ما يحدث في قطاع غزة لا مثيل له في كل الحروب التي مر بها العالم، تدمير البيوت على ساكنيها، قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير كل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الطبية، ضرب حصار حول غزة ومعاناة الناس، الجوع وافتقاد المياه، وجميعها أحداث مأساوية يشاهدها العالم لحظة بلحظة عبر كل وسائل التواصل طوال ثمانية أشهر، وكل المشاهد التي تقع في جباليا، وبيت حانون، وبيت لاهيا، ورفح وكل مناطق غزة، وجميع المآسي التي تحدث كل يوم لا يتحرك لها ضمير العالم إلا من خلال بيانات لا تتجاوز الكلمات المعسولة لتهدئة غضب الشباب الثائر في أوروبا وأمريكا والذين خرجوا في حشود هائلة معبرين عن غضبهم على جرائم إسرائيل، وقد شاهدنا خلال الأسبوع الماضي مشاهد مروعة لتدمير مدينة جباليا وتسويتها بالأرض على ساكنيها، كل ذلك يحدث تحت أعين وبصر العالم.
في كل مرة يخرج علينا الرئيس الأمريكي بايدن في تصريحات فجة، آخرها حينما قال بأنه لا يعترف بحكم المحكمة الجنائية الدولية، ولا يرى أن إسرائيل قد مارست أي نوع من الإبادة، وعندما سألته إحدى الصحفيات خلال الأيام الماضية عن الجرائم التي وقعت في شارع الرشيد، أجاب ببروده المعهود: إننا نسمع لوجهتي النظر من الجانبين، لكننا مازلنا ندرس الموقف، ومتواصلون مع إسرائيل لمعرفة الحقيقة! وعندما سئل رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو عن مجزرة شارع الرشيد، أجاب بغطرسته المعهودة: نحن نحاول أن نعرف ماذا حدث! لقد اقترب عدد شهداء قطاع غزة إلى ما يقرب من أربعين ألف شهيد، وضعف هذا العدد من الجرحى والمشوهين، ورغم ذلك فما يزال المقاتلون الفلسطينيون يفاجئون عدوهم من كل مكان، من تحت الأنقاض، من الأنفاق المهدمة، من الحارات الضيقة، بينما الشعب الفلسطيني برمته قد توحدت إرادته على الثأر، ترى الشباب والنساء والشيوخ في الشوارع المهدمة وبين أنقاض البيوت واثقون من النصر غير عابئين بقسوة عدوهم ولا بما يملكه من أسلحة فتاكة، قدمها له الأمريكيون والغرب بسخاء، بينما الرئيس الأمريكي ما يزال يحاول تجميل صورته وسط ردود فعل عالمية غاضبة.
في كل التصريحات التي يلقيها بايدن يواصل حديثه عن الأسرى الإسرائيليين، وشعوره بالألم بسبب تعطل الحياة الإسرائيلية، وخصوصًا في تراجع السياحة وتدهور الاقتصاد، ومعاناة الشعب الإسرائيلي في المخابئ وفي البيوت المحصنة، إلا أنه لم يصرح ولو لمرة واحدة عن مأساة الفلسطينيين في حياتهم ومعيشتهم، ولا عن المعتقلين في السجون الإسرائيلية من الرجال والنساء، وقد تجاوز عددهم عشرات الآلاف، ولا عن تلك الإبادة الجماعية لهذا الشعب الأعزل الذي يرفض الاستسلام، مفضلا الموت في سبيل قضيته العادلة، التي يناضل من أجلها بكل شرف وبسالة، نرى ذلك عبر كل وسائل التواصل، نرى الأطباء والمسعفين بعد كل عملية إجرامية يسارعون لإنقاذ الجرحى والبحث عن المفقودين تحت الأنقاض، غير عابئين بطلقات عدوهم، إنها ملحمة لا يعرفها إلا من كان مرتبطا بأرضه وبشعبه.
في كل مرة يخرج علينا الرئيس الأمريكي بايدن متحدثا عما أسماه بجرائم حماس في السابع من أكتوبر، ملقيا بكل اللوم على الفلسطينيين بعيدا عن سلسلة الجرائم التي ظل يمارسها الإسرائيليون طوال 75 عاما، ورغم ذلك فما يزال الفلسطينيون متمسكين بأرضهم، وهم واثقون من قدرتهم الفائقة على التكيف مع مأساتهم، وثقتهم المطلقة في النصر، رغم تباين القوى بشكل هائل، فالفلسطينيون يواجهون عدوهم بصدورهم وأسلحتهم البدائية، التي صنعوها بأنفسهم، بينما يستخدم عدوهم أحدث الأسلحة الذكية من الصواريخ والطائرات المسيرة والقنابل الحارقة، ورغم ذلك فالشعب الإسرائيلي يعيش حياة بائسة بسبب الخوف على حياته بعد أن توقفت كل المؤسسات الإسرائيلية عن أداء مهمتها، ولا يعبأ قادة إسرائيل بخروج المظاهرات كل يوم التي تحاصر بيت نتنياهو ومؤسسات الجيش، مطالبة بإبرام صلح والقبول بمشروعات التفاوض، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يعلم جيدا أن توقف الحرب يعني نهاية مستقبله السياسي، وربما يقدم إلى المحاكمة التي تودي به إلى السجن.
أخيرا طرح الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال الأسبوع الماضي مبادرة جديدة على ثلاث مراحل، يتم خلالها تبادل الأسرى الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين وإعادة إعمار غزة، لكنه لم يتطرق إلى الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى إنهاء الصراع، من خلال إقامة دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧، وهو الموضوع الرئيس الذي يؤيده العالم إلا إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية، وأعتقد أن هذه المبادرة حتى لو قبلها الإسرائيليون والفلسطينيون إلا أنها لن تنه الصراع طالما بقي الفلسطينيون مجرد رعايا يعيشون تحت الإدارة الإسرائيلية، وهي مبادرة لا تحقق السلام العادل الذي لن يقبل به الإسرائيليون وقادتهم من الصهاينة، الذين يرفضون قيام دولة فلسطينية بعد أن أعمتهم القوة العسكرية الغاشمة، غير مدركين أنهم يقاتلون شعبًا جبارًا متمسكا بأرضه غير عابئ بقوة إسرائيل العسكرية.
لم يقرأ الإسرائيليون التاريخ بعد، وإن قرأوه فلا يستوعبوه، ما حدث في كل حركات التحرر في العالم من فيتنام إلى الجزائر إلى نضال الأفارقة وشعوب أمريكا اللاتينية، جميعها دروس تستحق الدراسة والتأمل، فلم يحدث أن استقر محتل على أرض اغتصبها عنوة، بعد أن دفعت هذه الشعوب أثمانا باهظة من دماء أبنائها، بل ظل الدرس الأكبر الذي سجله لنا التاريخ أن كل الشعوب التي ناضلت في سبيل الحصول على أرضها وحريتها قد كُتب لها النجاح، وخرج المستعمر مهزومًا يلعق جراحه، وبقيت كل حركات التحرر في العالم بمثابة دروس كبيرة، إلا أن الإسرائيليين وكل داعميهم لم يستوعبوا هذه الدروس، وسينتصر الشعب الفلسطيني في النهاية، طالما بقي مصرًا على القتال، وستنهار إسرائيل مهما طال الزمن.. عاش صمود الشعب الفلسطيني.
د. محمد صابر عرب أكاديمي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرئیس الأمریکی إلا أن
إقرأ أيضاً:
متحدث حركة فتح: صمت دولي من العالم على الجرائم الإسرائيلية
أكد عبد الفتاج دولةـ المتحدث بأسم حركة فتح، أن الإحتلال الإسرائيلي حتى الأن يواصل عدوانه على الشعب الفلسطيني، وسط صمت دولي من العالم على وضع حد لما تقوم به إسرائيل، من عمليات القتل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
وقال عبد الفتاح دولة، خلال مداخلة هاتفية لبرنامج “حضرة المواطن”، عبر فضائية “الحدث البوم”، أن الدعم الأمريكي لأسرائيل واضح، مؤكدا أن نتنياهو كان له تصريحات تؤكد سيطرته على قطاع غزة، ونجاحه في القضاء عليها، وسيطرة على سوريا.
وتابع المتحدث بأسم حركة فتح، أن ما تعرض له كل من قطاع غزة والقضية الفلسطينية ليس أمرا سهلا، لافتا إلى أن القضية الفلسطينية علي مفترق طرق ومنعطف خطير، وبالتالي بعد هذه السنة الدامية يجب أن نفكر بمسؤولية بعيدا عن الحزبية.