رأي اليوم:
2024-12-27@21:53:45 GMT

سعاد خليل: مفهوم التلقي في الفن التشكيلي

تاريخ النشر: 3rd, August 2023 GMT

سعاد خليل: مفهوم التلقي في الفن التشكيلي

سعاد خليل التلقي في الفن التشكيلي يطرح إشكاليات بصرية كبيرة ومعقدة تجعل الكثير منا يعجز عن فهم الاعمال الفنية وفك رموزها والتعايش معها جماليا وادراكيا (الامية الايقونية ) مثلما يثير التلقي سؤال الذوق الفني والحاجة الي الإحساس بقيمة الابداع المادي والفضائي كخطوة اولي لبلغ مسالك المنجز التشكيلي ومدركاته المرئية وغير المرئية .

عن المدركات والخواص الجمالية كتب إبراهيم الحسين دراسة في مقال عن اليات التلقي البصري والجمالي من خلال مقاربة اهم المفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة المباشرة بخطاب التلقي واقتراح مجموعة من الإجراءات العملية والممارسات النصية لتحليل العمل الفني وإعادة تركيبه علي قاعدة سيمائية صلدة تأخذ بعين الاعتبار أنواع القراء وسياق القراءة وفضائها المتعددة وزمن الابداع ونوعيته. في التلقي والتلقي التشكيلي: يفترض التلقي وجود مادة ابداعي ة تمثل قناة التواصل بين المبدع والقارئ وقد تكون هذه المادة منطوقة تدخل ضمن نسيج الابداع القولي كالشعر والنثر وفنون السرد اللفظي ، مثلما قد تكون مرئية ذات طبيعة ايقونية ومادية كالصور والملصقات الاعلانية والاشرطة السينمائية واللوحات التشكيلية والمنحوتات والتصاوير والنقوش والزخارف والقصص المصورة وافلام الفيديو والمنشأت التشكيلية والعمارة والقطع التراثية ، وغيرها من الوسائط التعبيرية البصرية والحوامل الثقافية المتعددة . والتلقي التشكيلي معناه التفاعل والكشف والتبصر والتواصل بين المشاهد والمنجز الفني بوصفه نصا بصريا مليئا بتفكير فني وجمالي وأسلوب اشتغال وصيغ معالجة تقنية وسنائد مرجعية ومحتويات تيمائية متعددة وأفكار ومعان .ال غير ذلك من العناصر التعبيرية التي تشكل مفاتيح النص التشكيلي البصري التي تبدأ من كل ما يعكسه النص من خط ولون وكتلة وفضاء وما ينشا عن كل ذلك من علاقات مركبة ، تناغما وايقاعا وتضادا وانسجاما ، ثم ما يحدث من جدل بين هذه العلاقات سواء في العمل الفني ذاته ، او في ما يحدثه في المتلقي انفعاليا ، ولا باس من ان يتفاعل ذلك مع المنظومة القيمية والنفسية والفكرية لدي المشاهدين ، ولا باس أيضا ان يدفعهم الي رفض العمل البصري او قبوله ، وهكذا يبدا استقراء النص من الحواس فالمدركات ثم الفكر ،وصولا الي المشاركة الوجدانية سلبا او يجابا ،وانتهاء بموقف واع من مجمل العمل البصري . ويربط كثيرون التلقي التشكيلي بالتذوق الفني من حيث اعتباره مقدرة علي الإحساس والشعور بالعمل الفني وتلمس قيمته لجمالية واكتشاف سمات الابداع، او النقص فيه . فالذوق الفني، داخل وخارج هذه العلاق يمثل عملية تبادل وجداني وفكري ونفسي لها صفة الترابط الاجتماعي التي هي مناهم وظائف الفن ودوره في توحيد أفكار ومشاعر واحاسيس افراد المجتمع. ولربما كان التذوق نادرا ندرة الجمال ، وهو الذي يجعل كبار الفنانين الذين وهبوا القدرة علي الابداع الفني يهتدون اليه ، كما يقول الرسام الفرنسي اوجين دولاكروا . فهذا النوع من التلقي يقتضي من القاري ء التقاط النقاط المضيئة في العمل الفنية والبحث عن مسالك التذوق  الفني كمقدمات ضرورية لفهم بنية العمل الفني ولبلوغ هذا المسعي لا بد من المرور عبر معابر الحساسية الذوقية باستلهام الأثر وتوليف مناهل الرؤي .لذلك تظل نظرية التلقي في المحال التشكيلي تمثل الية مبتكرة من اليات الفهم والتفكر والتفكير المنهجي كنتاج منطقي لمساحة التفاعل الثقافي والفكري والجمالي مع مقاييس النزعات المركزية الاوربية بالفن ، سواء اكانت المستلهمة من عصور الاغريق الفلسفية في مقدماتها المنطقية الكبرى والصغرى ونتاج المحاورة الجدلية لمناهل الأفكار اوتلك المستحضرة من  الفلسفة العربية الاسلامية المتصلة بشجرة التفرعات الخوارزمية ومداخل النظم الشمولية التكاملية .داخل سياق هذه النظرية ، نتم الاعتراف بالنص التشكيلي texte plastique  كمجال حيوي وكفتنة بصرية ضرورية لا بدمن التواصل مع عناصرها ومكوناتها ، بل كمادة إبداعية دينامية لها مقاصد مأمولة قابلة للقراءة والتحليل والتركيب والمعايرة والتذوق والنقد الجمالي . ومن ثم وكما يقول الفنان والباحث الفلسطيني عبد الله او راشد ينبغي النظر الي المنجز التشكيلي كنص وكسرد بصري مفتوح علي القراءة الكاملة لكافة مكونات النص البصري الكلية والفرعية والجزئية. وبالتالي اعداد تأليف انساق البحث البصري المعرفي والجمالي وفق الاتجاهات لحديثة الأوروبية ومذاهب الفلسفة الألمانية الغشتتالت علي وجه التحديد. فالنص التشكيلي يعد بالضرورة الإبداعية عملا فنيا كما انه ليس وسيلة يعبر بها الفنان عن نفسه فحسب ،بل هو وسيلة كذلك تستثير وتوجه في المشاهد نوعا من الخبرة الجمالية ، وتتوجه الي حاسته البصرية او السمعية او الاثنين معا، فتثير بالتالي استجابات اخري ، كالخيال والفهم والعاطفة وبما ان الفن يوجه الي الادراك الحسي والي الأجهزة ا لنفسية والحسية ، فان عمل الفن يتوقف علي طبيعة هذه الأجهزة في المشاهد فهناك حدود تفرضها العين الإنسانية وتقرها عملية الاحساس بفاعلية الصورة والاضواء والحركات في العمل الفني ن وملا علي ذلك، فان العمل الفني التشكيلي يجب ان ينظر اليه كنصر وسرد بصري مفتوح علي القراءة الكاملة لكافة مكونات النص البصري الكلية والفرعية ولجزئية ، ومن ثم إعادة تأليف انساق البحث البصري و المعرفي والجمالي وفق الاتجاهات الحديثة الأوروبية ومذاهب الفلسفة الألمانية الغشتالت علي وجه التحديد . ان اي نص بصري مسرود بوسائط وأساليب الفن التشكيلي ، لابد ان يحتوي علي مناهل معرفية ومرجعيات بصرية ومسالك سرد وفلسفة فن في ابعدها الجمالية المعبرة بشكل ما او باخر علي حساسية ذوقية تذوقيه انفعالية وعقلانية في نهاية المطاف ، تكون مقدمة طبيعية ومنطقية لولادة نظرية التلقي التي تساهم في رفع سوية الذائقة البصرية من انماطها ذات المعابر الحافلة بالانتقائي متصلة بطبقة محددة بعينها ولا تلامس حساسية العامة ، وتغدو في حالة غربة واستغراب علي الشرائح العريضة من بني المجتمع وحتي الفنانين التشكيليين انفسهم . وبالنظر الي الخصوصيات السيميائية الكثيرة التي تسمه، يظل النص التشكيلي يعتمد في المقام الأول علي العين أداة النظر والاحساس كقنطرة اخري مساعدة علي بلوغ المعني ويفهم اخر يعتمد النص التشكيلي علي القاري المتعاون (التعبير للكاتب الإيطالي امبرتو ايكو ) والقاري الضمني الذي يستحضره المبدع خلال عملية الابداع .. لذلك يجب ان يكون المتلقي في ممارسته لعملية لا دراك فنانا من نوع ما ، في ما يختص بالتجربة الحياتية اليومية ليستفيد مما تقدمه ، وان كان يمكن القول إضافة الي ذلك انه في الحياة اليومية يختفي الخط بين الجمالي والعمل الفني ن اذ يقدم العمل الفني في هذا المعني من خلال وسائل جمالية وسائل للاستفزاز  ، من شانها ان تخلق إحساسا يستجيب للأنواع المختلفة من التجربة التي تنشا من السياقات الاجتماعية المتفاوتة . ويظل فهم النص لتشكيلي مرتبطا بشروط تتجاوز في الكثير من الأحيان المساحة الإبداعية العامة التي تؤطر العمل الفني لسبب بسيط هوان قراءة النص البصري تعد قراءة متجددة محكومة بعوامل بحث ذاتية خارجة عن نمطية التأليف والتوصيف، وهي نوع مبتكر للرسم بوسائط تعبيرية متنوعة. كما تشكل قراءة وتحليل العمل التشكيلي معضلة أساسية تواجه غالبية الناس، جمهور الفن، بل (هذه المعضلة تطال كثيرا من المتأملين بالثقافة ،، وهذا عائد ال ي مجموعة أسباب تراكمت مع الزمن لتنتج ازمة في القراءة البصرية اذا جاز لنا ان نسميها قراءة  ابتداء بالتربية المنزلية ، مرورا بالعرف المجتمعي وصولا الي المدرسة ، عطفا علي أسبابا اخري تخص العمل الفني ومفهومنا للفن ، وهو مفهوم منزلق علي اية حال . يضيف الكاتب إبراهيم الحسين في هذه الدراسة انه من البديهي القول ان للتربية الاسرية دورا مهما في تربي الذوق الفني، كأساس لعملية القراءة البصرية، اذا ان وجود الطفل في منزل يهتم بالجماليات، سينتج بالضرورة كيانا اقدر علي تذوق الفن ، كمقدمة لاستقرائه وينطبق الحال علي المحيط الاجتماعي الذي يشكل الدائرة الأكبر بالنسبة للكائن ، فالمحيط الذي يرسخ قيم التمتع بالجمال ، وبالنظر اليه كقيمة في ذاته ، ليس كمجتمع يقمع هذه القيم ، او يسمح بها ضمن نطاق محدود ، او ضمن سياق قيمي و مادي محدد. اما في ما يخص مفهوم الفن من فرد الي اخري فان إشكالية القراءة للعمل الفني تتوه عبر نظريات ورؤي مختلفة، ولعل اقرب التساؤلات حول ماهي الفن، تربك المختصين حول تعريف كامل شامل لمعني الفن ، ناهيك عن كنهه او ماهيته ، فما بالك بالعامة الذين يفسروا الفن كل علي طريقته واستعداداته وهواه . علي هذا المستوي المتصل بقراءة وفهم المنجز التشكيلي، نقترح خمسة مناح تتفاعل داخل سياق التلقي ،  هذه المناحي هي : أ   المنحى الفكري: الادبي مجموع الرسائل وأفكار والمعاني الثقافية التي يمكن استخراجها عن طريق قراءة تيماتية للعمل الفني، ولا سيما اذا كان تشخيصيا وتدخل في هذا الجانب التسجيلات الانطباعية والقراءات الشاعرية والوجدانية والوصف الادبي وغير ذلك. ب   المنحى الجمالي، البحث في العلائق والانساق البصرية التي تكون العمل الفني، ومحاولة الوصول الي المعاني الايقونية التي تنطوي عليها، باعتماد مناهج تحليل سيميائي يقول علي التوليف بين الدال والمدلول والعلاقات البصرية القائمة بينهما. ج   المنحي الوجداني : يرتبط هذا المنحى بالإسقاطات التي يلجأ اليها بعض القراء لاسيما عندما يلمسون نوعا من التقاطع بين موضوع اللوحة او المنحوتة او غيرها وبين واقعهم الاجتماعي والذاتي . فهذا النوع من الابداع يستجيب لربات المتلقي ويحرك شعوره بشكل مباشر في الكثير من الأحيان. د   المنحى الفلسفي : يتفق مع هذا المنحى التعبيري التجريدي القائم علي حرية الانتشار الخطي واللوني علي سطح العمل  الفني، فهو يتيح للقارئ مكانيات واسعة لأثارة اسئلته البصرية من منظور فلسفي يأخذ بعين الاعتبار تقاطع الأفكار وتضاريها . ه   المنحى العلمي : قراءة المنجز الفني  من زاوية علمية ترتكز بالأساس علي تفكيك العناصر والمفردات التعبيرية ووضعها في سياق علمي مرجعي مدعوم بمفاهيم ومصطلحات دقيقة لا تقبل الذاتية والتأويل ، ويندرج في هذا المستوي العلاقة الطيفية بين الألوان والابعاد ودراسة المنظور التقليدي ونسب الظل والضوء والعمق والفضاء وغير ذلك . سنكتفي بهذا الجزء من هذه الدراسة وسنكمل في العدد التالي بقية المقال نظرا لان هذه الدراسة طويلة رأيت ان اجزئها الي ثلاثة مقالات حتي يستفيد منها القاري. يتبع 2

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: العمل الفنی

إقرأ أيضاً:

مونولوجات للفلسطينية لداليا طه

رحت أسير في بعض الشوارع التي ذكرت في النصوص التي بين أيدينا؛ فالسير فيها بعد القراءة يجعلك تتأمل في سحنات المارين والمارات، كل وقصصه، همومه واهتماماته، حتى لكأنني أخرج الكتاب وأريهم إياه وأنا أسأل أيهم أنت هنا؟ أيهم أقرب اليك؟

ثمة تأمل في المكان، من خلال وصفه الآن وما فيه من تحولات، بل ووصف للنفوس، واستعادة ما كان من 30 عاما أو يزيد.

مونولوجات داليا طه تعانق مونولوجاتنا ونحن نتجول في فضاءات الأمكنة، من خلال 41، نصا، لعل النصوص بشر، أو هم البشر نصوص قرأتها الكاتبة ما أمكنها. حديث من يمشي في الأماكن، حديثه الداخلي، واستشعاراته لأحاديث الناس الداخلية، من يألف تفاصيل المدينة، عناصر المكان، والبشر، المتجولين والمترددين والمحتارين بأي اتجاه يذهبون، وكأنهم يفكرون باتجاهات الحياة أكثر منها اتجاه المكان.

في سيرة سكّان مدينة "ر": شعر في مونولوجات" للأديبة الشابة داليا طه، اختار الكاتبة الشكل الشعري لأن كتابة السيرة هنا ليست واقعية تماما، لذلك لم تختار الشكل السردي، بل اختارت السرد بالشعر، خصوصا أنها تأتي في طريق سبر الأغوار. وهنا تشكل العيون أداة اتصال بصر وبصيرة في آن واحد، في اكتشاف مرتادي المدينة غير المعروفين تماما للرائية.

ولعل شعور الكاتبة باغتراب سكان مدينة ر يضفي شيئا ما ليس على النصوص كنصوص من النفس للنفس، بل لعل الكاتبة، ونحن نشعر بمثل هذا الشعور. ولعل هذا الشعور-النصوص قادم من تفاعل الإنسان مع الفضاء، في ظل تحولاته المرئية وغير المرئية؛ فمدينة ر مرت في مراحل مختلفة، عايشتها الكاتبة طفلة في الانتفاضة الأولى، وفتاة في الانتفاضة الثانية، حيث كان للنضال الوطني مكان، كما هم الآن وهم يتواجدون كمونولوجات. والظن ان محترفي التجوال هم محترفو تجوال في النفوس يقرؤونها، ويكتشفون ما يستطيعون، عبر استشعار الحديث الداخلي لسكان مدينة ر.

قد تكون مدينة ر هي مدينة رام الله الفلسطينية، بما فيها من مفردات واقعية منها، لكن في الوقت نفسه، يمكن أن يندرج حالها على غيرها من المدن. إنه توثيق ما واقعي ورمزي ونقدي ممعن في وجوديته أولا وأخيرا.

قراءة النقس:

في النص الأول بعنوان "أنت"، نجد أنه في ظل مخاطبتها لمن تشير اليه بالضمير المنفصل أنت، فإنه من الممكن أن الكاتبة تخاطب نفسها أيضا:

هل تذكر أول ليلة لك في هذا العالم؟

على الأغلب اسمك قد تحدد منذ أشهر

وهناك من بدأ بإطلاق بعض الصفات عليك

عصي أو هادئ أو متأمل أو حكيم

إلا أنك كائن غريب

أقرب للفضاء منا...

كل شيء سيتكرر

كفك ستغلق وتنبسط..

ستبدأ بالتحديق في وجوه الناس لفترات طويلة

بطريق ما

لا يفهمها العلم حتى الآن

ستقول كلماتك الأولى

وسيطلب منك الكبار أن تكررها

وهنا، نزعة وجودية ظاهرة حول وجود الإنسان منذ ميلاده كيف يتشكل من الآخرين، بحيث يغدو العمر تحديا بين ما نختار وما يتم جبرنا عليه.

وفي نص "المرأة التي تقطع شارع الحسبة بنظرة ساهمة وتحمل أكياسا بلاستيكية":

حتى المركبات القليلة التي تعبر الشارع الآن

تبدو كذكرى

والمتظاهرون الذين كانوا هنا في الصباح

لقد تفرقوا منذ ساعات

والساحات خالية منهم

ولكنهم تركوا وراءهم شيئا: كما لو أنهم قد غادروا للتو

تلك كلمات الشجن والحنين تمثل تحولات المدينة التي لم تتغير في عمقها، حيث بقيت على حالها كما كانت، باعتبار بقاء الاحتلال.

ونلمس مثل هذا الشجن في "عامل البناء في مدينة ر وهو يفتح باب الثلاجة في السوبرماركت ليشتري علبتي شيمينت":

أن لا نخاف من الخسارة كلما غابوا عنا لدقائق

كل مرة نغادر فيها نعود محملين بالندوب وبالجروح

وبوجوه كثيرة تحت قمصاننا

في نص "المناضل الذي اعتقلوه أمام أولاده في مدينة ر وهو يلقي نظرة أخيرة على الشجرة الباسقة قبل أن يغلقوا عليه باب الجيب العسكري":

توجد لغة ولكننا لن نعرف أبدا

كيف نقول ما نرغب بقوله

يوجد من يقفون في مراكز المدن وهم يحملون اللافتات

يوجد من سيهتف دوما من أجل حرية من لا يعرفه

في نص "زوجة الرجل السابقة وهي تعمل في إذاعة مدينة ر وتقدم برنامجا إذاعيا صباحيا عن الأسرى في اللحظة التي أخرجت فيها ورقة بقائمة ما عليها أن تفعله اليوم"، تعبير عن معاناة المرأة:

صحيح انني أتألم

ولا أعرف كلمة جبل

ولكنني أعرف تماما ماذا يعني أن تكون مكانه

في نص "زوجة الرجل الذي اعتقلوه وهي تحدق في شاشة الحاسوب في مكتبها في الطابق الأخير في عمارة في وسط المدينة":

في لحظة خاطفة اقترب أحدهم من صينية الهريسة على الطاولة

ولم يستطع أن يمنع نفسه من شمها

... في الصباح استيقظنا جميعا

العصافير تزقزق كالعادة

وبعد أن خرجت من بين الأنقاض

ألقيت بصينية الهريسة

في سلة النفايات في الخارج:

أنفاسه فيها

قلت لأولادي

استعادة

في نص "رجل من مدينة ر يتذكر شيئا عن المدينة قبل 30 سنة، ستلمحه يجلس في مقهى شعبي في المدينة وهو على وشك أن يطفئ سيجارته"، هو نص استعادي للمدينة المنتفضة منذ 30 عاما (تاريخ نشر الكتاب):

ها هو يرشها الآن

يملؤها بالكتابات

وتحت منع التجول

السنة: 1991

الوقت: الثالثة فجرا

الفترة: الانتفاضة الأولى...

تلك كانت مدينة أخرى

يعرف سكانها كيف يخبئون بعضهم بعضا

من الجنود الذين يلاحقونهم

وفي نص "جميع النساء في مدينة ر"، وهي القصيدة الأكثر اكتمالا:

نحن غاضبات جدا

غاضبات من العالم الذي لا يعرف كيف يطفئ الحرائق

غاضبات من الرجال

الذين لا يعرفون أين يضعون

أيديهم حين يقبلوننا

من أمهاتنا اللواتي

لم يعلمننا أن الحب لن يأتي

...غاضبات لأننا لا نستطيع أن نخبر الأطفال

وهم يسألوننا عن مدنهم

غاضبات على الأطفال الذين لا يخرجون من القبور

غاضبات على البحر الذي لا يشبع

نص نسوي إنساني بامتياز، يفصل مشاعر النساء تجاه ما يعانين من واقع وضغوطات، إنهن يعانين من الرجال والنساء والبحر، بل هن ساخطات على طرق تنشئتهن ومنحن آمالا واهمة.

وتختتمه طه:

نحن الجيش

الذي يكبر في كل العالم

دوم أن ينتبه أحد

وفي نص " مجموعة من الفتيات في مدينة ر يمشين ببطء في الشارع الرئيس وأصوات ضحكاتهن العالية تسترعي انتباه المارة"، نجد الجيل الجديد من الفلسطينيات، وهن يعشن نوعين من الحياة: العادية والمثقلة بالتاريخ الفلسطيني، حين تطلق أسماء الأماكن الفلسطينية المستلبة من فلسطين عام 1948، أو من الأحداث:

كيف لنا أن نهمس بأسماء

بعضنا البعض

ونحن نمارس الحب

وأسماؤنا

مذابح

نحن جيل يتيم..آباؤنا حملوا بنادق

وشردونا في الأرض بعد أن سمونا

بأسماء قراهم

إنه نص عميق في جرأته، وجريء في عمقه في تأمل العلاقة الحميمة التي لا تكتمل بسبب تداعيات الأسماء التي تسطو على الحب حين تذكر بالألم الفلسطيني، حيث يصعب تواجد الحب والألم.

وجودية

أما في نص" صاحب محل العصير المشهور الذي يعرفه جميع سكان مدينة ر في اللحظة التي شق فيها برتقال الى نصفين":

يقولون لي بين رشفات العصير بأنهم يأتون الى هنا منذ سنين

منذ 15 سنة

يقول أحدهم وهو يمسح شفتيه بلسانه

ثم تجحظ عيناه كحبتي برتقال

وكأنه أمام تلال الفاكهة الصامتة

اكتشف العمر الذي مرّ

هنا يأخذ النص منحى عميقا يحفر في النفس في العلاقة مع الزمن حيث نكون منشغلين بالأشياء الصغيرة، فتتبخر الأشياء الكبيرة.

وهكذا بدأنا وجوديا كما بدأنا بالنص الأول الذي اقتبسناه، انتهينا كذلك. لعل الوجودية هي خيط ناظم هنا في هذه القصص.

ثلاثة نصوص نثرية:

وفي النص النثري الأول صفحة 75 المعنون ب "الأشجار في مدينة ر"، قرأنا نصا قريبا واضحا في نقد منظومة سلطة مدينة ر، من نواحي السطو على الحريات، والفساد المالي، والمعماري، وسوء الحال الذي يدفع شباب مدينة ر للهجرة. وقد اختتمت بهذه الفقرة التي تنبئ عن مساءلة مستقبلية: "ولكن ما لا يعرفونه أنه مثلما يراقبوننا ويسجلون لنا أين نلتقي ومع من، ماذا نقول، ومن نشتم وبماذا نحلم، نحن أيضا نراقبكم ونسجل لكم كل شيء، نحن أيضا نملك قوائم بكل ما فعلتموه. نحن لسنا صامتين، نحن نتربص".

أما النص النثري الثاني صفحة 129 الذي جاء تحت عنوان "البيان الذي صدر عن مؤسسة في مدينة ر بشكل حرفيّ"، فقد احتوى على قصص تعذيب عدد من المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، مختتمة بشكل نقدي مؤسسات حقوق الإنسان وللموقف الرسمي: "معظمهم تعرضوا للتعذيب الشديد وصمتت عن محاولات تصفيتهم في الزنازين منظمات حقوق الإنسان ولم نسمع عنهم شيئا في الخطابات الرسمية". في هذا النص بالذات، ومن خلال ذكر أسماء المعتقلين، يتأكد لنا أن مدينة رام الله، مدينة محتملة واقعيا كي تكون المقصودة، جنبا الى جنب مع المدن المحتملة رمزيا في العالم العربي والعالم، كما ذكرنا.

وفي النص الثالث "الفتاة نفسها التي ابتسمت لك ابتسامة غامضة في الطريق"، تتحدث الكاتبة عن رقابة الاحتلال على الكتب الواردة الى البلاد، وتختتم "أنت لن تشك أبدا باثنين يقفان في مكتبة صغيرة ومهملة يتبادلان حديثا عابرا. ولكن صدقني هكذا يبدو أيضا من يخططون لثورة".

الأسلوب:

ثمة أسلوب جديد لدى داليا طه، بل ولغة غير مكررة، تنبع من النفس، عبر استكشافاتها، حيث تنحاز للعادي من اللغة المعبرة عن غير العادي.

من إبداع الكتاب، جمل المبتدأ في العناوين، حين يكون النص هو الإخبار النحوي والنفسي والعاطفي.

كما أن اختيار العبارات بل الفقرات لتكون عناوين للنصوص، أمر غير موجود بالأدب؛ فاختيار عنوان بهذا الطول يدفعنا للتفكير، كأن الكاتبة تضعنا داخل المشهد.

وطول كلمات العناوين، في جميع النصوص مثير، حيث احتوت العناوين مرة واحدة على كلمة واحدة، كما في النص الأول بعنوان "أنت".

احتوى الديوان على ثلاث نصوص نثرية كما ذكرنا، كأن الكاتبة تذكرنا بأن الكتاب إنما هو سيرة الناس.

وقد جاء النص النثري الأول مطعما بعبارتين فيهما اللهجة " وتعتقل حراكيين على الرايح والجاي"، "وتائه لا يحلم سوى بالهجرة أو يقتل ع الطرقات"، ما يعني أن هناك ميلا نحو اللغة الشعبية، كمعبرة عن حالة حراك ثقافي وسياسي.

داليا طه، كاتبة وشاعرة. صدر لها العديد من الكتب الشعرية. تكتب داليا أيضاً للمسرح، ولها العديد من المسرحيات التي عرضت محلياً وعالمياً. تحمل شهادة الماجستير في الكتابة المسرحية من جامعة براون في الولايات المتحدة. تقوم حالياً بالعمل على كتاب "الكتابة خطيرة، مجموعة مقالات"، والحائز على منحة آفاق للكتابة الإبداعية.

صدر الكتاب عن دار الأهلية للنشر والتوزيع 2021، وقد وقع في 169 صفحة.

مقالات مشابهة

  • محمود حافظ لـ الفجر الفني: "هقدم دور مختلف في مسلسل شهادة معاملة أطفال واعشق العمل مع محمد هنيدي"
  • “أرحومة” يجتمع بمدراء بعض الشركات التي قدمت خدماتها للجنة الطوارئ لمدينة سبها ومدن الجنوب الغربي
  • ذكرى ميلاد سعاد نصر.. تفوقت في الفن رغم حصولها على 51% في الثانوية وأخفت دراستها للتمثيل (تقرير)
  • الخدمات الصحية: نشر مفهوم طب الأسرة والمراكز الصحية الأولية
  • 76 عامًا ولا يزال النص العظيم ملهمًا
  • مونولوجات للفلسطينية لداليا طه
  • وزير التعليم:نحرص على تحقيق طفرة في قطاع التعليم الفني بالتعاون مع مختلف الوزارات
  • ملهمة مصرية تعيد صياغة مفهوم الهندسة المعمارية عالميًا
  • النص الكامل لتقرير ديوان المحاسبة 2023
  • "هل الحب عائق أم حافز للإبداع؟ أحمد مالك يشعل الجدل حول تأثير الارتباط العاطفي على العمل الفني"