د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
مكة وجبالها وانفاقها، البيت العتيق، منى وعرفات ومزدلفة والحطيم وزمزم، وأحد جبل مدينة النور والقباب وكنزها المطمور ومهبط الوحي، والقبر الشريف تعلوه قبة النور، والبقيع، "جغرافيا" وتاريخ ونوستالجيا لا تنقطع ، حبيبة خرائطها في أذهاننا، خالدة لا تفارقنا وإن بعدنا عنها فالأشواق بسحرها تجعلنا نشخصها طورا وطورا نناظر، ووحدها تقربنا منها سياحة ممتعة تفوق المنظور

بقدوم يوم الوقوف على جبل عرفات بعد أيام قليلة في هذا الشهر المبارك الذي فيه يتسابق من يطلبون من ربهم قبول التوبة والغفران وقوفا وخشوعا على أرض تلك البقعة المباركة كم من لواعج وشجون في ذلك اليوم الفريد يتسنى للواصلين المخلصين من عباد الله اغتنامها ليرتقوا بأرواحهم بها من فرط الحب والتقوى إلى السماء تقرباً الله وفي أذهانهم تجول صور من كانوا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس المكان حيث كانوا يقفون معه يوم حجة الوداع وهو يقول ضمن خطبته المشهورة البليغة " فَإنّيَ لاَ أَدْرِي، لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، في مَوْقِفي هذا،" فبكى الباكون وسيبكي فى ذلك المكان نفسه "عرفات" كل عام حج جديد الصادقون في إيمانهم وتقواهم لأن ذلك اليوم قد يكون فيه وداع الدنيا بما فيها وإن عظمت ولم لا فهي حقيقية دار البوار ودار الزوال.

أما نحن فمن على البعد نظل دائما نحمل الأشواق للطواف حول الكعبة والسعي ثم منى والوقوف على عرفات ومن ثم زيارة مدينة النور والقباب فتعطر جوانحنا رغم بعد الديار تلك النفحات الزكيّة وذكريات يوم كنا هناك نشدوا بعد انتهاء الحج في طريقنا إلى زيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم " ما العز إلا للمدينة وحدها مأوى الرسول ومهبط الأملاك "، رحمة الله على شاعرها السوداني الشيخ الصديق الأزهري .دائما يعيد لنا تجمع الحجاج على عرفات ذكريات طفولتنا مع والدينا وأهلنا وجيران نعم الربع هم كانوا ويذكرنا بايام زمان حيث كان الناس يستعدون لعودة الحجاج إلي أوطانهم، يجملون الدور ويطلون مداخل الحيشان بالطلاء الأبيض ويكتبون على الجدران "حجاً مقبولاً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفورا " باللون الأزرق. وعند وصولهم تذبح الذبائح وتقام الولائم وتعطر ليالي الحي المدائح وتستمر جلسات الأنس والمحبين يستمعون بشغف وانتباه شديد للتفاصيل الدقيقة التي يحرص الحجاج على سردها بصورة جدا شيقة خاصة في زمن لم يكن الناس يصدقون أن يوماً ما سيأتي يشاهد فيه الحجاج يطوفون ويؤدون شعائر الحج نقلاً مباشراً يغطي كل الكرة الأرضية . سبحان الله العظيم والحمد لله الذي حبانا وجعلنا نعيش نعمة عظيمة بسهولة الأسفار وسهولة أداء الحج والعمرة في زمننا الحاضر. رحم الله الفنان بابكر ود السافل ابن قرية السعدابية جنوب بربر وهو مجاورا بالمدينة المنورة حتى حقق الله أمنيته بالدفن في البقيع تحول فيها من غناي الي مادح وآلاف الصلاة للنبي الحبيب كانت خاتمة وتاج درره. كنا نسمعها ونحن أطفالا صباح عيد الفطر ينشدها بصوته الرخيم شيخ ود القرفيط من أعيان حوش الدار في بربر " وان كان هو قادري"، فقد كان له محبة وصداقة مع والدنا التيجاني . عليهم جميعا رحمة الله . اللهم أكرم مثواهم بالفردوس الأعلى فكثيرون من أهلنا وجيراننا ماتوا حبا وشوقا لزيارة تلك الديار ولم يسعدوا بزيارتها حتى رحلوا عن دنياهم كانت دموعهم تنهمر عند سماعهم مدحة شيخ عبدالرحيم البرعي الشاعر اليمني "يا راحلين إلى منى بقيادي من إنشاد المرحوم الشيخ السماني أحمد عالم أو مدائح أولاد حاج الماحي التي تفيض رقة وحنية، رحمهم الله جميعا . هنا أخص بالدعاء للراحل المغفور له بإذن الله بابكر ودالسافل الذي كم أمتعنا فنانا مطرباً مميزا وجميلا في مظهره وفارس زمانه عندما كان يتوج ليالي أعراس القرى والحضر بأغانيه المميزة فكم ضل يمتعنا كذلك إلى اليوم وهو بين يدي الله منشدا البديع من أدب المدائح وهو يجاور الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
اليوم حال السودان ومثله غزة فلسطين غير، فقد خرج هو للأسف الشديد عن دائرة الوضع الطبيعي " إقتصاديا و أمنيا" الذي يمكّن الآلاف من المواطنين لأداء مناسك الحج والعمرة هذه السنة نتيجة حرب لعينة قضت على الأخضر واليابس كما يقضي سرب الجراد العارم الجائع فجأة على جنة كانت نعمة الدنيا وارفة الظلال فيحيلها صعيدا جرزا. اللهم أنقذ هذا الوطن العظيم والجزاء الأوفى منك لكل من له ضلع "قولا تحريضا، أو فعلاً " في نشوب هذه الحرب. إنما الأعمال بالنيات ولكل إمرئ ما نوى. الدعاء بالسلامة والقبول للقلة من أهل السودان الذين تمكنوا رغم تأثرهم بهذه الحروب من الوصول إلى مكة لأداء مناسك الحج والعمرة في هذه السنة " أرجو لهم حجا مقبولا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا وعودا حميدا طيبا مباركا فيه للوطن". آمين يارب ولسان حالي يقول
عرفة - تذكرت وقوفنا بك أول مرة والكل واقف لربه داعيا وذاكر
فهل يارب لي من عودة لك فوالله إني مشتاق ولربي حامد وشاكر

وللمدينة وساكنها وأصحابه يعجز قلمي عن التعبير ووصف الأشواق لكن ما رايكم هل يوجد في كل الدواوين أجمل هذا التعبير؟، لا أعتقد
"رِعْـتُ نحـوك و الآمـالُ تَسْـبِـقُنِي
وأَوْشَـكَ الشَّـوْقُ من أشـواقـه يثـبا"
للشاعر السوداني البليغ شعرا ونثرا الاستاذ عالم عباس محمد نور جاء هذا في قصيدته "عبق البقيع" عندما زار المدينة فأقتبس لكم منها هذه الأبيات "روعة البديع من الشعر والكلام والأدب والتأدب والفن والرقي ورقة في القلب " وهو يقول:
"فالـتُّرْبُ مِـْسكٌ ومن عَبَقِ البـَّقيعِ نَـدَىً

.. و النـخلُ يَـرْشَحُ طِـيـباً من أريجِ قُـبَا

سـما بـروحيَ مِـنْ ريـحانها سـبـبٌ

.. إلـى الـمعـارج لَـمَّا عَـزَّ مُنْـسَرَبـَا

هنـا الأرضُ مـن نفـحاتِ الله عـابقـةٌ

.. هـنا السماواتُ قَـدْ مـَدَّتْ لـنا طُـنـُبَا

تـسري الـسـكينةُ في أوصـالنا بَـرَدا

.. ويـخفقُ القلـبُ من جـّرائـِها خَـبَـبَا

لـمّا هَمَـمْتُ و أوْهَى الذَّنْبُ من عَضُدي

ذنـبٌ أصـاب شبـاباً لاهـياً و صِـبا

و حَـزَّ في النفس ما قَدْ حَـزَّ مِـنْ وَضَرٍ

كَمْ كان غَـرّرَ بِـي و اسْتَـْكـثَرَ الكَرَبا

هـُرِعْـتُ نحـوك و الآمـالُ تَسْـبِـقُنِي

و أَوْشَـكَ الشَّـوْقُ من أشـواقـه يثـبا

و رضْـتُ روضتك الفـيحـاءِ في لَهَـفٍ

و القـلْبُ قَـْبـلُ أُسَـْيفَـاناً ومـرتَعِـبَا

وعُـدْتُ مـنك بـأفراحٍ تُـطَـوِّقـنـي

ما عاد مـنك فـؤادٌ قَـطُّ مُكْـتَـئِـبـا

هــذا مـقـامُ رسـول الله فاحـْتَشِمـي

يا أحْـرُفِـي واتْلَئِـبِّي، والْـَزمِي الأدَبـَا

هـنـا الـتَّحِـيَّاتُ قـرآنٌ و معـجِـزَةٌ

وكُلُّ حَـرْفٍ سَـنَـاهُ سـاكـِبٌ ذهَـبَـا

قـفـي مـكـانَـكِ، لا الأقـوالٌ قـادرةٌ

مِنْ أَنْ تَبـُوحَ ولا أن تـَبْـتَـغِي سَبَـبَـا

سِـرُّ البَـلاغَـةِ في هـذا المـقامِ بِـأنْ

.. تسْـتَرْجِعَ الـقولَ مَنْـطُوقـاً و مُـكْتَـتَبَا

ما قولُ كعْـبٍ، و مـا " بانتْ سُعادُ" وما

"ريمٌ علـى القاعِ" إنْ أَمَّـلْـتَ مُكْتَـسَبـا

و ما "تـذكُّرُ جـيـرانٍٍ بـذي سَــلَـمٍٍ"

.. و ما "رحـيلُ فـؤادٍ فـي" الهَوَى اغْتَرَبَا

يكْـفيـكَ مَدْحاً بـأنَّ الحـقَّ عـَظَّـمَـهُ

.. خُـلْقَـاً عظيماً، وحَسْبي مـَدْحـُهُ حَسَـبا

إنـا لنـمـدحُ بـالأقـوالِ أنْـفُـسَـنَـا

.. إبَّـانَ نَـمْـدَحُـهُ،بَـدْأاً و مُـنْـقَـَلـبَا

تَشَـرَّفَـتْ كلـماتي فـازْدَهَـتْ أَلَـقَـاً

.. و اسْتَغْرَقتْـهَا المعاني فانْـتَشَـتْ طَـرَبَا

و طِـرْتُ حتى كَأَنْ لا جِـْسـمَ يُـثْقِـلُنِي

.. كحـوتِ مُوسـَى سَرَى في يَمِّـهِ سَرَبَا

وِدْدتُ أمـضِي فلا دُنـيـا تُغَـرِّرُ بِـي

.. و شـاقـنِي المـوتُ لَكِـنَّ الـغَرُورَ أَبَى

أهْـوَى الـبّقـيعَ، فَهَلْ لِي أنْ أَفُـوزَ بـه

.. شِبْـراً يَـضُـُّم ثـراهُ خَـدِّيَ الـتَرِبـا

ولوحة أخرى تتجلى بريشة شاعر فنان لابد لي من الوقوف له كذلك تجلة واحتراما وإن ذكر عالم عباس نور لابد من ذكّر صنوه الدبلوماسي السفير والشاعر محمد المكي إبراهيم وهو كذلك يزور المدينة المنورة فتتناثر درر الشعر منه تتوهج بالنور" مدينتك الهدى والنور" إذ يقول من ضمنها:

مدينتك الهُدى والنور
مدينتك القباب
ودمعة التقوى ووجه النور
وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل
وفي الحصى المنثور
مدينتك الحقيقة والسلام
على السجوف حمامة
وعلى الرُبى عصفور.
مدينتك الحديقة يا رسول الله
كل حدائق الدنيا أقل وسامة وحضور
هنالك للهواء أريجه النبوي
موصولاً بأنفاس السماء وكأسها الكافور
هنالك للثرى طيبٌ
بدمع العاشقين ولؤلؤٌ منثور
هنالك للضحى حجلٌ بأسوار البقيع
وخفةٌ وحبور
هنالك للصلاة رياضها الفيحاء
والقرآن فجرياً
تضيء به لهىً وصدور
بساعات الإجابة تحفل الدنيا
وأنهار الدعاء تمور.
يا سلام على هاتين المعلقتين ، نعم البلاغة كذلك " هنالك للضحى حجلٌ بأسوار البقيع
وخفةٌ وحبور" ، الله على جمال الرسم بالكلمات الجميلة العربية المعطرة بعبق بادية ذاك الزمان الجميل بشعرائه ومعلقاته .نعم لقد صدقت " مدينتك الحديقة يا رسول الله وكل حدائق الدنيا أقل وسامة وحضور"
جزاكما الله كل الخير وتحقيق الرجاء وقبول دعاءكما أسال الله أن يستجيب وأن يجمعنا سويا هناك. شكرا
عبدالمنعم

مدحة آلاف الصلاة لشاعرها المادح ود مصطفى من مدينة بربر أداء المرحوم بابكر ود السافل توجد على الرابط
https://youtu.be/jhpnyvHfp84?si=G7nvVKKLXxZlUt77
أرجو للحجاج الكرام السلامة وحجاً مقبولاً وسعياً مشكورا وذنباً مغفوراً وعودة إلى الأوطان تحياتي
عبدالمنعم
09/6/2024

drabdelmoneim@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

مقابر «كوم الشقافة» إحدى عجائب الدنيا السبع بالعصور الوسطى | صور

رصدت عدسة «صدى البلد»، صوراً لمقابر كوم الشقافة، أحد المعالم التاريخية والأثرية بمدينة الإسكندرية، ومن عجائب الدنيا السبع في العصور الوسطى.

وتتكون من مجموعة من المقابر والتماثيل والبقايا الأثرية التي تجمع بين الثقافات الرومانية واليونانية والمصرية. 

وإليكم الصور: 

8ec9378a-a006-4506-9cf3-5757674925d6 40f02011-28fa-442e-b957-5be536a56884 ede0b795-6026-4b6f-aa16-348696055857 ae825f4b-bf16-4121-974e-8d2f9ddd9912 46ee0ee6-a75c-48fa-b33c-bf5942573323 e3998d66-28c5-4ebc-82f7-1609fea7ab97 046f8841-cea9-4756-80b7-1b4a87acc9c4 6cf9934f-e933-4147-9297-1f827516359b f635253d-6d6f-4f11-9764-858aac4d8e82 ce7eaa2f-5ef4-4e53-a407-4c6ba21eccb5 66a47e45-b417-48f9-bfa7-7e866face782 90549f81-48f9-47f9-8613-7d1497072f58 3bda478f-a54b-4610-bc06-72840b6f997f df0d79d3-84ad-40df-9aac-fff42760a2b0 82bb0a26-0517-4954-8239-52207d54bb8b 440198b2-a349-455e-9fbc-ae528841c6c9 090c13f6-4447-4118-85d0-1e09b367d388 22b23c43-4c37-45bc-a025-00b3d259b513 76a8a396-65fa-46e0-9eb9-86d7d6adee51 6242bc32-a3c4-4752-8306-1d6ff7c2cb9f 0aa0fc66-f5da-42f0-b83e-a20d5ad31b7d 5fdd396b-f015-4c9b-b8df-2cec581de1df eb629af9-1ef5-4089-8f6e-8d59a00da6d3 cecf4597-429f-40fe-84e7-2a18edfbe30e 1770b4fd-2870-49b9-89c2-fdc7d8a681ca af8e60b4-a24a-4019-9bb6-fba85c1077f3 80a7f83d-e434-4bf6-8466-76c16ca8a8f4 e76fd0cd-7061-452d-8afb-10ebf68b21da bea38af8-bae2-4cdf-a3b4-07d53a909658

مقالات مشابهة

  • دعاء تسهيل الرزق والمال.. اللهم أعطنا من الدنيا ما تقينا به فتنتها
  • عضو مركز الأزهر للفتوى الالكترونية يوضح المعادلة النبوية لتحقيق السلام الداخلي|فيديو
  • تعرف على أحب الأعمال وأفضلها للتقرب إلى الله (فيديو)
  • تعرف على أحب الأعمال وأفضلها للتقرب إلى الله.. فيديو
  • داعياً إلى الخروج المليون يوم غد.. السيد القائد: سنواصل عمليات إسناد غزة ما دامت المعركة مستمرة
  • فوز 2389 مواطنا خلال إجراء القرعة العلنية للحج بالجيزة
  • عقوبة قطع صلة الرحم.. 20 مصيبة تنتظر قاطعها في الدنيا قبل الآخرة
  • عزيز مرقة عن أغنيته «ما تيجي سكة»: كنت متخوفا من توقيت طرح الأغنية
  • مقابر «كوم الشقافة» إحدى عجائب الدنيا السبع بالعصور الوسطى | صور
  • مستوطنون يحرقون مركبات الأهالي شمال رام الله – فيديو