الجزيرة:
2025-03-03@16:30:39 GMT

إبادة جماعية تم التنبّؤ بوقوعها

تاريخ النشر: 7th, June 2024 GMT

إبادة جماعية تم التنبّؤ بوقوعها

الإبادة الجماعية في غزة هي المرحلة النهائية من عملية بدأتها إسرائيل قبل عقود. أي شخص لم يتوقع أن هذا قادمٌ فقد أعمى بصرَه عن طبيعة دولة الفصل العنصري وأهدافها النهائية.

لكن من الأسهل التظاهر: التظاهر بأن إسرائيل ستسمح بدخول المساعدات الإنسانية، وأنه سيكون هناك وقف لإطلاق النار، وأن الفلسطينيين سيعودون إلى منازلهم المدمرة في غزة، والتظاهر بإعادة بناء غزة، وأن السلطة الفلسطينية ستدير غزة، وأنه سيكون هناك حلُّ الدولتين، والتظاهر بعدم وجود إبادة جماعية.

لا توجد مفاجآت في غزة. لقد تم التنبّؤ بكل عمل مروع من أعمال الإبادة الجماعية الإسرائيلية مقدمًا منذ عقود. إن تجريد الفلسطينيين من أراضيهم هو القلب النابض للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. كان لهذا التجريد لحظات تاريخية دراماتيكية – 1948 و1967 – عندما تم الاستيلاء على أجزاء واسعة من فلسطين التاريخية، وتم ممارسة التطهير ضد مئات الآلاف من الفلسطينيين عرقيًا. كما حدث نزع الملكية وسرقة الأراضي ببطء، وكذلك التطهير العرقي المستمر في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

أعطى التوغل في 7 أكتوبر/تشرين الأول في إسرائيل من قبل حماس، وجماعات المقاومة الأخرى – والذي أسفر عن مقتل 1154 شخصًا في إسرائيل، وشهد أسْر حوالي 240 شخصًا كرهائن – إسرائيلَ ذريعة لما كانت تتوق إليه منذ فترة طويلة: المحو الكامل للفلسطينيين.

دمرت إسرائيل 77 في المائة من مرافق الرعاية الصحية في غزة، و68 في المائة من البنية التحتية للاتصالات، وجميع المباني البلدية والحكومية تقريبًا، والمراكز التجارية والصناعية والزراعية، وما يقرب من نصف جميع الطرق، وأكثر من 60 في المائة من 439000 منزل في غزة، و68 في المائة من المباني السكنية، وتم قصف برج التاج في مدينة غزة في 25 أكتوبر/تشرين الأول، مما أسفر عن مقتل 101 شخص، من بينهم 44 طفلًا، و37 امرأة، وإصابة المئات، كما جرى تدمير مخيمات اللاجئين.

أسفر الهجوم على مخيم جباليا للاجئين في 25 أكتوبر/تشرين الأول عن مقتل ما لا يقل عن 126 مدنيًا، من بينهم 69 طفلًا، وإصابة 280. كما ألحقت إسرائيل أضرارًا أو دمرت جامعات غزة، وكلها مغلقة الآن، و60 في المائة من المرافق التعليمية الأخرى، بما في ذلك 13 مكتبة. كما دمرت ما لا يقل عن 195 موقعًا تراثيًا، بما في ذلك 208 مساجد وكنائس ومحفوظات غزة المركزية، التي تحتوي على 150 عامًا من السجلات والوثائق التاريخية.

الطائرات الحربية الإسرائيلية والصواريخ والطائرات بدون طيار والدبابات وقذائف المدفعية والمدافع البحرية الإسرائيلية تسحق غزة يوميًا – التي يبلغ طولها 20 ميلًا فقط وعرضها خمسة أميال – في حملة الأرض المحروقة التي لا مثيل لها منذ الحرب في فيتنام. لقد أسقطت 25000 طن من المتفجرات – أي ما يعادل قنبلتين نوويتين – على غزة، والعديد من الأهداف التي اختارها الذكاء الاصطناعي.

يسقط الجيش الإسرائيلي ذخائر غير موجهة "قنابل غبية" وقنابل مضادة للتحصينات بوزن 2000 رطل على مخيمات اللاجئين والمراكز الحضرية المكتظة، وكذلك ما يسمى "المناطق الآمنة"، 42 في المائة من الفلسطينيين الذين قتلوا كانوا في هذه "المناطق الآمنة"، حيث أمرتهم إسرائيل بالفرار. نزح أكثر من 1.7 مليون فلسطيني من منازلهم، وأجبروا على إيجاد مأوى في ملاجئ الأونروا المكتظة وممرات المستشفيات والساحات والمدارس والخيام، أو الهواء الطلق في جنوب غزة، وغالبًا ما يعيشون بجوار برك نتنة من مياه الصرف الصحي.

قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 35 ألف فلسطيني في غزة، بما في ذلك 13000 طفل، و9000 امرأة. هذا يعني أن إسرائيل تذبح ما يصل إلى 187  شخصًا يوميًا، بمن في ذلك 75 طفلًا. لقد قُتل 140 صحفيًا، استُهدف العديد منهم، إن لم يكن معظمهم، عمدًا. قتل 340  طبيبًا وممرضًا وغيرهم من العاملين الصحيين – أربعة في المائة من موظفي الرعاية الصحية في غزة. لا تعكس هذه الأرقام عدد الوفيات الفعلي، حيث يتم احتساب القتلى المسجلين في المشارح والمستشفيات فقط، التي لم يعد معظمها يعمل. يبلغ عدد القتلى، عندما يتم حصر المفقودين، أكثر من 40000.

يضطر الأطباء إلى بتر الأطراف دون مخدر. أولئك الذين يعانون من حالات طبية شديدة – السرطان والسكري وأمراض القلب وأمراض الكلى – ماتوا بسبب نقص العلاج أو سيموتون قريبًا. تلد أكثر من مائة امرأة كل يوم، مع القليل من الرعاية الطبية أو بدونها. ارتفعت حالات الإجهاض بنسبة 300 في المائة. يعاني أكثر من 90 في المائة من الفلسطينيين في غزة من انعدام الأمن الغذائي الشديد، حيث يأكل الناس علف الحيوانات والعشب. الأطفال يموتون من الجوع. تم تعقّبُ الكتّاب والأكاديميين والعلماء وأفراد أسرهم واغتيالهم. أصيب أكثر من 75000 فلسطيني، وسيصاب الكثير منهم بالشلل مدى الحياة.

كتبت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، في تقريرها الصادر في 25 مارس/ آذار:  "كان سبعون في المائة من الوفيات المسجلة من النساء والأطفال". "فشلت إسرائيل في إثبات أن الـ 30 في المائة المتبقين، أي الذكور البالغين، كانوا مقاتلين نشطين في حماس – وهو شرط ضروري لاستهدافهم بشكل قانوني".  بحلول أوائل ديسمبر/كانون الأول، ادعى مستشارو الأمن الإسرائيليون مقتل "7000 مقاوم"  في مرحلة من الحملة، عندما تم تحديد أقل من 5000 ذكر بالغ في المجموع من بين الضحايا، مما يعني أن جميع الذكور البالغين الذين قتلوا كانوا "مقاومين".

تستخدم إسرائيل الحيل اللغوية لحرمان أي شخص في غزة من وضع المدنيين وأي مبنى – بما في ذلك المساجد والمستشفيات والمدارس – موضعَ الحماية. يتم وصف جميع الفلسطينيين بأنهم مسؤولون عن الهجوم الذي وقع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أو بأنهم دروع بشرية لحماس. تعتبر جميع المباني أهدافًا مشروعة من قبل إسرائيل؛ لأنها تزعم أنها مراكز قيادة حماس، أو يقال إنها تُؤوي مقاتلي حماس.

هذه الاتهامات – تقول ألبانيز – هي "ذريعة"  تستخدم لتبرير "قتل المدنيين تحت عباءة من الشرعية المزعومة، التي يدل التذرع بها على نية الإبادة الجماعية".

من حيث الحجم، لم نشهد هجومًا على الفلسطينيين بهذا القدر، ولكن كل هذه التدابير – قتل المدنيين، ونزع ملكية الأراضي، والاحتجاز التعسفي، والتعذيب، والإخفاء، والإغلاق المفروض على المدن والقرى الفلسطينية، وهدم المنازل، وإلغاء تصاريح الإقامة، والترحيل، وتدمير البنية التحتية التي تحافظ على المجتمع المدني، والاحتلال العسكري، واللغة اللاإنسانية، وسرقة الموارد الطبيعية، وخاصة طبقات المياه الجوفية – حددت منذ فترة طويلة حملة إسرائيل للقضاء على الفلسطينيين.

لن يكون الاحتلال والإبادة الجماعية ممكنَين بدون الولايات المتحدة التي تمنح إسرائيل 3.8 مليارات دولار من المساعدات العسكرية السنوية، وترسل الآن 2.5 مليار دولار أخرى في شكل قنابل، بما في ذلك 1800 قنبلة MK84 2000  رطل، و500 قنبلة MK82 500 رطل، وطائرات مقاتلة إلى إسرائيل. هذه أيضًا إبادة جماعية نحن – الأميركيين – ضالعون فيها.

الإبادة الجماعية في غزة هي تتويج لعملية، فهي ليست فعلًا منفصلًا. الإبادة الجماعية هي الخاتمة التي يمكن التنبؤ بها للمشروع الاستعماري للمستوطنين الإسرائيليين. يتم سبره داخل الحمض النووي لهوية دولة الفصل العنصري الإسرائيلية. هذا هو المكان الذي كان على إسرائيل أن تنتهي فيه.

القادة الصهاينة منفتحون بشأن أهدافهم

أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن غزة لن تتلقى " كهرباء أو طعامًا أو ماء أو وقودًا". قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس: "المساعدات الإنسانية لغزة؟.. لن يتم تشغيل أي مولد كهربائي، ولن يتم فتح أي صنبور للمياه".

أشار آفي ديختر، وزير الزراعة، إلى الهجوم العسكري الإسرائيلي باسم "نكبة غزة"، في إشارة إلى النكبة، أو "الكارثة"، التي طردت بين عامي 1947 و1949، 750000 فلسطيني من أرضهم، وشهدت ذبح الآلاف على يد العصابات الصهيونية. نشرت عضوة الليكود في الكنيست الإسرائيلي تالي غوتليب على حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي: "أسقط المباني!! دمر بلا تمييز!! .. تسطيح غزة. بدون رحمة! هذه المرة، لا يوجد مكان للرحمة!". أيد وزير التراث عميحاي إلياهو استخدام الأسلحة النووية في غزة باعتبارها "أحد الخيارات".

الرسالة من القيادة الإسرائيلية لا لبس فيها: إبادة الفلسطينيين.

لا يمكننا التذرع بالجهل. نحن نعرف ما حدث للفلسطينيين، ونعرف ما يحدث لهم حاليًا، وما سيحدث لهم مستقبلًا.

تقول الإبادة الجماعية، التي تمولها الولايات المتحدة وتدعمها بشحنات الأسلحة، شيئًا ليس فقط عن إسرائيل، ولكن عنا، وعن الحضارة الغربية، وعمن نحن كشعب، ومن أين جئنا وما الذي يحددنا. تقول إن كل قيمنا التي نتغنى بها واحترامنا لحقوق الإنسان كذبة. تقول إن الأشخاص الملونين، خاصة عندما يكونون فقراء وضعفاء، لا يحسبون. تقول إن آمالهم وأحلامهم وكرامتهم وتطلعاتهم إلى الحرية لا قيمة لها. تقول إننا سنضمن الهيمنة العالمية من خلال العنف العنصري.

هذه الكذبة – أن الحضارة الغربية تستند إلى "قيم" مثل احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون – انكشفت مع الفلسطينيين ولم يعد أحد يصدقها في الجنوب العالمي، وكذلك مع الأميركيين الأصليين والأميركيين السود والبنيين الذين عرفوها منذ قرون. ولكن، مع بثّ الإبادة الجماعية في غزة مباشرة، من المستحيل الحفاظ على هذه الكذبة.

نحن لا نوقف الإبادة الجماعية، لأننا مصابون بداء التفوق الأبيض، ومخمورون بسبب هيمنتنا على ثروة العالم، والقدرة على سحق الآخرين بأسلحتنا الصناعية.

يدركُ العالم خارج الحصون الصناعية في الشمال العالمي تمامًا أن مصير الفلسطينيين هو مصيرهم. نظرًا لأن تغيّر المناخ يعرض البقاء على قيد الحياة للخطر، ومع شحّ الموارد، تصبح الهجرة ضرورة حتمية للملايين، ومع انخفاض الغلة الزراعيّة، ومع غمر المناطق الساحلية، ومع انتشار الجفاف والحرائق البرية، ومع فشل الدول، ومع صعود حركات المقاومة المسلحة لمحاربة مضطهديها إلى جانب وكلائهم، فإن الإبادة الجماعية لن تكون حالة شاذة. سيكون هذا هو القاعدة. ضعفاء الأرض وفقراؤها، أولئك الذين أطلق عليهم فرانتز فانون "بائسو الأرض"، سيكونون الفلسطينيين القادمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات أکتوبر تشرین الأول الإبادة الجماعیة فی المائة من بما فی ذلک أکثر من تقول إن فی غزة

إقرأ أيضاً:

تهجير الفلسطينيين من غزة جريمة طبقتها إسرائيل قبل أن ينظّر لها ترامب.. كتاب جديد

الكتاب: التهجير القسري الإسرائيلي للفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 (قطاع غزة دراسة حالة)
الكاتبان: إلهام جبر شمالي  وإبراهيم أكرم حمد
الناشر: مركز فينيق للأبحاث والدراسات الحقلية فينيق غزة ـ فلسطين 2025
عدد الصفحات: 340 صفحة

ـ 1 ـ


يعدّ الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين من أسوأ أنواع الاستعمار. فليس هو توسعا لدولة على حساب أخرى، تعود إثره وبعد انتزاع الدولة المستعمرة لحق تقرير المصير إلى مساحتها الأصلية. وإنما انتزاع للأرض من أهلها وإحداث لكيان جديد مستمد من الأساطير تحت عنوان إيجاد وطن قومي لليهود الذين يعيشون في الشتات وإحلال لشعب مكان آخر. فيُجلب المهاجرون اليهود من كل أصقاع العالم مقابل طرد السكان الأصليين الفلسطينيين ليعيشوا تغريبتهم في الشتات عبر سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفرض التهجير القسري. وقبل قيام هذا الكيان الغاصب تولت عصابات يهودية  كبالماخ و الهجاناه كإرجون وبيتار وشتيرن وبلماح والمستعربين، بتواطؤ من الاحتلال البريطاني، تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين لصالح إنشاء مستوطنات يهودية، وإحداث تغييرات ديموغرافية وجغرافية تعزز سيطرتها على الأرض.

التهجير أسلوب متأصل في السياسة الإسرائيلية لجأت إليه حكوماتها المختلفة بطرق متعدّدة. وهذا بديهي. فبواعثه قائمة في جذور الفكر الصهيوني الذي يبني تصوره للذات اليهودية انطلاقا من النظرة الدونية للآخر التي تتضمنها عقيدة الأغيار أو غير اليهود والتي تبيح أغلب مذاهبها قتلهم واستباحة أعراضهم وممتلكاتهم.يحلّل الكتاب "التهجير القسري الإسرائيلي للفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 (قطاع غزة دراسة حالة)" للباحثين إلهام جبر شمالي وإبراهيم أكرم حمد السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالتهجير القسري للفلسطينيين. فيوضّح الأبعاد التاريخية والقانونية لممارسات التهجير. ويبحث في التداعيات السياسية والقانونية لهذه السياسات على حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير. ويتتبع جذور حركة التهجير القسري، عبر المراحل الزمنية المختلفة معولا على منهج وصفيٍ تحليليٍ ، يعرض اللوائح والقوانين الإسرائيلية المتعلقة بالتهجير و آثارها متخذا من التهجير القسري في قطاع غزة أنموذجا ليكشف كيفية تنفيذ إسرائيل لسياساتها بما في ذلك أفعال الإبادة الجماعية التي تصاعدت منذ السابع من أكتوبر 2023.

ـ 2 ـ

يحاول البحثان التبسط في عرض مفهوم التهجير القسري عبر تعامل المجتمع الدولي والمؤسسات القانونية معه في الأطوار المختلفة. فقد ظهر مفهوم "الجرائم ضد الإنسانية" بنهاية الحرب العالمية الثانية وأشير إلى التهجير  باعتباره أحد الأفعال المشكلة له. ثم جرى استعماله بعدئذ من قبل المحكمة الجنائية لنورمبرغ التي نشأتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة كبار مسؤولي ألمانيا النازية. فأشار نظامها إلى مجموعة من الأفعال التي تصنّف ضمن الجرائم ضد الإنسانية. فعدّ النفي والترحيل، عملين غير إنسانيين. وأسس لفكرة تجريم عمليات نقل السكان المدنيين من مناطق سكناهم بصورة غير مشروعة وقسرية وترحيلهم، لكنه لم يقدّم تعريفا للنفي والإبعاد، وإنما اقتصر على ذكره بما هو عمل إجرامي ضد الإنسانية.  ثم جاء نظام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة عام 1993 ليبلور قواعد القانون الدولي الجنائي ومنه تجريم التهجير القسري وحظر إبعاد المدنيين، وعدّه أحد أخطر جرائم العصر.

ـ 3 ـ

على مستوى لوائح الأمم المتحدة وضمن ما يُعهد لها من ضبط للقواعد القانونية الدولية تمت المصادقة على اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949 من قبل المؤتمر الدبلوماسي لوضع اتفاقيات دولية لحماية ضحايا الحروب. وتعدّ، بمعية البروتوكولين الإضافيين الملحق بها، النواة الأولى الحقيقية لتجريم التهجير القسري للمدنيين خلال النزاعات المسلحة. فقد جاء في مادتها 49 [يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه] ثم [ لا يجوز لدولة الاحتلال أن تحجز الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب، إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية]. ثمّ [لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها].

وانطلاقا من هذه النصوص المختلفة يحاول الباحثان تجاوز الفراغ المفهومي وصياغة مفهوم دقيق للتهجير القسري للمدنيين. فيعرفانه بكونه ممارسة مرتبطة بالتطهير وبإجراءات تعسفية قهرية تقوم به حكومات أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعة عرقية أو دينية معينة، وأحيانًا ضد مجموعات عديدة بهدف إخلاء أراض معينة لنخبة بديلة، أو فئة معينة، وهو ما سارت عليه المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية. ويؤكدان اندراج مثل هذه الأعمال ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية.

ـ 4 ـ

اتخذ التهجير القسري في قطاع غزة ما بعد طوفان الأقصى مظاهر كثيرة. أولها إعادة احتلال القطاع وجعله تحت القصف المكثف الذي كان يتم تحت عنوان ملاحقة المقاومة بينما كان في حقيقة الأمر تدميرا ممنهجا لكل مكونات البنية التحتية ومقومات  للحياة المدنية والخدمات الأساسية بما في ذلك الطرقات والمدارس والأسواق والمستشفيات وقوارب الصيد بحيث أضحى ما يزيد عن ثمانين بالمائة من المباني غير صالح للسكن. واستهدف الصحفيين والطواقم الطبية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" بشكل مكثّف لإرهاب موظفيها. وكان الهدف غير المعلن هو إبادة أكبر قدر من الغزاويين وإرغام من يبقى منهم حيا على ترك أرضه. فيكون التغيير الديموغرافي الناجم عن التهجير القسري في قطاع خطوة نحو تهويد الأرض وتصفية القضية الفلسطينية..

والتهجير أسلوب متأصل في السياسة الإسرائيلية لجأت إليه حكوماتها المختلفة بطرق متعدّدة. وهذا بديهي. فبواعثه قائمة في جذور الفكر الصهيوني الذي يبني تصوره للذات اليهودية انطلاقا من النظرة الدونية للآخر التي تتضمنها عقيدة الأغيار  أو غير اليهود والتي تبيح أغلب مذاهبها قتلهم واستباحة أعراضهم وممتلكاتهم. ثم جاءت المرحلة الاستعمارية التي تميّزت بروز فكرة الأنا الناشئة عن النزعات القومية التي ظهرت في الدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. فقد أذكت المنافسة الصناعية بينها استعمار الدول بحثا عن المواد الأولية. ولمنح نهب ثروات الشعوب بعدا إنسانيا نبيلا تم تطويع الدين وتصوير الحركة الاستعمارية باعتبارها حماية للدول وجلبا للحضارة لها.

واستغلت الصهيونية هذا السياق لعقد صفقة مع الأوروبيين مدارها على ترك اليهود لأوروبا المنزعجة باستمرار من وجودهم فيها وسيطرتهم على محركات الاقتصاد هناك مقابل حصولهم على فلسطين باعتبارها "وطنا قوميا" لهم. وشرعت في تزييف الحقائق بالاستناد إلى ذرائع دينية وتاريخية لا صلة لها بالواقع واستدعت مقولات تزعمها المعتقدات اليهودية كالأرض الموعودة، وجبل صهيون، وشعب الله المختار. وأشاعت شعار [أرض بلا شعب لشعب بلا أرض]. وأسست إستراتيجيتها كلّها على فكرة نفي الفلسطيني وإلغاء وجوده من أرضه.

ـ 5 ـ

يسهم استمرار العدوان الإسرائيلي ـ منذ 7 أكتوبر 2023 ـ في تعميق معاناة الشعب الفلسطيني. ولئن مثل عدوانها في الماضي عملا على تفكيك وحدة الفلسطينيين المادية والجغرافية للأراضي فإن عدوان مرحلة ما بعد طوفان الأقصى اتخذ في غزة شكلا جديدا. فبدا جليا أن إسرائيل لا ترمي إلى ملاحقة عناصر حماس أو استرجاع الرهائن بقدر ما تتخذ من حربها تعلة للتسريع من تهجير الفلسطينيين قسريا وتطهير غزة عرقيا، بحيث لا تجعل سلطة حماس عاجزة عن ممارسة السيادة الفعلية على أراضي القطاع وعلى موارده الطبيعية فحسب وإنما تجعل الحياة نفسها غير قابلة للاستمرار. وهذا من شأنه أن يدفع السكان إلى النزوح القسري ويمثل أخطر تهديد وجودي للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.

ورغم المفارقة بين تجريم التهجير القسري والوقع على الأرض يواجه الفلسطينيون تحديات قانونية وسياسية معقدة تؤثر في تحقيق العدالة الدولية، يردها الباحثان إلى كون الاعتراف الأممي بفلسطين باعتبارها دولة قائمة الذات لا يزال غير كاف لتحقيق السيادة الفعلية في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وإلى التفاعلات الإقليمية والدولية التي أصبحت تدفع الحكام إلى أن يتغاضوا عن الانتهاكات الإسرائيلية خدمة لمصالحهم ولبقائهم في الحكم المرتبط إلى حدّ كبير بالولاء إلى اللوبي الصهيوني صاحب النفوذ العالمي.

أضف إلى ذلك تصاعد نفوذ اليمين الإسرائيلي واختفاء الأصوات الداعية للسلام مع الفلسطينيين والانقسام الداخلي الفلسطيني الذي بات يهدد المشروع الوطني الفلسطيني أو انتخاب دونالد ترامب ـ رئيس الولايات المتحدة سابقا ـ لفترة جديدة الذي يمثل تحديا كبيرا للقضية الفلسطينية بسبب سياساته الداعمة لإسرائيل.

بدا جليا أن إسرائيل لا ترمي إلى ملاحقة عناصر حماس أو استرجاع الرهائن بقدر ما تتخذ من حربها تعلة للتسريع من تهجير الفلسطينيين قسريا وتطهير غزة عرقيا، بحيث لا تجعل سلطة حماس عاجزة عن ممارسة السيادة الفعلية على أراضي القطاع وعلى موارده الطبيعية فحسب وإنما تجعل الحياة نفسها غير قابلة للاستمرار.ورغم التحديات الكثيرة شأن بقاء الاحتلال جاثمًا على أرض القطاع وتدميره لمقومات البقاء فيه وقضائه على الأساسيات الحيوية فيه وتوسيعه للمنطقة العازلة باقتطاع شريط أمني من أراضي القطاع لصالح تحقيق أمن مستوطنات الغلاف، يعوّل الباحثان على الموقف المصري الرافض لعملية التهجير ونشره لجيشه على الحدود مع فلسطين، والرفض الأردني الصريح لأي ضغوط خارجية. ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ الكتاب نشر قبل تصريح ترامب بسعيه إلى تهجير الغزاويين خارج القطاع والسيطرة عليه عسكريا و أحدث من تفاعلات.

ـ 6 ـ

ينتهي الباحثان إلى اقتراح جملة من التوصيات لمواجهة خطر التهجير القسري ودعم المبادرات الدولية والإقليمية للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية الفلسطينية. فعلى المستوى الاجتماعي يؤكدان ضرورة إعادة إحياء المقاومة المجتمعية، وذلك عبر دعم المبادرات التي تسعى إلى الحفاظ على بقاء الفلسطينيين في أراضيهم، وتعزيز الوعي داخل المجتمع الفلسطيني حول أهمية مقاومة التهجير والتمسك بالأرض.

ولا يتسنى ذلك إلاّ بتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع ووضع الخطط لإعادة النازحين إلى أراضيهم الأصلية، واستعادة الكثافة السكانية في المناطق المتضررة. ويدعوان، على المستوى السياسي والدبلوماسي إلى تعزيز العمل لإعادة تفعيل القضية الفلسطينية وجعلها أولوية على أجندة المجتمع الدولي والتركيز على بناء تحالفات إقليمية ودولية لدعم الحقوق الفلسطينية، ومواجهة الرواية الإسرائيلية إعلاميا بإطلاق حملات عالمية تظهر حجم الجرائم المرتكبة في غزة وتسلط الضوء على الاحتلال الإسرائيلي المطول غير الشرعي للأراضي الفلسطينية، وتعزّز الدعم الإنساني والإغاثي لها، من خلال توفير الدعم الدولي لوكالة الأونروا لضمان استمرار خدماتها في القطاع، وإنشاء صندوق دولي لإعادة إعمار البنية التحتية المدمرة، وضمان استمرارية الحياة المدنية.

أما على المستوى الحقوقي والقانوني فيؤكدان ضرورة مطالبة المؤسسات الدولية بتفعيل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإنهاء الاحتلال، وبحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ودعم تطبيق الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 ومساندة التحركات الفلسطينية أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لفتح تحقيقات في جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري. ويجدان في الجهود القانونية الدولية المحاسبة إسرائيل، فرصة لدعم الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية وللضغط على المجتمع الدولي لتطبيق قوانين حماية المدنيين في النزاعات المسلحة بما فيهم الصحفيين والعاملين في الطواقم الطبية، والعمل على تطوير آليات الرصد وتوثيق الانتهاكات ضد العاملين في المجال الإعلامي والطبي.

مقالات مشابهة

  • بين السرقة والتدمير.. مواقع أثرية من ضحايا إبادة إسرائيل لغزة
  • وسط صمت دولي.. برلماني: إسرائيل تستخدم التجويع سلاحا للضغط على الفلسطينيين
  • متظاهرون يغلقون الطريق المؤدي لحفل “الأوسكار” احتجاجاً على الإبادة الجماعية بغزة
  • الأورومتوسطي: إغلاق معابر غزة تصعيد خطير يكرس التجويع كأداة إبادة جماعية
  • تهجير الفلسطينيين من غزة جريمة طبقتها إسرائيل قبل أن ينظّر لها ترامب.. كتاب جديد
  • تجارة الدول الإسلامية مع إسرائيل هل تراجعت؟
  • بعد التهنئة برمضان.. ما أبرز الفتاوى اليهودية التي تشجع على قتل الفلسطينيين والعرب؟
  • بعد التهنئة برمضان.. ما أبرز الفتاوى اليهودية التي تشجيع على قتل الفلسطينيين والعرب؟
  • حكومة غزة: منع إسرائيل إدخال مساعدات حرب إبادة لتجويع القطاع
  • لماذا أجلت إسرائيل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين؟