضي التي قضيتها في إعادة مشاهدة الأجزاء الستة من السلسلة الوثائقية الشهيرة «أبوكاليبس: الحرب العالمية الثانية» للمخرجَين الفرنسيين دانيال كوستال وزوجته إيزابيل كلارك. وهي سلسلة فرنسية كنت قد شاهدتها قبل نحو عقد ونصف حينما أعلنت شبكة ناشونال جيوغرافيك عن نسختها المدبلجة إلى العربية عام 2009، مع حذف كبير طال جميع المشاهد المتعلقة بمحنة يهود أوروبا في ذلك التاريخ وكل ما هو متعلّق بالهولوكوست. أما الكتابة الرائعة لنص الفيلم، والتي لا زالت تدهشني في كل مرة، فقد تجلَّت قراءتها العربية بالصوت الفخم للمعلِّق الإذاعي السوري محمد عارف السعيد. للأسف كان ذلك قبل ثلاث سنوات فقط من حادث اختطافه في إحدى المناطق السورية كما قرأتُ فيما بعد، حيث تمَّت تصفيته في ظروف غامضة في يوم من أيام يوليو عام 2012!

شاهدت الفيلم عدة مرات منذ عرضه الأول، وظلَّ يمثل بالنسبة لي أول معرض بصري عن الحرب العالمية الثانية. وفي كل مشاهدةٍ ألتقطُ منه تفصيلا جديدا غاب عن انتباهي خلال المشاهدة السابقة. وقد حرصت هذه المرة على مشاهدة نسخته الكاملة بلا حذف، فاستعنت بنسخة غير أصلية متاحة على يوتيوب اجتهد مُعدُّها في أخذ المشاهد المتعلقة بالهولوكوست من النسخة الإنجليزية الكاملة وإلصاقها في النسخة العربية محلَّ المشاهد المحذوفة، والتي بالمناسبة تكاد تكون هي المشاهد الوحيدة بالأبيض والأسود، إذ اعتقد صانعوا الفيلم بضرورة عرض المشاهد المتعلقة بالهولوكوست كما هي، دون ترميم لوني.

إلى جانب الأرشيف الضخم من المشاهد المرممة بالألوان يعتمد الفيلم على استعراض الوقائع التاريخية بأسلوب سردي يحافظ على توازنه الدقيق بين التاريخ والأدب، دون أن تقع سرديته -كما أرى- في حبائل المكيدة والإغواء بين ما هو تاريخي وما هو أدبي فني، رغم أن بعض نقاده اتهموه بشيء من الاجتزاء والانتقائية التي لا بدَّ أن تؤدي بالسياق، في النهاية، إلى بعض الانزياحات الطفيفة عن الموضوعية التاريخية. كما أن الشخصيات التاريخية المحركة للأحداث الكبرى، كزعماء الدول وجنرالات الحرب، لم تكن وحدها محط اهتمام الفيلم. لقد عرَّفنا الفيلم على روز جولاند مثلا، طفلة بريطانية في إحدى ضواحي لندن حيث ستقضي أولى سنوات طفولتها في الحرب، لكنها ستنجو لتكتب بعد أيام من استسلام إمبراطور اليابان كلمةَ «النهاية» على قنبلة. كما يتابع الفيلم سرد أحداثه من خلال العودة إلى ما دوَّنه جنود مُهمَلون من يومياتهم خلال المعارك ويستشهد بمذكراتهم التي شرعوا بكتابتها بعد الحرب، كما هو الحال مع الملازم الألماني أوغست فون كاجنيك، والذي خدم في صفوف «الفيرماخت» كقائد دبابة في الجبهة الشرقية، قبل أن يتعرض لإصابة بالغة عام 1942 في ذلك الصقيع الروسي، والتي سيُنقل على إثرها إلى ألمانيا. يقتبس الفيلم من مذكرات الملازم ووصفه لتلك المأساة حيث كتب: «اختفى الإيمان، وأصبح الشكُّ مسيطرا. أصبح الموتُ أعز صديق، وهو صديق الإنسان الوحيد، لأنه سوف يخلصك من معاناتك». وببحثٍ سريع عن فون كاجنيك سنعرف أن هذا الشاب، ذا التسعة عشر عاما، والذي التحق في صباه بما عُرف آن ذاك بـ«شبيبة هتلر»، سيبدأ بعد الحرب حياته المهنية كصحفي، حيث سيتفرغ للكتابة كالكثير من النازيين التائبين.

«أبوكاليبس» كلمة يونانية قديمة، أصبحت تشير اليوم إلى فكرة نهاية العالم. أراد الزوج كوستال وكلارك أن يجعلا من عملهما المشترك ألبوما ملونا لحرب بشعة بلا ألوان راح ضحيتها، حسب التقديرات، خمسون مليون إنسان ينتمون إلى رقعة واسعة من جغرافيا العالم، بين أوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا. كانت حربا عالمية بالفعل، وليس في هذا المصطلح أي شبهة للمجاز كما قد يشكك البعض. فهل تستطيع «القوة التربوية» لفيلم كهذا، على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي دومينيك وولتون، أن تسهم في إنقاذ عالم ينسى من آفة النسيان؟!

في ختام حلقته الأخيرة «الجحيم» يهدي هذا الفيلم تحية مستحقة لمصوري الحرب: «فلنكن ممتنين للمصورين والأبطال المبتوري الأذرع الذين صوروا هذه المعارك لأجل الأجيال القادمة، وإلى جميع من قام بتصوير هذه الحرب بكل ما فيها من بشاعة وقلة احتشام». ولكن لا يبدو أن أحدا يتعلم من الأمس كما ينبغي، وليس في الألوان ما يكفي من طاقة لمقاومة شمس النسيان التي تطلع على التاريخ كل يوم فتبعدنا عنه أكثر. كأن تعلُّم درس الماضي لا يجوز بلا ألم جديد، وكأن زعماء هذا العالم يفضلون إعادة تكرار التاريخ على أرض الصراع، بكلفة الدم الطازج، بدلا من إعادة قراءته في بطون الكتب أو إعادة مشاهدته مرة، مرتين، في شريط وثائقي ملوَّن كهذا.

التحية في الختام لروح المغدور محمد عارف السعيد، ولصوته الذي لن يذهب سدى في الريح.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

يا لقطاء الأمم ويا فتات التاريخ: الا تعرفون من هي غزة ؟

يا #لقطاء_الأمم ويا #فتات_التاريخ: الا تعرفون من هي #غزة ؟

كتب: احمد ايهاب سلامة

اسفكوا دماءنا كما شئتم، اذبحونا حتى حد كفايتكم، ابيدونا بما استطعتم لكن، كلما أسرفتم في قتلنا، زاد رصيد ثأرنا عندكم وزادت قوتنا، على أيدينا سيكون القصاص وعلى أيدينا سيكون الخلاص، عهداً أمام الله لن نغفر.

الا تعرفون من هي غزة ؟

مقالات ذات صلة العيديات في الأردن…فرحة تتراجع تحت ضغوطات معيشية. 2025/04/02

فيها نساء يدعون طوال الليل أن يحفظ الله المقاومة، حكايات تُروى عن غزة لا تُعد ولا تُحصى، وما من قلم أو كتاب يستطيع أن يوفي غزة حقها

ألا تعرفون، يا أوساخ الأرض، يا صهاينة من هي غزة؟

غزة التي تكتظ بالأشلاء، وشعب يموت في سبيل المقاومة، هم يهتفون معاً فداء للمقاومة يحبون الموت كما تحبون الحياة

إنهم رجال الضيف وأبو عبيدة، رجال فلسطين الذين صمدوا طويلاً في وجهكم، ففشلتم في تشريدهم، بل زاد ثأرهم، ونمت عزيمتهم، هم أقوى شعوب الأرض، وأكثرهم صلابة، شعب لا يُقهر، هم رجال البأس، أصحاب النصر أو الشهادة، رجال يكتبون تاريخهم بدمائهم.

ألا تعرفون من هي غزة وفلسطين؟ هم عباد ذو بأس شديد، قوم جبارون، هم من سيرفعون علم فلسطين على أنقاض جثامينكم، وسيشهرون رايات النصر عالياً، فوق أرضكم المدمرة، ويشربوا دماءكم ويرموا أجسادكم للكلاب تنهشها.

هم من سيرفعون في أفراحهم عند تحرير الأرض، سيرفعون جثامينكم القذرة، ويرتفع معها علم فلسطين ورايات النصر.

هم من داسوا على جنودكم ببساطيرهم الطاهرة، وأذاقوكم مرارة الهزيمة في تل أبيب، وركضوا كالسيل في عسقلان، واحتلوا سيديروت في أقل من ساعتين

هم، يا خنازير الكون، أعند شعوب الأرض! حرمتونا الطعام والشراب، منعتم النوم والدواء، ولكن والله، سيأتونكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة

سيحملون البنادق، والأسلحة، والحجارة أطفالاً، نساءً، رجالاً، وعجائز، سيأتيكم من حيث لا تدرون، سيسلبون أحبابكم، ستبكون على من أحببتم، سيلاحقونكم في كل مكان تحت الأرض، في السماء، وبالطائرات بالمظلات، مشياً، وزحفاً، إلى بيوتكم
وستلعنون الساعة التي وُلدتم فيها.

ألا تعرفون من هم أهل غزة وفلسطين؟ هم الذين سيخلدهم التاريخ في صفحاته، وتتناقل الأجيال سيرتهم في الكتب، هم أحفاد الصحابة، الذين لا يعرفون الخوف، ولا يهابون الموت، هم من سيحفرون في الأرض بحثاً عن جنودكم، سيأخذون ثأرهم بأيدٍ غاضبة سيجعلونكم تندمون على اليوم الذي وطأتم فيه أرضنا.

سنأتيكم في أحلامكم، نلاحقكم كالكوابيس في قبوركم، يا ويل ابائكم منا، يا ويل أهاليكم حين نرد حقنا، سينطق الحجر والشجر، وسيسقط عليكم الرصاص من السماء، سنمزق أجسادكم، ونمحي تاريخكم القذر ونسترد وطننا عنوة عنكم.
.

وتظنون أنها لن تعود؟ والله، ستعود رغم أنوفكم، ولو اجتمع كل الجن والإنس معكم ستعود فلسطين، ويرتفع علمها، وستشاهدون العالم كله يشهد على ذبحكم، وعندها
الموت ذاته لن ينقذكم منا.

مقالات مشابهة

  • الكشف عن الدولة العربية التي قدمت دعما لحملة القصف على اليمن
  • حماس: المشاهد بفيديو المسعف تكشف جريمة إعدام ميداني
  • الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترمب لا تخصنا في الوقت الراهن
  • ميرنا نور الدين: أحمد العوضي ضربني وعورني في وشي في “فهد البطل”
  • أكبر أزمة أيتام في التاريخ الحديث.. أرقام صادمة لضحايا العدوان على غزة من الأطفال
  • وزير الخارجية الأمريكي: علينا إعادة هيكلة النظام العالمي للتجارة
  • يا لقطاء الأمم ويا فتات التاريخ: الا تعرفون من هي غزة ؟
  • الحرب على غزة.. عضو الشيوخ الأمريكي: التاريخ لن يغفر لنا
  • شاهد بالفيديو.. قائد الهلال “الغربال” يحكي قصة اللحظات الصعبة التي عاشوها في الساعات الأولى من الحرب بالخرطوم
  • إعادة بناء القرية السودانية: رؤية لمستقبل مستدام بعد الحرب