الوطن:
2025-03-03@06:49:44 GMT

الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: كيف وصلتنا السنة؟ (5)

تاريخ النشر: 6th, June 2024 GMT

الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: كيف وصلتنا السنة؟ (5)

بيَّنّا بالأدلة القاطعة أنَّ أول مَن قام بتدوين السنَّة والتصنيف فيها هو سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال الكتب التى أمر بكتابتها وإرسالها إلى المدن المختلفة، والأخرى التى حفظها بصورة تبين أنها قوانين ثابتة لا تُنقض ولا تَنخرم.

وأشرنا لكتابه لسيدِنا عمرو بن حزم، رضى الله عنه، حين أرسله إلى اليمن وهو الكتاب الذى ذاع ذيوعاً أشبه التواتر، أى: نُقلَ نقلاً مستفيضاً يستحيلُ معه الشك فى صحته، يقول ابن عبدالبر القرطبى (ت 463) -أحد كبار علماء الحديث-: وهو كتاب مشهور عند أهل السِّيَر، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفةً تستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر فى مجيئه، لتلقى الناس له بالقبول والمعرفة.

وثَم شىء لا بد من الوقوف عنده، وهو رسائله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء، فقد وصلتنا نصوص هذه الرسائل، والأصل أنها أُرسلت لأممٍ أخرى، فكان ينبغى أَلَّا تصلَ إلينا نصوصُها، ووجودُها فى كتبِ السنةِ النبويةِ وفيما أُلِّف مِن كتب السيرة، بل وصولُ أصولٍ مخطوطةٍ قديمةٍ لها، كل هذا دليل واضح على أنها دُوِّنت إمَّا بأمرهِ صلى الله عليه وسلم، وإما بسماحه بذلك، والوقوف على النّقْلة الحضارية التى أوجدها صلى الله عليه وسلم يجعلنا نميلُ إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الذى أمر بحفظ هذه المكاتبات الرسمية، بالدليل أن حفظ المكاتبات والوثائق الرسمية كان موجوداً عند الخلفاء من بعده صلى الله عليه وسلم، حتى إن سيدنا عمر بن الخطاب جعل لهذه المكاتبات خزانة خاصة فى بيت الخلافة، وتطور هذا فى عهد سيدِنا عثمان إلى منشأة خاصة سُمّيت «بيتَ القراطيسِ» أى: بيت الوثائق.

بل كانت نُسَخ هذه الوثائق متاحةً بين أيدى سائرِ الصحابة رضى الله عنهم، فقد جمع سيدنا عمرو بن حزم المتقدم ذِكره -رضى الله عنه- من هذه الوثائق بضعة وعشرين كتاباً كتبَها النبى صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى الكتاب الذى أرسلَه به سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فكان هذا أول مجموعة لبعض الوثائق النبوية، وقد نُقلَ عنه هذا المجموعُ الوثائقىُّ جيلاً فجيلاً، حتى إن المحدِّث والمؤرخ الكبير شمس الدين محمد بن طولون الدمشقى (ت 953) قد جعل هذا المجموع ذيلاً لكتاب جمع فيه مكاتبات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوانه «إعلام السائلين عن كُتب سيد المرسلين»، وهو كتاب مطبوع متداول.

وقد وصلنا ما يصور لنا مجالس العلم على عهده صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة يقومون بالتدوين فى مجلسه صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره، يقول سيدُنا عبدالله بن عمرو، رضى الله عنهما: «بينما نحن حولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نكتبُ..»، وهذه العبارة تبين كيف كان جلوسهم حوله صلى الله عليه وسلم كجلوس التلاميذ حول شيخهم، وهى الصورة التى ظلت إلى عهد قريب فى المعاهد العلمية كالأزهر الشريف، حيث يتحلق الطلاب حول الشيخ، وهذا الحديث يبين أن صورة هذا المجلس سُنة بعُد عهدُ الناس بها، كما أنَّ العبارة السابقة صريحة فى أنَّ الكَتَبة متعددون.

وقد وردت طريقة إلقاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فى مجلسه، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديثَ كسَردِ الناس؛ أى: لم يكن يُكثره ويُتابع بين ألفاظِه، بل كانت ألفاظه قليلة جامعة، فقد أُوتىَ صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكلم؛ أى: يستطيع أن يجمع المعانى الكثيرة فى ألفاظ قليلة، وقد قيل فى وصف قلة ألفاظه صلى الله عليه وسلم: كانَ يُحدّثُ حديثاً لو عَدهُ العادُّ لأحصاهُ، وهذا يناسب طبيعة هذه المجالس العلمية التى يحرص رُوَّادها على كتابة العلم وحفظه.

وقد يظن البعض أن مجالس كتابة العلم هذه لم تكن إلا فى المدينة، وهذا غير صحيح، فقد كانت كذلك منذ أول الوحى فى مكة، يقول سيدُنا عبدالله بن عمرو: كنتُ أكتبُ كلَّ شىءٍ أسمعُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريدُ حفظَه، فنهتنى قريشٌ وقالوا: أتكتبُ كلَّ شىءٍ تسمعُه مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلّمُ فى الغضب والرضا؟!

فأمسكتُ عن الكتابِ، فذكرتُ ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأومأَ بإصبعِهِ إلى فِيهِ [فَمِه]، فقال: «اكتبْ، فوالذى نفسِى بيده ما يخرجُ منه إِلَّا حقٌّ».

فعبارة (نهتنى قريش) دون ذِكرِ غيرهم، ومفهوم عبارة: (ورسول الله بشر يتكلم فى الغضب والرضا) التى قد تكون نقلاً بالمعنى لقول مشركى مكة، أو حكاية لقول بعض المسلمين فى أوائل الإسلام حيث لم يدركوا حقيقة العصمة، كل هذا يبين أن التدوين بدأ مع بداية الدعوة.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله صلى الله علیه وسلم رسول الله رضى الله

إقرأ أيضاً:

محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت

بعد أن فقد بصره وهو ابن ثلاث سنوات سأل والده: "متى النهار يطلع يا بابا؟"، فبكى الأب بحرقة وقال "سترى بقلبك يا بني أكثر مما ترى بعينيك"، لم يعرف الأب وقتها أن صوت ابنه سيكون كالشمس في تاريخ مصر، لا يبدأ النهار إلا بسماعه عندما تشير عقارب الساعة إلى تمام السابعة صباحا.

إنه الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- الذي تلاحم صوته مع نسيج الوعي المصري ووجدانه، فأراد الله أن يحيا صوت الشيخ رفعت في مناسبتين، الأولى طوال العام عند الساعة السابعة صباحا عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، هذا الوقت الذي يتعلق بذاكرة كل مصري أثناء ذهابه إلى المدرسة ونزوله إلى عمله صباحًا، إذا سمع صوت الشيخ رفعت أدرك أن الشمس قد أشرقت إيذانًا بميلاد يوم جديد مصحوب بصوت الشيخ محمد رفعت.

وأما الثانية فطوال شهر رمضان المبارك مع أذان المغرب، هذا الأذان الذي إن سمعه المصريون في أي وقت استشعروا بنسمات شهر الصيام، ارتبط أذان الشيخ محمد رفعت بالإعلان عن وقت الإفطار كل يوم في رمضان، فأصبح له خصوصية يتفرد بها عن أي أذان آخر.

الشيخ محمد رفعت هذا الصوت الملائكي الخالد الذي تجددت فيه معجزة القرآن، إلا أن التسجيلات التي وصلتنا لم توفه حقه، ذلك لأن أغلب التسجيلات كانت قديمة تحتاج إلى ترميم وإصلاح، فغير المونتاج الصوتي شيئا من حقيقة صوت الشيخ رفعت، والأمر الثاني أن التسجيلات بدأت في فترة مصاحبة المرض لهذا الصوت، كما قال موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في إحدى لقاءاته إن تسجيلات الشيخ محمد رفعت تحمل تأثير مرضه وكأنك تسمع صوتا جميلا لكن عليه مسحة من المرض، وذكر أن تسجيل سورة مريم هو الذي يعطي بعضا من صوت الشيخ رفعت في اكتماله وشبابه ومقدرته.

في حي المغربلين بمنطقة الدرب الأحمر ولد الشيخ محمد رفعت سنة 1882 لأب يعمل ضابط شرطة بقسم الخليفة، وأم طيبة ترعى بيتها وتقوم على شئون الزوج والأولاد، واسم محمد رفعت هو اسم مركب أما والده فاسمه محمود رفعت وهو اسم مركب أيضًا، ولأن كل إنسان منا يسير إلى قدره المكتوب في الحياة، فقد واجه الشيخ محمد رفعت مصيره في الحياة مبكرا، المأساة الأولى عندما فقد بصره وهو في الثالثة أو الرابعة من عمره، والمأساة الثانية عندما فقد والده وهو ابن تسع سنوات.

ولأن في المنع عطاء، وفي كل محنة منحة، فكانت المأساة الأولى هي سبب العطاء الأعظم في حياة الشيخ محمد رفعت بعد أن قرر والداه أن يهباه للقرآن، وأتم حفظ القرآن وتجويده وهو طفل صغير في مسجد فاضل باشا، والذي عين فيه قارئا للسورة يوم الجمعة إلى أن أقعده المرض، وأما المأساة الثانية فكانت السبب في أن يتحمل الشيخ رفعت مسئولية أسرته الصغيرة المكونة من أمه وخالته وأخيه الأصغر بعد أن أصبح هو العائل الوحيد لهم، وظل على هذا الحال حتى ذاع صيته وأصاب سحر صوته كل من سمعه وتأثر به.

الشيخ محمد رفعت هو معجزة القرن العشرين في تلاوة القرآن الكريم، كان لصوته مفعول السحر على مستمعيه، فلا تسمع تلك الصيحات أثناء تلاوته كما يحدث في السرادقات مع قراء اليوم، ولكن طريقة قراءة الشيخ رفعت بما فيها من هيبة ووقار وإبهار كانت تجعل المستمعين لا يحركون ساكنا، يخشعون رهبة وإجلالا لعِظم ما يُقرأ عليهم.

تقليد الشيخ رفعت يحتاج لإمكانيات صوتية خاصة ولطبقة صوت اختص بها الله الشيخ رفعت، فيصعب جدا تقليده، تمتع الشيخ رفعت بصوت ماسي حاد جدا رنان كأنه الياقوت والمرجان، وبصوت عميق عريض جدا كأنه زئير الأسد في أدنى طبقات صوته، والعجيب أن في علو صوت الشيخ رفعت وهبوطه لا يشعر المستمع بأنه ينتقل بين القرار والجواب فهو يقرأ بطريقة السهل الممتنع، يلون الآيات بصوته وبما يناسب كل آية، فالموهبة وحدها لا تكفي، ولكنها تحتاج لذكاء يوظفها بطريقة صحيحة، والشيخ محمد رفعت وهبه الله من الذكاء الفطري والبصيرة الربانية ما جعله يقرأ القرآن بوعي وتدبر وذكاء.

عاش الشيخ محمد رفعت واهبًا حياته لخدمة القرآن الكريم ينشر صوته في كل مكان ويلبي الدعوات بعفة نفس خدمة للقرآن، لم يكن طالب مال ولا شهرة أو جاه، ترك لأبنائه ساعة يد وروشتة طبيب ومصحفًا، كما أخبر بذلك ابنه الأكبر محمد رحمه الله، وأصيب الشيخ رفعت بمرض الزغطة الذي اتضح أنه سرطان الحنجرة، فتوقف عن القراءة سنة 1943 بعد أن حبسه المرض وهو يقرأ ولم يخرج صوته في بعض الآيات فسكت ثم غادر المسجد وسط بكاء كل الحاضرين، وظل يعاني من هذا المرض الذي فشل الطب في علاجه، كان راضيا صابرا ولم يسخط، وفي يوم التاسع من مايو سنة 1950 أخذ يردد (الحمد لله) ويسأل زوجته عن أولاده، ويقول (الحمد لله) ثم فاضت روحه إلى رب العالمين، ليترك لنا صوتا لم ينطفئ يومًا، هذا الإرث الذي يشهد له بما قدمه في حياته لخدمة القرآن وإيصال رسالته، رحم الله قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت.

مقالات مشابهة

  • شخصيات إسلامية.. سمع النبي قراءته في الجنة حارثة بن النعمان الأنصاري
  • صحابيات الرسول| عسراء اللسان.. تعرف عليها
  • شيخ الأزهر: لا يجب أن يؤدي الخلاف بين السنة والشيعة إلى التكفير .. فيديو
  • شيخ الأزهر: الاختلاف بين السنة والشيعة كان في الفكر والرأي وليس في الدين
  • هل صلى النبي التراويح؟
  • كيفية صلاة التراويح في البيت منفردا وجماعة كما صلاها رسول الله
  • صحابيات الررسول .. أم زفر تعرف عليها
  • محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت
  • كيف نستقبل شهر رمضان المُبارك؟
  • رمضان شهر الرحمة والمغفرة.. 25 فضيلة تجعل منه موسمًا للخير والبركات