حول كتاب كينيث بيركنز: “بورتسودان: نشوء وتطور مدينة استعمارية”
تاريخ النشر: 7th, June 2024 GMT
بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا عرض مختصر لما احتواه كتاب عنوانه "Port Sudan: The Evolution Of A Colonial City بورتسودان: نشوء وتطور مدينة استعمارية"، قام بتأليفه كينيث ج. بيركنز Kenneth J. Perkins الأستاذ الفخري لعلم التاريخ في جامعة جنوب كارولينا، الذي صدر في طبعته الأولى عام 1993م عن دار ويست فيو للنشر في 264 صفحة.
المترجم
************* ************ ***********
قسم المؤلف كتابه تقسيماً زمنياً إلى أربعة أقسام:
القسم الأول كان مقدمة عامة عن "خلق المدن الكلولونيالية" في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والآراء المختلفة حول طبيعة ووظائف تلك المدن التي شكلتها المجتمعات الحضرية التي تركها الحكم الكلولونيالي خلفه. وكان الحكام الجدد قد رأوا أن المراكز الحضرية في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط لا تتوافق مع معاييرهم ولا مع احتياجاتهم الإدارية؛ لذا أعادوا هيكلة الإطار الأساسي لكل مدينة كبيرة في الأقطار التي احتلوها. ورغم أن بعض السلطات الكلولونيالية كانت قد أقامت مدناً جديدة بالكلية "ville nouvelle"، إلا أن تفضيل المستعمرين لإدخال (لإزدِراع graft) تجمعاتهم في المستوطنات الحضرية القائمة جعل إنشاء المدينة الاستعمارية من العدم هو الاستثناء وليس القاعدة. ومن أمثال تلك المدن أتبرا (عطبرة)، التي كانت في البدء مستوطنة صغيرة يحيط بها في عام 1897م معسكر للجيش البريطاني. وأختارها البريطانيون في عام 1908م لتكون مقراً لرئاسة السكة حديد بالسودان؛ وغدت في بداية الأربعينيات المدينة الثانية بعد العاصمة المثلثة (2). وحدث العكس مع سواكن، التي كانت لعقود طويلة هي الميناء الوحيد بالسودان، إلى أن قرر البريطانيون أن ميناءها لم يعد قادراً على أداء وظيفته بسبب التزايد المستمر في حركة الصادر والوارد للسودان، وآثروا التحول لمرسى الشيخ برغوث (3) التي تبعد نحو 35 ميلاً عن سواكن، والذي لم يكن فيه سوى قبة ذلك الشيخ. وأُسْمُوا المكان الجديد "بورتسودان". وكان هذا مثالاً جيدا على خلق مدينة جديدة بالكلية في السياق الكولونيالي. وخططت السلطة الكلولونيالية لقيام تلك المدينة الجديدة تماماً، وأسسوا نظمها وقواعدها وإدارتها اليومية دون أن يضطروا – كما في مناطق أخرى- لمراعاة أثر ما قاموا به على السكان المحليين، وعلى تقاليدهم وأعرافهم، أو لتغيير عاداتهم وأعرافهم الغربية المتعلقة بالحياة في المدن، بل قاموا بإنشاء مدينة بورتسودان بحسبانها "مدينة كولونيالية مثالية".
تطرق المؤلف في هذه المقدمة أيضاً - وببعض التوسع - لتاريخ إنشاء مدن وموانئ ساحلية أخرى في المنطقة مثل القنيطرة Kenitra في المغرب، وبور سعيد في مصر.
وخصص المؤلف القسمين الثاني والثالث من كتابه لمناقشة ما حدث بين عامي 1904 - 1918م (عند نهاية الحرب العالمية الأولى)، وعامي1919 - 1942م، على التوالي. وتناول الكاتب في القسم الثاني من مُؤَلَّفه ما دار من نقاشات حول المزايا النسبية المتوفرة في كلٍ من ميناء سواكن ومرسى الشيخ برغوث، والتخطيط المادي للمدينة الجديدة، وتوزيع صكوك تمليك الأراضي في داخل حدودها، والمشاكل الحادة التي سببها نمو المدينة بشكل مفرط السرعة. وركز المؤلف في الفصل الثالث من كتابه على الميناء، وذكر ما أفلح فيه الإداريون البريطانيون من تقليل للنفوذ المصري عند إدارة الميناء الجديد، وتطرق للمسائل المتعلقة بطبيعة القوى العاملة في الميناء، وتوفرها ومستوى أدائها، أولاً عند تشييد الميناء، ثم الحفاظ على استمرار العمل فيه بصورة سلسة. ولم يكن ذلك بالأمر الهين في مدينة جديدة تفتقر إلى العدد الكافي من الأيدي العاملة. وسرد الكاتب في نهاية ذلك الفصل الاحتياطات التي تم أخذها في بورتسودان (منذ افتتاح الميناء رسميا وحتى بداية الحرب العالمية الأولى) لحمايتها من آثار أي صراع محتمل. وكانت معظم المشاكل المتكررة الحدوث التي شغلت المسؤولين الإداريين بالمدينة قد وقعت في سنوات المدينة الباكرة. وكانت مراقبة الحكومة اللصيقة لنمو وتطور المدينة قد خلق حالة من الضيق والتذمر عند بعض سكانها، خاصة في أوساط طبقة رجال الأعمال. وكانت هناك في بورتسودان الكثير من التوترات الاجتماعية والاقتصادية المتأصلة في مدينة "مزدوجة dual" تم فيها إبعاد "الطبقات الدنيا" إلى "ديوم"، أو أحياء منفصلة فعلياً عن المناطق السكنية أو التجارية الأخرى؛ ولبعض الوقت، كان يُعْتَقَدُ أنها مجتمعات منفصلة تماماً. وكانت الحكومة الكلولونيالية في الخرطوم تصر على أن تكون "نافذة السودان على العالم" مدينةً نموذجيةً تُظْهِرُ صورة إيجابية للحكم الثنائي. واستدعى ذلك زيادة الانفاق على إدارة المدينة. ونسبة لعدم كفاية الموارد الأساسية والمواد الغذائية بالمدينة، صارت تكلفة المعيشة فيها أعلى بكثير من بقية مدن السودان، وقلل هذا من أعداد العمال بها.
وتطرق المؤلف في الجزء الثالث من كتاب لتحليل ذات الموضوعات التي ذكرها في الجزء الثاني، كما تكشفت في الفترة بين عامي 1919 و1942م، وما جَدَّ في غضون تلك الفترة من تحديات ومخاوف. وفي تلك الفترة خبا نجم ميناء سواكن، ولم يعد يستخدم تجارياً بصورة كبيرة إلا في موسم الحج، ولم تعد بورتسودان هي تلك المدينة "الجديدة" الواقعة على ساحل البحر الأحمر، بل غدت في الواقع هي المدينة "الوحيدة" على ذلك الساحل. غير أن بورتسودان احتفظت بهالة من الجِدّة حتى وهي تخطو في طريق النضج. وكانت خدمات السكة حديد والإنتاج الزراعي قد تحسنت في المنطقة في بدايات سنوات الحرب العالمية الثانية، وازدادت حركة الصادرات عبر بورتسودان، مما أفضى لموجة من التوسع والتنمية فيها، يشابه ما تم بالمدينة قبل نحو 15 عاماً. وأجبر تأثير ذلك الازدهار جيلاً جديداً من سكان بورتسودان وإدارييهم على التعامل مع مشاكل مماثلة لتلك التي واجهها مُؤسِّسو المدينة؛ غير أن طبيعة المدينة الأكثر تعقيداً الآن جعلتها تتعرض بشكل أكبر لمزيد من التحديات. وعلى الرغم من الزيادة المستمرة في عدد سكان بورتسودان من غير الغربيين، والثبات النسبي لعدد قليل من الغربيين بالمدينة، إلا أن بورتسودان ظلت مدينة أقامتها وشكلتها حصرياً تلك الأقلية الغربية، خدمةً لمصالحهم – وكانت تلك عملية / تدبير process ساعد على تسهيلها الغياب العام لأي مشاركة سودانية بناءة وهادفة في العمليات السياسية على المستوى المحلي. ومن أهم فصول هذا الجزء من الكتاب الفصل السادس الذي يتناول العمالة المحلية والأجنبية (خاصة اليمنية) في الميناء (4).
أما القسم الرابع والأخير فقد تناول ما حدث بين عامي 1943 و1953م. وبدأ المؤلف هذا الفصل بتقديم لمحة عن المدينة بين سنوات الحربين العالميتين. وبالإضافة إلى تحديد الاتجاهات الديموغرافية لتلك الفترة، ذكر المؤلف الأصول العرقية المختلفة لسكان بورتسودان، وتوزيعهم في مختلف أحياء المدينة التي تزايد عددها في تلك الفترة. وأهم من كل ذلك، تطرق المؤلف للمسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المهمة التي ظهرت آنذاك بالمنطقة. فقد ناقش المؤلف الخطوات التي اتخذتها الحكومة في العشرينيات (من القرن العشرين) للحفاظ على نمو وتطور منظم للمدينة التي توسعت بسرعة لم تكن السلطات الكولونيالية قد توقعتها عندما خططت للمدينة الجديدة. ففي عام 1927م أصدرت تلك السلطات لوائح لتنظيم البناء بمدينة بورتسودان بغرض وضع قواعد لتخصيص واستخدام الأراضي. وضاعفت المحاولات الباكرة لتطبيق تلك اللوائح من الصراع الحاد الذي كان قائماً بين مسؤولي السكة حديد وبين باشمفتش المنطقة حول سلطة كل منهما ودوائر نفودهما. وتواصل ذلك الصراع لسنوات طويلة مما ألحق أشد الضرر بإدارة المدينة والميناء. وأقامت السلطات الكولونيالية ما أسمته "المجلس البلدي"، وذلك لخلق واجهة شكلية لـ "مشاركة محلية" في إدارة شؤون المدينة. غير أن السلطات الكولونيالية كانت تحكم السيطرة على عملية اختيار أعضاء ذلك "المجلس البلدي"، من أجل ألا يقدم ذلك المجلس أي مبادرات تتعارض مع ما تريده السلطات البريطانية.
وكان تسيير العمل بصورة سلسة في الميناء (الذي يُعْتَمَدُ عليه في ازدهار المدينة) يتوقف أيضاً على توفر قوة عاملة كبيرة يمكن الاعتماد عليها، خاصة بعد الزيادة الكبيرة في أعداد السفن التي تمر بالميناء، وفي كميات البضائع التي تحملها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وضاعف ذلك من الطلب لمزيد من العمال، وكشف عن مدى تعقيد عملية تأمين العمالة الكافية في الأرصفة. ونشأ نزاع بين إداريي بورتسودان وبين رجال المال والأعمال بالمدينة حول تفضيل رجال الأعمال جلب عمال من خارج المنطقة للعمل في الميناء عوضاً عن العمال المحليين (البجا)، بل تفضيلهم جلب عمال من خارج السودان على غيرهم للعمل في الميناء. وكان الإداريون البريطانيون يخشون من التداعيات السياسية لتلك الممارسات، بينما كان الهم الأكبر لرجال المال والأعمال يتركز حول اقتصاديات التعامل مع بضائع الموانئ. وفي هذا الشأن، كانت إدارة السكة حديد تفضل أيضاً استخدام عمالة غير سودانية. وكان هذا جزءًا واحداً من صراعات كثيرة على السلطة والنفوذ بين من يقومون على إدارة الميناء ومن يديرون شؤون المدينة.
وجاءت بعض العناوين الجانبية في الكتاب جاذبة للاهتمام، ومستقاة مما قِيلَ أو فُعِلَ في الفترة الزمنية المعينة. فقد جاء التالي في أحد العناوين بالجزء الثاني من الكتاب: "موقع مثالي لمدينة: وضع الأشخاص الأكثر تفضيلاً في القطع السكنية الأكثر تفضيلاً". وأورد المؤلف في كتابه ثلاثة جداول عن النمو السكاني ببورتسودان منذ عام 1906م إلى عام الاستقلال، والأجور اليومية لعمال الميناء بين عامي 1912 و1949م، وأعداد المرضى الذين تلقوا العلاج في مستشفى بورتسودان الملكي بين عامي 1920 و1947م. فقد كان عدد المرضى في عام 1920م 18,303، وأرتفع العدد إلى 132,410 في عام 1947م. وأورد المؤلف أيضاً بعض الصور والخرائط للمدينة والميناء، وديم جابر ورصيف الميناء وبه عمال من البجا، وذكر المؤلف المصادر التي استقى منها المعلومات الواردة في كتابه مثل "دار الوثائق السودانية"، ووثائق السكرتير الإداري والسكرتير المالي والسكرتير القضائي، والمخابرات المصرية، ووثائق مديرية كسلا، ومحاضر لجنة توزيع الأراضي بالمدينة، ومحاضر المجلس الاستشاري للميناء.
وأورد المؤلف في نهاية الجزء الرابع من كتابه خاتِمَة الكتاب، مع عدد من الملاحق لأسماء مفوضي بورتسودان ومديري كسلا والبحر الأحمر البريطانيين منذ عام 1905م، مع عدد كبير من المراجع كانت منها رسالة ماجستير من جامعة الخرطوم (غير منشورة) بقلم نايلة بابكر حجازي بعنوان: "Port Sudan: A Social and Economic Study"، صدرت عام 1975م؛ ورسالة ماجستير أخرى من جامعة الخرطوم (غير منشورة) بقلم حسب الرسول أحمد بعنوان: Urbanization and Town Administration in Eastern Sudan صدرت عام 1974م.
****** ****** *****
وهذا ملخص لبعض ما ورد في خاتِمَة الكتاب:
لقد كان التطور الأكثر إثارة للدهشة في بورتسودان إبان السنوات التي تلت الاستقلال هو الانفجار السكاني في المدينة. ولم تكشف تلك الطفرة الديموغرافية مجدداً عن أوجه القصور في البنية التحتية التي ابتليت بها بورتسودان منذ تأسيسها فحسب، ولكنها أفضت أيضاً لتحول جذري في تَركِيبَة سكان المدينة. فقد بلغ عدد سكان بورتسودان، بحسب أول إحصاء سكاني أجري بالبلاد في عامي 1955 – 1956م، 47,562 نسمة كان منهم نحو 17,000 من العرب (أي نحو 37% من سكان المدينة). وبلغ عدد البجا نحو 10,000 نسمة، وكانوا يمثلون منذ أعوام الحرب العالمية الثانية ما بين 20 إلى 30% من مجموع السكان. وكان عدد أفراد الإثنيات الأخرى كتالي: 7,000 من النوبيين (أي نحو 15% من العدد الكلي)، و5,000 من القادمين من غرب أفريقيا (أي نحو 10%)، و4,000 من أجانب من دول مختلفة (يمثلون نحو 8%). وكانت هناك أيضاً أعداد قليلة من النوبة ومن مواطني غرب وجنوب السودان بلغ عددهم نحو 3.000 نسمة (يمثلون نحو 2% من مجموع سكان المدينة). وقدر خبراء الإحصاء أن عدد سكان المدينة سيزيد بنحو 8,000 نسمة كل عشرة أعوام. غير أن عدد أفراد الجالية الإغريقية في بورتسودان ظل يتناقص عاماً بعد عام، وبلغ عددهم في عام 1965م ثلث عددهم عند استقلال البلاد. وربما يكون السبب في ذلك هو عدم رغبة رجال المال والأعمال الإغريق في المغامرة والمخاطرة بالبقاء في ظل مناخ سياسي متقلب. ومع نهاية الستينيات ازدادت أعداد البجا فبلغوا نصف سكان المدينة. ولعل هذا يعود لموجة الجفاف التي ضربت مناطقهم في الريف في غضون سنوات ذلك العقد، مما أضطرهم للهجرة للمدينة. وساء الوضع أكثر بما كان يمارسه الرعاة من جلب بعض أبقارهم معهم لديوم المدينة، التي كانت تعاني أصلاً من الاكتظاظ والأوضاع الصحية السيئة. وعوضاً عن أن يقوم بعض سكان تلك الديوم الأغنياء بالتعامل الإيجابي مع تلك الظروف، آثروا الانتقال إلى ديوم جديدة أوسع، ولكنها غير قانونية، كانت تقع على أطراف المدينة. وكان أحد تلك الديوم (يسمى "سلالاب") قد أقيم بين عامي 1961 و1963م، ويقع شمال غرب محطة السكة حديد. ثم ظهر ديم جديد في عام 1964م يسمى "دار السلام"، ويقع في جنوب غرب المدينة. ثم أقيم في العام التالي ديم آخر اسموه "صباح الخير" شرق ديم "دار السلام". وكانت كل تلك الديوم قد أقيمت من دون الحصول على موافقة سلطات المدينة. وكانت الظروف السياسية في تلك الأيام (بعد سقوط أول نظام عسكري بالبلاد) قد ساهمت في تغاضي السلطات الحكومية عن تلك "التجاوزات"، بحسبان أن أمامهما تحديات أخرى أشد خطراُ. وانتشرت الأبنية غير القانونية، التي كان يؤجر ملاكها غرفها للقادمين الجدد من الأقاليم الأخرى.
لقد أفلح المرشحون الذين يمثلون مصالح البجا على وجه التحديد في تحقيق أول نجاحاتهم السياسية الحقيقية في أول انتخابات أُجْرِيَتْ في ظل النظام البرلماني الجديد عام 1965م. وكانت السنوات الأخيرة للحكم الثنائي قد تزامنت مع ظهور وعي سياسي للبجا. وكان أول المتحدثين باسمهم هو محمد دي إسماعيل، مؤلف كتيب صدر عام 1953م بعنوان: "كفاح البجا" (5). وعلى الرغم من أن ذلك الكاتب ركز في المقام الأول على الحال البائس الذي يكابده رجال القبائل الذين تأثرت أنماط حياتهم التقليدية سلباً بسبب خطط التنمية الزراعية واسعة النطاق، خاصة في دلتا القاش وبركات، إلا أن ما كتبه ضرب على وتر حساس بين البجا الحضريين و"المتحضرين" في بورتسودان، وخاصة في أوساط عمال الشحن والتفريغ بالميناء.
ولما لم يجد النواب البجا في أول جمعية تأسيسية اُنْتُخِبَتْ عام 1958م أي اهتمام أو سند من الأحزاب السياسية التقليدية كونوا حزبهم الخاص (مؤتمر البجا) تحت قيادة الطبيب علي محمد بلية (6)، وذلك ببورتسودان في أكتوبر 1958م. غير أن قيام انقلاب إبراهيم عبود في الشهر التالي أوقف نشاط كل الأحزاب السياسية بالبلاد، ومن ضمنها "مؤتمر البجا". وبعد سقوط نظام عبود أقيمت انتخابات عامة في 1965م تبنى فيها "مؤتمر البجا" الدعوة لحكم ذاتي (autonomy) للبجا، وطالب بالمزيد من الاهتمام بقضايا الشرق الاقتصادية والاجتماعية. ونال "مؤتمر البجا" عشرة مقاعد في الجمعية التأسيسية، كان بعضها في بورتسودان وما حولها. ويُعْتَقَدُ بأن السبب في ذلك الفوز هو مقاطعة "حزب الشعب الديمقراطي" (الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في شرق السودان) لتلك الانتخابات. وظهر هذا جلياً في انتخابات عام 1968م التي لم ينل فيها "مؤتمر البجا" سوى ثلاثة مقاعد (بعد أن شارك في تلك الانتخابات الحزب الاتحادي الديمقراطي – الذي تكون باندماج الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي).
وأقام نظام جعفر نميري (1969 – 1985م) تنظيماً سياسياً وحيداً بالبلاد هو "الاتحاد الاشتراكي"، فوجد زعماء البجا أنفسهم مضطرين للعمل تحت مظلة ذلك التنظيم والمشاركة في الحكومة المركزية من أجل البقاء السياسي. غير أنهم لم يستطيعوا (أو لم يرغبوا) في لفت انتباه المركز لقضايا إقليمهم. وفي غضون تلك السنوات تواصل معدل الزيادة السكانية في بورتسودان؛ حيث بلغ عدد سكانها – بحسب إحصاء عام 1973م – 132,632 نسمة. وارتفع عدد السكان في عام 1983م فبلغ 206,727 بحسب الإحصائيات الرسمية، بينما قدر البعض عدد السكان في ذلك العام بنحو 350,000 نسمة. وتلت تلك السنوات هجرة آلاف اللاجئين الإرتريين والإثيوبيين الهاربين من الاضطرابات السياسية والاقتصادية في بلادهم إلى بورتسودان. وكانت أعداد الإرتريين ببورتسودان في الثمانينات تبلغ ما بين 35,000 إلى 70,000 نسمة (أي ما يعادل 10 – 20% من سكان بورتسودان)، وكانوا يقطنون جميعاً في ديوم المدينة مثل (ديم النور) في بيوت غير صحية ليس فيها كهرباء.
وعقب سقوط نظام نميري عام 1985م، عاد قادة "مؤتمر البجا" لتنظيم أنفسهم استعداداً لخوض الانتخابات البرلمانية (عام 1986م). وكانوا مدركين للإهمال الذي لقيه إقليمهم في غضون سنوات حكم نميري، فانضموا لتحالف مكون من أحزاب ومجموعات من النوبة وجنوب السودان. وقدم ذلك التحالف مرشحين في دائرتين من ثلاثة دوائر في بورتسودان في انتخابات 1986م. ووقعت بعض حوادث العنف في تلك الانتخابات بالديوم التي كان يقطنها النوبة والبني عامر. وكان الساسة البجاويون الوحيدون الذين حصلوا على مقاعد في تلك الانتخابات ببورتسودان عام 1986م يمثلون الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي كان قد فاز في كل دوائر المدينة، وغالب الدوائر في شرق السودان.
*********** *********** ***********
في ختام مقاله، ذكر الكاتب أن بورتسودان، وهي تستقبل عقدها العاشر (في بدايات التسعينيات من القرن العشرين. المترجم)، لا تزال تواجه الكثير من النواقص في الموارد البشرية والإسكان وخدمات الميناء والبنية التحتية وخدمات الماء والكهرباء وغيرها من الضروريات. وفوق ذلك، ظلت المدينة غير متكاملة بشكل كافٍ مع بقية أنحاء البلاد. وعلى الرغم من اختلاف حجمها، إلا أن معظم تلك المشكلات كانت مألوفة بشكل مؤلم للرجال الذين كانوا يديرون بورتسودان إبان سنوات الحكم الثنائي. وفي الواقع، فإن العديد من قرارات الرجال الذين أنشأوا وشكلوا مدينة بورتسودان منذ تأسيسها في عام 1904م وحتى الحكم الذاتي في عام 1953م، كانوا قد ساهموا بشكل مباشر في إحداث تلك المشاكل.
********** ********* ***********
إحالات مرجعية:
1/ استعراض ليف مانقر لكتاب كينيث ج. بيركنز تجده في هذا الرابط: https://shorturl.at/vWHDi، أما استعراض هيذر شاركي لهذا الكتاب فقد نُشِرَ في المجلد الخامس عشر من المجلة البريطانية "دراسات السودان Sudan Studies" البريطانية الصادرة في يناير عام 1994م.
2/ يصف هذا الكتاب لأحمد سكنجة التاريخ الاجتماعي لأتبرا "City of Steel and Fire": A Social History of Atbara, Sudan's Railway Town, 1906-1984
3/ يمكن النظر في مقال عن إنشاء مدينة وميناء بورتسودان في الرابط: https://shorturl.at/6z2Lw
4/ وردت في كتاب جيورجيو أيوب بلمون رسالة من السكرتير الإداري البريطاني حول التعامل مع المهاجرين اليمنيين في السودان، تجد ترجمة لها في هذا الرابط https://shorturl.at/B18s0
5/ لعبد الله علي إبراهيم مقال أتى فيه على ذكر كتاب "كفاح البجا" وكاتبه https://shorturl.at/Cr1BG
6/ للمزيد عن دكتور بلية يمكن النظر في هذا الرابط: https://shorturl.at/dwzba. ونشر جون مورتن مقالاً محكماً في دورية "الشؤون الإفريقية، بالمجلد رقم 88 الصادر في 1989م https://www.jstor.org/stable/722598
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحرب العالمیة تلک الانتخابات فی بورتسودان سکان المدینة بورتسودان فی بورتسودان من مؤتمر البجا السکة حدید تلک الفترة فی المیناء المؤلف فی فی نهایة التی کان بین عامی عدد سکان فی کتاب فی غضون من کتاب فی هذا فی تلک إلا أن غیر أن فی عام
إقرأ أيضاً:
سلطة الهامش في كتاب «الوحشيات» لأبي تمّام
إنّ المُطّلع على كتاب الوحشيات، وهو كتابٌ اختار أشعاره الشاعر العباسي أبو تمّام وعُرِفَ بالحماسة الصغرى، يجد أنه كتاب أدبي ضمَّ أشعارًا انتقاها أبو تمّام فـي الحماسة والمراثي والأدب والنسيب والهجاء والسماحة والأضياف والصفات والمشيب والمُلَح ومذمة النساء، ولقد سمّاه أبو تمّام بالوحشيات كما أشار المحقق لأنّ المختارات الواردة فـي الكتاب هي «أوابد وشوارد لا تُعرف عامة وأغلبها للمُقلّين من الشعراء أو المغمورين منهم». (ص٦)
ومع ذلك فهذا الكتاب لم يحظَ بشهرةِ ديوان الحماسة لأبي تمّام، وإنّ القارئ يُدركُ حقًا أنّ المختارات لم تَشِعْ كثيرًا فـي الأدب القديم، وقد وجد محققو الكتاب جهدًا ليس يسيرًا فـي تخريج الأشعار ونسبتها إلى أصحابها، أو فـي تداخل الأبيات الشعرية من شاعر إلى آخر، أو تصحيف فـي اسم شاعر أو فـي بيت شعري.
وما دام الحديث عن محققي الكتاب فإن الناظر فـي الكتاب فـي طبعته الرابعة الصادرة عن دار المعارف بالقاهرة عام ٢٠٢١م، بتعليق وتحقيق عبدالعزيز الميمني الراجكوتي يجد أن فـي هوامش الكتاب وتعليقاته سلطة تضاهي سلطة المتن أو تقاربه، ولا يمكن لقارئ الكتاب وهو يقرأ كل مقطوعة شعرية إلا ويُتبعها بقراءة الهامش لما يجد فـي نفسه أي معلومة تربط الاثنين معًا.
لقد قام الكتاب فـي أساسه على تعليق وتخريج عبدالعزيز الميمني لكن الأستاذ محمود شاكر كان قد اشتغل قبل ذلك على الكتاب، وبعد علمه باشتغال الميمني عليه ترك الكتاب له، وبعد مدة التقى الاثنان وتحدثا عن الكتاب فكان أن اقترح الميمني على شاكر إضافة تعليقاته فـي الهامش، فصار الهامش يضجُّ بتعليقات الاثنين، وهي تعليقات قيّمة لا شك وتخريجات أفادت القارئ كثيرًا وصوّبت على المتن أيضا.
ثم كان أن شارك الاثنان فـي التعليقات كلٌّ من السيد محمد يوسف وأحمد الراتب النفاخ، وراجع كل ذلك الدكتور ناصر الدين الأسد، وعليه فإنك تجد إشارات وتعليقات فـي الهوامش تحمل اسم كل واحد من المحققين؛ لذا أخذ الهامش أهمية عالية فـي سياق التخريج ولعل ذلك يحيلنا إلى عبارة للكاتب عبدالسلام بنعبد العالي حين يقول فـي مقالة بعنوان (الهامش والمركز): «بين الهامش والمركز ليست هناك علاقات مكانية، ولا حتى منطقية، فالهامش لا يقابل المركز، وإنّما يخترقه. نحن أمام علاقات قوة وتسلط، وليس أمام علاقة هدنة وسلم. وحتى فـي ما يتعلق بالمكتوب وما يحيط به من حواش، فإن الهوامش غالبا ما تتدخل فـي المتن، لتحدّ من إطلاقيته، وتُنَسّب معانيه، وتُوقف عموميتها. فالهامش فـي آخر صفحة الكتاب هو فـي الغالب، حدّ من تدفق معنى النصّ، وربط بظروفه وملابساته، وإفصاح عن نوايا الكاتب ومراميه. وبذلك، فهو يتدخل فـي تحديد معاني المتن، ويعيّن حدودها». (المجلة 22 يناير 2024)
إن فـي تعاقب أقوال المحققين تصحيحًا لما جاء فـي المتن، وتعليقًا وتوضيحًا وزيادة يلحظها القارئ، عدا أن المحققين كانوا يضعون تعليقاتهم على بعضهم، نجد الميمني مثلًا فـي المقدمة (ص6) يقول عن كتاب الوحشيات: «ولا أرى أحدًا يكون تنبه له غير المأسوف عليه الأستاذ أحمد بن الأمين الشنقيطي قبل اليوم بـ٣٤ عامًا...». فـيرد عليه محمود شاكر معلقًا فـي الهامش: «لم يقف عليه الشنقيطي بلا ريب، وحاشيته على الأمالي منقولة بنصها من كلام فـي شرح شواهد الألفـية بهامش الخزانة...».
نجد مثل ذلك فـي غير موضع، نجد مثلًا فـي المقدمتين اللتين تصدرتا الكتاب، إذ يقول الميمني: «وأما الوحشيات هذا، فإني لا أعرف أحدًا يكون عرفه غير التبريزي فـي مقدمة شرح الحماسة ولعله لم يقف عليه لترجمته له بقوله: (وهي قصائد طوال)، وإنما هو ديوان مقاطيع كما ترى». (ص5) فـيعلق محمود شاكر: «أما كتاب الوحشيات، فقد ذكر أستاذي الميمني فـي مقدمته أنه لا يعرف أحدًا يكون عرفه غير التبريزي فـي مقدمة شرح الحماسة، ولكني وجدت القاضي الباقلاني قد ذكره فـي كتابه: «إعجاز القرآن»... وذكره العيني فـي شرح شواهد الألفـية... وقد وقفت على ذكر الوحشيات فـي غير هذين الكتابين، ولكني فقدت الأوراق التي كنت علقت فـيها بعض حواشيّ الأخرى على الوحشيات فأرجو أن يستدركها من يقف عليها ...». (ص10)
يأخذ الهامش سلطة كبرى فـي الكتاب متمثلة فـي التصحيح والتعليق والتوضيح والاستدراك على ما فات المتن، وهو ما يقدّم للقارئ أن هناك إشكالية فـي المتن متمثلة فـي التوثيق والنسبة وهو ما دفع محمود شاكر إلى القول بأنّ أبا تمام كثير الخلط فـي الشعر فـي نسبته إلى الشعراء (ص237)، أو إشارته إلى أنّ أبا تمام جازف فـي إيراد مقطوعة أبي عداس النمري فـي المراثي (ص141). وقال الميمني فـي موضع آخر: «فقد خلط أبو تمام». (ص173) يظهر لنا تصحيح الهامش للمتن فـي مواضع عدة فـي الكتاب وهذا يحيلنا على أن أبا تمام جمع المقطوعات الشعرية التي تداولها الناس -مع الإشارة إلى أنها شوارد ولم تبلغ شهرة وهي إنما قالها المُقلون فـي الشعر- وقد أخطأ فـي نسبتها أو أنه نقلها عن آخرين نقلًا دون تثبت؛ لذا تظهر لنا مقطوعات تنسب إلى أكثر من شاعر، أو أنه نسبها لشاعر وهي لشاعر آخر؛ لذا أوضح الميمني فـي مقدمة الكتاب أنّ «كلمة (قال) على رؤوس المقاطيع، لا تدل على أنها للشاعر المذكور، على ما هي العادة، بل على أنها لمجهول، بلى! تدلُّ على ذلك حينما يزيد عليها كلمة (أيضا)». (ص8) وهذا كثير قد وقع فـيه أبو تمام، ولعل إشارة الميمني فـي هامش الصفحة 33 تعقيبًا على قول أبي تمام فـي المقطوعة 43 «وقال أيضا» فكان تعليقه بـ: «لا معنى لقوله (أيضا) ههنا، والأبيات لسليمان بن عياش اللص فـي معجم البلدان».
لقد قدّم الهامش ثقافة معرفـية فـي جمع النصوص من مصادرها الأدبية، والتفريق بين أسماء الشعراء دون غيرهم، فضلًا عن تقديم رؤية نقدية للمحقق؛ إذ لا يقتصر دور الهامش على التخريج والنسبة والتصحيح، بل إننا نلمس دور الناقد الأديب، نقرأ تعليق محمود شاكر على المقطوعة رقم 38 المنسوبة لعُبيد بن أيوب قائلًا: «وهي من أجود الشعر وأرصنه». (ص30) كما نجد فـي الهامش تعليقات فـي التصويب للمحققين بعضهم البعض، يقول محمود شاكر عن بيت عبدالله بن جعدة:
وأشدَّ مِرَّته على الأعداءِ ذا شيَعٍ وحِدَّه
«هكذا فـي الأصل: «ذا شيع»، فأرجو أن يكون صوابها على هذا الرسم: «ذا سبع». و«السبع» الذعر... أو يكون صوابها على غير الرسم مصحّفًا (ذا شجع)...»، ثم يعقّب الميمني قائلًا: «ثم ادكرت بعد أمةٍ أنّ الصواب ولله الحمد «ذا شيعٍ وحِدّه» لا غير». (ص149)
إن اشتغال الهامش استدراكًا على المتن جعل له سلطة توثيقية ومعرفـية بالمقاطع وألفاظها، ولعلني هنا أشير إلى المقطع رقم 356 بالصفحة 216 الذي أظهر الهامش جرأة فـي رصد دلالات المقطع بخلاف ما واره المتن، لقد أخفى أبو تمام فـي المقطع بعض الكلمات النابية مشيرًا إليها بـ(...) لكن الهامش عمل على كتابتها فـي الهامش مقدمًا وضوحًا كبيرًا فـي نقل الأبيات كما هي.
لا يمكن لي وأنا أقرأ الكتاب إلا أن أقول: إن الهامش فـي حد ذاته -إضافة إلى أنه شكّل سلطة أدبية ولغوية- فإنه أيضا قدّم إشارات معرفـية مهمة عملت على إكمال المتن، ومساعدته فـي النهوض وتشكّله للقارئ فـي صورة صحيحة، هنا نجد تعاضد الهامش والمتن فـي إبراز الصورة الصحيحة التي كان ينشدها أبو تمام، ولعل ما فات أبو تمام استدركته هوامش المحققين بعد قرون طويلة من البحث والتنقيب فـي مصادر التراث العربي.