ربما هو فصل في سيرتنا الذاتية، فكل وسيرته ومسيرته، في الحياة والروح.
كثيرا ما أعود إلى عوامل تكوين الشخصية؛ تلك الأشياء والأماكن والشخصيات التي فتحنا حواسنا وأرواحنا عليها.
لكل منا ممارساته الروحية، وأماكن الروح في أماكن العبادة، تلك التي ترتبط بنا من الطفولة حتى نودع الدنيا، هنا إلى عالم آخر.
لقد حفلت الروايات والأفلام بالمسجد، في القرى والمدن، كونه أحد أهم الأماكن المركزية من جهة، وأحد أهم أبعاد الشخصية العربية من جهة أخرى.
وتلك يمكن أن تكون دراسة نوعية، يمكن لباحث أن يتقصى مكانها ودورها في مجالات متعددة اجتماعية ونفسية وسياسية وثقافية.
إنها تكوين ثقافي ساحر وسحريّ.
قبل أيام نشر أحد القرويين صورة لمسجد قريتنا تعود إلى عام 1980، كنت ابن 13 عاما؛ فعادت تلك الطفولة البريئة التي كانت تتلمس أبواب الروح.
أول بيت لله أزوره هو بيته في قريتنا الصغيرة في جبال القدس الغربية، وثاني بيت هو المسجد الأقصى. عندما كبرت، تتبعت خطى الأنبياء والعابدين من بيت لله هنا إلى بيت له هناك، فارتبطت بالمساجد والمعابد، بالمآذن والقباب والأجراس، وصولا إلى المسجد الحرام والمسجد النبويّ. لكن يظل للمسجد الأول معنى خاص.
ليس كباقي البيوت وإن كان مثلها ذا جدران وسقف، كنت طفلا حين اصطحبت والدي، دخلنا ساحة المسجد الخارجية، كان هناك كلام، وحين دخلناه انتهى الكلام فجأة، وظل المكان بلا كلام حتى أذن المؤذن. عدنا إلى الهدوء، قطعه ترتيل الإمام في صلاة المغرب على ضوء مصباح صغير.
انتهت الصلاة فانصرفنا، فعدنا للكلام خارج المسجد، أما أنا فبقيت هناك صامتا داخله أتأمل عظم هذا الهدوء الاختياري العجيب.
كنت تعبا من اللعب مع أقراني في حارتنا، تعب من الركض والصراخ في ألعابنا الشعبية، لذا كان مكانا عبقريا للراحة من الأشياء، لتستريح الأعضاء والأطراف والحناجر، فيما تنشط الأحاديث والوشوشات الداخلية، وصرت فيما بعد كلما تعبت من الدنيا ألوذ بالمسجد لساعة تعينني على ساعات الدنيا وأيامها ولياليها الطويلة الباردة منها التي فيها الوحدة مع الذات، ثم فيما بعد مع الكتاب والقلم والأوراق البيضاء.
صحبت مرة أطفالي في عمر الورد إلى المسجد نفسه، لأحمد الله في بيته، ولأصلي، ولأرى كيف يرى أطفالي المسجد أول مرة كما رأيت وأنا طفل صغير، فما زالت تسكنني طفولتي.
راحوا يتأملون بصمت، ثم بعد ذلك صعدوا المنبر، فتحوا الخزانات وأقفلوها، فتح كل واحد منهم المصحف، وصلوا كما يصلي الناس وابتسموا مبتهجين.
وفي الخارج تكلموا كما تكلم الناس وطلبوا زيارة أخرى.
كنت مثلهم إذن..
لأعود إلى الوراء ما أستطيع: جلس والدي بهدوء وصلى، ورحت أتأمل المكان بهذا الفضاء الكبير، هذا أكبر مكان أكبر بيت إنه فعلا بيت لله الكبير.
والدي كان يستريح من عمله الشاق في الجبال كمزارع يصارع الصخور. كنا أطفالا صغارا وكان وحيد أبويه؛ هل كان يلجأ إلى الله هنا! لعله كان يستريح من تعب الحياة وآلامها ووسيلته الصلاة والدعاء.
تعلقت عيناي بألوان المسجد، ألوان العناصر، لوحات وجدران خضراء، ومنبر عساه كان ما بين الأزرق والأبيض، تكوين الآيات القرآنية بخط الرقعة الجميل يشبه خط كتب المدارس لكن به انحناءات كثيرة مستديرة.
دوائر فيها أسماء، سأعرف بعد بضع سنين أنها لأنبياء وصحابة.
سأعود بعد اتسع بياض الرأس إلى البيت لأكتب عنه، فأبحث عما كان منه، فلا أجد إلا البناء ولوحتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، بخط كوفي أخضر وآية «يسبح لله ما في السماوات والأرض الملك القدوس العزيز الحكيم» بأسود على خلفية ذهبية مضيئة.
سأنظر للمكان، فأراه صغيرا، لا كبيرا كما كنت أراه، لكنه على صغره كبير في الروح والمعنى وذكرياتي كمتعبد وذكرياتي حين كنت ألجأ إلى برودته الدافئة أيام الحرّ فأجد جدي التسعيني رحمه الله ينتظر قادما كي يسقيه كوب ماء! وكم كان يبتهج حين يعرف أنني حفيده..
من أول الدنيا إلى وسطها ومنتهاها سأحمل هذا البيت في قلبي، والذي فيه كم سرت مع السائرين في سيرة المصطفى وسير الأنبياء والصحابة والصالحين سأحمله في أسفاري، وتنقلي بين المساجد والمعابد، سأحمل صمته الوقور، وتأمل العين وإبصار الروح وذكريات الطفولة التي لم تخل من لهو ولعب.
من مخيلتي مرة، ومن الصورة التي نشرت على الفيس بوك مرة أخرى.
رحت أدقق في الصورة، نعم إنه مسجدنا الذي لم يصبه التغيير كثيرا، فقد كان كبيرا لقرية صغيرة، وحينما كبرت القرية، ظل متسعا للقادمين إلى الروح.
انتبهت لما كنا نسميها «حجارات الجامع»، وهو جمع في اللهجة الشعبية. كانت تلك الكتل شبه المكعبة، التي لم تعبث بها مقصات الحجر الحديثة، بمثابة ديوان «الختيارية»، أي كبار السن، بعد العصر، قبل صلاة المغرب والعودة إلى البيت، ولعل ليالي الصيف كانت تجمعهم حتى صلاة العشاء، لنأخذ نحن الأطفال راحتنا بعدهم في افتتاح ديواننا كأطفال وفتيان. لكن في معظم أوقات النهار، كنا نجد أنفسنا هناك نجلس أو نقفز، فليس هناك الكثير من الأماكن لنرتادها، على أمل الحصول على قرش أو نصفه، «تعريفة»، لقضم بسكوتة أو التلمظ «بحامض حلو».
لكن عوامل التحديث للأسف أزالت «حجارات الجامع، واستبدلتها بحجارة مكعبة، ثم فيما بعد تم بناء مستند من الباطون، يجلس عليه من تبقى من «ختيارية»، أو من تقدم بالسن، وصار لديه متسع من الوقت للعبادة وقضاء الوقت في الأحاديث المتفرقة، التي تبدأ مما جد من جديد هنا إلى آخر الدنيا.
كانت المساجد أماكن عبادة محببة، فطرية، قبل أن تغزوها مظاهر سياسية أثرت سلبا على ذلك النقاء، حيث فرقت ما كان منسجما، لكن هذا يحتاج إلى حديث آخر.
في كل صلاة فيه، أكنت مقيما أو قادما سفر، أجدني أعود أكثر ما أعود إلى طفولتي المسالمة التي كانت تتلمس أبواب الروح، لعلها ما زالت هناك زمنا وما زالت هنا مكان السلام.
لكل منا مسجده، ولي مسجدي الذي لم أنته منه، تلك اللانهائيات في الداخل، وتلك الأحاديث خارجه على «حجارات» الجامع قديما وعلى المستند الحديث، والتي تشكل قصصا وروايات.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
فرنسا: هناك فرصة للهدنة في لبنان ويجب اغتنامها
دعا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، اليوم الأحد، إلى اغتنام "فرصة" سانحة من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان.
وقال بارو، لقناة "فرانس 3" التلفزيونية الفرنسية "هناك فرصة سانحة وأدعو جميع الأطراف إلى اغتنامها".
وأكد "أعتقد أننا بصدد التوصل إلى حل قد يكون مقبولا من جميع الأطراف الذين ينبغي عليهم اغتنامه للتوصل إلى وقف النيران ووقف الكارثة الإنسانية أيضا".
وتتماشى تصريحاته مع تلك التي أدلى بها المبعوث الأميركي أموس هوكستين وتحدث فيها عن "مزيد من التقدم" نحو التوصل إلى هدنة خلال جولة قام بها في المنطقة هذا الأسبوع.
كان مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل حث، من بيروت، في وقت سابق اليوم الأحد، على "وقف فوري" لإطلاق النار في لبنان وتطبيق القرار الدولي رقم 1701.