بقلم / عمر الحويج

لا جديد .. لا يزال ، ويظل الصراع حول السلطة محتدماً طيلة سنوات الإستقلال وحتى الآن ، وإن إتسم بأكثره كصراع سلمي دون مناوشات مسلحة ، وإن بقيت الصراعات السياسية محتدمة سلمياً ، إلا بعد دخول العسكر إلى ميدان السياسة ، وبداية صراعات الإتقلابات والإنقلابات المضادة ، التي اعقبتها مجازر وإعدامات ومشانق كوبر والدروة.


تلك التناقضات في الساحة غير المسلحة ، إلا من قهر العسكر واستبداده ، تأثر بها الشمال والوسط لأسباب تاريخية وجيوسياسية ، ولكن هذه الظروف نفسها ، هي التي حولتها إلى صراعات حربية مسلحة ومدمرة ، في آن ومتصلة ، بين الأطراف والمركز ، ولا أقول الهامش ، لأن أرض السودان بأكمله هامش ، حتى مدنه وعاصمته ، وكل ذلك نتاج أخطاء النخب داخل هذا المثلث الشمالى ، التي حكمت المدعو المركز بإسمها ، والتي إنغلقت على ذاتها ، وأنشغلت بذواتها ، وأَدَّارت هذا المركز ودورته بمزاجها ، بما يلائم مصالحها ، ومصالح طبقتها ، فهي التي كرست التنمية في مناطقها دون أطراف السودان الأخرى ، وإن لم تكن مظاهر تنمية كافية ، وإنما كانت في مستوى حد الكفاف لم تتعداه ، حتى لم تصل درجة الفارق الكبير الشاسع بينها وهذه الأطراف ، ورغم ذلك أفرز هذا التكريس الجائر للتنمية على قلته المحظور امتدادها لغير مثلثهم المنكوب بهم في ذاتهم ، من أطراف البلاد الأخرى ، إلى أحقاد وطغائن ، ترسبت في وعي أبناء تلك المناطق ، زادها سوءاً ، إحساس أهل المركز النخبوي ، بالتفوق العرقي بالإنتماء العروبي الإسلامي المتفوق في وعيهم النائم في شهور عسل الإستعلاء على الآخرين ، منذ الزبير باشا وتجارة الرقيق ، تجاه العنصر الأفريقي المتعدد الثقافات والديانات ، مما فاقم الوضع ، وجعله أكثر سوءاً ، فقد حوَُل هذا الواقع المرير ، أبناء الطرفين الغربي والشرقي ، حمالين أسية المظلومية ، فمن ناحية هذين الإقليمين ، فقد تحول شعبيهما ، إلى شغيلة للماكينة الإنتخابية ، منتجة وولودة للدوائر البرلمانية ، لتأتي بنخبة الوسط كسلطة حاكمة في المركز ، و شغيلة وخدام منازل لا غير في الطرف الجنوبي ، وحين لم تكن هذه المهنة كافية ، لإستيعاب كل الفقراء الكادحين ، لأهل هذا الإقليم ، فقد جعلت أبناء الجنوب ، يتحولون إلى خدمة الإنشاءات والتعميرات ، لبيوتات الغابات الأسمنتية المعمارية ، لرفاهية النخبة الحاكمة وأغنياؤها وسادتها ، الذين لايشبعون إلا وحدهم دون الآخرين ، حتى من أبناء مناطقهم من الكادحين . فتحولت كل هذه التوجهات المختلة إلى قنابل قابلة للإنفجار ، بل سرعان ما أنفجرت بالفعل ، بعد دمار الحروب المستمرة ، فكانت قنبلتها الأولى ، إنفصال جنوب السودان ، وأزداد المركز تعقيداً ، ليس بينه والأطراف فقط ، وإنما بين المركز والشعب بمجمله ، حين جاءت الإنقاذ وشرفت ، فشرقت وغربت بمواصفاتها ، وهي لابسة لبوس السوء بقناع الدين الذي زيفوه ، وحين لم يجدوه كما أرادوه ، تخيلوه ثم طبقوه . وهذه المرة حولت أبناء الأقليم الغربي ، إلى فعلة لها ، بالإنتماء لدينها الكذوب ، فحاربوا به الجنوب حرب جهادية دينية ، وقد ظلت حربهم منذ مولدها في هجمة توريت البشعة ، مجرد مظلومية سياسية إجتماعية ، لا بُعد ديني لها ، وحين ثارت ضدهم ، نخب الغرب نفسها بالسلاح ، تركوا جانباً الإنتماء الديني الذي استنفذ أغراضه ، إلى الإنتماء القبلي العشائري المناطقي ، وجعلوا أهل الغرب يتحاربون بعضهم البعض ، وكانت حروبهم في شراستها ، تعادل إن لم تكن أقوى وأشرس من حرب الجنوب ، فقد أخرجوا لهم من رحمهم ، جنداً أشاوس متلفعين بعقيدة القتل والنهب والإغتصاب ، سلحوه وغذوه (.. وخذوا الغنائم متى انتصرتم) كما وجههم أحد المتنفذين في برلمانهم المحتكر ، وزودوه بما يلزم ولا يلزم من المال والسلاح ، وحتى برجال الجيش ضباطاً ذوي الكفاءة العالية منهم ، حيث ساروا على هذا النهج حتى تاريخ هذه الحرب العبثبة المتواصلة إلى لحظتئذٍ .
وسار الحال هكذا والسودان من دحديرة إلى أحرج منها وأعمق ، حتى تفجرت ثورة ديسمبر المجيدة ، وجاءت هذه الثورة العملاقة ، بأفكار وقيم واعية جديدة ، لهدم القديم ، من كل هذه الحوائط والجُدر المنغلقة ، هادمة الملزات والحياة الناعمة المشرقة ، التي أسس لها الرعيل الأول من حكامنا ، وأخَّلوا بل خانوا واستهانوا بالمسار الذي أسسه نضالهم ضد المستعمر الذي صابروه وصبروا عليه ، وصارعوه حتى صرعوه . وأول آيات الكفر كان في ذلك الزمان ، إنحياز طلائع المتعلمين ، الخريجين الأوائل ، الذين أسسوا لمؤتمرهم النضالي ، فتحول جمعهم ، إلا قليله وبعضه المعدود ، التي واصلت فعلها النضالي ، حين هرع الآخرين منها مهرولين ، إلى اليمين الإقطاعي الطائفي ، الذي لعب فيه يمين الإسلام السياسي المتطرف ، من يومه ، الدور المحرض للأحزاب ، بطائيفيتها المتدينة التزاماً ومحتوى ، وبدل أن تتفرغ تلك الكتلة الصماء ، المنتبهة فقط لمصالحها الذاتية ، وتتفرغ ،لتكوِّن طبقتها الوسطى القادرة علي تطوير البلاد والعباد ، شغلت نفسها في الإتجاه الخطأ ، رافعة شعار التحرير الملتبس ، لا التعمير المنسي المندرس . وكأنهم لم يصدقوا أنهم بذاتهم ، الذين رفعوا علم السودان عالياَ رفرافاً للتحرير ، وبدء التعمير . وأنتهى أمرهم في النهاية ، بأن أُكلوا يوم أُكل الثور الأبيض ، حيث غدرت بهم حركة الاسلام السياسي ، المتطرف من يومه ، وتعشت بهم ، ولم يكونوا أصلاً راغبين في التغدي بها ، فهي الحبيب والمتغزل الأول ، ولم تراعي تلك الحركة حتى رعايتهم وإحتضانهم لحركتها ، من قِبِّل هؤلاء المأكولين حسرة ، ولكن بلا ندم ، فلا زال البعض منهم يحن لممارسة تلك الرعاية والإحتضان الرومانسي الرغائبي معهم ، وحين شبت عن الطوق ، هذه الحركة الخؤونة ، وأشتد ساعدها رمتهم جميعاً ، في سلة نفاياتها ، تم لها ذلك في إنقلابها المشؤوم عام السجم والرماد في 89 19م . وبه أتصلت ثلاثينيتهم البغيضة ، حتى فاجأتهم ثورة ديسمبر بشعارها المستديم مساراً ، والمشبع فكراً ووعياً ومنارة وأستنارة ، بالحرية سلام وعدالة ، والثورة خيار الشعب ،والثورة ثورة شعب ، والسلطة سلطة شعب ، والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل ، وكانت فتحاً مبيناً . هذه الشعارات التي يستهين بها بعض مثقفي البرجوازية الصغيرة وكتابها وصحفييها ، بأنها شعارات لا تغني ولا تسمن من جوع لوقف حرب ، وعودة إلى ديمقراطية وحكم مدني راسخ ، بهدف جلب الرفاه والسعادة ، التي هفت إليها قلوب السودانيين في ثورتهم القرنعالمية ، بذخيرة شهدائها وبسالاتهم ، الذين بذلوا أرواحهم في سبيلها .
لماذا ؟؟ ، يقولون لأن الشعارات لا "تأكل عيش" ، ولا تأتي بفكر جديد ، إنما الذي يأتي بالجديد ، هو نتيجة المنتصر في هذه الحرب ، أياً كان من هو من بين الطرفين ، الإسلاموكوز أو الجنجوكوز ، وكلاهما رضعا من ثدي أم أتت بهم سفاحاً ، وكأن الحرب ، سيكون فيها خاسر ومنتصر ، علماً إن لم يكن من ذا لا علم ، أنها حرب بين فصيلين منشقين تفاصلا ثم تخاصما ثم أنقسما ، وأنقسما اميبياَ ، حتى صاروا شيعاً مسلحة ، بتوجهات مدمرة ، وأصبح بينهما ما صنع الحداد ، حتى الذي يدعي أنه مع الثورة ، وفارق خطى الآخرين ، الذين بعضهم تبنى فكر العنصرية الإنفصالية ، بأحلام هدم دولة 56 ، والحكم بالنخبة الغرباوية بديلاً للنخبة الجلابوية . أو ذلك الذي يحلم بدولة الساحل والصحراء الكبرى داخل مسستشارية الدعم السريع ، تلك التي إختطت لحميدتي بفقه الضرورة الترابية "أذهب أنا سجيناً وأذهب أنت رئيساً" ، وأختارت له طريق الديمقراطية المدعاة زيفاً وتدليساً لمرحلة الحرب ، حتى يغيض الله لهم مخرجاً آخر بعد الحرب ، تلك المستشارية الإسلاموية حتى النخاع .
ولنعد أخرى لنائب الامين العام للمؤتمر الشعبي ، حين قدم خطابه ، على منصة تنسيقية مؤتمر تقدم ، فوجدناه قد إستعاد كل مبررات إنقلابهم المشؤوم ، التى رددوها أيام عزهم وعزوتهم في تبرير إنقلابهم بحجة الرد على مذكرة قيادة الجيش ، كما كنت يامولاي لم تتغير ..!! حتى لم تتنازل وتعتذر لشعب السودان عن الإنقلاب ، ملحقاً به مصائبكم المتواصلة ، حتى هذه الحرب العبثية ، كما حدد الفترة الإنتقالية بعام واحد ، كما هو مطلبهم الثابت منذ اكتوبر 64 ، ومارس/أبريل 85 ، حتى يعجلوا بإنتخابات الخج المعلومة نتائجها لديهم .
ونعود إلى أولئك المخذلون ونقول أنه الغرض المرض ، من المتنطعين ، يغذون أفكار الخذلان والإحباط ، وضرب الثورة في مقتل بهذه الأفكار ، ويطعّمِونها بالهجوم على اليسار عريضه وفريده ، وقد ظل هذا ديدن البعض منهم ، ونماذجهم كثر ، منذ الإستقلال ، فكل من يأنس في نفسه الكفاءة المدعاة ، بربطة عنق زاهية الألوان ، ورغبة حميمة في الإستوزار ، أو الإستئثار بالوظيفة المحترمة ومعتبرة ، أو حتى برئاسة تحرير صحيفة صفراء أو خضراء لا يهم ، أول ما يبدأ به لتحقيق طموحاته هذه ، هو الهجوم المبطن لتبرئة نفسه من تهمة الإنتماء للشيوعية الهدامة ، طبقاً لذلك القانون الذي ظل سارياً منذ الإستعمار وحتى تاريخه الماثل ، وإن تغيرت عناوين مواده وأرقامها . وهم اليوم بالجانب الآخر يحاولون ممارسة دور الإسلام السياسي الذي إنشغل بحرب شعب السودان بكامله وأحزابه ، ولم يجدوا وقتاً لليسار العريض أو الشيوعي، فخصصوه للثورة لإجهضها ، نيابة تحملتها قحت الهشة في تكوينها ، فاتهموها حتى في خلافاتهم السرر- ليلية ، دون وجه حق ، لكنها كانت على طريقة إياك أعني ياثورة وثوار . فلم يجدوا وقتاً للتفرغ الكامل كما في سابق أوانهم وعهدهم المباد ، ولكن فرحين حل مكانهم ، أصحاب الغرض هؤلاء ، في الهجوم والطعن ، وتزييف التاريخ وقع الحافر على الحافر ، ويقول لهم الشهود ، قبلكم كان الإسلامويين أشطر .
ودون لت وعجن ، الكل يعرف أن مركز العمل السياسي يبدأ وينتهي بجماهير وبشعارات ثورة ديسمبر ، وهي الوجهة وهي المركز والمحور ، التي يجب أن تدور حوله واليه وبه توجهات ، كل من يريد ويرغب في وقف الحرب ، واستعادة مسار الثورة ، ووحدة قواها العالية المنارة ، بالقيادة الجماعية بشعارها ، حرية سلام وعدالة ، التي يظنها الكثر من كتاب وجماعات وأحزاب الطبقة المتذبذبة ، قصيرة النظر والنَفَّس ، أن الثورة راحت شمار في مرقة ، فهم خائبون ، من الخيبة المعلومة وليس التجريح ، تقول لهم جماهير الثورة أنها عائدة وراجعة وراجحة ، كما كان يقول الصادق المهدي في صدقيته عن ديمقراطيته المؤكدة ، ولكنها بلا ضفاف ، حين كان يفقدها لحظة حساباته لها وهي على محك الضياع ، كما تلك بتوضيحاتها ، إتفاقية الميرغني-قرنق حتى راحت تحت الأرجل الإنقلابية ، وتظل عودة الديمقراطية والدولة المدنية ولكن بديمقراطية لها ضفاف ، ولها أسنان مبدأها ومنتهاها ، لاحرية لأعداء الحرية والسلام والعدالة ، والثورة لازالت هي خيار الشعب رضى من رضى ، ومن لا يرضى ، فليشرب من البحر ، ففيه متسع للنهل منه ، يساويه ويفيض عنه النهل من مائه الاملح ، ممن يرغب في تراكم التخذيل ونشر الإحباط بالدعاوي ، التي ينادي أصحابها حتى درجة القبول بالمصالحة والإتفاق ، مع أهل النظام البائد ، وفروعهم القديمة والجديدة المتشعبة حتى درجة الموزاب المتدنية ، وهم بذلك يكونوا بوعي متعمد أو بدونه ، يريدون تجريد شجرة الثورة ، حرية سلام وعدالة ، من كل أغصانها اليانعة الخضراء .

omeralhiwaig441@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

انتقادات وهجوم يطال ترمب بعد المناظرة بسبب كلمة قالها.. إليكم القصة

استخدم ترمب المصطلح ذاته بحق زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ

أدان مدافعون عن حقوق الإنسان يوم الجمعة تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عن الفلسطينيين خلال مناظرة الخميس مع الرئيس جو بايدن، واصفين تلك التصريحات بأنها عنصرية أو مهينة.

تبادل بايدن وترمب وجهات النظر بإيجاز حول الحرب في غزة، لكنهما لم يناقشا بشكل موضوعي كيفية إنهاء الصراع الذي أودى بحياة 38 ألف شخص في القطاع وفقًا لوزارة الصحة في غزة، وتسبب في أزمة إنسانية هائلة مع انتشار الجوع.

اقرأ أيضاً : إيران تحذر الاحتلال من "حرب إبادة" إذا نفذ عدوانا شاملا على لبنان

وقال بايدن: "الوحيد الذي يريد استمرار الحرب هو حماس".

ورد ترمب قائلاً إن بايدن "أصبح مثل فلسطيني"، وهو ما اعتبره المدافعون عن حقوق الإنسان إهانة.

وأضاف ترامب: "في الواقع، إسرائيل هي التي تريد الاستمرار، ويجب أن تتركهم ينهون المهمة. إنه (بايدن) لا يريد القيام بذلك. لقد أصبح مثل فلسطيني لكنهم لا يحبونه لأنه فلسطيني سيئ للغاية. إنه ضعيف".

اقرأ أيضاً : بايدن يوجه اتهامات لترمب عقب المناظرة الانتخابية

واستخدم ترمب مصطلح "فلسطيني" مرة أخرى يوم الجمعة بطريقة مماثلة، حيث وصف في تجمع حاشد زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وهو يهودي، بأنه فلسطيني، مضيفاً: "لقد أصبح فلسطينياً لأن لديهم بضعة أصوات أو شيء من هذا القبيل".

مقالات مشابهة

  • عمرو دياب يطرح أحدث أعماله الغنائية بعنوان "الطعامة"
  • حروبُ القوى الاستعمارية ضد الشعوب
  • باحث سياسي: نتنياهو حريص على استمرار الحرب على هغزة لهذه الأسباب (فيديو)
  • انتقادات وهجوم يطال ترمب بعد المناظرة بسبب كلمة قالها.. إليكم القصة
  • مواصلة مناقشة تحديات التحول الديمقراطي «3-4»
  • بن حبتور: موقف اليمن بقيادة قائد الثورة كان واضحا منذ بدء العدوان على غزة
  • من تجريدِ الفلسفةِ إلى المجرَّدِ النَّحوي: كتابةٌ تُوجِّهُ ذاكرةَ الصِّبا الباكرِ صوبَ الملموس
  • نائب المكتب السياسي لحماس: تصريحات نتنياهو الأخيرة تلقي بمقترح بايدن في القمامة (فيديو)
  • الدفاع التركية: لا أحد يريد حربا عالمية ثالثة.. ورغم ذلك "جيشنا جاهز لأي سيناريو"
  • مواصلة مناقشة تحديات التحول الديمقراطي (3/4)