إذا لم يكن هذا إرهابًا فما الإرهاب إذًا؟
تاريخ النشر: 8th, June 2024 GMT
بتاريخ ١٥ يوليو ٢٠١٣م ذكر القاضي ساينج يونج سونج رئيس المحكمة الجنائية الدولية آنذاك، في بيانه بمناسبة يوم العدالة الجنائية الدولية، أنه «في ١٧ يوليو ١٩٩٨م، شهد التاريخ حدثًا جللًا. إذ اتفق أعضاء المجتمع الدولي المجتمعون في روما بإيطاليا على إنشاء محكمة دولية دائمة، تتمثل مهمتها في معاقبة مرتكبي أشد الجرائم التي يمكن أن يتفتق عنها الخيال قسوة، وجبر أضرار المجني عليهم فيها.
وأشار قبل نهاية بيانه إلى «أن العدالة الجنائية الدولية ليست حكرًا على ثقافة بعينها أو شعب بعينه. فهي قيمة مثالية إنسانية أصيلة؛ ولهذا لاقت المحكمة الجنائية الدولية ترحيبًا في قارات العالم كافة». لا أدري كيف ستكون حجم الصدمة للقاضي سونج عندما يستمع لرئيس -أكبر ديمقراطيات العالم- رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون، الذي أعلن في مايو الماضي «أن الكونجرس سيتخذ إجراء لمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية وضمان أن قيادتها تواجه عواقب إذا واصلوا المضي قدمًا»، وهذا ما حدث بالفعل، حيث أقر مجلس النواب الأمريكي بتاريخ ٤ من شهر يونيو الحالي، مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، كما يفرض عقوبات على المحكمة إذا حققت أو حاكمت أشخاصًا محميين من واشنطن أو حلفائها. وذلك تأديبًا لتجرؤ المدعي العام للمحكمة كريم خان، الذي طلب من المحكمة استصدار أوامر اعتقال بتهم جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بحق رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو ووزير دفاعه جالانت، وهي الجرائم التي شاهدها القاصي والداني، حيث أظهرت هذه الجرائم حقيقة الكيان الصهيوني وسرديته الزائفة التي استطاع في العقود الماضية أن يسوّقها في الولايات المتحدة والمجتمع الغربي. ويكون مجلس النواب الأمريكي بإصداره لهذا القانون قد خالف مبدأ من أهم المبادئ التي نص عليها الدستور الأمريكي الصادر في عام ١٧٨٩م. إذ نص في بداية ديباجته على أنه «نحن شعب الولايات المتحدة، لكي نؤلف اتحادًا أكثر رسوخًا، ولكي نقيم العدالة...». فكيف يتصور المرء أن هذه الدولة الديمقراطية الأكبر والأقوى في العالم والتي كانت على مدى عقود طويلة غاية أحلام شعوب العالم وخاصةً شعوب العالم الثالث، أن يوصلها الكيان الصهيوني إلى هذه المكانة التي تثير الشفقة. لقد استطاع الكيان الصهيوني خلال الأشهر الثمانية الماضية منذ بداية حربه على غزة وتطبيقه لكل ما يمكن استخدامه من عبارات في قواميس الإجرام، أن يقزّم الحكومات والمجالس النيابية في كلٍ من الولايات المتحدة وعدد من العواصم الغربية الفاعلة. وأدخل الرأي العام في هذه الدول بانقسام غير مسبوق، فأغلب شعوب هذه الدول تحمل الكثير من الجوانب الإنسانية والأخلاقية وترغب في أن ينعم العالم بالأمن والسلام، ولكنها في المقابل صُدمت بمدى تطرف وانحراف حكوماتها وبرلماناتها ووسائل إعلامها الموجهة في دعم الكيان الصهيوني المجرم والاستماتة في الدفاع عنه لدرجة الابتذال.
فعندما يصرح قادة هذه الدول ووزراء خارجيتها وكبار مشرعيها أنهم لا يرون أي دليل على تعمد إسرائيل قتل المدنيين فكيف نتوقع أن تنظر لهم شعوبهم، التي رأت بأم أعينها وبشكل يومي حجم المجازر التي يرتكبها جيش الكيان الصهيوني بحق المدنيين العزل وبأسلحة أمريكية وغربية سلمت مجانًا لهذا الكيان من أموال دافعي الضرائب من هذه الشعوب. وعندما يقومون كذلك، بقمع الاحتجاجات الطلابية في الجامعات على استمرار المجازر في غزة، بحجة أن هذه الاحتجاجات في هذه الجامعات تروع الطلبة اليهود وهم يعلمون وشعوبهم تعلم أن الطلبة اليهود -الذين لم تدنسهم الصهيونية- هم من أكبر المشاركين في هذه الاحتجاجات، فكيف نتوقع أن تكون نظرة شعوبهم لهم بعد الدفاع عن هذا الكيان الذي لا يملك ذرة أخلاق، وخير دليل على ذلك، حجم الشتائم التي يوجهها وزير خارجية الكيان ومندوبها الدائم في الأمم المتحدة للأمين العام للأمم المتحدة ولشخصيات سياسية ودبلوماسية دولية انتقدت هذه المجازر، لدرجة قيام المندوب الدائم للكيان الصهيوني بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة أمام الجمعية العامة بعد أن كال الشتائم للدول التي صوتت للاعتراف بدولة فلسطين، في انكشاف مفضوح للمستوى المتدني من الأخلاق التي يتمتع بها رجالات هذا الكيان.
لقد شجعت هذه المواقف الأمريكية والغربية الكيان الصهيوني على الاستمرار في مجازره اليومية وانتهاكه للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وجرائمه بحق المدنيين العزل، الذين وصل عدد القتلى منهم حتى الآن إلى ما يقارب ٣٧ ألف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال و٨٤ ألف جريح والآلاف من المفقودين تحت الأنقاض، وتدمير ٧٠ ألف وحدة سكنية بالكامل ومسح البنية التحتية من جامعات ومستشفيات ومدارس ومساجد وكنائس ومقار حكومية ومقار إيواء وإغاثة بالأرض، واستخفاف بالعدالة الدولية بعد قيام محكمة العدل الدولية بتاريخ ٢٤ من مايو الماضي بإصدار قرار بمنع الكيان الصهيوني من القيام بأي أعمال عسكرية في رفح، والتي لم يعرها الكيان الصهيوني -والدول الداعمة له- أي انتباه، وأعلن أن هذا القرار لا يعنيه، واستمر في عدوانه الإجرامي حتى يومنا هذا. واكتمل المشهد المأساوي في ازدراء العدالة الدولية بقيام مجلس النواب الأمريكي بإصدار القانون المشار إليه وترهيب المحكمة وقضاتها، في سابقة أخلاقية تظهر مدى الخضوع والانصياع الذي وصلت إليه قيادات هذه الدول ومشرّعيها للكيان الصهيوني، ولو كان هذا على حساب سمعة ومكانة هذه الدول على الساحة الدولية والقيم التي تشدق بها هؤلاء القادة والسياسيون والمشرّعون على مدى عقود، من خلال العبارة الشهيرة التي يدخلونها في أي خطاب سياسي أو شعبي، وهي عبارة «قيمنا Our Values»، التي كشفت أحداث غزة حقيقتها وأنها لا وجود لها إلا في الخطابات. «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ».
خالد بن عمر المرهون، متخصص في القانون الدولي والشؤون السياسية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المحکمة الجنائیة الدولیة مجلس النواب الأمریکی الکیان الصهیونی هذه الدول
إقرأ أيضاً:
ما تداعيات قرار الجنائية الدولية برفض تعليق مذكرات اعتقال نتنياهو وغالانت؟
رفضت المحكمة الجنائية الدولية أمس الخميس طلبا تقدمت به إسرائيل لتعليق تنفيذ مذكرتي توقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، المطلوبَيْن للعدالة لارتكابهما جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
وكانت إسرائيل تقدمت بطلب لتعليق تنفيذ مذكرتي التوقيف الصادرتين ضد نتنياهو وغالانت، على خلفية الطعن في اختصاص المحكمة، إلا أن غرفة الاستئناف بالمحكمة اعتبرت أن هذا الطلب لا جدوى منه، لانتفاء الأساس القانوني لتقديمه، وبالتالي رفضته، وفق بيان نشرته المحكمة على موقعها الإلكتروني.
وقالت المحكمة -في بيان لها- "رفضت غرفة الاستئناف، لانتفاء الجدوى، طلب إسرائيل تعليق تنفيذ مذكرتي التوقيف وأي إجراءات قانونية أخرى اتخذتها المحكمة بناءً على ذلك".
وأضافت أن "غرفة الاستئناف قررت إلغاء القرار المطعون فيه وأعادت القضية إلى الدائرة التمهيدية لإصدار حكم جديد بشأن اعتراض إسرائيل على الاختصاص".
خطوة مهمةويُعدّ قرار الرفض خطوة مهمة في مسار القضية، حيث يسلط الضوء على إصرار المحكمة على المضي قدما في الإجراءات القانونية المرتبطة بالقضية رغم الطعون التي رفعتها إسرائيل.
إعلانوفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، بتهمتي ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بحق الفلسطينيين في غزة.
واعتبر قانونيان فلسطينيان أنه لا يمكن إلغاء مذكرتي الاعتقال، لأن الجريمة لا تزال مستمرة، والأدلة لم تسقط.
وقال باسل منصور، أستاذ القانون الدولي في جامعة النجاح بنابلس شمالي الضفة الغربية، إن الجنائية الدولية قامت بإجراءاتها لتؤكد على سير إجراءات العدالة الدولية، لكن طلب مذكرة الإحضار لا يمكن إلغاؤه.
وأضاف منصور أن "إلغاء مذكرة الإحضار لنتنياهو وغالانت غير جائز من ناحية قانونية، بموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية".
وأردف أنه "وفقا للمادة 58 من اتفاقية روما، لا يوجد هناك ما يبرر رفع مذكرة الإحضار كون الجريمة مستمرة والأدلة لم تسقط".
وأشار منصور إلى أنه "لا إمكانية لإسرائيل بتقديم طعون في قرار مذكرات الاعتقال، لأنه ليس لديها مسوغات قانونية ترتكز عليها حتى تتراجع المحكمة".
كما شدد على أن قرار الجنائية برفض طلب إسرائيل يضع على عاتق 123 دولة تنفيذ قرار توقيف أي مطلوب يطأ أراضيها.
واعتبر أن امتناع أو ضعف التنفيذ ليس خللا قانونيا، بقدر ما هو متعلق باعتبارات سياسية، ومحاولة بعض الدول استرضاء إسرائيل.
قضية الاختصاصبدوره، أوضح الخبير القانوني حسن بريجية، أن القرار الجديد لا يلغي أوامر الاعتقال، إلا أنه يفتح بابا قانونيا أمام الدول الموقعة على نظام روما، للاعتماد عليه كمبرر إجرائي لعدم تنفيذ الأوامر على الأقل حتى صدور قرار جديد بشأن مسألة الاختصاص (في إشارة إلى قرار المحكمة إعادة القضية إلى الدائرة التمهيدية لإصدار حكم جديد بشأن اعتراض إسرائيل على الاختصاص).
وقال بريجية إن "المحكمة ما زالت تعتبر أن الجرائم التي وقعت هي ضمن اختصاصها، والخلاف الآن هو ما إذا كانت الظروف القانونية ما تزال تسمح بممارسة هذا الاختصاص، وفي حال أُعيد تأكيد الاختصاص، قد تُفعّل الأوامر مجددًا بقوة أكبر".
إعلانوأضاف "لا يمكن إلغاء أوامر الاعتقال، لكنها تبقى معلقة التنفيذ سياسيا في بعض الدول إلى حين صدور قرار نهائي".
ويعتقد بريجية أن قرار المحكمة إعادة قضية الاختصاص إلى الدائرة التمهيدية لإصدار حكم جديد بشأن اعتراض إسرائيل عليها، قد يمثل فرصة لإسرائيل لإعادة الطعن من هذه البوابة، رغم أن المحكمة مسبقًا أقرت في 2021 بأن لها ولاية قضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولفت الخبير القانوني، إلى أن الخطوة اللاحقة للمحكمة تكمن في أن المحكمة الابتدائية ستُجري جلسات لإعادة النظر في مسألة الاختصاص، وإسرائيل قد تُشارك بشكل غير رسمي أو عبر أطراف ثالثة لتقديم مذكرات قانونية، لكن إذا أكدت المحكمة اختصاصها، يُتوقع استئناف القرار مجددًا أمام الدائرة الاستئنافية.
كما توقع "تصعيدا سياسيا ودبلوماسيا" من قبل إسرائيل للضغط على الدول الأعضاء بعدم التعاون.