الإبادة الجماعية في غزة هي المرحلة النهائية من عملية بدأتها إسرائيل قبل عقود. أي شخص لم يتوقع أن هذا قادمٌ فقد أعمى بصرَه عن طبيعة دولة الفصل العنصري وأهدافها النهائية.
لكن من الأسهل التظاهر: التظاهر بأن إسرائيل ستسمح بدخول المساعدات الإنسانية، وأنه سيكون هناك وقف لإطلاق النار، وأن الفلسطينيين سيعودون إلى منازلهم المدمرة في غزة، والتظاهر بإعادة بناء غزة، وأن السلطة الفلسطينية ستدير غزة، وأنه سيكون هناك حلُّ الدولتين، والتظاهر بعدم وجود إبادة جماعية.
لا توجد مفاجآت في غزة. لقد تم التنبّؤ بكل عمل مروع من أعمال الإبادة الجماعية الإسرائيلية مقدمًا منذ عقود. إن تجريد الفلسطينيين من أراضيهم هو القلب النابض للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. كان لهذا التجريد لحظات تاريخية دراماتيكية – 1948 و1967 – عندما تم الاستيلاء على أجزاء واسعة من فلسطين التاريخية، وتم ممارسة التطهير ضد مئات الآلاف من الفلسطينيين عرقيًا. كما حدث نزع الملكية وسرقة الأراضي ببطء، وكذلك التطهير العرقي المستمر في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
أعطى التوغل في 7 أكتوبر/تشرين الأول في إسرائيل من قبل حماس، وجماعات المقاومة الأخرى – والذي أسفر عن مقتل 1154 شخصًا في إسرائيل، وشهد أسْر حوالي 240 شخصًا كرهائن – إسرائيلَ ذريعة لما كانت تتوق إليه منذ فترة طويلة: المحو الكامل للفلسطينيين.
دمرت إسرائيل 77 في المائة من مرافق الرعاية الصحية في غزة، و68 في المائة من البنية التحتية للاتصالات، وجميع المباني البلدية والحكومية تقريبًا، والمراكز التجارية والصناعية والزراعية، وما يقرب من نصف جميع الطرق، وأكثر من 60 في المائة من 439000 منزل في غزة، و68 في المائة من المباني السكنية، وتم قصف برج التاج في مدينة غزة في 25 أكتوبر/تشرين الأول، مما أسفر عن مقتل 101 شخص، من بينهم 44 طفلًا، و37 امرأة، وإصابة المئات، كما جرى تدمير مخيمات اللاجئين.
أسفر الهجوم على مخيم جباليا للاجئين في 25 أكتوبر/تشرين الأول عن مقتل ما لا يقل عن 126 مدنيًا، من بينهم 69 طفلًا، وإصابة 280. كما ألحقت إسرائيل أضرارًا أو دمرت جامعات غزة، وكلها مغلقة الآن، و60 في المائة من المرافق التعليمية الأخرى، بما في ذلك 13 مكتبة. كما دمرت ما لا يقل عن 195 موقعًا تراثيًا، بما في ذلك 208 مساجد وكنائس ومحفوظات غزة المركزية، التي تحتوي على 150 عامًا من السجلات والوثائق التاريخية.
الطائرات الحربية الإسرائيلية والصواريخ والطائرات بدون طيار والدبابات وقذائف المدفعية والمدافع البحرية الإسرائيلية تسحق غزة يوميًا – التي يبلغ طولها 20 ميلًا فقط وعرضها خمسة أميال – في حملة الأرض المحروقة التي لا مثيل لها منذ الحرب في فيتنام. لقد أسقطت 25000 طن من المتفجرات – أي ما يعادل قنبلتين نوويتين – على غزة، والعديد من الأهداف التي اختارها الذكاء الاصطناعي.
يسقط الجيش الإسرائيلي ذخائر غير موجهة "قنابل غبية" وقنابل مضادة للتحصينات بوزن 2000 رطل على مخيمات اللاجئين والمراكز الحضرية المكتظة، وكذلك ما يسمى "المناطق الآمنة"، 42 في المائة من الفلسطينيين الذين قتلوا كانوا في هذه "المناطق الآمنة"، حيث أمرتهم إسرائيل بالفرار. نزح أكثر من 1.7 مليون فلسطيني من منازلهم، وأجبروا على إيجاد مأوى في ملاجئ الأونروا المكتظة وممرات المستشفيات والساحات والمدارس والخيام، أو الهواء الطلق في جنوب غزة، وغالبًا ما يعيشون بجوار برك نتنة من مياه الصرف الصحي.
قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 35 ألف فلسطيني في غزة، بما في ذلك 13000 طفل، و9000 امرأة. هذا يعني أن إسرائيل تذبح ما يصل إلى 187 شخصًا يوميًا، بمن في ذلك 75 طفلًا. لقد قُتل 140 صحفيًا، استُهدف العديد منهم، إن لم يكن معظمهم، عمدًا. قتل 340 طبيبًا وممرضًا وغيرهم من العاملين الصحيين – أربعة في المائة من موظفي الرعاية الصحية في غزة. لا تعكس هذه الأرقام عدد الوفيات الفعلي، حيث يتم احتساب القتلى المسجلين في المشارح والمستشفيات فقط، التي لم يعد معظمها يعمل. يبلغ عدد القتلى، عندما يتم حصر المفقودين، أكثر من 40000.
يضطر الأطباء إلى بتر الأطراف دون مخدر. أولئك الذين يعانون من حالات طبية شديدة – السرطان والسكري وأمراض القلب وأمراض الكلى – ماتوا بسبب نقص العلاج أو سيموتون قريبًا. تلد أكثر من مائة امرأة كل يوم، مع القليل من الرعاية الطبية أو بدونها. ارتفعت حالات الإجهاض بنسبة 300 في المائة. يعاني أكثر من 90 في المائة من الفلسطينيين في غزة من انعدام الأمن الغذائي الشديد، حيث يأكل الناس علف الحيوانات والعشب. الأطفال يموتون من الجوع. تم تعقّبُ الكتّاب والأكاديميين والعلماء وأفراد أسرهم واغتيالهم. أصيب أكثر من 75000 فلسطيني، وسيصاب الكثير منهم بالشلل مدى الحياة.
كتبت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، في تقريرها الصادر في 25 مارس/ آذار: "كان سبعون في المائة من الوفيات المسجلة من النساء والأطفال". "فشلت إسرائيل في إثبات أن الـ 30 في المائة المتبقين، أي الذكور البالغين، كانوا مقاتلين نشطين في حماس – وهو شرط ضروري لاستهدافهم بشكل قانوني". بحلول أوائل ديسمبر/كانون الأول، ادعى مستشارو الأمن الإسرائيليون مقتل "7000 مقاوم" في مرحلة من الحملة، عندما تم تحديد أقل من 5000 ذكر بالغ في المجموع من بين الضحايا، مما يعني أن جميع الذكور البالغين الذين قتلوا كانوا "مقاومين".
تستخدم إسرائيل الحيل اللغوية لحرمان أي شخص في غزة من وضع المدنيين وأي مبنى – بما في ذلك المساجد والمستشفيات والمدارس – موضعَ الحماية. يتم وصف جميع الفلسطينيين بأنهم مسؤولون عن الهجوم الذي وقع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أو بأنهم دروع بشرية لحماس. تعتبر جميع المباني أهدافًا مشروعة من قبل إسرائيل؛ لأنها تزعم أنها مراكز قيادة حماس، أو يقال إنها تُؤوي مقاتلي حماس.
هذه الاتهامات – تقول ألبانيز – هي "ذريعة" تستخدم لتبرير "قتل المدنيين تحت عباءة من الشرعية المزعومة، التي يدل التذرع بها على نية الإبادة الجماعية".
من حيث الحجم، لم نشهد هجومًا على الفلسطينيين بهذا القدر، ولكن كل هذه التدابير – قتل المدنيين، ونزع ملكية الأراضي، والاحتجاز التعسفي، والتعذيب، والإخفاء، والإغلاق المفروض على المدن والقرى الفلسطينية، وهدم المنازل، وإلغاء تصاريح الإقامة، والترحيل، وتدمير البنية التحتية التي تحافظ على المجتمع المدني، والاحتلال العسكري، واللغة اللاإنسانية، وسرقة الموارد الطبيعية، وخاصة طبقات المياه الجوفية – حددت منذ فترة طويلة حملة إسرائيل للقضاء على الفلسطينيين.
لن يكون الاحتلال والإبادة الجماعية ممكنَين بدون الولايات المتحدة التي تمنح إسرائيل 3.8 مليارات دولار من المساعدات العسكرية السنوية، وترسل الآن 2.5 مليار دولار أخرى في شكل قنابل، بما في ذلك 1800 قنبلة MK84 2000 رطل، و500 قنبلة MK82 500 رطل، وطائرات مقاتلة إلى إسرائيل. هذه أيضًا إبادة جماعية نحن – الأميركيين – ضالعون فيها.
الإبادة الجماعية في غزة هي تتويج لعملية، فهي ليست فعلًا منفصلًا. الإبادة الجماعية هي الخاتمة التي يمكن التنبؤ بها للمشروع الاستعماري للمستوطنين الإسرائيليين. يتم سبره داخل الحمض النووي لهوية دولة الفصل العنصري الإسرائيلية. هذا هو المكان الذي كان على إسرائيل أن تنتهي فيه.
القادة الصهاينة منفتحون بشأن أهدافهمأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن غزة لن تتلقى " كهرباء أو طعامًا أو ماء أو وقودًا". قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس: "المساعدات الإنسانية لغزة؟.. لن يتم تشغيل أي مولد كهربائي، ولن يتم فتح أي صنبور للمياه".
أشار آفي ديختر، وزير الزراعة، إلى الهجوم العسكري الإسرائيلي باسم "نكبة غزة"، في إشارة إلى النكبة، أو "الكارثة"، التي طردت بين عامي 1947 و1949، 750000 فلسطيني من أرضهم، وشهدت ذبح الآلاف على يد العصابات الصهيونية. نشرت عضوة الليكود في الكنيست الإسرائيلي تالي غوتليب على حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي: "أسقط المباني!! دمر بلا تمييز!! .. تسطيح غزة. بدون رحمة! هذه المرة، لا يوجد مكان للرحمة!". أيد وزير التراث عميحاي إلياهو استخدام الأسلحة النووية في غزة باعتبارها "أحد الخيارات".
الرسالة من القيادة الإسرائيلية لا لبس فيها: إبادة الفلسطينيين.
لا يمكننا التذرع بالجهل. نحن نعرف ما حدث للفلسطينيين، ونعرف ما يحدث لهم حاليًا، وما سيحدث لهم مستقبلًا.
تقول الإبادة الجماعية، التي تمولها الولايات المتحدة وتدعمها بشحنات الأسلحة، شيئًا ليس فقط عن إسرائيل، ولكن عنا، وعن الحضارة الغربية، وعمن نحن كشعب، ومن أين جئنا وما الذي يحددنا. تقول إن كل قيمنا التي نتغنى بها واحترامنا لحقوق الإنسان كذبة. تقول إن الأشخاص الملونين، خاصة عندما يكونون فقراء وضعفاء، لا يحسبون. تقول إن آمالهم وأحلامهم وكرامتهم وتطلعاتهم إلى الحرية لا قيمة لها. تقول إننا سنضمن الهيمنة العالمية من خلال العنف العنصري.
هذه الكذبة – أن الحضارة الغربية تستند إلى "قيم" مثل احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون – انكشفت مع الفلسطينيين ولم يعد أحد يصدقها في الجنوب العالمي، وكذلك مع الأميركيين الأصليين والأميركيين السود والبنيين الذين عرفوها منذ قرون. ولكن، مع بثّ الإبادة الجماعية في غزة مباشرة، من المستحيل الحفاظ على هذه الكذبة.
نحن لا نوقف الإبادة الجماعية، لأننا مصابون بداء التفوق الأبيض، ومخمورون بسبب هيمنتنا على ثروة العالم، والقدرة على سحق الآخرين بأسلحتنا الصناعية.
يدركُ العالم خارج الحصون الصناعية في الشمال العالمي تمامًا أن مصير الفلسطينيين هو مصيرهم. نظرًا لأن تغيّر المناخ يعرض البقاء على قيد الحياة للخطر، ومع شحّ الموارد، تصبح الهجرة ضرورة حتمية للملايين، ومع انخفاض الغلة الزراعيّة، ومع غمر المناطق الساحلية، ومع انتشار الجفاف والحرائق البرية، ومع فشل الدول، ومع صعود حركات المقاومة المسلحة لمحاربة مضطهديها إلى جانب وكلائهم، فإن الإبادة الجماعية لن تكون حالة شاذة. سيكون هذا هو القاعدة. ضعفاء الأرض وفقراؤها، أولئك الذين أطلق عليهم فرانتز فانون "بائسو الأرض"، سيكونون الفلسطينيين القادمين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أکتوبر تشرین الأول الإبادة الجماعیة فی المائة من بما فی ذلک أکثر من تقول إن فی غزة
إقرأ أيضاً:
فضيحة الدرونز التي كشفت مشاركة فرنسا في إبادة غزة
في ليلة 17 يوليو/تموز 2014، كانت عائلة شحيبر التي تنحدر من غزة على موعد مع حادث أليم ومُعتاد في فلسطين المحتلة، حيث قصف جيش الاحتلال منزلهم. أما الهدف الإستراتيجي، فتمثل في قتل عدة أطفال: أفنان (8 سنوات)، ووسيم (9 سنوات)، وجهاد (10 سنوات)، الذين استُشهِدوا وهم يُطعِمون الحَمام على سطح المنزل، فيما تسبب القصف في استشهاد طفلين آخرين.
بعد القصف مباشرة، بدأت منظمتان حقوقيتان هما "الميزان" الفلسطينية و"بتسيليم" الإسرائيلية في البحث عن السبب الحقيقي وراء الاستهداف، لكنها خلصت إلى عدم وجود أي هدف عسكري في منزل شحيبر حسب ما أكدته الأمم المتحدة نفسها بعد ذلك في تقرير نشرته في يونيو/حزيران 2015.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف جندت إسرائيل باحثين من "إم آي تي" لصالح جيشها؟list 2 of 2القنابل الخمس التي تستخدمها إسرائيل في إبادة غزةend of listهناك سؤال ثانٍ كان يؤرق المحققين المستقلين حيال السلاح الذي استُخدِم في القصف، وما أثار الاهتمام في أثناء تنقيب المحققين هو أسطوانة سوداء حملت نقوشا مسحها الانفجار جزئيا وعليها كُتب "أوروفارد ـ باريس ـ فرنسا".
بسبب هذا الاكتشاف رفعت أسرة شحيبر دعوى في فرنسا ضد شركة "إكسيليا"، بسبب تواطؤها المحتمل في جريمة حرب اقترفتها إسرائيل في عملية "الجرف الصامد". تقول هذه الأسطوانة الكثير عن الدعم العسكري والتقني الفرنسي لصالح جيش الاحتلال، وأحدث فصل فيه ما كشف عنه موقع "ديسكلوز" في تحقيق يورط فرنسا في جرائم إسرائيل في حق أهل غزة أثناء حرب الإبادة الدائرة حاليا.
إعلان رمادية فرنسيةقبل انطلاق الحرب على غزة يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت فرنسا رسميا وإعلاميا أيضا تصرح بالدعم الكامل لجيش الاحتلال للرد على ما حدث في السابع من أكتوبر. لكن إسرائيل حولت هذا الزخم الغربي من التعاطف إلى الإقدام على جرائم حرب يصعب إخفاؤها.
بدأ التوجس يجد طريقه إلى أروقة الداعمين الغربيين، خصوصا مع ارتفاع الأصوات الرافضة للإبادة في الرأي العام الغربي، ومحاولاته الضغط على صناع القرار لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل.
في فرنسا، سبق أن وجَّه 115 برلمانيا في أبريل/نيسان من عام 2024 رسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطالبين إياه بإيقاف مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، لأن أي تحرك عكس ذلك يعني ضلوع باريس في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
قبل ذلك بأيام، كان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد أصدر قراره بحظر تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال، وصوَّتت 28 دولة لصالح هذا القرار، فيما اعترضت 6 دول على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا، أما فرنسا فوجدت لنفسها مكانا مريحا في المنطقة الرمادية التي جلست فيها 13 دولة من الممتنعين عن التصويت.
يتسق موقف فرنسا من هذا القرار الأممي مع موقفها العام حيال حرب غزة، وملف تزويد إسرائيل بالأسلحة، أو ببعض القطع التي تستعملها تل أبيب في صناعة أسلحتها التي توجهها في الغالب نحو الفلسطينيين العُزّل.
منذ بداية الحرب على غزة، سلكت فرنسا مسلكا يرقص على جميع الحبال، فهي لم تعلن قطع أي تعامل عسكري مع دولة الاحتلال، لكنها في الوقت نفسه نزلت بهذا التعاون إلى أقل درجة ممكنة، بحيث تحافظ على خيط رفيع يربطها بتل أبيب، مع بذل كل الجهد المطلوب للمحافظة على هذا الخيط من الانقطاع.
موضوعيا، لا تُمثِّل تجارة الأسلحة بين فرنسا وإسرائيل إلا 0.2% فقط من 27 مليار يورو من صادرات باريس إلى دول العالم التي يمكنها استعمالها عسكريا أو في مجالات تقنية أخرى وتكون غالبا مجرد قطع غيار، حسب تصريح سيباستيان ليكورنو، وزير القوات المسلحة الفرنسي.
إعلانلا تمانع فرنسا من تبادل المساعدة مع الإسرائيليين فيما يخص بيع الأسلحة، لكن المساعدة تخضع لحسابات أخرى أفصحت عنها مصادر لصحيفة "لوموند" أثناء التحقيق الذي نشرته الجريدة الفرنسية عام 2021 حول برنامج "بيغاسوس" للتجسُّس، حيث يقول المصدر: "نحن قريبون من الإسرائيليين بمسافة تسمح لنا أن نعرف ماذا يفعلون، لكن في الوقت ذاته، لدى فرنسا رغبة واضحة في عدم مساعدة إسرائيل في أي عمليات تقوم بها في غزة، لذلك لا نريد أخذ أي مجازفة في إرسال بعض الأسلحة التي قد تُستعمل في ذلك".
أسلحة فرنسا.. للدفاع فقطفي تقرير لها في 28 أبريل/نيسان الماضي، أفادت صحيفة "لوموند" أن فرنسا حتى قبيل الحرب الأخيرة على غزة كانت تزود إسرائيل بقطع ضرورية لصنع القذائف المدفعية، لكن في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قررت باريس وقف العقود الخاصة بهذه القطع.
وتشير تقارير البرلمان الفرنسي الصادرة عام 2023 إلى أن فرنسا أرسلت إلى إسرائيل عددا من المعدات الخاصة بتدريع السيارات والمراقبة عبر الأقمار الصناعية.
بعيدا عن المعلومات التي جاءت في وسائل الإعلام الفرنسية، ثمَّة أخبار أخرى أكثر لفتًا للأنظار، منها التحقيق الاستقصائي الذي نشره موقع "ديسكلوز" الفرنسي في مارس/آذار 2024، وقال إن باريس سمحت في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023 بإرسال شحنة تضم ما لا يقل عن 100 ألف خرطوشة (ما يغلّف الطلقة)، انطلقت من مرسيليا عبر شركة "أورولينكس" الفرنسية المتخصصة في صناعة المُعدات العسكرية.
يشير التحقيق إلى أن حجم الشحنة وصل إلى 800 كيلوغرام من الذخائر أُرسِلَت إلى شركة "آي إم آي سيستمز" الإسرائيلية، المُزوِّد الحصري للجيش الإسرائيلي لهذا النوع من الذخائر، ويتعارض هذا التمويل المباشر مع تأكيد باريس عبر قياداتها السياسية أن الأسلحة والمعدات الدفاعية فقط هي ما تصل إلى تل أبيب.
إعلان فضيحة المُسيَّراتمع جولة خفيفة في مواقع التواصل الاجتماعي للعالقين في غزة، نجد أن صوت الخلفية المشترك بين الفيديوهات يغلب عليه ضجيج الطائرات المُسيَّرة، أو ما ُسميه أهل غزة بـ "الزنّانات".
شكَّلت حرب غزة فرصة لإسرائيل لتفعيل الكتيبة 166 التي تحمل اسم "سرب الطيور النارية"، بحسب ما نشر موقع "إسرائيل ديفِنس"، والهدف من هذه الطائرات هو مراقبة غزة، ثم تنفيذ الضربات. وضمن هذا السرب هناك الطائرة "هيرميس 900" التي يصل طولها إلى نحو 15 مترا، وهي قادرة على الطيران لمدة 30 ساعة متواصلة، وعلى ارتفاع 9000 متر.
لا يحتاج الضباط الذين يوجِّهون هذه الطائرات إلا إلى غرفة تحكم تبعد مئات الكيلومترات عن مسرح العمليات، ثم تنفيذ الضربات مستفيدين من الدقة الكبيرة التي توفرها هذه الطائرات الحديثة، حيث بإمكانها مثلا الإجهاز على سائق سيارة على بُعد 5 أو 10 أمتار دون إصابة أي راكب آخر في السيارة نفسها، رغم أن الاستعمال الإسرائيلي لهذه الأسلحة لا يهتم كثيرا بالقتلى المدنيين.
في تحقيق جديد حول صفقات السلاح بين فرنسا وإسرائيل، نشر موقع التحقيقات الفرنسي "ديسكلوز" وثائق تُثبت تورط شركة "تاليس" الفرنسية، التي تمتلك الدولة 26% من أسهمها، في تسليم إسرائيل مجموعة معدات إلكترونية تساعد في جمع قطع طائرة "هيرميس 900″، من بينها قطعة "TSC 4000 IFF"، وهي تساعد هذه المُسيَّرات على تجنُّب الصواريخ والمُسيَّرات "الصديقة" التي قد تعترض طريقها، حتى لا تسقط الصواريخ الموجهة نحو الفلسطينيين على الإسرائيليين أنفسهم.
يشير التحقيق إلى أن 8 قطع من هذه الأجهزة أُرسِلَت فعلا إلى إسرائيل بين ديسمبر/كانون الأول 2023 ومايو/أيار 2024، أي بعد أشهر من انطلاق العمليات الإسرائيلية في غزة.
ويسلط التحقيق الضوء على إشكالية مراقبة العقود السرية التي تعقدها الجهات العليا الفرنسية مع بعض الدول ومن بينها إسرائيل، وذلك رغم خروج وزير الدفاع الفرنسي يوم 20 فبراير/شباط 2024 أمام البرلمان مؤكدا أن جميع القطع التي تُرسَل إلى إسرائيل عبارة عن معدات يُتأكَّد من نوع الآليات التي تُستَعمل فيها.
إعلانيعود هذا التعاقد السري بين فرنسا وإسرائيل إلى 2 مارس/آذار 2023، حين اشترت شركة "إيلبيت سيستيمز" الإسرائيلية المصنعة لطائرات "هيرميس 900" ثماني قطع إلكترونية بمبلغ 55 ألف يورو للقطعة الواحدة من جهات فرنسية (440 ألف يورو إجمالا). وصل الطلب بعد أسابيع من انطلاق الرد الناري على هجمات 7 أكتوبر، في الوقت الذي كانت تحذر فيه الأمم المتحدة من أن النيران الإسرائيلية غالبا ما تطول النساء والأطفال الرضع.
ورغم ذلك، يقول موقع "ديسكلوز" إن وزارة الدفاع الفرنسية لم تحترم الاتفاقيات التي وقَّعت عليها بعدم بيع أسلحة لجهات تستهدف المدنيين، بل واصلت دعم تحركات حكومة نتنياهو في تدمير قطاع غزة.
كانت فرنسا قد واجهت في وقت سابق دعوة من 11 منظمة حقوقية تتزعمها منظمة العفو الدولية "أمنستي" بسبب إرسالها أسلحة إلى تل أبيب، مع العلم أن الأخيرة لا تجرب أسلحتها ولا الأسلحة التي تحصل عليها من حلفائها إلا في مواجهة الفلسطينيين.
سكوربيونتجمع فرنسا وإسرائيل علاقة تسليح وتكنولوجيا وطيدة، ويكشف تحقيق مهم لموقع "أوريان 21" عن العلاقة بين جيش الاحتلال وجهاز الدفاع الفرنسي، وعن الغموض الكبير الذي يكتنف هذه العلاقة، التي تشهد تعاونا بين الفرنسيين والإسرائيليين على حروب المستقبل التي سيكون أبطالها الروبوتات والطائرات المُسيَّرة.
تمتاز العلاقات بين فرنسا وإسرائيل بنوع من الودية، وإن كانت قد تعكرت في الفترة الأخيرة، بيد أن الأمر ليس بذلك الوضوح أو الشفافية فيما يتعلق بالجانب العسكري، لأن العلاقة تتأرجح بين الود والمنافسة، بل تصل أحيانا إلى الاختراق. لا يحب الفرنسيون الطريقة التي يتعامل بها الإسرائيليون في مجال الصناعات العسكرية، فهم يكسرون الأثمان بهدف الاستيلاء على أسواق السلاح.
وليس هذا فحسب، بل أصبح جيش الاحتلال منذ سنوات يتوجه إلى أهم الأسواق التقليدية التي كانت فرنسا تتمتع بالأفضلية المطلقة فيها لينافسها هناك، وهي سوق أفريقيا.
إعلانمنذ اتفاق أوسلو، استثمرت إسرائيل كثيرا في القارة السمراء، خصوصا في مجال حماية الأنظمة القائمة. وفي السياق نفسه، حافظ الإسرائيليون رغم ذلك على نوع من التعاون مع الفرنسيين كما حدث في الكاميرون، حيث دعموا الجيش الكاميروني للقتال ضد جماعة "بوكو حرام"، وأقدم مرتزقة إسرائيليون على تأطير كتيبة التدخل السريع، التي تعمل تحت قيادة الرئاسة مباشرة، وجهز الإسرائيليون كتيبة التدخل السريع ببنادق كانت حتى الأمس القريب لا تأتي إلا من الصناعة الفرنسية.
تجاوز تأثير السلاح الإسرائيلي رعايا فرنسا السابقين من الأفارقة إلى فرنسا نفسها. وصحيح أن جيش الاحتلال منذ بدء عدوانه الغاشم على غزة قد استعان بكل مَن له إبرة يمكنها أن تغطي حاجتها العسكرية لإبادة غزة وسكانها، إلا أن الإسرائيليين في الظروف العادية يؤثّرون بالفعل في مجال التسليح والدفاع الفرنسي، مع أن العكس ليس صحيحا بالضرورة.
ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت فرنسا هي التي تبيع الأسلحة لجيش الاحتلال، أما اليوم، فأضحت تل أبيب تبيع لباريس، إذ استوردت فرنسا أنظمة المراقبة الإلكترونية والمُسيَّرات، وحتى الجنود الآليين. ولا يُخفي الفرنسيون انبهارهم بالتكنولوجيا الإسرائيلية، وبالقليل من البحث، يمكننا الوصول إلى بعض نتائج هذا التعاون الخفي، أما الفاكهة المسمومة الأكثر نضجا هي "برنامج سكوربيون".
لا يعلم الفرنسيون الكثير عن برنامج خفي يسمى "تآزر الاتصال المعزز بتعدد الاستخدامات وتثمين المعلومات"، المعروف اختصارا بـ"سكوربيون"، وهو برنامج "ذكي" سيدخل في قلب إستراتيجية القوات البرية الفرنسية للعقدين المقبلين.
أهم نقطة في برنامج "سكوربيون" هي تطوير قيادة رقمية واحدة تعتمد على وصلة مشتركة، تسمح للجنود المختلفين والأدوات العسكرية المنتشرة، وبالخصوص المُسيَّرات والروبوتات، بالاتصال في وقت واحد لاستباق أي ردود فعل يقوم بها العدو المفترض.
إعلانلذا، سيتمكن الجندي الفرنسي من الحصول على جميع هذه المعلومات عبر مواقع "جي بي إس" خاصة بالبرنامج، الذي عملت عليه شركة "إلبيت" الإسرائيلية، من أجل حرب "بدون ضوضاء"، وبحيث يُتيح هذا النظام الاستباقي لفرنسا أن تتجنَّب مقتل العديد من جنودها عبر قراءة التحركات الاستباقية لعدوها.
عمل جيش الاحتلال على تطوير تقنياته عبر تجريبها في غزة وفوق جثث أهلها، ولذلك تمكن من التقدم في نقاط ثلاث: أولها محو أصوات محركات المُسيَّرات، وثانيها تصغير حجمها وتطويرها بحيث يماثل حجمها حجم الحشرات، وأخيرا القضاء على أي آثار رقمية لها مع تحديد إشارات العدو.
كل هذا وأكثر يوجد في برنامج "سكوربيون" الذي لا تقتصر أهميته في الصناعة الفرنسية على الاستخدام، بل تتجاوزه إلى التصدير، حيث أبدت بعض الدول، ومنها دول عربية، حماسها الشديد للحصول عليه، وهو برنامج وصل بالطبع، قبل كل هؤلاء المشترين، إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وبذلك يبدو الموقف "المحايد" الذي تحاول القيادة السياسية في فرنسا اتخاذه من حرب الإبادة الحالية، موقفا لا تعضده مواقف الجانب العسكري، الذي بات بصورة أو بأخرى جزءا من هذه الحرب، وجزءا من آلة القتل التي تحرق وتدمر يوميا كل ما تطاله دون رادع.